الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
قبل أن نبدأ هناك تصحيح عند قوله: [وحكي عن عثمان بن مظعون ] صوابه: حكي عن قدامة ، لأن عثمان رضي الله عنه توفي متقدماً، وإنما الحكاية عن عثمان .
قوله: [تنبيه]، هذا التنبيه مخصوص بآية: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى [الليل:17-18]، يقول: [قد علمت مما ذكر أن فرض المسألة في لفظ له عموم، إما آية نزلت في معين ولا عموم للفظها فإنها تقصر عليه قطعاً كقوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى [الليل:17]].
فهو يريد أن يقول بأن هذه الآيات نزلت في أبي بكر بالإجماع، وذكر استدلال الفخر الرازي بهذه الآية مع قوله: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] على أنه أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه مناظرة قامت بين الإمام فخر الدين وأحد الرافضة في هذه الآية. وهو اختصرها هنا، واختزلها اختزالاً لا يبين المعنى، لكن لو رجعنا إلى تفسير الرازي فقد ذكر أن قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، فالأكرم هو الأتقى في منطوق هذه الآية، إن أكرمكم أتقاكم، وفي قوله: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى [الليل:17]، الأتقى نزلت إجماعاً في أبي بكر ، فيكون أبو بكر هو الأكرم من باب أولى، يعني: وكأنه ربط بين الآيتين.
يقول: [ووهم من ظن أن الآية عامة في كل من عمل عمله، إجراءً له على القاعدة، وهذا غلط؛ فإن هذه الآية ليس فيها صيغة عموم، إذ الألف واللام إنما تفيد العموم إذا كانت موصولة أو معرفة في جمع، زاد قوم: أو مفرد بشرط أن لا يكون هناك عهد، واللام في (الأتقى) ليست موصولة؛ لأنها لا توصل بأفعل التفضيل إجماعاً، والأتقى ليس جمعاً، بل هو مفرد، والعهد موجود خصوصاً مع ما يفيد صيغة أفعل من التمييز وقطع المشاركة، فبطل القول بالعموم وتعين القطع بالخصوص والقصر على من نزلت فيه رضي الله عنه]. أظن أن هذا الكلام ليس من تحرير السيوطي ، ويبدو أنه نقله لكن لم يشر عمن نقله، لكن لا شك أن قوله: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى [الليل:17] أن المقصود بها أولاً أبو بكر ، هذا لا خلاف فيه. لكن السؤال: هل بالفعل صحيح أنها لا تعمم؟
هو يرى أنها لا تخرج عن أبي بكر ، وهي مقصورة عليه فيلزم منه أن هذه الآية بهذا المدلول لا يمكن أن تعمم.
والمحققون من المفسرين مثل ابن كثير ، ومثل ابن عطية كذلك وأيضاً الطاهر بن عاشور ذهبوا إلى التعميم؛ لأن صيغة (الأتقى) هنا لم يجعلوها على أفعل التفضيل التي لا يقابلها شيء. فمثلاً لما نقول: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] لا يلزم أن يكون بمقابل، فـ(أل) هنا تدل على الكمال في الصفة، يعني: كأنه العالي الذي ليس فوقه أحد، فالأعلى الذي بلغ التمام في الصفة، والأشقى الذي بلغ التمام في الشقوة، والأتقى الذي بلغ التمام في التقوى، فالأتقى عندهم أفعل بمعنى فعيل، يعني: التقي، وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى [الليل:17] أي: التقي. فإذا جعلناها بهذا المدلول فيكون المقصود الأول بها هو أبو بكر رضي الله عنه، ثم يأتي التعميم إما من جهة تعميم اللفظ وإما من جهة القياس الذي هو تعميم المعنى. فهذه القضية الأولى.
والقضية الثانية في قوله: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى [الليل:17]، فقد وصف (الأتقى) بأوصاف فقال: الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ [الليل:18-20] ففيه صفة أنه يبذل ماله ولا ينتظر جزاءً ممن بذل له المال، وهذا القيد لو نحن قيدناه فإن من يدخل في معنى الآية قليل جداً، لكن من عمل بالتقوى في غير هذا المحل -غير محل المال- هل يدخل في عمومه: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى [الليل:17] أو لا يدخل؟ يدخل، إذا قلنا بالتعميم.
فنحن الآن عندنا أمران: عندنا وصف الأتقى، ثم وصف الأتقى بشيء مما عمله، وبما أنها نزلت بسبب فيكون وصف لحال هذا الشخص، لكن هل تقوى أبي بكر فقط في هذه القضية أو في غيرها أيضاً؟
أيضاً في غيرها، فهو إنما مدح في هذه الآية بالذات، ولكن لا يعني ذلك أن من اتصف بالتقوى لا يدخل في قوله: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى [الليل:17]؛ لأنه يجنب الأتقى حتى بالأفعال الأخرى. وهذا أيضاً تنبيه آخر على أنه يمكن أن يدخل غير أبي بكر في العموم، لكن لا شك أن أبا بكر هو المقصود الأول في هذا، وهذا الذي نص عليه ابن عطية وكذلك ابن كثير .
إذاً: المقصد من هذا أنه ينتبه إلى أنه يمكن التعميم ولا يمتنع، لكن هذا التعميم -كما هي القاعدة- لا يُخرج أبا بكر إطلاقاً، بل هو المقصود الأول في هذه الآية.
المسألة الثالثة: قال: [تقدم أن صورة السبب قطعية الدخول في العام] وهذه لا خلاف فيها.
قال: [وقد تنزل الآيات على الأسباب الخاصة وتوضع مع ما يناسبها من الآي العامة رعاية لنظم القرآن وحسن السياق، فيكون ذلك الخاص قريباً من صورة السبب في كونه قطعي الدخول في العام، كما اختار السبكي أن رتبته متوسطة دون السبب وفوق المجرد، مثاله قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النساء:51] إلى آخره. فإنها إشارة إلى كعب بن الأشرف ونحوه من علماء اليهود لما قدموا مكة وشاهدوا قتلى بدر حرضوا المشركين على الأخذ بثأرهم ومحاربة النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوهم: من أهدى سبيلاً: محمد وأصحابه أم نحن؟ فقالوا: أنتم، مع علمهم بما في كتابهم من نعت النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ المواثيق عليهم أن لا يكتموه، فكان ذلك أمانة لازمة لهم، ولم يؤدوها حيث قالوا للكفار: أنتم أهدى سبيلاً، حسداً للنبي صلى الله عليه وسلم. فقد تضمنت هذه الآية مع هذا القول المتوعد عليه المفيد للأمر بمقابلة المشتمل على أداء الأمانة التي هي ببيان صفة النبي صلى الله عليه وسلم بإفادة أنه الموصوف في كتابهم، وذلك مناسب لقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]]، فيلاحظ أن الآيات السابقة من آية واحد وخمسين كلام عن اليهود، ثم جاءت آية ثمانية وخمسين التي هي: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].
فهو الآن يتكلم عن أمر وهو أنها تتنزل آيات على الأسباب الخاصة وتوضع مع ما يناسبها من الآي العامة.
فالآن هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ [النساء:58] ليست مرتبطة بالآيات الأولى، فالآيات الأولى تتكلم عن حدث حدث بعد غزوة بدر، وهذه الآية إنما نزلت في فتح مكة، فبينهما زمن، ووضعت هذه الآية في هذا الموضع.
فما هي المناسبة؟ المناسبة أن هؤلاء أمنوا على صفة الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يؤدوا الأمانة، وكتموها؛ فلهذا وضعت في هذا المكان لهذه المناسبة.
قال بعد ذلك: [فهذا عام في كل أمانة وذاك خاص بأمانة وهي صفة النبي صلى الله عليه وسلم بالطريق السابق، والعام تال للخاص في الرسم متراخ عنه في النزول، والمناسبة تقتضي دخول ما دل عليه الخاص في العام؛ ولذا قال ابن العربي في تفسيره: وجه النظم أنه أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقولهم: إن المشركين أهدى سبيلاً، فكان ذلك خيانة منهم، فانجر الكلام إلى ذكر جميع الأمانات. انتهى]. وهذا التفسير من ابن العربي لم أجده في أحكام القرآن، فلعله اطلع على شيء من تفسير ابن العربي المالكي .
قال: [وقال بعضهم] والذي قاله هو الزركشي في البرهان.
[ولا يرد تأخر نزول آية الأمانات التي قبلها بنحو ست سنين؛ لأن الزمان إنما يشترط في سبب النزول لا في المناسبة] وهذه قاعدة علمية: الزمان إنما يشترط في سبب النزول لا في المناسبة، فما يأتي واحد يقول مثلاً في المحكي: هذه مناسبة؛ لأن آيات الجبت والطاغوت نزلت بعد بدر، وهذه الآية نزلت في فتح مكة، فبينهما زمن. فنقول: لا؛ لأن هذا التاريخ إنما يشترط في سبب النزول لا في المناسبة.
قال: [لأن المقصود منها وضع آية في موضع يناسبها، والآيات كانت تنزل على أسبابها ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها في المواضع التي علم من الله أنها مواضعها] انتهى كلامه. نقف على هذا.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر