بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه, كما يحب ربنا ويرضى, وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير, وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:
فقد بين ربنا جل جلاله في هذه السورة المباركة أن المشركين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم بعض المعجزات الحسية, قال الله عز وجل: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الأنعام:37], وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الأنعام:8], وربنا جل جلاله في قوله سبحانه: فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ [الأنعام:125] يبين أن الهداية ليست موقوفة على رؤية المعجزات, وإنما الهداية في مبتدئها وفي أساسها هي عطية من الله عز وجل, كما قال ربنا سبحانه: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ [الأنعام:111], وكما قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:96-97], فالهداية من الله عز وجل, وهذا المعنى قد سبق تقريره في قول ربنا جل جلاله: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:122].
يقول الله عز وجل: فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ [الأنعام:125].
هذه الجملة شرطية, أداة الشرط: من, وفعل الشرط: (يرد), وجوابه: (يشرح), فمن (يرد) الله له الهداية.. من يرد الله له النجاة يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ [الأنعام:125], (يشرح): أصل الشرح: الشق, يقال شرحت اللحم إذا شققته, ويقال للقطعة من اللحم: شريحة. ومعنى الشرح يستخدم مجازاً في الإيضاح والبيان يقال: شرحت الآية إذا أوضحتها وبينت معانيها, والشرح كذلك مستخدم في انجلاء الأمر واطمئنان القلب له، وراحة البال به, وهذا المعنى وارد في قول ربنا جل جلاله في معرض الامتنان على نبيه عليه الصلاة والسلام: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1], فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى هذه الآية فيما روي عنه: ( أنه سئل عن أكيس المؤمنين فقال: أكيس المؤمنين أكثرهم للموت ذكراً, وأحسنهم لما بعده استعداداً, قيل له: يا رسول الله! فإن الله تعالى يقول: فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ [الأنعام:125] ), قال عليه الصلاة والسلام: (إذا نزل النور في القلب انشرح الصدر له وانفسح, قالوا: يا رسول الله! فما أمارة ذلك؟ قال: التجافي عن دار الغرور, والإنابة إلى دار الخلود, والاستعداد للموت قبل نزول الموت).
وفي معنى هذه الآية قول ربنا جل جلاله في سورة الزمر: أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر:22], وفي معناها قول ربنا جل جلاله: وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7].
يقول الله سبحانه: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام:125], وفي قراءة نافع و أبي جعفر يزيد بن القعقاع و أبي بكر عن عاصم : يجعل صدره ضيقاً حرِجاً, وحرجاً، يقال: حرِج الشيء حرِجاً, كفرح فرحاً وقرأ الباقون بفتح الراء على أنها مصدر, يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام:125], نسأل الله العافية.
فمن كان مؤمناً طيباً أراد الله له الهداية؛ فإن صدره ينفتح وينشرح لتلقي أنوار الوحي, كلما تليت عليه آيات القرآن ازداد هدى, كما قال ربنا: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2], وفي مقابل هؤلاء من أراد الله له الضلالة ضاق صدره وانقبض قلبه كلما تليت عليه آيات القرآن زادته ضلالاً, كما قال ربنا سبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا [محمد:16], لا ينتفعون بشيء من أنوار الوحي.
وقد مضى معنا في سورة البقرة ذلك المثلان: المثل الناري، والمثل المائي: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة:17], ثم قال: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [البقرة:19], فآيات القرآن ظلمات على هؤلاء الكفرة والمنافقين.
ثم قال: كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125], هذه قراءة الجمهور: كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ [الأنعام:125], وأصلها: يتصعد, أسكنت التاء ثم أدغمت في الصاد, مع أن التاء من حروف الهمس والصاد من حروف الإطباق، لكن للمقاربة أدغمت: كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125], وقرأ ابن كثير رحمه الله وحده: كأنما يصعد في السماء, وقرأ أبو بكر عن عاصم : كأنما يصاعد في السماء, والصعود فيه معنى العلو الارتفاع.
فالله عز وجل يصور حالة الكافر والمنافق الذي لا ينشرح صدره لتلقي أنوار الوحي؛ لأنه إذا تليت عليه الآيات وجاءته المواعظ والزواجر ضاق صدره وانقبض قلبه, حاله كحال إنسان يصعد من هبوط إلى علو, وهذا الإنسان يعاني ما يعاني ويضيق صدره.
قال تعالى: كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:125], الرجس: قال مجاهد : هو العذاب, وقال عبد الرحمن بن زيد : هو الشيطان, قال العلامة ابن عاشور رحمه الله: والرجس في القرآن مستعمل لسائر الأدناس حسية ومعنوية, ومنه قول الله عز وجل في الخمر: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90], وقال الله عز وجل في الخنزير: فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام:145].
وقوله: كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:125]. هذه الآية تقرر المعنى الذي مضى بيانه مراراً من أن الهداية والضلال كله من الله عز وجل: مَنْ يَشَإِ اللهُ يُضْللهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39], مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17], مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:178].
يقول الله عز وجل: وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [الأنعام:126].
قوله: وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ [الأنعام:126], الخطاب لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, أي: ما ورد في هذه السورة وفي غيرها من السور، من الآيات البينات والبراهين الساطعات والدلائل الواضحات: صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا [الأنعام:126].
لقد وصف الله عز وجل القرآن بالاستقامة ونفى عنه الاعوجاج في قوله سبحانه: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [الكهف:1], وفي قوله سبحانه: قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر:28], فهذا القرآن مستقيم, والحديث عند الترمذي عن علي رضي الله عنه مرفوعاً في وصف القرآن الكريم: ( وهو حبل الله المتين, وهو الصراط المستقيم, من قال به صدق, ومن حكم به عدل, ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم ).
قوله: قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ [الأنعام:126], أي: قد بينا وأوضحنا, الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [الأنعام:126], أي: لقوم ينتفعون ويرعون.
يقول الله عز وحل: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا [الأنعام:128], هذه قراءة عاصم وحده, وقرأ بقية العشرة: بالنون (ويوم نحشرهم جميعاً), والحشر هو: الجمع, ومنه قول ربنا جل جلاله في سورة الأعراف على لسان زبانية فرعون: أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ [الأعراف:111], وفي سورة الشعراء: أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ [الشعراء:36], أي: جامعين, يجمعون السحرة, وقد انطلق أولئك الحاشرون حتى جمعوا كما قال أهل التفسير: عشرين ألف ساحر، من أمهر السحرة وأقدرهم, فالحشر: الجمع, وسمي يوم القيامة بهذين الاسمين: يوم الحشر ويوم الجمع, قال الله عز وجل: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [التغابن:9], وقال: اللهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [النساء:87], وقال: قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة:49-50], وقال: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود:103], وغير ذلك من الآيات, فيوم القيامة سمي يوم الحشر؛ لأنه يجمع فيه الخلائق, ليس الناس وحدهم, كما مر معنا في هذه السورة قول ربنا جل جلاله: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام:38], فالكل محشور إلى الله عز وجل.
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا [الأنعام:128], (جميعاً) توكيد, وهي منصوبة على الحالية، والمعنى: ويوم يحشرهم جميعهم, مؤمنهم وكافرهم, برهم وفاجرهم, أبيضهم وأسودهم, عربيهم وعجميهم، وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا [الأنعام:128].
قوله تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ [الأنعام:128], يقول لهم جل جلاله مخاطباً إياهم: يَا مَعْشَرَ [الأنعام:128], و(المعشر) هم: الجماعة من الناس, الذين تجمعهم أرض أو يجمعهم مصر أو تجمعهم قبيلة. وقد يطلق المعشر على من اتفقوا في وظيفة أو مهنة وإن لم يلق بعضهم بعضاً, ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ), مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يلتق بأولئك الأنبياء، لم يعاشرهم عليه الصلاة والسلام, لكن لما كانت وضيفتهم واحدة ودينهم واحداً جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم معشراً واحداً, وإلا فكلمة المعشر في أصل اللغة مأخوذة من المعاشرة والعشرة, إذا عاشر بعضنا بعضًا صرنا معشراً.
وقوله: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ [الأنعام:128]، الخطاب للكفار بغير شك؛ لأن الآية لو قرأناها يقول الله عز وجل: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ [الأنعام:128], وفي النهاية: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا [الأنعام:128], ومعلوم أن الخلود في النار لا يكون إلا للكافرين فالخطاب للكافرين، وهنا يطرح سؤال: ألم يقل الله عز وجل بأنه لا يكلم الكافرين في القرآن؟ يقول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ [آل عمران:77], وفي هذه الآية يكلمهم الله جل جلاله؟!
والجواب: أنه لا تعارض بين الآيتين، فالكلام المنفي هو الكلام الذي فيه تكريم وتسرية عنهم وتسلية لهم؛ فهذا غير موجود, فالله عز وجل لا يكلمهم كلاماً فيه تخفيف عنهم وفيه تسلية لهم وطمأنة, لكن الله عز وجل يكلمهم بالكلام الذي فيه توبيخ وتقريع زيادة للعذاب عليهم كما جاء في آيات كثيرة، مثلاً كقول أهل جهنم: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:107-108], هذا كلام، فالله عز وجل يكلمهم يوم القيامة: مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ [القصص:65], مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ [الشعراء:92], أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص:62], يكلمهم يقول لهم: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20], وغير ذلك من الكلام الذي فيه تقريع وتوبيخ.
يقول الله عز وجل: الْجِنِّ [الأنعام:128], (الجن) كلمة مشتقة من الاجتنان، وهو: الاستتار والاختفاء, فكل ما خفي عنك فهو جن, يشتق له اسم من الجيم والنون؛ ولذلك الطفل في بطن أمه يسمى: جنيناً, والإنسان الذي استتر عقله وغاب يسمى: مجنوناً, وكذلك الحديقة التي سترت بسور تسمى: جنة، وتصغيرها: جنينة.
هاهنا مبحث عقدي وهو أن الجن عالم مستقل بذاته يختلف عن عالم الإنس وعالم الملائكة, وقد دل القرآن والسنة واتفق أهل الأديان السماوية على أن الجن موجودون, ومن أنكر وجودهم من الفلاسفة وغيرهم ليس عندهم دليل سوى أنهم لا يرونهم؛ لأن وهم محجوجون بكل موجود في الكون غير مرئي, هناك أشياء كثيرة موجودة لكننا لا نراها، كأرواحنا التي بين جنباتنا، وعقولنا كذلك لا نراها وموجات الأثير التي تنقل الصوت إلى المكان البعيد لا نراها, وقس على ذلك أموراً كثيرة, فالجن عالم مستقل بذاته دل القرآن على أنهم مخلوقون قبل الإنس, والدليل قول الله عز وجل: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ [الحجر:26-27], ودل القرآن على أنهم مخلوقون من نار: خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن:14-15], والحديث في صحيح مسلم عن أمنا عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خلقت الملائكة من نور, وخلق الجان من مارج من نار, وخلق آدم مما وصف لكم ).
ودل القرآن على أن الجن فيهم مسلمون وكافرون, وأن مسلميهم فيهم صالحون وفيهم دون ذلك, ودلت السنة على أن الجن يأكلون ويشربون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما لقي الجن في مكة وسألوه الزاد قال: ( لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحماً ), وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن: ( الشيطان يستحل الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه ), وأخبرنا صلى الله عليه وسلم: ( أن من أكل بشماله أكل معه الشيطان, ومن شرب بشماله شرب معه الشيطان ).
ودلت السنة كذلك على أن للجن دواباً, فقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: ( ما من بعير إلا وفي ذروته شيطان ), وأخبرنا عن مساكنهم بأنهم يسكون في الفلوات، ويسكنون في أماكن النجاسات كالحشوش والمزابل والكنف والحمامات، وما أشبه ذلك.
ودل القرآن كذلك على أن الجن يتناكحون, قال الله عز وجل: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56], وأنهم يتناسلون, قال الله عز وجل: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الكهف:50], ودل القرآن والسنة على أن للجن قدرات تفوق قدرات الإنس, ومن هذه القدرات: قدرتهم على الانتقال من المكان إلى المكان في ظرف يسير: قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ [النمل:39].
ودل القرآن على أن لهم علماً بالبناء والتشييد, قال الله عز وجل: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ [سبأ:13], أي: مساجد، وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ [سبأ:13], وهؤلاء الجن المسخرون لنبي الله سليمان عليه السلام.
ودل القرآن كذلك على أن لهم قدرة على غزو الفضاء, قال الله عز وجل على لسان الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [الجن:8-9].
ودلت السنة على أن للجن قدرة على التشكل, وهذا ثابت في الصحيح من حديث أبي هريرة ( لما وكل على حفظ الصدقة، فرأى إنساناً يحثو ثلاث ليال وفي كل ليلة يقبضه فيعاهده بالله ألا يعود, قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هر ! أتدري من تخاطب منذ ثلاث؟ إنه: الشيطان ), وكذلك في قصة الهجرة: جاء الشيطان إلى أبي جهل ومن معه في صورة شيخ نجدي.
وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن: الجن على ثلاثة أصناف: صنف يطيرون في الهواء, وصنف حيات وكلاب, وصنف يحلون ويظعنون, أي: يقيمون ويرحلون, لا يستقرون في مكان واحد.
ومن قدراتهم كذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ), ومن قدراتهم التي أعطاهم الله إياها: القدرة على الوسوسة مع أن هذه القدرة أيضاً للإنس؛ ولذلك الله عز وجل أمرنا أن نستعيذ: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ [الناس:4], وهذا الوسواس: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:6], فهناك موسوس من شياطين الإنس كما أن هناك موسوساً من شياطين الجن.
والجن أمرنا ربنا جل جلاله بأن نستعيذ بالله من شرهم.
قال تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ [الأنعام:128], الله عز وجل يخاطب الجن الكافر يوم القيامة بهذا الخطاب: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ [الأنعام:128], أي: قد أغويتم عباداً كثيرين من الإنس, والإنس: جمع إنسان، وسمي الإنسان إنساناً باعتبارين: إما من الأنس؛ لأنه لا يستطيع أن يعيش وحده, بل لا بد أن يأنس بالناس:
ما سمي الإنسان إلا لأنسه ولا القلب إلا أنه يتقلب
أو سمي الإنسان إنساناً: من النسيان, قال الله عز وجل: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ [طه:115], قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( نسي آدم فنسيت ذريته, وجحد آدم فجحدت ذريته ), والجن سمي جناً: من الاجتنان, والإنس سمي إنساً: من النسيان، أو من الأنس.
قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ [الأنعام:128], أي: أغويتم خلقاً كثيرين من الإنس, وأضللتموهم، وحرضتموهم على المعاصي، وأززتموهم أزاً، كما قال الله عز وجل: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا [يس:62], أي: أعداداً طائلة, وخلقاً كثيرين، أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس:62].
قال تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ [الأنعام:128] فبدلاً من أن يجيب الجن أجاب الإنس: وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ [الأنعام:128].
وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ [الأنعام:128], نسأل الله العافية! اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة:257], وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ [الأنعام:128], ووجه استمتاع الإنس: أن الإنس يستمتع بالمعاصي التي يزينها الجن، والتي يزينها الشيطان, يزين له الزنا ويسميه: عشقاً, ويسميه: حباً, ويسميه: صداقة, ويسميه: فرفشة.. وغير ذلك يزين له الخمر فيسميها: مشروبات روحية, يسميها: شراب الراحة, يسميها: غذاء الروح.. ونحو ذلك, يزين له الكفر لا يسمي الكفر: فلسفة, وقد يسمي الكفر: منطقاً, وقد يسميه الكفر: تنويراً, وقد يسمي الكفر: حرية.. وغير ذلك من الأسماء, فهذا استمتاع الإنس بالجن.
وأما استمتاع الجن بالإنس: فانقياد الإنس لهم ومتابعتهم إياهم وترئيسهم، كما قال بعض المفسرين: من استمتاع الجن بالإنس: أن الإنسي الكافر الجاهل إذا نزل بوادٍ وخاف، فإنه كان يقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهائه, قال الله عز وجل: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6], وهذا من استمتاع الجن بالإنس.
ومن استمتاع الجن بالإنس: أن يأمره فيطيع, وأن يقوده فينقاد، كما قال إبليس لما قال الله عز وجل: قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا [الأعراف:18], قال: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:62], لَأَحْتَنِكَنَّ [الإسراء:62], أي: لأقودنهم من الحنك, تصور أن واحداً يمسك بك من حنكك ويجرك أترضى ذلك؟ لا ترضاه, إذاً: فاعلم أن كل من أطاع الشيطان بالكفر بالله في الشرك في الله في معصية الله، فهو منقاد للشيطان من حنكه، لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:62], وهؤلاء القليل نسأل الله أن يجعلنا منهم, هم عباد الله المخلصون، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر:42].
نحن لا نستطيع أن نصف الجن إلا بوصف القرآن, وقد دل القرآن على أن للجن حواساً, وللجن قلباً، وللجن سمعاً، وللجن بصراً، قال الله عز وجل: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ [الأعراف:179]. ودل القرآن على أن للشيطان صوتاً: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء:64], وفسر ابن عباس الصوت: بأنه المزمار, لما طرد الشيطان من الجنة قال: رب اجعل لي قرآناً, قال: قرآنك الشعر, قال: رب اجعل لي آذاناً, قال: آذانك المزمار, قال: رب اجعل لي بيتاً, قال: بيتك الحمام؛ ولذلك إذا دخلنا الحمام ماذا نقول: أعوذ بك من الخبث: ذكور الشياطين, والخبائث: إناثهم, فالشيطان له صوت.
ودل القرآن كذلك على أن الشيطان صورته قبيحة, قال الله عز وجل في شجرة الزقوم: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ [الصافات:65], وهذا الذي استقر عند الناس, فإذا رأوا إنساناً قبيح الوجه, منتن الريح, مشعث الرأس, جاحظ العينين, شديد الصوت يقولون: أعوذ بالله كأنه شيطان.
ثم قال: وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا [الأنعام:128], أي: الموت, استمتعوا في هذه الفترة ثم وردوا على ربهم: وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا [الأنعام:128], فصدر الحكم الإلهي -نسأل الله العافية!- والقاضي هو: رب العالمين جل جلاله, وهؤلاء هم المتهمون: شياطين الإنس والجن, فالله عز وجل وجه إليهم سؤالاً وردوا عليه الجواب, كما يسأل القاضي المتهم: أمذنب أنت؟ فإذا قال: لا, فإنه يسير في إجراءات المحاكمة, أما إذا قال: نعم, فمعناه: أن المحكمة قد انتهت، ثم يصدر الحكم, فها هنا الله عز وجل سألهم: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ [الأنعام:128], أجابوا: وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ [الأنعام:128], قضينا أيامنا، وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا [الأنعام:128], فصدر الحكم من الله, قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ [الأنعام:128].
(النار) نار الآخرة التي وصفها ربنا جل جلاله بأنها: نَارٌ مُؤْصَدَةٌ [البلد:20], والألف التي بين النون والراء مبدلة من الواو, فأصلها: نور؛ ولذلك إذا صغرنا النار نصغرها فنقول: نويرة, وإذا أتيت بالفعل تقول: تنورت:
تنورتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عالي
قال: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ [الأنعام:128], (المثوى) هو: المقام, أي: مكان الإقامة الدائمة، قال الله عز وجل: وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ [القصص:45], (ثاوياً) أي: مقيماً, ومنه قول القائل:
آذنتنا ببينها أسماء رب ثاوٍ يمل منه الثواء
قوله: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ [الأنعام:128], أي: دار إقامتكم، خَالِدِينَ فِيهَا [الأنعام:128], أي: ادخلوها خالدين فيها، إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ [الأنعام:128].
هذه الآية فيها إشكال وهو أن الله عز وجل قال: خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ [الأنعام:128], وقد دل القرآن على أن الكفار خالدون فيها أبداً, وبالمقابل أن المؤمنين خالدون في الجنة، نسأل الله أن يجعلنا منهم: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [النساء:57], فما وجه الاستثناء؟
هذه الآية ومعها آيتان: الآية الأولى: قول الله عز وجل: خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:128], والآية الثانية: في سورة هود: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:106-107], والآية الثالثة: قول الله عز وجل: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلْطَّاغِينَ مَآبًا * لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:21-23], قالوا: والأحقاب: جمع حقبة, والحقبة: ثمانون سنة, ومعناه: أن الناس هؤلاء سيقعدون في النار ثمانين وثمانين وثمانين وثمانين, أحقاباً معينة ثم ينتهون, وهذا المذهب هو مذهب القائلين بفناء النار, وهو ينسب إلى خمسة من الصحابة: عمر بن الخطاب , و عبد الله بن مسعود , و عبد الله بن عمرو بن العاص , و أبي هريرة , و أبي سعيد الخدري رضوان الله عليهم, يعني: هؤلاء الخمسة نسب إليهم أنهم قالوا: يأتي على النار زمان تصفق أبوابها ليس فيها أحد, والإمام الصنعاني كتب كتاباً سماه: كشف الأستار عن أدلة القائلين بفناء النار, وبين فيها أن هؤلاء الصحابة الخمسة: عمر و ابن مسعود و عبد الله بن عمرو و أبا هريرة و أبا سعيد بريئون من هذا القول براءة الذئب من دم ابن يعقوب, والشيخ الألباني رحمة الله عليه أيضاً في كتبه التي كتبها نسب هذه الأقوال لهؤلاء الصحابة الكرام, وكذلك الإمام أبو العباس بن تيمية رحمة الله عليه فعل الشيء نفسه, والصحيح: أن هذا المذهب لا يصح عن أحد من الصحابة.
اعلموا علم اليقين أن آيات القرآن العظيم قد دلت دلالة قطعية على أن النار أبدية سرمدية لا تفنى ولا تبيد, ومن آيات القرآن الدالة على ذلك قول الله عز وجل: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97], وقوله عز وجل: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56], وقول الله عز وجل: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [النبأ:30], وقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي [فاطر:36], وفي قراءة: (نجازي كل كفور), وقول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:36-37], وقول الله عز وجل: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا [الحج:19-22], وقول الله عز وجل: أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهمْ جَنَّاتُ المَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة:19-20], فهذه مواضع من القرآن دلت دلالة قطعية على أن النار باقية لا تفنى ولا تبيد.
فما معنى الاستثناء في هذه الآية وفي آية هود؟ هناك أجوبة انتبهوا إليها وعضوا عليها:
الجواب الأول: قول الله عز وجل: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:107], (ما) هنا بمعنى: من, إلا من شاء ربك, يا و(ما) تستعمل في موضع من, كما قال الله عز وجل: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3], أي: النساء اللائي ننكحهن، ومع ذلك قال الله عز وجل: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ [النساء:3], ومثله قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ [المؤمنون:5-6], أي: من ملكت، والمعنى: فانكحوا من طاب لكم, أو: من ملكت أيمانكم.
وهكذا يكون المعنى خالدين فيها إلا من شاء الله إخراجه من النار.
فالذي يخرج من النار هم عصاة الموحدين, وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يخلد في النار موحد: ( أخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من خير ), وفي لفظ: ( أخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ), حتى يقال له: ( يا محمد! أخرج من النار من قال: لا إله إلا الله ), قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة, فهي نائلة كل من مات لا يشرك بالله شيئاً).
الجواب الثاني: أن الاستثناء منصب على الفترة ما بين خروجهم من قبورهم حتى ورودهم النار, فهذه فترة الاستثناء، يعني: هم خرجوا من قبورهم ينفضون التراب عن رءوسهم, ثم بعد ذلك حشروا إلى أرض المحشر, وسيقفون فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4], ثم بعد ذلك الحساب, ثم بعد ذلك المرافعة, ثم بعد ذلك العرض والصحف, ثم الميزان, ثم الجواز على الصراط, فالفترة ما بين خروجهم من قبورهم إلى استقرارهم في دار القرار هذه هي الفترة التي ينصب عليه الاستثناء.
ومثله أيضًا يقال في الاستثناء بالنسبة لأهل الجنة: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108].
الجواب الثالث: أن الاستثناء منصب على الفترة التي ينتقلون فيها من نوع من العذاب إلى نوع آخر, فالعذاب في النار ليس سواء، قال الله عز وجل: إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145], وقال الله عز وجل: بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:138], وقال: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46], ومعناه: أن هناك عذاباً شديداً وهناك عذاباً أشد, وكذلك النعيم ليس سواء.
أهل النار يعذبون تارة: بالحميم, ويعذبون تارة -نسأل الله العافية- بالزمهرير، وهو: شدة البرد, ويعذبون تارة: بلسع الحيات والعقارب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن في النار حيات وعقارب تلسع إحداهن اللسعة يجد حموتها أربعين خريفاً ), ويعذبون أحياناً بالطعام: كالزقوم والضريع والغسلين وما أشبه ذلك, ويعذبون أحياناً: بالشراب، كما قال الله: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف:29], وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ [إبراهيم:16-17].
كما أن أهل الجنة -نسأل الله أن يجعلنا منهم- يتنعمون بالطعام, ويتنعمون بالشراب, ويتنعمون بالنكاح, ويتنعمون بالكلام, ويتنعمون بالزيارات.. وغير ذلك, وأعظم النعيم النظر إلى وجه الله عز وجل.
فالاستثناء منصب على الفترة التي ينتقلون فيها من عذاب إلى عذاب؛ ويدل على هذا المعنى قول الله عز وجل في سورة النبأ قال: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23], وفي سورة (ص) يقول الله عز وجل: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ [ص:55-57], ثم قال: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [ص:58], فهناك أشكال أخرى يعذبون بها.
هنا يرد علينا سؤال: إذا تقرر بأن أهل النار في النار خالدون, فقد طرح بعض الملاحدة سؤالاً أورده العلامة الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي عليه رحمة ربنا، فقال: سأل بعض الملاحدة سؤالاً فقال: أنتم تزعمون أن ربكم في غاية العدالة والإنصاف, لا نقول ربنا جل جلاله: العادل, بل نقول: ربنا هو: العدل جل جلاله .. هو: الحكم العدل وقد قرأنا في القرآن: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49], وقرأنا: إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40], وقرأنا قول ربنا: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا [الأنعام:160].
يقول الملحد: إذا كنتم تزعمون أن ربكم في غاية العدالة والإنصاف فإن هؤلاء الكفار والمنافقين قد عصوا ربهم في الدنيا أياماً معدودة, والواحد منهم عاش ثلاثين سنة أو ستين أو تسعين أو مائة أو مائتين أو عاش ألف سنة.. ثم بعد ذلك مات, فلم لا يكون العذاب بقدر العقوبة؟ بمعنى أنه من عصى الله ستين سنة يعذب في النار ستين سنة، وبعد هذا يخرج من جهنم أو يكون تراباً, كما قال الله عز وجل للبهائم: كوني تراباً، وحينها: يَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40], يعني: غاية أمله أن يكون تراباً.
والجواب هو: أن الله عز وجل لا يعامل البشر كما يعامل البشر البشر, فإن البشر يعاملون البشر بما ظهر منهم, لكن الله جل جلاله يعلم ما ظهر وما خفي, وقد قرر ربنا جل جلاله أن هؤلاء الكفار الفجار لو أخرجوا من النار ورجعوا إلى الدنيا سيرجعون إلى الكفر؛ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:27-28], قال الله عز وجل: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:22-23], فالله جل جلاله يعامل البشر بما علم منهم, وهو سبحانه: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]؛ ولذلك كونه جل جلاله قد حكم عليهم بأنهم مخلدون في النار, وأنه كلما نضجت جلودهم بدلهم الله عز وجل جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب, فهذا جزاء على ما أظهروا وأضمروا, وجزاء على خبث طواياهم وفساد نواياهم, وأنهم قد أضمروا في أنفسهم الكفر بالله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، نسأل الله العافية!
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال عز وجل: لَهمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الأنعام:127], هؤلاء القوم الذين يتذكرون, الذين يفقهون عن الله عز وجل مراده, يقول الله عز وجل: لَهمْ دَارُ السَّلامِ [الأنعام:127], ودار السلام هي: الجنة, نسأل الله أن يجعلنا من أهلها، وسميت الجنة دار السلام: لسلامتها من الآفات, فمن دخلها سلم من البلايا والرزايا, أو سميت دار السلام: لكثرة ما يلقى فيها من سلام, فإنهم أول ما يدخلون فيها تتلقاهم الملائكة بالسلام، قال تعالى: وَالمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24], وقال: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:55-58], وقال: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا [الواقعة:25-26], وقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:9-10].
وقوله: لَهمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الأنعام:127], هذا من باب التكريم والتوقير والتعظيم, فهذه الجنة التي هي دار السلام ينعمون فيها عند ربهم جل جلاله, وهذا التكريم قد بينه ربنا في قوله: إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55], وفي قول ربنا جل جلاله على لسان المرأة الصالحة آسيا بنت مزاحم : رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ [التحريم:11], ما قالت: رب ابن لي بيتاً في الجنة, وإنما قالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ [التحريم:11], وهذا التكريم أيضاً للملائكة قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف:206].
يقول الله عز وجل: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ [الأنعام:127], الله أكبر! هو ناصرهم, هو مؤيدهم, هو موفقهم, هو مسددهم, فكلمة الولاية شاملة لهذه المعاني كلها، اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:257], أي: ناصرهم ومؤيدهم وموفقهم ومسددهم, ولاية من الله للعبد, وولاية من العبد لله عز وجل. وولاية العبد لله: أنه يوالي بين الطاعات ويتابع القربات ويداوم على ما يقربه لربه, وولاية الله للعبد: أنه يتولاه بتوفيقه وتسديده ونصره وتأييده.
ثم قال: بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:127], أي: بسبب ما قدموا من الطاعات والصالحات.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر