بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
فعندنا كتاب الاتقان للإمام السيوطي رحمه الله تعالى، وقد وقفنا على النوع الثالث والسبعين في أفضل القرآن وفاضله, وهذا النوع ليس كالنوع الذي قبله الذي هو فضائل القرآن, فبينهما تداخل، وهنا سؤال: هل يوجد في القرآن سور أو آيات بعضها أفضل من بعض؟
فهذا باب التفضيل الذي يدخل في باب أفعل التفضيل, أما هناك فنقول: فضل هذه الآية كذا, فضل هذه السورة كذا.
وقضية فاضل القرآن ومفضوله مرتبطة بالنقل, هذا هو الأصل فيها بمعنى: أنه لا يجوز حكاية الأفضلية إلا بدليل، وننظر هل يوجد دليل أم لا؟ وكيف تكلم السيوطي رحمه الله تعالى في هذه المسألة؟
نلاحظ أن الإمام رحمه الله تعالى ابتدأ هذا الموضوع بذكر اختلاف الناس: هل في القرآن شيء أفضل من شيء؟ قال: فذهب الإمام أبو الحسن الأشعري والقاضي أبو بكر الباقلاني و ابن حبان إلى المنع، قالوا: لأن الجميع كلام الله؛ ولئلا يوهم التفضيل بنقص المفضل عليه, قال: وروي هذا القول عن مالك . قال يحيى : تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ. ولذلك كرهه مالك ، أو كره مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها.
وكلام الإمام مالك يحتاج إلى تفصيل, وسيأتينا في المسألة الثانية وهي: هل يجوز التفضيل من جهة العقل أو لا؟ لكن المسألة الأولى التي ذكرها الإمام مالك ونسبها إلى الأشعري والقاضي أبي بكر وغيرهم من العلماء, هذه المسألة مبنية على القول في كلام الله سبحانه وتعالى.
فعلى مذهب الأشاعرة ومن ذهب مذهبهم من المتقدمين كالكلابية، ومن قال بمثل قولهم, كلام الله عندهم واحد, وما دام كلاماً واحداً فإنه لا يقع فيه تفاضل, وهو الكلام النفسي عندهم, ولهذا ذكر أبو بكر الباقلاني وكذلك الأشعري قبله إلى أنه لا يوجد تفاضل في آيات القرآن.
لكن هذا المذهب مذهب ضعيف؛ بسبب ورود الحديث النبوي الصريح في التفضيل, مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( سيدة آي القرآن: اللهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] ), ولما ذكر عن الفاتحة أنها أفضل سور القرآن, وكذلك في ذكره لما في سورة الصمد من الفضل: ( أنها تعدل ثلث القرآن ), فهذه الفضائل دالة على التفضيل, وإلا لو لم يكن لها مزية في التفضيل؛ فإنه لا معنى لهذه الأحاديث التي ورد فيها تفضيل بعض السور والآيات على بعض.
لكن هل التفضيل في هذا المقام نقلي أو علقي؟
نقول: التفضيل نقلي.
فالأصل في هذا الباب أنه لا يجوز التفضيل بذكر فضيلة معينة إلا بدليل نقلي، فإذا قلنا: إن الفاتحة هي أفضل سورة في القرآن، فما الدليل على ذلك؟ فتأتي بالحديث النبوي الدال على أنها أفضل سور القرآن, فإذاً: التفضيل مرتبط بالفضيلة من هذه الجهة, والتفضيل المرتبط بالفضيلة لا يكون إلا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم.
هذه الجهة النقلية, وهذا حكاه عن بعض العلماء.
قال: وذهب آخرون إلى التفضيل لظواهر الأحاديث ومنهم: إسحاق بن راهويه و أبو بكر بن العربي و الغزالي , وقال القرطبي : إنه الحق, ونقله عن جماعة من العلماء والمتكلمين, ثم ذكر قول الغزالي وقول عز الدين بن عبد السلام , وقول غيرهم. أي: من العلماء الذي ذهبوا إلى هذا المعنى.
يبقى عندنا مسألة وهي: إذا كان هذا الأمر الذي هو التفضيل المرتبط بالفضائل نقلياً بحتاً، وما دامت الفضائل كما قلنا من علوم القرآن لا أثر لها في التفسير، فكذلك الأفضلية لا أثر لها في التفسير, أي: لا أثر لها في بيان المعاني, كما نقول: إن أفضل سورة هي الفاتحة, فكونك تعرف أنها أفضل سورة أو لا تعرف فلا يؤثر في فهم المعاني, وفهم المعاني هو التفسير, وبناءً عليه فالبحث في الأفضلية هو من علوم القرآن وليس من علوم التفسير, والأفضلية المرتبطة بفضائل هذا المبحث نقلي بحت، لا بد فيه من النقل عن الشارع، وهو النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام.
لكن تبقى قضية أخرى للعقل فيها مدخل وهي: موضوع الآيات, فهل يجوز التفاضل بين موضوع الآيات أو لا يجوز؟ موضوع الآيات وليس فضل الآيات، فمثلاً: أواخر سورة الحشر تتحدث عن أسماء الله الحسنى, وسورة: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1], تتحدث عن أبي لهب وامرأته وما لهما من العذاب.
فنقول: الموضوع الذي يتحدث عن أسماء الله سبحانه وتعالى أفضل من الموضوع الذي يتحدث عن أبي لهب من جهة الموضوع لا شك أن ما يتحدث عن أسماء الله الحسنى أفضل؛ لكن هذا التفضيل ليس له أي أثر في الفضل, وليس له أي أثر في الأجر والثواب من جهة القراءة، ولعل الإمام مالك رحمه الله تعالى لما قال: إنه كره أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها من هذه الجهة في أن تكون سورة معينة أو آية معينة بالنسبة لشخص معين لها مزية عنده، فيكررها على أنها بالنسبة له أفضل, فهذا إذا وقع، فلعله هو مراد الإمام مالك الذي كرهه ونبه عليه.
إذاً التفضيل من جهة الموضوعات ممكن؛ لكنه لا يقع التفضيل في مثل هذه الموضوعات ما دام لم يرد, ولو وقع التفضيل من جهة موضوعات الآيات، فإننا نعلم يقيناً أن هذا التفضيل لا يؤثر على أجر القراءة، ولا يورث فضلاً خاصاً لهذه الآيات, مثل ما وازنا بين أواخر سورة الحشر وسورة: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1].
لكن لا يمكن أن نفاضل بين: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1], وبين سورة الصمد؛ لأن سورة الصمد ورد فيها فضل وأفضلية خاصة, فلم نوازن بينهما, ولكن نوازن بين آيات لم يرد فيها أفضلية أو فضل خاص فينظر إليها من جهة العقل.
وهذه الجهة هل يمكن أن يدخل فيها الاجتهاد وإن كان الأولى عدم الدخول في التفضيل, فإذا لاحظنا السيوطي مثلاً وهو يتكلم عن أسباب التفضيل المرتبطة ببعض الآيات أو يعلل فيقول: الثاني: أن يقال إن الآيات التي تشتمل على تعديد أسماء الله وبيان صفاته والدلالة على عظمته أفضل. بمعنى: أن مخبراتها أسنى وأجل قدراً, وهذا هو الذي تكلمنا عنه قبل قليل, بأن موضوع الآية التي تتحدث عنه هو موضوع أجل من موضوع الآية الأخرى, لكن موضوع الآية لا علاقة له بكون هذا كلام الله, فكل كلام الله في النهاية أجره واحد, بمعنى: أنك إذا قرأت: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1], بناءً على الحديث الوارد: ( لا أقول الم حرف, لكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف )، الأجر الذي تكسبه بعدد حروف: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1], هو نفسه الذي تكسبه بعدد حروف أواخر سورة الحشر, وإن كان الموضوع يختلف.
وما دام الأمر كذلك فإذاً لم تقع الأفضلية من هذه الجهة, لكن سورة: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1], قال صلى الله عليه وسلم فيها: ( تعدل ثلث القرآن ), بمعنى: إذا قرأها الإنسان ثلاث مرات، فإنه تعدل القرآن كله, ومعلوم من كلام العلماء في وجه كونها تعدل ثلث القرآن.
وقد يلبس كثرة أقوال بعض المتأخرين في هذا الموضوع بسبب الموضوع الذي ذكرته لكم وهو: أن من رأى أن كلام الله واحداً لا يتعدد، فإنه سيقع عنده عدم وجود التفاضل في كلام الله سبحانه وتعالى.
السؤال: [هل يدخل التفاضل في القرآن في الجانب البلاغي؟]
الجواب: الجانب البلاغي يدخل إذا ثبت الأصل فإنه يدخل, تكون قراءة أبلغ من قراءة فهذا جائز؛ لأنه بني على كلام العرب, فالقرآن كله على درجة عالية من الفصاحة, وهو في الذروة العليا، لكن بعد هذه الذروة العليا يقع الفاضل فيه, وهذه مسألة ًمنعها من يرى أن كلام الله واحد, ومنعها بعضهم خشية أن يوجد تنقص في القرآن, ولكن نقول: لا, من قال بها من العلماء، فإنه لا يرى أن في القرآن بليغ وضده, وإنما كله بليغ قد بلغ الذروة, ولكنه يتفاضل فيما بينه بعد ذلك.
وهذه قضية مهمة ننتبه لها, ومن منع للعلة التي ذكرها فإنه يشكر على حسه هذا وتخوفه, ولكن لا يصلح أن يرد هذا المذهب، وهو مذهب القول بأن بعض القرآن قد يكون أبلغ من بعض؛ لأنه نزل على سنن العرب, وسنن العرب فيها بليغ وأبلغ.
إذاً قلنا: إن القرآن كله في الذروة العليا من الفصاحة والبلاغة، ولكنه يتفاضل فيما بعد ذلك، وهذا ليس فيه إشكال.
السؤال: [ما معنى قوله تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106]؟]
الجواب: (نأتي بخير منها) واضحة (أو مثلها) فيها تأويلات غير قضية الذات وإنما في الأجر, أي: يرونها في الأجر أي: خير منها في الأجر أو مثلها في الأجر.
السؤال: [ما هو الذي يمكن أن يدخله العقل في تفضيل بعض القرآن على بعض؟]
الجواب: التفضيل العقلي يدخل في الموضوعات, وليس في أن هذه أفضل من هذه في القراءة وفي الأجر، لكن في القراءة فاضل مرتبط بالفضائل, لا يكون هذا إلا من جهة الشارع, أما أفضل من جهة الموضوع فهذا ممكن أن يدرك بالعقل فقط.
السؤال: [لماذا لا يكون في الأفضل من جهة العقل الذي يدرك بالعقل أن يترك؟]
الجواب: أولى تركه؛ لئلا يوهم ويقع في إلباس, وإلا الصحابة والتابعون وأتباع التابعين لهم كلام يؤول إلى هذا المعنى.
أي: في التفضل من جهة الموضوع، والأمر واحد.
السؤال: [هل في القراءات مفاضلة؟]
الجواب: هناك تفضيل بين القراءات, لكن ليس من جهة الأجر, إنما التفضيل من جهة أخرى, أي: الذي يفضل أو يرى أن قراءة أهل المدينة أفضل أو قراءة أبي عمرو البصري مثلاً أفضل، أو قراءة فلان أفضل، هذا ليس من جهة الأجر, وليس مرتبطاً بالفضائل, إنما هذا مرتبط بقضية أخرى, وهذه فيها منازعة كثيرة أي: ما يراه هو أفضل قد يراه غيره أن الأخرى أفضل.
وهذه مسألة يجب ألا يكون فيها نوع من التشدد، بل فيها سعة, والعلماء المتقدمون من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين ومن جاء بعدهم حتى من سبع السبعة وغيرهم، لم تكن عندهم مشكلة هذه القضية، لكن منعها المتأخرون أي: ممن جاء من القرن السابع وما بعده واستمر الأمر على المنع، أي: أغلب كلام العلماء على المنع من التفضيل بين القراءات؛ لئلا يوهم هذا الفضيل تنقصا ًمن القراءات أو أن هناك قراءة ساقطة وقراءة صحيحة، فمنعوا من ذلك وتشددوا فيه, لكن نقول: لو أن أحداً قال بما قاله المتقدمون على مذهبهم وهو عارف به, فليس هناك أي مشكلة, والأمر فيه سعة.
وكما قلت: بعض المعاصرين يشدد في هذا تشديداً قوياً.
السؤال: [ما حكم الحديث الوارد في أن: ( يس قلب القرآن )؟]
الجواب: الحديث في كون ( يس قلب القرآن ) هذا ضعيف، ونسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا تصح.
وهناك كلام للعلماء فيه, ولكن بعض العلماء ممن يرى الأخذ بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال يذكر هذا الحديث و يستدل به.
نقف على هذا.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر