نحمد الله ونشكره، ونثني عليه ونستغفره، ونشهد أن لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، ولا رب لنا سواه، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وبعد:
فإن دين الإسلام وتعاليمه وسط بين الإفراط والتفريط؛ وذلك لأن الإسلام جاء منتظماً لمصالح العباد، وكمله الله تعالى وأتمه على أحسن ما يرام، وضمنه كل مصلحة وأمر بها، ونهى عن كل مفسدة، فلا جرم أن هذا الدين هو الدين الذي فطر الله العباد على استحسانه والميل إليه، وقد ارتضاه الله تعالى لنا ديناً، فقال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] يعني: اختاره ورضيه ديناً للعباد يدينون به ويتقربون به إلى ربهم، وأخبر بأنه الدين الحق لا سواه، فقال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، أي: هو الدين الصحيح، وما سواه من الأديان فإنها منسوخة، فالأديان السماوية السابقة قد نسخها هذا الدين، وحل محلها، وتضمن ما فيها من العبادات والمعاملات الملائمة، فقام مقام كل ما سبقه من الأديان، وزاد على ذلك بما هو مناسب وملائم لحال العباد والبلاد.
وأخبر سبحانه بأن من تركه وخالفه فهو خاسر تائه ضائع، فقال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، وذلك لأن هناك أدياناً يدين بها من يعتنقها ويعتقدها من عباد الله، وزين لهم الدعاة إلى تلك الأديان أنها أديان حقة صحيحة ملائمة مناسبة، ولكن عند التأمل والتعقل يتضح أنها باطلة، وأن الذي شرعها ودعا إليها هو الشيطان الرجيم.
وقد أخذ الله الميثاق عليه بل وعلى كل الأنبياء أن يتبعوا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم متى بعث، فقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمران:81]، قال ابن عباس : ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته: لئن بعث محمد وهم أحياء أن يتبعوه ويؤمنوا به وينصروه.
وثبت أيضاً أن دين موسى الذي يدين به أتباعه من اليهود سابقاً كان ديناً سماوياً اختاره الله وفضله في ذلك الوقت، ولكنه مؤقتٌ أيضاً ببدء إرسال هذا الرسول الكريم، فمنذ أن بعث وذلك الدين منسوخ، مع أن تلك الأديان التي هي دين اليهودية والنصرانية قد دخلها بعد أنبيائها الكثير من التحريف والتغيير والتبديل، وما ذاك إلا أن الله استحفظهم كتبها ومراجعها، وضمن حفظ شريعتنا بنفسه، فقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، تكفل الله بحفظ هذه الشريعة أن يدخلها شيء من الزيادة والتغيير، وأما الشرائع التي قبلها فقد وكل حفظها إلى أولئك الحملة كما في قوله تعالى: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ [المائدة:44]، فجعلهم وكلاء على حفظه ولم يتكفل بحفظه، فكان ذلك سبباً في وقوع تلك التحاريف والتغييرات والتبديلات في الشرائع السماوية مما جعلها غير ملائمة وغير مناسبة.
وأما ما سواه من الأديان الباطلة المضلة، فقد نهى عنها دين الإسلام وحذر منها، فإن الإسلام جاء وهناك دين أهل الوثنية الذين يعبدون الأصنام والأوثان من دون الله، ويعتقدون أنها تقربهم إلى الله زلفى، وتشفع لهم عند الله، ويصرفون لها خالص حق الله، فلما جاء الإسلام نهاهم عنها نهياً صريحاً، وحذرهم عن التعلق بتلك الأوثان، وأمرهم أن يعبدوا الله وحده، فجاء الإسلام بإبطال ونسف عبادة ما سوى الله من نبي أو ولي أو صالح أو قبر أو حجر أو مدر أو صخرة أو شجرة أو بقعة، أو غير ذلك مما يعظم ويصرف له شيء من خالص حق الله، فهذا دين باطل، يعني: دين الوثنية، جاء الإسلام بنسفه وبالقضاء عليه.
وهناك أديان انتشرت في هذه الأزمنة، وكثر الذين يعتنقونها، مع كونها باطلة، فتجد هناك ديناً يتسمى أهله بالبوذيين، وهم على عقيدة رجل يسمى بوذا زينت له نفسه فابتدع واخترع أشياء ما أنزل الله بها من سلطان: في العقائد وفي الأعمال، ومع ذلك استمرت عقيدته وانتشرت منذ عدة قرون، ولا تزال تلك العقيدة الباطلة منتشرة، وهناك من يدين بها، ويقدسها ويعظم معلوماتها وما تضمنته!
وهناك ديانات منتشرة في كثير من البلاد كالهندوس ونحوهم الذين يعبدون أوثاناً أو معبودات سوى الله تعالى، فهؤلاء يدخلون في الوثنية.
وهناك أديان منحرفة زين الشيطان لأربابها أنهم على خير، فصاروا يدينون بها ليل نهار، كأنها مسلمة لكل عاقل كعقيدة القاديانيين السيئة المنتشرة في المشرق.
هذا من حيث الأديان الباطلة التي تخالف الإسلام كلياً.
ومثل هؤلاء ولو تسموا بأنهم مسلمون فإنهم ليسوا من المسلمين المطبقين لشعائر الإسلام، ولأجل ذلك نقول: إن الإسلام الحقيقي هو الاعتقاد بالله إلهاً ورباً وخالقاً، والديانة له بالعبادة كما فسره الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، حيث يقول: الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك وأهله. فيبين رحمه الله أن المسلم حقاً هو المذعن المنقاد المتذلل، الذي متى علم بأن هذه الخصلة من الإسلام جاءنا بها واتبعها ولم يتخلف عنها، ومتى علم أن الإسلام حرم أو نهى عن هذه الخصلة ابتعد عنها، ودان لله تعالى بتركها، هذا هو المسلم حقاً.
ونحمد الله أن حفظ علينا شعائر ديننا، فجميع المحرمات أدلتها موجودة في الشريعة من الكتاب والسنة، وجميع العبادات والواجبات المشروعة أدلتها موجودة في الكتاب والسنة، فلسنا بحاجة إلى تحكيم العقول، ولا إلى أن نزن بأهوائنا ما يلقى إلينا، وما يسوغه لنا أولئك الأعداء الذين يجعلون أهواءهم هي الميزان الحق، فما وافق أهواءهم اتبعوه وشرعوه.
وكماله: احتواؤه على كل خير، ونهيه عن كل شر، ولقد بين وكمل تعاليمه وتفسيره وإيضاح معانيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، الذي كلفه الله بأن يبين للناس هذا الدين، فقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، أي: لتوضح لهم بالأمثلة وبالإيضاح التام ما أجملت أحكامه في القرآن، فإذا بينه النبي عليه الصلاة والسلام بأفعاله كان هذا البيان من الله تعالى؛ لأنه وحي وتشريع.
فجاء هذا الإسلام -بحمد الله- بكل ما فيه خير ومصلحة، ونهى عن كل ما فيه شر ومضرة كما روي عن بعض العقلاء من الأعراب لما دخل في الإسلام لأول ما عرض عليه، فقال: إني تأملت ما جاء به محمد فرأيته ما أمر بشيء وقال العقل: ليته نهى عنه، ولا نهى عنه شيء وقال العقل: ليته أمر به. والمراد هنا: العقول السليمة والفطر المستقيمة، فإنها تشهد بحسن هذا الدين، وباحتوائه على كل خير، وتنزيهه عن كل شر، وتشهد بمطابقته وملاءمته للمصالح، واحتوائه على كل ما ينظم الحياة تنظيماً كاملاً صحيحاً، فكان ذلك هو السبب الذي اختاره الله لهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، ومن ظلمات الجهل والظلام إلى نور الحق والإيمان، فكان حقاً على عباد الله الذين هداهم الله وأقبل بقلوبهم إلى اعتناقه، وصدقوا الرسول الذي جاء به، يطبقوه أتم تطبيق، وأن يعملوا به، وأن يكونوا في العمل به عارفين بأهدافه ومقاصده، غير زائدين فيه ولا مضيفين إليه ما ليس منه، وغير مقصرين في شيء منه ولا مخلين وناقصين بشيء من تعاليمه.
ولنأتي على ذلك بأمثلة في الأديان وفي العقائد وفي الأعمال؛ حتى يعرف بذلك كون دين الإسلام وسطاً، لا إفراط فيه ولا تفريط.
وجاءت النصارى فغلوا فيه ورفعوه عن مكانه، وأعطوه ما لا يستحقه، فحكى الله عنهم أنهم قالوا: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17] ، وحكى عنهم أنهم قالوا: وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30] وكذلك كفر من يقول إن الله ثالث ثلاثة -يعني: الله وعيسى وأمه- كما في قوله: أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة:116].
فجاء دين الإسلام فتوسط، فلا إفراط ولا تفريط، فلا إفراط فيه حيث رد على الذين زادوا وقالوا: هو الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة، ولا تفريط فيه حيث رد على الذين قالوا: إن المسيح ابن بغي، بل شهد بأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وجعلوه رسولاً كسائر الرسل، كما في قول الله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة:75]، فشهد له بأنه رسول، وحكى كلامه في قوله: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصف:6]، فهو رسول كسائر الرسل، وهذا هو القول الوسط، فلا إفراط ولا تفريط.
ومن أمثلة ذلك: أن اليهود يرون الطلاق ولا يرون الرجعة، فمن طلق زوجته فلا رجعة له عليها، وأن النصارى يرون أن لا طلاق، فمتى عقد للإنسان فلا طلاق ولا يحق له الطلاق، فجاء الإسلام فتوسط وجعل للإنسان أن يطلق متى شاء، وأن يراجع بعد الطلقة الأولى وبعد الثانية؛ وذلك لأن الإنسان قد يستعجل في أمر له فيه أناة فيتلافى ذلك بعد حين، فتوسط الإسلام بين هؤلاء وهؤلاء.
أما دين النصارى فيأمرهم بأن يعفو، وأن لا ينتصروا وأن لا ينتقموا لأنفسهم أبداً، ودين اليهود يحكم عليهم بالاستيفاء والقصاص، فالإسلام جاء بهذا الدين الذي لا إفراط فيه ولا تفريط.
إذاً: فعقيدة أهل السنة والجماعة هي السيرة السلفية، وهي العقيدة السنية، وهي الشريعة المحمدية والملة الإبراهيمية، التي هدى الله إليها هذه الأمة.
ففرقة تقول: إن الإنسان هو الذي يخلق أفعاله،وليس لله قدرة على هداية ولا إضلال؛ فهؤلاء قد أشركوا. وفرقة جعلت العبد مجبوراً وليس له اختيار أبداً، وعرفته بذلك، فجاء أهل السنة فتوسطوا وجعلوا له اختياراً، ولكن اختياره مربوط بمشيئة الله؛ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]، فهذا توسطهم في باب القدر.
فجاء أهل السنة وتوسطوا، فلا إفراط ولا تفريط، فجعلوا الإنسان يستحق اسم الإيمان واسم الإسلام ولو كان معه شيء من الذنوب وشيء من المعاصي، فلم يخرجوه من الإسلام بالكلية كالخوارج والمعتزلة الذين يكفرون بكل ذنب، فمن أذنب ذنباً أخرجوه من الإسلام، وخلدوه في النار والعياذ بالله، ولم يكونوا كطائفة أهل الإرجاء الذين يجعلونه كامل الإيمان، ويبيحون له الاستكثار من المعاصي، ويعتقدون أنها لا تضره.
فأهل السنة هم الوسط فيقولون: إن المعاصي لا تخرج العبد من الإيمان، ولكن عليه منها ضرر؛ فإنها قد تجتمع على العبد فتهلكه، ولو لم يخلد في النار لكن يستحق دخولها ويعذب بقدر سيئاته إذا كان من أهل الإسلام، فتوسط أهل العقيدة السلفية، فلم يكفروا بالذنوب كالخوارج، ولم يجعلوا المذنب كامل الإيمان كأهل الإرجاء، بل جعلوه مؤمناً ناقص الإيمان، وقالوا: هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته.
قد ضل في باب الصحابة طائفتان: إحداهما فرطت، والأخرى أفرطت، وأهل السنة بينهما وسط لا إفراط ولا تفريط، وقد ضلت في شأن أهل البيت -خاصة- فرقتان: فرقة تكفرهم وتستبيح لعنهم، ويقال لهم: النواصب، وهم الذين نصبوا العداوة للصحابة، وأخرجوهم من الإسلام، وفرقة تغلو فيهم وتجعل عليا هو الله أو الرسول أو الأحق بالرسالة، وتعبده وتعبد أولاده وذريته من دون الله، وهذه الفرقة هي الرافضة، الذين يتسمون بأنهم شيعة علي، أي: أنصاره وكذبوا! فليسوا بشيعته بل هم أعداؤه وأعداء طريقته وسيرته.
أما أهل السنة فتوسطوا، فلا إفراط ولا تفريط، وقالوا: إن عليا وأولاده وأهل بيته لهم حق الولاية والصحبة والإسلام والأسبقية والقرابة، ولكن لا نفضلهم على الخلفاء الذين قبلهم، ولا نغلو فيهم ونمدحهم بما ليس فيهم، بل لهم الشرف والقرابة، ولا يستحقون أن يوصفوا بما لا يستحقون من حق الله أو من حق الرسول عليه الصلاة والسلام، فلم يزيدوا ويغلوا كغلو الرافضة الذين جعلوا عليا إلهاً، حتى يقول بعضهم: أشهد أن لا إله إلا حيدرة: يعني: علياً، وبعضهم يدعي أنه أولى بالرسالة، ويزعم بأن جبريل عليه السلام خان الأمانة، وقد كان أرسل إلى علي فصرف الرسالة إلى محمد.
فهؤلاء قد زادوا وغلوا، وجاءت الطائفة الثانية الذين سبوا وكفروا، وأخرجوهم من الإسلام فجفوا، وجاء أهل السنة فصاروا وسطاً بين الغلو والجفاء .. بين الإفراط والتفريط، فجعلوه صحابياً جليلاً من السابقين الأولين، له قرابته وله نسبه وله صهره وله أفضليته، ولكن لا نعطيه حقاً من حقوق الله ولا من حقوق الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا نغلو فيه فوق ما يستحقه هو أو غيره من خلق الله.
فالطائفة الذين غلو هم الذين يعبدون الأولياء، والولي عندهم: هو الرجل الصالح الذي قد حصل من القرب ومن الصلاح في العمل ما جعله محبوباً عند الله، وأنه ولي من أولياء الله، يجري الله على يديه من خوارق العادات ما لم يجره على يدي غيره، فقالوا: هذا الولي يستحق منا أن نقدسه، فصاروا يغلون فيه في حياته، فيتمسحون به وبثيابه، ويتبركون بما مسه من ماء أو غيره، وبعد موته يعكفون عند قبره ويتمسحون بقبره، ويصلون عنده ويعتقدون أن للصلاة عنده مزية وفضيلة، وأنه يشفع لهم في تكفير سيئاتهم وفي قبول صلاتهم، وفي مضاعفة حسناتهم، فيعملون عند قبره من الأعمال ما لا يصلح أن تكون إلا لله وحده، فهؤلاء قد غلوا وتجاوزوا حدهم وقدرهم.
والطائفة الثانية الذين لا يرون لعباد الله الصالحين قدراً، ولا يقيمون لهم وزناً، فلا يقتدون بهم، ولا يتبعون سيرتهم، ويحقرون شأنهم، ويحتقرونهم في أعمالهم، ويدعون أنهم -كما يعبرون- أهل تشدد، أو أهل جمود، أو أهل رجعية وتقهقر أو ما أشبه ذلك من عباراتهم السيئة، فهؤلاء قد فرطوا.
وأهل السنة توسطوا فيما لأولياء الله تعالى، فقالوا: نحن نحبهم؛ لأن الله يحبهم، بل ونحب كل من يحبه الله من الصالحين والمؤمنين والأتقياء، ولكن محبتنا لهم لا تصل إلى أن نتمسح بتربتهم، ولا إلى أن نصير لهم شيئاً من حقوق الله، أو نذبح لهم من دون الله، أو نطوف بأضرحتهم، أو ندعوهم مع الله أو من دون الله، بل محبتنا لهم تحملنا على أن نقتدي بأفعالهم، فإذا كنا كذلك فإننا متوسطون بين هؤلاء وهؤلاء، لا إفراط ولا تفريط.
هكذا جاء دين الإسلام، فالذين غلوا وزادوا وقعوا في الشرك؛ وذلك لأنهم عظموا هؤلاء المخلوقين، وجعلوا لهم شيئاً مما لا يصلح إلا لله، فإن التعظيم عبادة والعبادة لله وحده؛ لأن العبادة هي التذلل، فإذا كانوا يتذللون عند تلك الأضرحة، ويخضعون ويخشعون، فتلك عبادة، وإذا كانوا يذبحون لهم وينذرون فذلك تعظيم وهو من العبادة، وإذا كانوا يدعونهم ويهتفون بأسمائهم فإن الدعاء مخ العبادة، وإذا كانوا يتمسحون بهم ويطوفون بقبورهم ويطيلون الإقامة عندها فإن ذلك تعظيم، وذلك حقيقة العبادة، فأولئك الذين غلوا وقعوا في الشرك بالله سبحانه، مع أن هؤلاء الصالحين لا يرضون أن يشرك بهم، فالمسيح عليه السلام بريء من شرك من أشرك به، وهكذا كل من عبد من دون الله ولم يرض فهو بريء من شرك من أشرك به.
وفي يوم القيامة لابد وأن يتبرءوا منهم، ويقولوا: نحن برآء من أفعالكم، كما قال تعالى عن الملائكة: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:40-41]، فأخبروا بأنهم عبدوا ولكنهم لم يرضوا بذلك، ولا أحبوا ذلك، وإنما الشياطين هي التي سولت لهم وزينت لهم أن يعظموهم وأن يعبدوهم، وإلا فأنبياء الله ورسله وأولياؤه والصالحون من عباده بريئون من شرك من أشركهم مع الله سبحانه وتعالى.
وبالجملة: فإن المسلمين أهل العقيدة السلفية قد توسطوا في أولياء الله، فأحبوهم محبة قلبية، وحملتهم محبتهم على أن تتبعوا أخبارهم ودونوا سيرتهم، ونظروا في الأشياء التي كانوا يعملونها فعرفوا أنهم ما صاروا صالحين إلا بسبب زهدهم في الحرام وبعدهم عنه، وتقربهم إلى الله بأنواع القربات، فقالوا: هذا هو سبب صلاحهم، لماذا لا نفعل مثلما فعلوا حتى نكون مثلهم، فنصلح كما صلحوا، حتى نكون أولياء لله كما كانوا أولياء لله، يحبهم الله تعالى ويوفقهم ويعينهم، فنفعل الأفعال التي أحبهم الله لأجلها حتى يحبنا كما أحبهم، وحتى يعيننا كما أعانهم، ويهدينا كما هداهم.
وطائفة أخرى جفت فتراهم لا يتوضئون ولا يتطهرون كما أمر الله، ولا يسبغون الطهارة ولا يتمونها، وكلا الطائفتين منحرفتان، فالطائفة الذين غلوا ترى أحدهم يغسل وجهه خمساً أو عشراً، ويرى أنه ما طهر، ويغسل يديه مراراً قد تتجاوز العشر، وكذلك في الاغتسال ربما يغتسل نصف ساعة وربما ساعة، وربما ساعتين، كما حدثني بعهضم أنه يطيل في مزاولته الاغتسال ساعتين، وكذلك في الوضوء مدة طويلة، ولا شك أن هذا غلو، والإسلام قد أمر بالتوسط في ذلك كله فلا إفراط ولا تفريط.
ولا شك أن هذا من وسوسة الشيطان ليمل العبد من العبادة، وذلك لأنه متى دام على هذا التطهر سنة أو سنتين مل وضجر، واستثقل العبادة، وربما ترك الصلاة لاستثقال الطهارة، وقد حدثني من وقع له هذا الأمر وأنه لا يكاد أن يتوضأ إلا لساعتين، فقال: كيف أصلي هذه الصلوات؟! فصار يجمع الصلوات الخمس في وضوء واحد: يتوضأ بعد العشاء ويصلي الصلوات الخمس، فيكون قد أفرط حيث ترك الصلاة في مواقيتها، بعد أن ثقل عليه الشيطان أمر الطهارة التي لا تستغرق إلا خمس دقائق ونحوها، ثقلها عليه حتى يغير العبادة عن وقتها.
وكذلك في باب إزالة النجاسة فقد يوسوس له الشيطان أنه انتقض وضوءه وهو في الصلاة حتى يقطع صلاته، أو أن في ثوبه أدنى نجاسة ولو كانت قليلة، حتى ينوي أن صلاته بطلت؛ ليستثقل الصلاة فيمل منها بعد ذلك، وكثير منهم تركوا الصلاة لأجل هذه الوسوسة، فلما ثقل الشيطان عليهم الطهارة أصبحت الصلاة ثقيلة عليهم وشاقة أيما مشقة، فعند ذلك رأوا أن يتركوا الصلاة لأجل هذه المشقة، ولو رجعوا إلى تعاليم الإسلام وإلى ما شرعه لعرفوا أن هذا ليس من الدين في شيء، وأن الإسلام جاء بالسهولة وباليسر وبالسماحة وبالبعد عن كل المشقات وكل الصعوبات.
فهؤلاء غلوا في باب الطهارة وقابلهم طرف آخر فرطوا في ذلك وتهاونوا.
وأما الذين فرطوا فإنهم كثير، وسبب تفريطهم وسوسة الشيطان؛ ليبطل بذلك عملهم، فترى أحدهم إذا غسل وجهه لا يبالغ ولا يسبغه، فيبقى في وجهه بعض الأجزاء التي لم يأت عليها الماء، وإذا غسل يديه أو رجليه غسلهما بسرعة ومسحهما مسحاً ولا يبالي، فتبقى في عقبيه بقع لم يصلها الماء، وهؤلاء من الذين فرطوا وجفوا وقصروا في باب الطهارة، وكثيراً ما ننصح هؤلاء أن يسبغوا الوضوء وأن يتعاهدوا، حيث إن الشرع قد ورد بالأمر بالإسباغ في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما عدد الخصال التي ترفع بها الدرجات، ويمحو الله بها الخطايا قال: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط.. فذلكم الرباط).
وهكذا أيضاً حثنا على أن نتعاهد ما قد ينبو عنه الماء من الجسد ومن القدمين خاصة في قوله صلى الله عليه وسلم: (ويل للأعقاب من النار)، وفي رواية: (ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار)، فالذين يغسلون غسلاً خفيفاً، ولا يتعاهدون أقدامهم، كثيراً ما ترى في مؤخرة أقدامهم بقعة لم يمسها الماء، فتبطل بذلك الطهارة، فهؤلاء مفرطون، حيث إنهم نقصوا في الطهارة، فأولئك زادوا وغلوا وتجاوزوا، وهؤلاء قصروا ونقصوا.
ودين الإسلام جاء بالوسط، وهو أن الإنسان يتوضأ وضوءاً مسبغاً، فيكتفي بغسلة واحدة مسبغة كافية للعضو، وإذا زاد غسلة ثانية فهي أفضل، وإذا زاد غسلة ثالثة فهي أفضل من الثنتين، ولا تجوز الزيادة على ثلاث، والزيادة على الثلاث تعتبر إسرافاً وإفساداً وغلواً، فكيف بالذين يغسلون العشرات؟! هذا هو التوسط في هذا الباب.
وهكذا الذي يغتسل ولا يدلك جسده، بل يمر الماء عليه دون أن يدلك جسده، وهذا أيضاً في طهارته خلل.
وقد عرفنا أن السبب في ذلك هو الشيطان الرجيم الذي هو عدو للإنسان، فهو حريص على أن يضله ويبطل عليه أعماله كما يبطل عليه عقيدته، فالشيطان إذا رأى في الإنسان تصلباً ورأى فيه تشدداً جاءه من باب الغلو، وجاءه من باب الزيادة، وقال له: أنت لا يأتيك مثل ما يأتي غيرك، بل عليك أن تزيد وتبالغ، وإذا توضأ الناس للصلاة فلا تكتف بالوضوء، بل اغتسل للصلاة، وإذا توضأ الناس بالمد فلا تكتف به، بل توضأ بالصاع أو بالآصع، وإذا غسل الناس أيديهم ثلاثاً فلا تكتف بسبع ولا بعشر، بل زد عليهم حتى تكون أكثر، ويزين له أن الأجر على قدر النصب، وأنه كلما كثر العمل كان الأجر عليه أضعافاً مضاعفة، فهذه وسوسة من الشيطان.
ودين الإسلام جاء بما فيه المصلحة، ونهى عما فيه مفسدة، فالاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم وبسنته هو خير الهدي، فخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما زاد على ذلك فهو محدث، (وشر الأمور محدثاتها)، والذي لا يقتنع بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه يعتقد أن دين الإسلام ناقص، وأن الرسول ما بلغ البلاغ المبين، وأنه قصر في التعليم، حيث اقتصر على بعض الشرائع أو على بعض الطهارة أو نحو ذلك، وإذا اعتقد هذا الاعتقاد السيئ وقع -والعياذ بالله- في الانحراف والضلال، فإن اتهام النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من الأنبياء بإخفاء شيء من الرسالة، أو بالنقص والتغيير في شيء من أمر الشريعة اعتقاد باطل وضلال مبين يوقع في الخروج من دائرة الإسلام.
وهناك من لا يبالي فيصلي أو يتوضأ بدون قصد صالح، وبدون نية حسنة، فيعتبر هذا مقصراً ومخلاً في أدائه للعمل، والوسط في ذلك هو أن ينوي الإنسان بقلبه الطهارة أو الدخول في الصلاة أو ما أشبه ذلك، فإذا فعل ذلك فإنه قد مضى، واعتبرت نيته صالحة كافية.
وكذلك في الأذكار وغيرها، فإن أناساً وسوس لهم الشيطان بأنكم لا تحققون القراءة والحروف إلا إذا نطقتم بها على هذه الكيفية، فإذا لم تفعلوا فقد اختلت قراءتكم واختلت أذكاركم، وما إلى ذلك، حتى ذكروا أن بعضاً منهم يتكلف في النطق بل في القراءة، حتى إذا أراد أن ينطق بـ(الضاد) ونحوها أخرج بصاقه من شدة تكلفه وتشدده عندما يقول: (ولا الضالين) أو (المغضوب) يكلف نفسه حتى يخرج لعابه وبصاقه من شدة تكلفه! ولا شك أن هذا ما أنزل الله به من سلطان.
وهكذا أيضاً تكلفهم في النطق بالتكبير ونحو ذلك، حتى ربما يخرج الكلمة عن وضعها الذي وضعت عليه، فيكرر الكاف ويشددها، ويقول: (الله أككبر) وما أشبه ذلك، وعند قراءة التشهد والتحيات يشدد التاء فيقول: (التتحيات) وما أشبه ذلك، حتى تخرج الكلمة عن وضعها وماهيتها التي وضعت عليها، ولا شك أن هذا تغيير للكلام عن وضعه، وعن ماهيته وما هو عليه.
ولا شك أن الذين يفرطون في ذلك ويقصرون على خطر أيضاً، وذلك لأن هناك من لا يأتون بالتكبير كما ينبغي، فيأتي أحدهم بالكلمة دون أن يحقق حروفها، وكذلك في القراءة دون أن يحقق حروفها وتشديدها، والدين أمر بالتوسط في ذلك: التوسط في القراءة وفي التسليم وفي التشهد، وفي سائر أذكار الصلاة، لا إفراط أولئك ولا تفريط أولئك، لا غلو ولا تقصير، وهو أن تأتي بالقراءة بحروف بارزة ظاهرة يقرعها اللسان دون تكلف في التشديد، ودون تكلف في النزع، ودون تقعر وتشدق في تكلف الفصاحة، ودون تساهل في إدغام كثير من الحروف البارزة، ولا بعجلة وسرعة يختفي معها كثير من الحروف التي حقها الإبراز.
إذاً: لا إفراط ولا تفريط، فإذا قرأها قراءة مفهومة مسموعة حروفها، ظاهراً شدها ومدها على ما ينبغي كان بذلك متوسطاً، لا إلى الجفاء ولا إلى الغلو الذي قد يضل ويوقع في تغيير الكلم وتحريفه عن مواضعه.
وهناك طرف ثانٍ يقصرون ويخلون، وينقرون الصلاة نقراً، ولا يطمئنون في حركاتها ولا في أفعالها كما ينبغي، فلا تنقعد صلاتهم ولا تكون مجزئة، ويكونون سبباً في إبطال صلاة من صلى معهم، ولو كثر الذين يرغبون في الصلاة معهم، فهؤلاء في طرف وهؤلاء في طرف، ودين الله وسط، والصلاة المعتدلة المتوسطة بين هؤلاء وهؤلاء، فالإمام يراعي حال المأمومين فلا يطيل إطالة تملهم وتضجرهم، ولا يخفف تخفيفاً يخل بالعبادة، ولكن يطمئن فيها الطمأنينة الشرعية، ويحرص على الاقتداء بالصلاة النبوية في القراءة وفي الأذكار وفي غيرها، وبذلك يكون متوسطاً بين الغالي والجافي، فهذا أيضاً مما انقسم الناس فيه إلى طرفي نقيض، ثم توسط أهل الحق بين هذين الطرفين.
وآخرين يقصرون فلا يأتون بشيء منها أصلاً، ودين الله وسط بين ذلك.
ونذكر قصة عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فإنه كان في أول شبابه كثير العبادة، فشق على نفسه، فكان يقوم الليل كله، ويختم القرآن في كل ليلة في تهجده، وهذا فيه غلو وفيه مشقة وفيه تعب، يؤدي إلى أن تفوت عليه حقوق واجبة، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا غلو، وقال: (إن لنفسك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لربك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه)، وهذا لا شك أنه زيادة تمل الإنسان من العبادة وتضجره.
وهناك آخرون لا يعرفون مثل هذه العبادات -ولو كانت نوافل- فلا يصلي أحدهم في الليل أصلاً، ولا يصوم إلا ما فرض عليه، ولا يأتي بشيء من النوافل، ولا يتقرب بشيء من القربات، وكأنه مستغن عن هذه العبادات ونحوها، فلا شك أن هذا في طرف وذاك في طرف، فالذي كلف نفسه فشق عليها متطرف شديد التطرف، والذي تساهل في العبادات ولم يأت بشيء من العبادات إلا المفروضة، ولم يتقرب بشيء من نوافلها، هذا أيضاً متطرف غاية التطرف، ودين الإسلام وسط، وهو أن تتقرب إلى الله بقربات لا تكره بها نفسك، ولا تحرم بها نفسك من حقك، ومن الحقوق الواجبة عليك، وما أشبه ذلك، ولا تنس عبادة الله، ولا تشتغل بالملذات وبالشهوات عن حق الله، ولا تعط نفسك كل ما تشتهيه من لذة ونوم وشهوة بطن وشهوة فرج ومأكل ومشرب وملبس ونحو ذلك.
الطرف الأول: وهم أهل البذخ والإسراف والإفساد، فقد يكون لباس أحدهم بمئات أو بما يبلغ الألف أو الألوف، وهذا بلا شك أنه إفساد وإسراف وتبذير للمال بغير حقه، ويعتبر إفراطاً وغلواً، ولو أنه اقتصد واستعمل ما يكفيه، وتصدق بهذا الزائد أو أنفقه في وجه من وجوه الخير لكان خيراً له.
بينما هناك طرف آخر قد أنعم الله عليه ورزقه، ولكنه قصر على نفسه، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً عليه ثيابٌ وسخة وممزقة، ثياب ذلة وهوان، فسأله فقال: (أليس قد رزقك الله مالاً؟ قال: بلى. قال: من أي أنواع المال. قال: من كل أنواع المال، من الإبل والبقر والغنم والرقيق والمال. فقال: إن الله إذا أنعم على عبد أحب أن يرى أثر نعمته)، فكون الإنسان راغداً غنياً ومع ذلك يقصر على نفسه، فيقتصر على ثياب دنسة وسخة متمزقة، قد تبدو منها عورته، يعتبر هذا تقصيراً وإخلالاً.
وخير الأمور أوسطها: فلا يسرف في اللباس، ولا يقصر في اللباس، إذاً: الوسط بين ذلك، لا إفراط ولا تفريط.
بينما هناك آخرون قد زهدوا، ولكن زهادتهم أوقعتهم في أنهم تركوا مصالح أنفسهم، وانعزلوا عن الناس وما الناس فيه، وأضاعوا من تحت أيديهم من أهل وأولاد، فتركوا إيواءهم والإنفاق عليهم ونحو ذلك، وهؤلاء أيضاً مخلون ومقصرون، والأمر الوسط بين ذلك هو أن الإنسان يطلب من الدنيا الكفاف والقوت، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً)، فلا إفراط ولا تفريط، فلا ينقطع عن الدنيا انقطاعاً كلياً بحيث يضيع نفسه، ويعرض نفسه للحاجة والتكفف وسؤال الناس، ويعرض أهله للجوع والضنك وضيق المعيشة ونحو ذلك، ولا يجعل همه كله منكباً على الدنيا صارفاً فيها هواه، وصارفاً فيها حياته، وصارفاً فيها أوقاته، وناسياً آخرته، وناسياً الأعمال التي تقربه إلى الله، لا هذا ولا هذا، بل يشتغل بدنياه بقدر، ويشتغل لآخرته بقدر، ولا يبالغ في محبة الدنيا المحبة التي تنسيه الآخرة، ولا يبالغ في التقتير فيها التقتير الذي ينسيه حظ نفسه الذي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن لنفسه عليه حقاً.
بينما هناك من يتشدد في بعض المعاملات، ويمتنع عن أشياء أباحها الله، فيمتنع عن البيع الذي أباحه الله، ويمتنع عن الإجارة التي أباحها الله، ويمتنع عن التكسب من العمل الذي أباحه الله، واعتقدوا أن ذلك ممنوع وأن فيه خطراً وأن فيه خطأ، فوقعوا في التقصير والنقص، وأولئك وقعوا في الزيادة والغلو والإفراط، وخير الأمور أوسطها، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
وبالجملة فإن السبب الذي أوقع هؤلاء وهؤلاء في الإفراط والتفريط هو الشيطان، فإن الشيطان يوسوس حتى يخرج هؤلاء من العبادة، ويخرج هؤلاء من العبادة، أو حتى تمل كثير من العبادات ويثقلها عليهم، ويثقل عليهم المكاسب ونحوها، ويوقع هؤلاء في المحرمات أو في المشتبهات التي تجر إلى المحرمات، فيحصل أنه أضل خلقاً كثيراً؛ ليصدق على الناس ظنه كما قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20].
نسأل الله أن يبصرنا بالحق الذي هو دين الحق، والذي اختاره الله للأمة ديناً وحقاً، نسأله سبحانه أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ولا يجعله ملتبساً علينا أبداً، ونسأله أن يعيذنا من نزغات الشيطان وأوهامه ووساوسه، وأن يجعلنا من الذين أنار قلوبهم بطاعته، وبصرهم بالحق، ودلهم عليه، ورزقهم الهدى والاستقامة والسلوك إلى الصراط السوي الذي يؤدي بهم إلى النجاة في الآخرة، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر