بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فنأخذ بإيجاز إشارة سريعة جداً إلى ما يتعلق بالنوع الخامس والخمسين وهو في الحصر والاختصاص، وهو من المباحث المتممة للمباحث البلاغية في هذا الكتاب.
وقد ذكرنا أن السيوطي رحمه الله تعالى إذا قال في هذا الكتاب: قال الإمام فإنه يريد به الرازي، والمحققون ذهبوا إلى أن المراد به الجرجاني ، وكنت قبل ذلك قد سألت أحد المتخصصين في البلاغة وقد راجع هذا الموطن، فأكد أيضاً أنه الرازي وليس الجرجاني ، فهذا فقط من باب توكيد المعلومة التي سبق ذكرها فيما يتعلق بالتشبيه والاستعارة.
ونرجع إلى قضية الحصر والاختصاص، وهو من المباحث المفيدة التي اعتنى بها علماء البلاغة، واعتنى بها أيضاً من اعتنى ببلاغة القرآن مثل الزمخشري و البيضاوي ومن سار على نهجهما، سواء الحواشي التي حُشّيت على الزمخشري أو على البيضاوي، مثل حاشية الشيخ زاده على البيضاوي ، أو حاشية الشهاب الخفاجي على البيضاوي ، أو حاشية الطيبي على الكشاف، أو غيرهما من هذه الحواشي.
كذلك نجدها في مثل الكتب التي سارت على نهج هذين الكتابين وهما كتاب الكشاف والبيضاوي ، مثل كتاب أبي السعود وهو إرشاد العقل السليم، أو كتاب النسفي ، أو كتاب الشربيني الذي اسمه السراج المنير.
فهذه الكتب عنيت كثيراً بهذه المباحث.
كذلك من أنفس كتب المتأخرين كتاب الطاهر بن عاشور ، وقد عني بما يتعلق بهذا المبحث وغيره من مباحث البلاغة، ولا أستبعد أن توجد في أقسام البلاغة بحوث مستقلة وخاصة بهذه الموضوعات مفردة من خلال كتب التفسير.
والحصر كما قال المؤلف: [ ويقال له: القصر، فهو تخصيص أمر بآخر بطريق مخصوص، ويقال أيضاً: إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه.
وينقسم إلى قصر الموصوف على الصفة، وقصر الصفة على الموصوف، وكل منهما إما أن يأتي حقيقياً، وإما أن يأتي مجازياً ].
والذي يهمنا هنا هو أهمية هذا المبحث من جهة ما بعد المعنى، فهذا المبحث إذا تأملناه وقرأنا فيه سنجد أنه مفيد بعد التفسير، بمعنى: أننا نفهم المعنى الإجمالي، ثم يأتي مثل هذا المبحث بعد فهم المعنى.
فموضوع الحصر والاختصاص موضوع يأتي بعد المعنى، ولا يعني هذا أنه لا يؤثر على بلاغة المعنى، ولكن المقصد أنه لا يؤثر على فهم المعنى.
ولذلك عندما أقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وقلنا في تفسيرها: نعبدك ونستعينك، فإنه في هذا التفسير أفهم المعنى، ولكنه لم يؤد بلاغة إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]، فإذاً لا بد أن نفرق بين أمرين: المعنى الأولي، وبعد ذلك المعنى الثانوي.
والذي نريد أن ننتبه له: أننا حينما نتكلم في الحصر والاختصاص فإن كلامنا في المعاني الثانوية وليس في المعاني الأولية، مثلما قلنا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]، ولكن لو أردنا أن نفسّر إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] بتفسير أدق فإننا نقول: لا نعبد إلا أنت، فاستخدمنا أسلوب الحصر والاختصاص بطريق آخر، بمعنى: أننا قدمنا المعمول على العامل كما يقول السيوطي رحمه الله تعالى لما ذكر هذا، وقال عبارة مهمة وهي قوله: [ كاد أهل البيان أن يطبقون على أن تقديم المعمول يفيد الحصر، سواء كان مفعولاً أو ظرفاً، أو مجروراً، ولهذا قيل في إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]: نخصك بالعبادة والاستعانة.
فإذا أردنا أن نفسر هذه على أسلوب البلاغة، عندما تقول: نعبدك نقول: أنت قصّرت في أداء المعنى من جهة البلاغة، ولكن من جهة الإفهام فإن معنى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] أو وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] نعبد الله، ونستعين الله. وهذا تفهيم للمعنى العام، ولكن إذا أردنا الدقة نقول: لا نعبد إلا أنت ولا نستعين إلا بك. وهذا هو أسلوب الحصر لكنه بطريق آخر، يعني: تفسير أسلوب حصر بأسلوب حصر آخر.
فهذا إذاً ما يتعلق بموضوع الحصر والاختصاص، وهو من المباحث اللطيفة فيما يتعلق بعلم البلاغة.
وما دام الأمر كذلك فالأصل في هذا المبحث أنه لا علاقة له بالتفسير، وإنما يأتي بعد التفسير، وبما أنه ليس له علاقة بالتفسير مباشرة فإنه يكون من علوم القرآن المرتبطة بالعربية؛ لأنا قسمنا علوم القرآن إلى ثلاثة أقسام: علوم منبثقة من القرآن لا تبحث إلا فيه، وعلوم مشتركة مع الفقه وأصول الفقه، وعلوم مشتركة مع العربية.
فالعلوم المشتركة مع العربية هذا يدخل فيها.
فإذاً: هو لا شك أنه من علوم القرآن المرتبطة بعربية القرآن، فكما أنا نبحث الحصر والاختصاص في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ونبحث الحصر والاختصاص في أشعار العرب ونثرها فكذلك نبحث الحصر والاختصاص في كلام الله سبحانه وتعالى؛ لأن مجموع هذا الكلام كله، سواء كان كلام الله سبحانه وتعالى أو كان كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، أو كان كلام العرب في نثره وشعره.. كله يجمعه أنه كلام عربي ينطبق عليه ما ينطبق على الكلام العربي بعمومه.
فهذا بإيجاز شديد ما يتعلق بقضية الحصر والاختصاص. وهو جزء من المعنى وليس كل المعنى.
السؤال: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [آل عمران:144] هل هو فقط رسول أو رسول وصفات أخرى؟
الجواب: عندما تريد أن تفسر وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [آل عمران:144] تقول: إن إثبات كون الرسول صلى الله عليه وسلم رسولاً ليس مستمداً من قضية الحصر، لكن الآية أفادت حصر محمد صلى الله عليه وسلم على الرسالة، فهذا الحصر على الرسالة هل هو محصور على الرسالة فقط؟ لا.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا الله، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر