يقول الراوي: حدثنا الشيخ الإمام أبو عبد الرحمن النسائي أخبرنا الحسين بن عيسى القومسي حدثنا عفان بن مسلم حدثنا سلام أبو المنذر عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (حبب إلي من الدنيا: النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة)].
يقول النسائي رحمه الله: كتاب عشرة النساء، هذا الكتاب المقصود به: معاملة الأزواج للزوجات، عشرة النساء، أي: كيف تكون معاشرة الأزواج لزوجاتهم، وكيف يكون التعامل معهن، هذا هو المقصود من هذه الترجمة، وهذا الكتاب الذي أورده (عشرة النساء)، أو جاء في بعض النسخ أنه بعد كتاب النكاح، وفي بعض النسخ أنه بعد كتاب الأيمان والنذور، والمزارعة، وكونه بعد كتاب النكاح، ألصق به وهو الأنسب؛ لأن هذا يتعلق بالنكاح، ومعاشرة النساء بعدما يحصل الزواج، أي: كيف يعاشرهن؟ فذلك هو المكان المناسب لوضعه، ولكنه في بعض النسخ جاء فيه هذا الموطن الذي هو بعد الأيمان، والنذور، والمزارعة.
أورد النسائي تحت هذه الترجمة باب حب النساء، أي: محبتهن، والميل إليهن، وقد أورد النسائي فيه حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (حبب إليّ من الدنيا النساء، والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة)، فهذا الحديث يدل على النساء، والطيب حبب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتحبيب الطيب له؛ لأنه عليه الصلاة والسلام هو أطيب الناس، وخير الناس، وكان يحب الطيب، ومن أحب الشيء إليه الطيب، وكان يحب الرائحة الطيبة، ويكره الرائحة الخبيثة، ولهذا سبق أن مر بنا في قصة عائشة، وحفصة، وما قالتاه عن العسل الذي كان يشربه عند زينب، وأنهما تواطأتا على أن تقولا: أنهما يشمان ريح مغافير، وهي رائحته ليست طيبة، والنبي صلى الله عليه وسلم تركه ولم يعد إليه؛ لأنه يكره الرائحة الكريهة، ويحب الرائحة الطيبة صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
والنساء حببت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك أمور لا يفصح بها، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أشد الناس حياءً، فكان أن حبب إليه النساء والزواج بهن، بل خص عن غيره من الأمة بكثرتهن، والزيادة على الأربع، وذلك ليحصل منهن تحمل الشريعة في الأمور الباطنة، والأمور الخفية التي لا يطلع عليها الرجال، والتي تكون بين الرجل وأهله، وتكون بينه وبين زوجه، فإنهن ينقلن للناس المعاملة التي كان يعاملهن بها صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ولهذا كانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها، كانت أحفظ النساء لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا سيما في الأمور البيتية، والأمور الخاصة التي تكون بين الرجل وزوجه، فكانت من أوعية السنة، من أكثر الصحابة حفظاً لها، بل إن الذين عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعة أشخاص: ستة رجال، وامرأة واحدة، وهذه المرأة هي أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، ومن فضائلها أنها تحملت الشيء الكثير من سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأخذت تلك السنن عنها، فلها أجور تحمل تلك السنن وتأديتها، ولها مثل أجور كل من عمل بهذه السنن التي جاءت من طريقها، والتي أخذتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغتها للناس إلى قيام الساعة، وإلى نهاية الدنيا، كل من عمل بهذه السنن التي جاءت من طريقها، فلها مثل أجورهم جميعاً رضي الله عنها وأرضاها، وهذا من كمال فضلها، وفيه زيادة أجرها، وزيادة ثوابها، وعلو منزلتها عند الله عز وجل، رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
وتحبيب النساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس كله منحصراً في الشهوة والرغبة للنساء، وإنما كان في الغالب من أجل أنهن الوسيلة، وهن الطريق إلى حفظ السنة لا سيما فيما يتعلق في البيوت، وغير البيوت، لكن البيوت من خصائصهن رضي الله عنهن وأرضاهن، (حبب إليّ من الدنيا النساء والطيب)، وقيل: إن (من) بمعنى فيه؛ لأن هذا القصد، وهذا الشيء الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم هو من الدين؛ لأن حفظ الشريعة، ونقل الشريعة، وتحمل الشريعة هو من الدين، وعلى هذا فيقول: (حبب إليّ في الدنيا النساء والطيب)، أي: إذا كانت من بمعنى فيه، أي: أن هذه في الدنيا، ولكن المقصود منها هو الدين، وعلى أن (من) باقية على بابها فهي من أمور الدنيا، والنساء، والطيب مما حبب إلى الناس جميعاً، ولكن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم تتميز على غيرها بأن فيها قصد أعظم، وأشرف، وأجل، ألا وهو تحمل هذه الشريعة، وتحمل هذا الدين، ونقله إلى الناس، ولا سيما في الأمور الخاصة التي تقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، فإن هذا لا يتأتى إلا عن طريق النساء.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)، قرة عينه أنسه، وسروره، وراحته، وطمأنينته إنما هو بالصلاة، وكان عليه الصلاة والسلام يفزع إلى الصلاة إذا حزبه أمر، وإذا أصابه شدة، وذلك لأنها قرة عينه، وبها أنسه، وبها راحته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وهذا يدلنا على عظم شأن الصلاة، وأن شأنها عظيم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفزع إليها يناجي الله عز وجل، وهذه الصلاة التي هي قرة العين هي التي فيها الخضوع، والخشوع، وفيها مراقبة الله سبحانه وتعالى، والإتيان بها على الوجه الأكمل، وعلى الوجه الأفضل، هذا هو الذي تكون به قرة العين، وأما مع السهو ومع الغفلة، فإن هذا يكون ليس فيه هذا الأمر، ولا يتحقق فيه هذا الأمر، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان أنسه، وراحته، وفرحه، وفزعه إنما هو إلى الصلاة صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وهو يدل على عظم شأنها، وأن شأنها عظيم عند الله عز وجل، وعند رسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول الراوي، أي: الذي هو تلميذ النسائي، والذي يروي عن النسائي، والنسخة أو الرواية الموجودة رواية ابن السني، فالذي يقول هذا هو ابن السني الذي يروي عن النسائي السنن، وهو في بعض الأحيان يفصح بشيخه كما هنا، ويذكر شيخه وهو من كلام التلميذ، وإلا فإن كلام الشيخ يبدأ من قوله: أخبرنا الحسين بن عيسى، هذا هو بدء كلام النسائي، وهو في مواضع نادرة وقليلة جداً يذكر اسم شيخه فيقول: حدثنا الشيخ الإمام أبو عبد الرحمن النسائي، قال: حدثنا فلان.
أبو عبد الرحمن هو: أحمد بن شعيب النسائي، ولم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الأخرى؛ لأن بعض أصحاب السنن يروي بعضهم عن بعض، ويكون لهم ذكر في الكتب الأخرى، وأما النسائي فإنه ليس له ذكر، وذلك لأنه متأخر، هو آخر الأئمة وفاة، بل بينه وبين أواخرهم سنوات كثيرة؛ لأن ثلاثة من أصحاب السنن بين السبعين إلى الثمانين وفاياتهم، وهو تأخر عنهم جميعاً بثلاث وعشرين سنة؛ لأنه توفي سنة ثلاثمائة وثلاث، وعلى هذا فلا أحد يروي عنه؛ لأنه متأخر، بخلاف غيره، فإنه يمكن أن يأتي ذكره عندما تأتي تراجمه يذكر أن له ذكر في كتاب كذا، وأنه يعني روى عنه فلان، وأنه من رجال فلان، وهكذا.
[أخبرنا الحسين بن عيسى].
هو الحسين بن عيسى القومسي، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي.
[حدثنا عفان بن مسلم].
هو عفان بن مسلم الصفار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا سلام أبو المنذر].
هو سلام بن سليمان أبو المنذر، صدوق له أوهام، أخرج له الترمذي، والنسائي.
[عن ثابت].
هو ثابت بن أسلم البناني البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
هو: أنس بن مالك رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخادمه الذي خدمه عشر سنوات منذ قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حتى توفاه الله عز وجل، وكان عمره صغيراً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له فعمر حتى كان من آخر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاة، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وأنس، وأبو سعيد، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأم المؤمنين عائشة، ستة رجال، وامرأة واحدة، هؤلاء السبعة هم الذين عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
ثم أورد النسائي حديث أنس من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله: (حبب إليّ النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)، فهو مثل الذي قبله، من حيث المتن، واشتماله على هذه الأمور الثلاثة المحببة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: [أخبرنا علي].
هو علي بن مسلم الطوسي، وهو ثقة، أخرج له البخاري، وأبو داود، والنسائي. وفي أكثر النسخ المطبوعة صدوق وهو خطأ مطبعي. أما كونه ثقة كما نسخة الأشبال.
[حدثنا سيار].
هو سيار بن حاتم العنزي، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
[حدثنا جعفر].
هو جعفر بن سليمان الضبعي، وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
وقد مر ذكرهما في الإسناد الذي قبل هذا.
أورد النسائي حديث أنس رضي الله عنه: (لم يكن شيءٌ أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل)، والمقصود منه ذكر النساء، وحب النبي صلى الله عليه وسلم إياهن، وأنهن حببن إليه، والترجمة هي حب النساء، فهو دال على الترجمة من حيث أن النساء محببة إليه، وأنه حبب إليه النساء، وفيه أنه بعد حب النساء كان يحب الخيل، وذلك لأنهن وسيلة الجهاد في سبيل الله عز وجل، وإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، وقد جاء في الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ: (الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة)، والحديث سبق أن مر في كتاب الخيل.
صدوق، أخرج له البخاري، وأبو داود، والنسائي.
[حدثني أبي].
هو حفص بن عبد الله بن راشد السلمي، وهو صدوق، أخرج له البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وفيه زيادة ابن ماجه على الذين خرجوا لابنه.
[حدثني إبراهيم بن طهمان].
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن سعيد بن أبي عروبة].
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أنس].
هو أنس بن مالك رضي الله عنه، وقد مر ذكره.
وقتادة مدلس، وسعيد بن أبي عروبة مدلس.
أخبرنا عمرو بن علي حدثنا عبد الرحمن حدثنا همام عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من كان له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل)].
أورد النسائي ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض، المقصود بالميل هنا: كونه يميل إليها بالفعل أي فعلاً، أما الميل القلبي الذي ليس في يد الإنسان، فهذا ليس هو المعني، وليس هو المقصود، وإنما المقصود كونه يملك شيئاً، ومع ذلك يحصل منه الميل، وعدم العدل؛ لأنه قادر على العدل، ولكنه مع ذلك لا يفعله، بل يحصل منه ضده، وهو الجور، والميل، الميل الفعلي، كونه يميل إلى المرأة، ويخصها بشيء دون غيرها، سواءً كان بالعطاء، أو بالقسم مما يملكه الإنسان، هذا هو المقصود بالميل الذي ترجم له، وأورد الحديث للاستدلال عليه.
وقد أورد النسائي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل
هو عمرو بن علي الفلاس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، رووا عنه مباشرة وبدون واسطة.
[حدثنا عبد الرحمن].
هو عبد الرحمن بن مهدي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو من أئمة الجرح والتعديل، وكان ناقداً، ومتكلماً في الرجال كـالفلاس كثيراً ما يأتي في كتب التراجم: وثقه الفلاس، أو ضعفه الفلاس، أو وثقه ابن مهدي؛ لأنه من أئمة الجرح والتعديل، وقد ذكر الذهبي في كتابه: من يعتمد قوله في الجرح والتعديل أن يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي إذا اجتمعا على جرح شخص، فإنه يعول على كلامهم، وقد عبر عنه بعبارة فقال: إنهما إذا اجتمعا على جرح شخص فهو لا يكاد يندمل جرحه. معناه: أنهما يصيبان الهدف إذا اتفقا على جرح شخص، وعبد الرحمن بن مهدي أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[حدثنا همام].
هو همام بن يحيى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن قتادة].
وقد مر ذكره.
[عن النضر بن أنس].
ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن بشير بن نهيك].
ثقة أيضاً، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي هريرة].
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق، والسبعة الذين عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو هريرة رضي الله عنه هو أكثرهم حديثاً، ولم يرو أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما روى أبو هريرة في الكثرة، وكان متأخر الإسلام، وكان إسلامه في السنة السابعة عام خيبر، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم مدة وجيزة، ومع ذلك فقد كان أكثر الصحابة حديثاً، وأحاديثه التي تحملها منها ما يرويه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها ما يرويه عن الصحابة، ومراسيل الصحابة كما هو معلوم حجة وعمدة يعول عليها، وقد حصل لـأبي هريرة من السبب أو الأسباب التي جعلته يكثر حديثه من جهات متعددة، من جهة أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له بالحفظ، ومن جهة أنه كان ملازماً للنبي صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه، والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، كانوا يذهبون لحوائجهم، ويذهبون لتجاراتهم ومزارعهم، وبساتينهم، وأعمالهم الخاصة، وأما أبو هريرة فهو ملازمه، يأكل مما يأكل، ويشرب مما يشرب، ويذهب معه أين ما ذهب، فكان ما يحصل من النبي صلى الله عليه وسلم يأخذه، ويتلقاه، ويحفظه، ويعيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حصل له أمر آخر، وهو أنه عاش في المدينة، ومكث في المدينة، ولازم المدينة، وكان الناس يأتون إلى المدينة ويصدرون عنها، ومن يأتي إلى المدينة يلقاه، ويأخذ عنه، ويعطيه إذا كان عنده شيئاً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام من أصحابه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، فكانت هذه الأمور من الأسباب التي جعلته أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه، ولهذا فلا وجه للحاقدين الذين يبحثون عن العيوب التي يلصقونها في الصحابة، بحيث يبغضونهم، ويكرهونهم، ويذمونهم، ويشتمونهم، ويبحثون عن العيوب التي يلصقونها بهم، ويتشبثون بمثل هذه الأمور؛ لأن أبا هريرة أسلم متأخراً، والصحابة الذين هم من أقدم الناس إسلاماً، بل أقدم الناس إسلاماً ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما روى، لا سيما الخلفاء الراشدون الأربعة رضي الله عنهم وأرضاهم، ومن المعلوم أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم تقدمت وفاتهم، فأبو بكر عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم سنتين وأشهر، وعمر عاش اثنا عشر سنة، وعلي رضي الله عنه عاش وهو أكثرهم مدة ثلاثين سنة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن أبا هريرة عاش مثلها أو أكثر منها، وكان ملازماً المدينة، ولهذا كان أكثر الصحابة على الإطلاق، فكلام الحاقدين، وكلام أعداء الدين الذين يتشبثون بمثل هذا الكلام، ما يدفعهم على ذلك إلا الحقد، وكون أبي هريرة يروي الكثير من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هم لا يريدونه، ولا يعبئون به، ولا يقيمون له وزناً، بل لا يقيمون وزناً لمن هو أجل وأعظم منه، كـأبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين. وأعني بذلك الرافضة الذين هم من أشد الناس بعداً عن الحق والهدى.
أورد النسائي حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: اللهم هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)، أي: بذلك أنه كان يقسم بينهن بالفعل فعلاً، وأما ما يقوم بالقلب من الميل، ومن المحبة أكثر، فهذا شيء لا يملكه، ولكنه صلى الله عليه وسلم مع ما جعل في قلبه من محبة بعض نسائه أكثر من بعض كان يعدل بينهن، وهو أعظم الناس عدلاً، بل هو القدوة عليه الصلاة والسلام في هذه الخصلة، وفي جميع خصال الخير صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وكان يعدل بين نسائه في القسم، وفي المعاملة التي هي من فعله وكسبه، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يريد أن يرغب عن بعض نسائه، ومنهن سودة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، فأرادت أن تبقى في عصمته ولو لم يقسم لها، ووهبت نوبتها لـعائشة رضي الله عنها وأرضاها، فكان يقسم لـعائشة نوبتين ولكل واحدة نوبتها، فكان لها نوبتها، ونوبة سودة، وحصل ذلك بإذنها وبموافقتها رضي الله تعالى عنها وأرضاها، أرادت أن تبقى في عصمته، وأن تكون من أمهات المؤمنين، وإن لم يكن لها ما يكون لغيرها من القسم، يعني تنازلت ورغبت أن تبقى في عصمته، ولا تريد أن يطلقها، وتخرج من عصمته، بل تبقى تحت عصمته وكونه زوجاً لها، وأن تكون من أمهات المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها في الدنيا والآخرة، المهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقسم فيعدل في فعله، وفي ما يقدر عليه، وفي ما هو مكلف فيه،، ولو كان بعضهن أحب إليه من بعض، إلا إنه كان يقسم بينهن، ويعدل بينهن، وأما ميل القلب فليس إليه ولا يملكه، وهذا شيء طبع الله عليه الناس، وفي مقدمتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير النساء أو أفضل أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خديجة، وعائشة رضي الله عنهن وأرضاهن، وكان يحبهن، فخديجة كان يحبها، وكان يذكرها كثيراً بعد وفاتها، وكان إذا صنع طعاماً أهدى إلى صديقاتها، كل ذلك من محبته لها، وميله إليها صلوات الله وسلامه عليه ورضي الله عنها وأرضاها.
قوله: [(اللهم هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)]، أي: الذي هو القلب، والذي هو ما يقوم بالقلب، ومن المعلوم أن هذا ليس إليه، وإنما هذا إلى الله عز وجل؛ لأن هذا هو الذي يقذف في القلوب المحبة الشديدة، أو الخفيفة، أو البغض، كل هذا من الله سبحانه وتعالى، لا يستطيع الإنسان، بل يمكن أن يكون الإنسان يبغض فيريد يعني المحبة، ولا يستطيع أن يحصلها؛ لأن هذا يملكه الله سبحانه وتعالى، والله تعالى هو الذي يقدر عليه.
هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم هو المشهور أبوه بـابن علية، وهو ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده.
[حدثنا يزيد].
هو يزيد بن هارون، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[أخبرنا حماد بن سلمة].
ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن الأربعة.
[عن أيوب].
هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن أبي قلابة].
هو عبد الله بن زيد الجرمي، وهو ثقة، كثير الإرسال، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن عبد الله بن يزيد].
هو عبد الله بن يزيد الخطمي، وهو صحابي صغير، أخرج حديثه مسلم، وأصحاب السنن.
والذي في كتب الرجال إسناد هذا الحديث إلى عبد الله بن يزيد رضيع عائشة، بل نص عليه في روايته أو في ترجمته؛ لأنه مقل من الرواية؛ لأنه ما روى إلا عن عائشة، وما روى عنه إلا أبو قلابة، والذي له في مسلم، والسنن الأربعة حديثان: أحدهما في فضل من مات وصلى عليه مائة، والثاني هذا الحديث، وهو عند أصحاب السنن الأربعة. لكنه قد جاء في إسناد أبي داود: عبد الله بن يزيد الخطمي، وجاء في إسناد أبي داود نسبته الخطمي، ولم يذكر بترجمة عائشة أنه روى عنها عبد الله بن يزيد الخطمي، وإنما الذي روى عنها ممن يسمى عبد الله بن يزيد شخص واحد الذي هو رضيع عائشة، وعلى هذا فيكون عبد الله بن يزيد رضيع عائشة، وهو وثقه العجلي، وذكره ابن حبان في الثقات وقال عنه البخاري: إنه ثقة، يكون هو الراوي لهذا الحديث؛ لأنه ذكر في ترجمته، وكلمة الخطمي التي جاءت في إسناد أبي داود، لا أدري ما وجهها؟ هل يكون عبد الله بن يزيد هذا خطمي، وخطم أي: جميع أهل الأنصار، أو قبيلة من الأنصار، أو فخذ من الأنصار، أو أنه خطأ؟ والمزي في تحفة الأشراف لما ذكر في ترجمته قال: وفي إسناد أبي داود قال عنه: الخطمي، فالحاصل: أنه ينص أو يذكر عند ذكره في الإسناد بأن يقال: هو رضيع عائشة، وهو تابعي ثقة، وثقه العجلي، وذكره ابن حبان في الثقات.
وهذا الحديث سبق أن ذكرت أن الشيخ الألباني ضعفه، وقد ذكره في إرواء الغليل، وذكر أن إسناده ظاهره الصحة، وأن جميع الأئمة صححوه، قال: لكن المحققين من العلماء رجحوا أنه مرسل، وأخذوا بما أشار إليه النسائي في آخر الحديث حيث قال: أرسله حماد بن زيد، وقال: إن الذي وصله أسنده حماد بن سلمة، والذي أرسله حماد بن زيد، إذ روى بإسناده إلى أبي قلابة، ثم عزا حديثه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحذف عائشة، وحذف عبد الله بن يزيد فصار مرسلاً، والترمذي قال لما ذكر المتصل، وذكر أن جماعة رووه يعني حماد بن زيد وغيره رووه مرسلاً، قال: والمرسل أصح، الحاصل إن الكلام حول تضعيف الحديث من جهة ترجيح الإرسال على الوصل، هي مسألة مختلف فيها بين أهل العلم، من العلماء من يرجح أن من أسند، ومن وصل، فإن معه زيادة علم على من أرسل، فيقبل ما جاء به، ومنهم من قال: إن هذا ثقة، وهذا أوثق، فيكون ما جاء عن الأوثق، وعن الذي هو حماد بن زيد، يكون هو المعتبر، وعلى هذا فوجه إعلال الحديث من جهة أن حماد بن زيد أرسله، وحماد بن سلمة هو الذي وصله، والذين ضعفوه رجحوا المرسل على المسند، والذين صححوه رأوا أن مع المسند زيادة علم على من أرسل فيؤخذ بها، والحافظ حجة على من لم يحفظ.
[عن عائشة].
أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق التي حفظت الكثير من السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي أنزل الله عز وجل براءتها مما رميت به من الإثم من الإفك في آيات تتلى من سورة النور، وكانت مع هذا الفضل لها تتواضع لله عز وجل، وتقول عن نفسها: ولشأني في نفسي أهون من أن ينزل الله فيّ آيات تتلى. أي: أنا أستحق أن ينزل في قرآن؟ وهذا شأن أولياء الله عز وجل، عندهم الكمال، والتواضع، بخلاف الدجالين أو بعض الدجالين الذين يدعون الولاية عندهم فهم بالحضيض، ويترفعون، ويدعون الناس إلى عبادة أنفسهم، فشأن أولياء الله عز وجل أنهم مع علوهم ورفعتهم يتواضعون لله، فهذه الصديقة بنت الصديق التي لها ما لها من المنزلة، ولها ما لها من الفضل، تقول عن نفسها: كنت أتمنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه في المنام، فيرى رؤيا يبرئني الله عز وجل بها عن طريقها، ورؤيا الأنبياء وحي وحق، لكن الذي حصل أنه نزل القرآن بآيات تتلى في براءتها، وتقول عن نفسها: ولشأني في نفسي أهون، أنا كنت أتمنى أنه يرى الرسول رؤيا يبرئني الله بها، ولشأني في نفسي أهون من أن ينزل الله فيّ آيات تتلى، هذا شأن أولياء الله، كمال، وتواضع، رفعة، وعلو، وتواضع لله عز وجل، و(من تواضع لله رفعه الله)، كما جاء ذلك عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والحديث تكلم فيه الألباني من جهة طرفه الأخير الذي هو قوله: [(فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)] وأما طرفه الأول، وهو كونه يقسم ويعدل، فهذا ثابت من وجوه كثيرة، ومن ذلك ما أشرت إليه بالنسبة لـسودة أنه كان لما أراد أن يطلقها تنازلت عن نصيبها من القسم لتبقى في عصمته؛ لأنه يقسم لنسائه عليه الصلاة والسلام، ولا يترك القسم لهن إلا بحصول الرضا من التي يرغب عنها، كما حصل لـسودة رضي الله عنها وأرضاها، وكونه يعدل بين نسائه ويقسم بينهن، هذا ثابت بهذا الحديث وبغيره.
ثم قال: [أرسله حماد بن زيد]، وكانت من عادة النسائي أنه إذا أتى بمثل هذه الجملة، يذكر الإسناد الذي فيه حماد بن زيد، وفيه إرسال حماد بن زيد، لكنه هنا ما ذكره، وقد ذكر في تحفة الأشراف: أن حماد بن زيد أرسله، من أبي قلابة، أي: يكون الإرسال من جهة أبي قلابة، فالإسناد إلى أبي قلابة ثم يكون الإرسال، ولكنه من طريق حماد بن زيد، أي الإرسال أو الإسناد الذي رويا فيه هذا الحديث من طريق أبي قلابة، أي رواه حماد بن زيد بإسناده إليه وأرسله الذي هو أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، أي أرسله ولم يسنده ولم يذكر ما فوقه، وإنما أرسله ولم يكن متصلاً فيما فوقه، فهذا هو المقصود بكونه أرسله، لكن هذا خلاف عادة النسائي؛ لأنه كثيراً ما يذكر النسائي: أرسله فلان أو خالفه فلان، ثم يذكر إسناداً آخر فيه توضيح هذا الإرسال، وتوضيح تلك المخالفة، وهذا هنا لم يأت على هذه الطريقة، بل خرج إلى باب آخر لا علاقة له في هذا الحديث، وفي هذا الموضوع.
الجواب: هذه الهيئة وغيرها كلها لا يجوز أن تفعل في الصلاة؛ لأن الهيئة في الصلاة هي أن توضع اليدان على الفخذين أو على الركبتين، ولا يجوز أن توضع في مكان آخر، بل حتى لو وضع يديه على الأرض هكذا بدل ما يضعها على وراءه أو كذا لو وضع يديه على الأرض، ليس له ذلك؛ لأن هيئة الصلاة معلومة، فلا يفعل سواها، واليدان توضع على الركبتين، وعلى الفخذين، في الجلوس، وفي التشهد توضع على الفخذين، والركبتين، ولا توضع على الأرض، ما أدري هل الحديث ما ورد إلا في الصلاة فقط، أو أنه ورد في غيرها؟ لا أدري، لكن بالنسبة للصلاة كما هو معلوم حتى غير هذه الهيئة لا تفعل، لا يجوز أن توضع اليدين على الأرض، لا من يمين، ولا من قدام، ولا من وراء، وإنما توضع على الركبتين، وعلى الفخذين في الجلوس، هذا موضعهما الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك لا يسوغ، لا هذه الهيئة ولا غيرها.
الجواب: حب النساء، والطيب إذا كان لمقصد حسن، كالعفة وإعفاف النفس، وغض البصر، مثل ما أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الزواج، (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباء فليتزوج، فإنه أحصن للفرج وأغض للبصر، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)، فلا شك أن النكاح والزواج من سنن المرسلين، وجاء الترغيب فيه، وهو من السنة بلا شك، وتكثير النساء من أجل تكثير النسل، وتكثير الولد، أو الإعفاف إذا كان الإنسان يحتاج إلى أكثر من واحدة أو اثنتين، كل هذا من السنة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم حث على تزوج الودود الولود وقال: (إنه مكاثر بهم الأمم يوم القيامة)، فإذا كان له مقاصد شريفة، ومقاصد طيبة، فلا شك أنه من الدين، لا من حيث إعفاف الفرج وحفظ البصر، ولا من حيث الإحسان إلى النساء، ولا من حيث طلب النسل وكثرة النسل، كل هذه مقاصد شريفة ومقاصد مطلوبة، والإنسان هو على خير بها إذا نواها، ولكل امرئ ما نوى.
الجواب: الذي يبدو أن الحكم عام ليس خاصاً في الصلاة؛ لأن الصلاة كما هو معلوم فيها ما ذكرته، وهو أن غيرها من الهيئات أيضاً لا تجوز، غيرها من الهيئات لا تجوز، إلا هيئة واحدة وهي أن اليدين توضع على الفخذين والركبتين.
الجواب: أبداً، إذا كان البخور ما هو من مشعوذين ودجالين، وإنما هو طيب وشيء طيب، فهذا علاج، إذا كان ينفع هذا العلاج، فلا بأس به، أما إذا كان يأتي عن طريق دجالين مشعوذين، فلا يجوز الذهاب إليهم، ولا العمل بما يقولون.
الجواب: ما أقول: هذا يحتاج إلى نظر، هل هم في درجة واحدة أو في درجات مختلفة، وهل هم متفقون في الشيوخ، ومتفقون في التلاميذ، لأنه ما يتأتى إلا إذا تساووا في الدرجة والتلاميذ، والشيوخ، فعند ذلك يأتي الاشتباه، أما إن كان بينهم شيء من التفاوت في الطبقات، فهذا يدل على التفاوت، وكذلك كونهم يختلفون في البلدان، يختلفون في أمور أخرى، يفيد أن هذا غير هذا.
الجواب: ما أعرف لهذا، لكن يمكن مقصوده أن الكاذبين يلعنون، لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61]، فالإنسان إذا كذب عرض نفسه للعنة، لكن هل هو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا أدري، لكن هذا معناه، الإنسان إذا كذب يعرض نفسه للعنة، لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61]، هو واحد منهم، لكن هل الحديث ثابت؟ لا أعرف عنه شيئاً، ثم الكذب لو كان ثابتاً المقصود به التهديد وليس أمر بالكذب؛ لأن الرسول لا يأمر بباطل عليه الصلاة والسلام، ولكن هذا يكون من جملة الأشياء التي فيها التهديد، مثل: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، الناس ليس مخيرون بين الإيمان والكفر، وأن من يريد الكفر يكفر، والناس مأمورون به، لا، وإنما هذا للتهديد، مثل قوله: (لا تشهدني على جور اشهد على هذا غيري)، تهديداً، ليس معناه إذن له بأنه يشهد على باطل.
الجواب: إذا كان أنها ما رأته إلا بعد الأذان بفترة، وهي مضى عليها وقت، فما يلزمها؛ لأنها ما عرفت أنها حاضت في نهار رمضان.
الجواب: المحظور والممنوع هو قضية كونها يؤخذ منها، وأما كونها تسود ما أعلم شيئاً يمنع هذا، في قضية تسويدها، أما كونها يؤخذ منها، أو تقص، أو فيما إلى ذلك، هذا هو الذي لا يجوز، وهذا الذي يسمونه تزجيج ويستشهد له في النحو: وزججنا الحواجب والعيون، أي: زججن الحواجب وكحلنا العيون، فيما إذا حذف الشيء لدلالة غيره عليه، لكن هذا طرف منه، وزججن الحواجب والعيون، أي: حذف العامل لدلالة غيره عليه.
الجواب: كونه حي في قبره حياة برزخية، هذا يقال، والرسول صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة برزخية، وأصحاب القبور أحياء في قبورهم حياة برزخية، المنعم منعم، والمعذب معذب، كما جاء ذلك في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن قضية السماع لا يثبت إلا فيما إذا ورد فيه دليل، والشيء الذي ورد فيه دليل قضية: (يسمع قرع نعالهم)، الحديث الذي فيه أنه: (يسمع قرع نعالهم عندما يدفنونه وينصرفون)، هذا ثبت، وكذلك أهل القليب الكفار الذين خاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (هل وجدتم ما وعدني ربي حقاً؟)، الشيء الذي ورد يثبت، والشيء الذي ما ورد يسكت عنه، لكن لا يقال: إنهم يعاملون كما يعاملون، أي: في الدنيا بأن الإنسان يأتي، ويخاطبهم ويقول: إنهم يسمعونه، ويسمعون كلامه، ويفهمون كل ما يقول؛ لأنه قد جاء في الحديث ما يدل على خلاف ذلك من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما يكون على الحوض، ويذاد ناس، فيقول: (أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، فلو كان يعلم الشيء الذي يجري بعد وفاته من أصحابه، ما احتاج إلى أن يقول: أصحابي أصحابي، كأن يعرف أن فيهم من ارتد وقتل على الردة، ومات على الردة، ولم يكن من أصحابه الذين وفقوا للبقاء على الحق والهدى، فقضية كون الرسول صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة برزخية، هذا بلا شك، بل إن الشهداء الذين ذكر الله تعالى حياتهم في القرآن: بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، حياته أكمل من حياتهم؛ لأنهم إنما نالوا ما نالوه من الحياة باتباعهم له، وبجهادهم في سبيل الله عز وجل امتثالاً لما جاء به من الشرع صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فله من الحياة أكمل من حياتهم، لكن لا يقال: إنها مثل الحياة الدنيا، وأنه يجرى فيها ما يجري في الدنيا؛ لأنه لو كان الأمر كذلك، كان الصحابة رضي الله عنهم، لما اختلفوا رجعوا إليه وطلبوا منه أنه يفصل بينهم ويبين لهم، وهذا يبين لنا فساد ما يقوله بعض الدجالين من أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج من القبر، ويصافح بعض الناس، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج لـأبي بكر، وفاطمة، ويخرج للدجالين في آخر الزمان من قبره يصافحهم، ويكون يقظة لا مناماً، هذا دجل، لو كان ذلك حقاً لكان أسعد الناس به أبو بكر، وفاطمة لما حصل بينهم ما حصل من الخلاف من جهة الإرث، وأبو بكر أخذ بقوله: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة)، وهي طبعاً ما علمت هذا، وقالت ما قالت، وطلبت ما طلبت، فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج لخرج لخير الناس، وأفضل الناس، ما يحصل هذا لخير الناس، ويحصل لبعض الدجالين في آخر الزمان.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر