بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، والحمد لله عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32].
اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.
بسم الله الرحمن الرحيم.
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً * وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً [الكهف:9-16].
هذا أوان الشروع في بيان قصة أصحاب الكهف، وقد تقدم معنا الكلام أن المشركين بعثوا النضر بن الحارث و عقبة بن أبي معيط إلى يهود المدينة ليسألوهم عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم اليهود: سلوه عن فتية خرجوا في الدهر الأول ما خبرهم؟ فإن خبرهم كان عجباً، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات يبين فيها قصة هؤلاء الفتية، ولم يذكر الله عز وجل أسماءهم، ولم يبين على وجه القطع عددهم، ولم يبين مكان الكهف الذي أووا إليه، ولا في أي عصر عاشوا، وأبهم ربنا جل جلاله ذلك كله؛ لأن المقصود: العظة والعبرة، كما قال: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى [يوسف:111].
لكن من باب البيان سأذكر خبراً واحداً في بيان قصة هؤلاء الفتية مما أورده شيخ المفسرين الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره، حيث ذكر عن محمد بن إسحاق رحمه الله قال: مرج أمر أهل الإنجيل، وعظمت فيهم الخطايا، وطغت فيهم الملوك، حتى عبدوا الأصنام، وذبحوا للطواغيت، وفيهم على ذلك بقايا من أمر عيسى بن مريم عليه السلام، متمسكين بعبادة الله وتوحيده، فكان من ملوكهم ملك من الروم يقال له: دقيانوس ، كان واحداً من الملوك الذين انحرفوا عن دين المسيح عليه السلام، حيث عبد الأصنام، وذبح للطواغيت، وقتل من خالفه في ذلك ممن أقام على دين المسيح عليه السلام، فكان ينزل في قرى الروم، ولا يترك في قرية ينزلها أحداً ممن يدين بدين عيسى إلا قتله، فقد كان طاغيةً من طواغيت الأرض، يحمل الناس على رأيه، وعلى دينه، وسلفه في ذلك فرعون الذي قال: مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى [غافر:29]، وقال: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26]، فلا يدع أحداً ممن يدين بدين عيسى بن مريم إلا قتله، حتى يعبد الأصنام، ويذبح للطواغيت، فإما أن يترك دين المسيح، فيعبد الأصنام، ويذبح للطواغيت، وإما أن يقتل، حتى نزل هذا الملك الظالم مدينة فتية أصحاب الكهف، فلما نزلها كبر ذلك على أهل الإيمان، فاستخفوا منه، وهربوا في كل وجه.
وكان دقيانوس قد أمر حين قدم أن يتتبع أهل الإيمان فيجمعوا له، واتخذ شرطاً من الكفار من أهلها، يعني: أنه عين شرطةً وأحسن تدريبها، وإعدادها من أجل أن تتبع المؤمنين الذين هم على دين المسيح بن مريم، فيجمعونهم من الأماكن التي يستخفون فيها، ويؤتون بهم إلى دقيانوس ، فكان يقدمهم إلى المجامع التي يذبح فيها للطواغيت، أي: الأماكن التي نصب فيها تلك الأصنام، وأمر الناس بأن يذبح لها، فكان يأتي بهؤلاء المؤمنين إلى تلك المجامع، فيخيرهم بين القتل، أو عبادة الأصنام والذبح للطواغيت، فمنهم من يرغب في الحياة ويفظع بالقتل فيفتتن، ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيقتل، يعني: أن بعضهم أخذ بالعزيمة فنجا، وبعضهم فتن فهلك، فلما رأى ذلك أهل الصلابة من أهل الإيمان بالله جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل، فيقتلون ويقطعون ثم يربط ما قطع من أجسادهم فيعلق على أسوار المدينة من نواحيها كلها، من أجل أن يكونوا عبرةً لغيرهم، وعلى كل باب من أبوابها، حتى عظمت الفتنة على أهل الإيمان، فلما رأى أولئك الفتية ما نزل بإخوانهم حزنوا حزناً شديداً، حتى تغيرت ألوانهم، ونحلت أجسامهم، واستعانوا بالصلاة، والصيام، والصدقة، والتحميد، والتسبيح، والتهليل، والتكبير، والدعاء، والبكاء، والتضرع إلى الله عز وجل، وأخذوا بالأسباب التي جعلها الله تفريجاً وتنفيساً، قال صلى الله عليه وسلم: ( من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً )، وقال الله عز وجل: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وذكر الله عز وجل يرضي الرحمن، ويجعله مع العبد، فيضمن العبد بذكر الله معية الرب جل جلاله.
وكانوا فتية أحداثاً أحراراً من أبناء أشراف الروم، وكانوا ثمانية، ثم ذكر الطبري رحمه الله أسماءهم، ولا تعنينا، فهؤلاء الفتية وصل خبرهم إلى الملك الظالم، فقالوا له: إن فتيةً على غير دين الملك، يستخفون بذلك، ويعبدون رباً غير رب الملك، فأمر دقيانوس بأن يؤتى بهم، فجاءوا وقد فاضت أعينهم بالدموع، وعفرت وجوههم بالتراب، فقال لهم: ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا التي تعبد في الأرض، وأن تجعلوا أنفسكم أسوةً لسراة أهل مدينتكم، ولمن حضرها من الناس؟ اختاروا: إما أن تذبحوا لآلهتنا كما ذبح الناس، وإما أن أقتلكم؟ فتكلم كبيرهم -أي: أكبر هؤلاء الفتية- فقال له: إن لنا إلهاً نعبده، ملأ السموات والأرض عظمة، وهذا تأويل قول الله عز وجل: إِذْ قَامُوا [الكهف:14] أي: بين يدي الملك الظالم، فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً [الكهف:14]، لن ندعو من دونه إلهاً أبداً، ولن نقر بهذا الذي تدعون إليه أبداً، ولكن نعبد الله ربنا، له الحمد، والتكبير، والتسبيح من أنفسنا خالصاً أبداً، فإياه نعبد، وإياه نسأل النجاة والخير، فأما الطواغيت فلن نقر بها أبداً، ولسنا بكائنين عباداً للشياطين، ولا جاعلي أنفسنا وأجسادنا عباداً لها بعد إذ هدانا الله، فتكلموا بهذا الكلام الواضح أمام هذا الطاغية الظالم، فأمهلهم؛ لأنهم أبناء الأشراف، وسراة القوم، وعلية الناس، أمهلهم أياماً: إما أن يرجعوا عما هم عليه، وإما أن يلحقهم بإخوانهم الذين ما نقم منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السموات والأرض، فهؤلاء الفتية كان من خبرهم ما قص الله عز وجل من أمرهم أنهم اعتزلوا قومهم، وأووا إلى الكهف، وتضرعوا إلى الله عز وجل أن ينشر عليهم من رحمته، ويهيئ لهم من أمرهم مرفقاً، فاستجاب الله دعاءهم، وحقق رجاءهم، وأجرى لهم تلك الكرامات العظيمة، والآيات الباهرة، وعصمهم من ذلك الطاغية الجبار، وجعلهم عبرةً للآخرين، فهذه خلاصة قصة هؤلاء الفتية.
يقول الله عز وجل مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً [الكهف:9].
يقول ابن جرير رحمه الله: في هذا عتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يقول له: إن كان هؤلاء المشركون ومعهم اليهود قد عجبوا من أمر الفتية أصحاب الكهف، فذلك لجهلهم، وضعف عقولهم، وقلة علومهم، أما أنت يا محمد! فما أراك الله من الآيات أعجب.
قال الجنيد رحمه الله: أمرك في الإسراء أعجب، فقد أراك الله عز وجل في الإسراء، وحملك من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في وقت يسير، ثم من المسجد الأقصى إلى السموات العلى، فرأيت من آيات الله عجباً، فما بالك تتبع هؤلاء حين يعجبون من أمر أصحاب الكهف!
وقال الضحاك رحمه الله: يا محمد! ما أطلعتك عليه من الغيب فيما يتعلق بنعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، وأحوال الأنبياء، وما رأيت من أمر الملائكة، وغير ذلك، ورأيت سدرة المنتهى، وقد غشيها من الألوان ما لا يقدر قدره إلا الله، هذا أعجب.
وقال ابن كثير رحمه الله: في خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر والكواكب ما هو أعجب من أمر أصحاب الكهف.
فالله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: (أم حسبت)، (أم) للإضراب -بمعنى: بل- والاستفهام، بل أحسبت، أي: أظننت أن أصحاب الكهف، والكهف هو: الفجوة المتسعة في الجبل، فإن كانت ضيقةً فهو غار.
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ [الكهف:9]، (الرقيم) قيل: اسم للوادي الذي كان فيه الكهف، وقيل: بل الرقيم: اسم للوح الذي كتبوا فيه شريعتهم، أو الرقيم: اسم للوح الذي دونت فيه قصتهم وأسماؤهم، وما كان من أمرهم.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم رحمه الله: الرقيم: الكتاب، ثم قرأ: كِتَابٌ مَرْقُومٌ [المطففين:9]، قال العلامة الشيخ الشنقيطي رحمه الله: والذي يدل عليه ظاهر القرآن، وكلام اللغة العربية: أن الرقيم بمعنى: المرقوم، فعيل بمعنى مفعول، كجريح: مجروح، وقتيل: مقتول، وحبيب: محبوب، فهنا رقيم: مرقوم، سواء قلنا: إن الرقيم كان عندهم فيه شرعهم الذي تمسكوا به، أو لوح من ذهب كتب فيه أسماؤهم وأنسابهم، وقصتهم، وسبب خروجهم، أو صخرة نقشت فيها أسماؤهم، فهم هؤلاء الفتية عطفهم الله عز وجل إلى أمرين، فجعلهم أصحاب كهف وأصحاب رقيم، فالكهف فجوة متسعة في الجبل، والرقيم لوح كتبت فيه أسماؤهم، وأنسابهم، وقصتهم، وسبب خروجهم. وقد سئل عبد الله بن عباس رضي الله عنه عن هذه الكلمة (الرقيم) قال: كل القرآن أعرف تفسيره إلا أربع كلمات: الرقيم، وحناناً، وأواه، وغسلين. فهذه الكلمات الأربع ما كان ابن عباس يعرف تأويلها، أما باقي القرآن كله فلا يسأل عن حرف منه إلا وجد عنده فيه علم، وهذا من تواضعه رضي الله عنه.
يقول الله عز وجل: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً [الكهف:9]، أي: كانوا عجباً كائناً من آياتنا.
ثم شرع ربنا جل جلاله في تفصيل خبرهم، قال: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً [الكهف:10].
(إذ) متعلقة بمحذوف، وهي في محل نصب، واذكر إذ أوى الفتية، (أوى الفتية إلى الكهف)، أي: اتخذوه مأوى وسكناً لهم، (إذ أوى الفتية) يقول ابن عاشور رحمه الله: هذا إظهار في مقام الإضمار، يعني: أن الله عز وجل قال: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا [الكهف:9]، وكان يمكن أن يقال: إذ أووا إلى الكهف، وسيعرف السامع بأن الذين أووا إلى الكهف هم الفتية، لكن الله عز وجل أتى باسمهم الظاهر، (إذ أوى الفتية)، قالوا: وفي هذا إشارة إلى كمال رجولتهم، فكلمة الفتية هذه في مقام المدح، كما قال الله عز وجل: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ [الكهف:60]، وكما قال قوم إبراهيم عن إبراهيم: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ [الأنبياء:60]، فكلمة (فتى): مأخوذة من الفتوة الدالة على سداد الرأي، ورباطة الجأش، وثبات القلب، كما قال النسفي رحمه الله: كلمة الفتية: مشتقة من الفتوة، التي هي: بذل الندى، وكف الأذى، وترك الشكوى، واستعمال المكارم، واجتناب المآثم، فهذه الكلمة تقتضي: بذل الندى، وكف الأذى، وترك الشكوى، واستعمال المكارم، واجتناب المآثم، وقيل: الفتى هو الذي لا يدعي قبل الفعل، ولا يزكي نفسه بعد الفعل، فلا يقول: أنا فعلت وصنعت، وكنت وكنت.
قال الله عز وجل: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ [الكهف:10]، اتخذوا ذلك المكان سكناً ومأوىً لهم، استخفوا فيه، وستروا أنفسهم، فَقَالُوا رَبَّنَا [الكهف:10] أي: يا ربنا! آتِنَا[الكهف:10] أي: أعطنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً [الكهف:10] كلمة (رحمة) مستلزمة للهدى، والرزق، والحفظ، أي: ربنا آتنا من لدنك هدىً، ورزقاً، وحفظاً من أعين أولئك الطغاة الظالمين، وَهَيِّئْ لَنَا [الكهف:10] هيئ: يسر وقرب، وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف:10]، وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد )، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ( وما قضيت لنا من أمر فاجعل عاقبته رشداً )، وكان من دعائه: ( اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ).
وكلمة (الرشد) أي: الاهتداء والدوام عليه، يا ربنا! نسألك رحمةً من عندك، تهدينا، وترزقنا، وتحفظنا بها، ونسألك يا الله! أن تيسر لنا، وتقرب لنا هدايةً ودواماً، وبقاءً على تلك الهداية؛ لئلا نضل ولا نزيغ، رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً [الكهف:10].
قال الله عز وجل: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً [الكهف:11]، الفاء هنا: دالة على سرعة الاستجابة، فبمجرد ما أووا إلى الكهف ودعوا الله عز وجل استجاب الله لهم فأنامهم، والنوم رحمة من الله عز وجل عند الخوف؛ ولذلك لو أن إنساناً أصابته مصيبة فاضطرب ووجل فإن الأطباء ينيمونه، فهكذا الله عز وجل وله المثل الأعلى يقول: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً [الكهف:11]، أي: ألقينا عليهم النوم بمجرد دخولهم الكهف، فناموا سنين عدداً، وهذه السنين بينها ربنا بأنها ثلاثمائة سنة شمسية، وثلاثمائة وتسع سنوات قمرية، يعني لو حسبت هذه السنوات بالسنة القمرية تكون ثلاثمائة وتسع سنوات وهم في نوم. وانظروا إلى هذا التعبير في هذه الآية، يقول الله عز وجل: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً [الكهف:11]، قال القرطبي رحمه الله: هذه الآية من فصيحات القرآن، التي عجزت العرب عن الإتيان بمثلها، والمفعول محذوف، فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ [الكهف:11] مانعاً كفيفاً، وحجاباً منيعاً، يحول دون وصول الأصوات إليهم.
يقول الله عز وجل: فَضَرَبْنَا [الكهف:11]، الضرب -كما يقول أبو حيان -: دلالة على اللصوق واللزوم وشدة الملازمة؛ ولذلك الله عز وجل قال: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ [آل عمران:112]، أي: صارت ملتصقةً بهم، لازمةً لهم، لا تفارقهم.
وقال الآخر:
إن السماحة والمروءة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج
وقال الفرزدق يذم إنساناً:
ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل
والله عز وجل ذكر الجارحة التي هي الأذن، (ضربنا على آذانهم)؛ لأن ثقل النوم يكون من جهة الأذن، وقلما يستحكم نوم إلا من جهة الأذن، وكذلك الإيقاظ يكون من جهة الأذن؛ ولذلك لو أن إنساناً نائماً، فوضعت أمامه ورقاً أو نقوداً، فهل يستيقظ؟ الجواب: لا يستيقظ، لكنك لو أحدثت صوتاً فإنه يستيقظ؛ ولذلك ( الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل عن رجل نام حتى أصبح قال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنه )، أي: نام نوماً ثقيلاً.
قال الله عز وجل: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ [الكهف:12]، يعني: بعدما ناموا ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً بعثناهم، والبعث هو: الإيقاظ والتحريك، سواء كان لنائم أو ميت؛ ولذلك لو قام الناس من قبورهم وحركوا سمى الله عز وجل ذلك بعثاً، (ثم بعثناهم) أي: حركناهم وأيقظناهم، لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ [الكهف:12]، الحزبين: مثنى حزب، والحزب: يطلق على الجماعة الذين توافقوا على رأي واحد، لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى [الكهف:12]، أي الحزبين أحسن إحصاء وعداً، والمقصود بالحزبين: قال بعض المفسرين: الحزبان أصحاب الكهف وأهل المدينة، وقال بعضهم: بل الحزبان من كانوا في المدينة من المؤمنين والكافرين، فالمؤمنون حزب والكفار حزب، والصحيح والعلم عند الله تعالى: أن الحزبين هم أصحاب الكهف؛ لأنهم كما بين ربنا قد افترقوا على طائفتين: طائفة تقول: لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19]، وطائفة وهم الأعلم والأرسخ والأحكم قالوا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ [الكهف:19].
لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى [الكهف:12] أي: أحسن إحصاءً لِمَا لَبِثُوا أَمَداً [الكهف:12]، أي: عدداً.
قال الله عز وجل: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ [الكهف:12]، والمقصود بقوله تعالى: (لنعلم) أي: لنظهر العلم للناس، وعلم الظهور كما قال الله عز وجل: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140]، وكما قال سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [محمد:31]، أليس ربنا يعلم من المجاهد فينا، ومن الصابر، ومن غير ذلك؟ يعلم جل جلاله، قبل أن يخلق السموات والأرض كتب كل شيء، لكن المقصود (لنعلم) أي: لنظهر هذا العلم للناس.
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً [الكهف:12]، أي: غايةً وعدداً.
ثم يقول سبحانه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف:13] وهذا من التشويق لسماع بقية القصة، والله عز وجل يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم والمراد عموم الناس، أي: اسمعوا هذه القصة، واعلموا أنها خبر صادق، لا يأتيها الباطل، فهذه القصة بتفاصيلها يخبر عنها ربنا كما وقعت، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف:13]، والقص هو: الخبر الطويل، (نحن نقص عليك نبأهم بالحق) أي: بالصدق كما قال ربنا على لسان موسى: حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ [الأعراف:105]، أي: الصدق، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ [الكهف:13]، فالله عز وجل هنا يعيد وصفهم بأنهم فتية، شباب، حدثاء الأسنان، كانوا في مرحلة ما بلغوا مرحلة الهرم، والشيخوخة، (فتية) أي: كانوا شباباً طيبين مباركين، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ [الكهف:13]، وكما ذكرت أن الفتى: هو الذي لا يدعي قبل الفعل، ولا يزكي نفسه بعد الفعل، آمَنُوا بِرَبِّهِمْ [الكهف:13]، يشهد لهم ربنا بالإيمان، أقروا بالمعبود الواحد جل جلاله، وشهدوا أن لا إله إلا هو.
آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]، استدل بهذه الآية الإمام البخاري رحمه الله وغيره من أهل العلم على أن الإيمان يزيد وينقص، فليس الناس في الإيمان سواءً، والدليل على ذلك قول الله عز وجل: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً [المدثر:31]، وقوله سبحانه: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم:76]، وقوله: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]، وقوله أيضاً: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة:124]، ومعلوم أن كل شيء يزيد فإنه ينقص، أي: معرض للنقصان، وهذا يلمسه كل امرئ منا في حاله، فإنه إذا قرأ القرآن، وتقرب إلى الله عز وجل بالنوافل، سواء كانت صلاة، أو صياماً، أو حجاً، أو عمرة، فإنه يشعر أن في إيمانه زيادة، إذا ابتغى بذلك وجه الله، وكذلك لو أن الإنسان عصى ربه، وأسرف على نفسه، فإنه يشعر بنقص في إيمانه، فيقوم إلى الطاعات متثاقلاً، وهذا شيء ملاحظ.
ولذلك الله عز وجل كافأ هؤلاء الفتية لما آمنوا بربهم، وأقروا له بالوحدانية، بأن زادهم هدىً.
وقال بعض المفسرين، ونقل هذا القرطبي رحمه الله: بأن الله عز وجل زادهم هدى بالكلب، لما كانوا في الطريق إلى الكهف، قال واحد منهم: إني أعلم كهفاً في ذلك الجبل، كان أبي يأوي إليه بغنمه، فلنسرع إليه، ولما كانوا في الطريق إلى الكهف تبعهم كلب، ومعلوم بأن الكلب فضيحة، فيمكن في أي لحظة أن ينبح الكلب لأي سبب، فلو جاع أو عطش، ولو اختلف معك فسينبح عليك، فبدأ هؤلاء الفتية يأخذون حجارةً ويرجمونه، من أجل أن ينصرف عنهم. يقول القرطبي رحمه الله: فرفع الكلب يديه إلى السماء كالداعي، فأنطقه الله فقال: يا قومي! لم تطردونني؟ لم ترجمونني؟ لم تضربونني؟ فوالله لقد عرفت الله قبل أن تعرفوه، والله عز وجل يثبت عباده بما شاء الله من الآيات، وهذه القصة ليس لها سند، لكن لا نستغربها.
ولا نستغرب فقد قال الله عز وجل: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ [الحج:18]، فالله عز وجل زادهم هدىً جزاءً لهم على إيمانهم.
وبالمقابل من كفر يزيده الله ضلالاً، قال سبحانه: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، وقال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً [البقرة:10]، وقال أيضاً: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً [مريم:75]، والجزاء من جنس العمل.
يقول الله عز وجل: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ [الكهف:14]، الربط مستعار لتثبيت الإيمان، وعدم التردد فيه، وأصل الربط يكون للشيء المحسوس، فأنت لو أردت أن تثبت شيئاً لئلا يتزحزح ويضطرب فإنك تربطه، وهنا في الآية الله عز وجل يستعير هذا المعنى للدلالة على ثبات قلوبهم، وأنهم ما كانوا خائفين ولا وجلين عندما قاموا بين يدي ذلك الجبار مثل ما قال ربنا جل جلاله عن أم موسى بعدما رمت ولدها في اليم قال: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً [القصص:10]، فارغاً من كل شيء، إلا من موسى، إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ [القصص:10]، أي: كادت أن تخرج إلى الطريق وتقول: يا ناس! عندي ولد رميته في البحر، قال الله عز وجل: لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [القصص:10]، أي: ثبت الله عز وجل قلبها.
وكذلك هنا الله عز وجل قال: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ [الكهف:14]، أي: صبرناهم على مخالفة قومهم، ومدينتهم، ومفارقة ما كانوا فيه من رغد العيش، وطيب الحياة، والرفاهية؛ لأن هؤلاء كانوا أبناء أشراف، تركوا القصور والرياض الجميلة وأووا إلى كهف الجبل، هل كان في ذلك الكهف أسرة؟ هل كان فيه مراتب ووسائد وأرائك وزرابي؟ هل كان في ذلك الكهف طعام هنيء وشراب حلو بارد؟ ما كان فيه شيء من متاع الدنيا، لكن الله عز وجل صبرهم، وثبتهم، وقواهم؛ ليختاروا ذلك الكهف على ما كانوا فيه من النعيم.
يقول الله عز وجل: إِذْ قَامُوا [الكهف:14] أي: قاموا بين يدي الملك الظالم الذي يدعو إلى عبادة الأوثان، فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:14]، يا مسكين! يا شقي! يا من تعبد هذه الأصنام والأوثان! هل هي التي خلقت؟! قال تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف:191]، وقال سبحانه: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان:11]، وقال سبحانه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ [الأحقاف:4]، هذه الأصنام هل خلقت؟! قال تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل:17]، وهنا قال الله على لسان هؤلاء الفتية: رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:14]، ودائماً الله عز وجل في القرآن يجعل الخلق مقدمة للأمر بعبادته، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ [البقرة:21]، لم نعبدك يا رب؟! فقال سبحانه: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21-22].
فالفتية قالوا: رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:14]، كأنهم يقولون لذلك الملك الظالم: اتخذت من دون الله آلهةً لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، قالوا: رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً [الكهف:14]، أبداً لن ندعو إلهاً غيره، قال أهل التفسير: وقد عدلوا عن الرب إلى الإله، ما قالوا: لن ندعو من دونه رباً، وإنما قالوا: لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً [الكهف:14]، جواباً على المشركين، وتبكيتاً لهم؛ لأنهم كانوا يدعون أصنامهم آلهة، يعني: ما كانوا يدعونها أرباباً، وإنما يدعونها آلهة؛ ولذلك قال الفتية: لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً [الكهف:14]، لقد قلنا قولاً باطلاً، مجافياً للحق، والشطط هو: الجور والظلم، ومنه قول الخصمين لداود عليه السلام: فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ [ص:22]، أي: لا تجر ولا تظلم، لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً [الكهف:14].
هذه الآيات المباركة يستفاد منها فوائد:
الفائدة الأولى: تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بإجابة السائلين عن أصحاب الكهف، بالإيجاز والتفصيل، وقد تقدم معنا في أن كفار قريش جعلوا ذلك من باب الاختبار للرسول عليه الصلاة والسلام، فالله عز وجل في هذه الآيات يقرر أن عبده محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسول الله حقاً، بدليل أنه أجابهم بهذه الآيات على ما فيها من التفصيل والبيان، فيستفاد من هذه الآيات: تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومثلها سائر قصص القرآن؛ لأن الله عز وجل يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [يوسف:102]، وبقوله: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44]، وأيضاً قال تعالى: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [القصص:46]، ثم يقول: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ [القصص:44]، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما كان حاضراً وشاهداً على تلك الأحداث، فمن أين عرفها؟ فلم يبق إلا أنه رسول يوحى إليه.
الفائدة الثانية: تقرير بلاغة القرآن، حيث يعمد إلى الإيجاز والتلخيص المشوق ليأخذ بعده في التفصيل، يعني: ها هنا الله عز وجل قال: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً [الكهف:9]، فها هنا لفتة للانتباه، ثم بعد ذلك تفصيل: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ [الكهف:10]، ثم يرجع ربنا جل جلاله للقصة من أولها إِذْ قَامُوا [الكهف:14] بين يدي الملك الظالم فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:14].
الفائدة الثالثة: أن أولئك المؤمنين كانوا شباباً لا شيوخاً، وأخذناها من قوله تعالى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ [الكهف:10]، وكلمة (فتى) لا تطلق على الشيخ الطاعن، وبهذه المناسبة ما يدور على ألسنة كثير من الناس، من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نصرني الشباب، وخذلني الشيوخ. لا يصح، ما قال النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من ذلك، وإنما كان في أنصاره وأتباعه الشيوخ والشباب، بل أعظم أنصاره وسيد أتباعه الشيخ الوقور أبو بكر الصديق ، و أبو بكر ما كان شاباً حديث السن لما تابع النبي صلى الله عليه وسلم، وما بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم سوى سنتين.
الفائدة الرابعة: من فر من مرهوب وجب عليه أن يشتغل بالدعاء لينجيه الله مما يخاف؛ لأن هؤلاء الفتية خرجوا خائفين، فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا [الكهف:10]، ولجئوا إلى الله عز وجل، وما لجئوا إلى دجال، ولا إلى عراف، ولا إلى كاهن، وإنما لجئوا إلى الله من أجل أن يعصمهم وينجيهم.
الفائدة الخامسة: أن المؤمن يسأل ربه العزيمة على الرشد، وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً [الكهف:10].
الفائدة السادسة: استجابة الله عز وجل لدعاء عباده المؤمنين الموحدين خاصةً حال الاضطرار؛ لأنهم بمجرد ما دعوا: رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً [الكهف:10]، جاءت الاستجابة من الله: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً [الكهف:11].
الفائدة السابعة: أن الله عز وجل يعظم نفسه؛ ولذلك نقرأ: (فضربنا)، (ثم بعثناهم)، ما قال: فضربت، ثم بعثتهم، وهكذا (لنعلم)، و(نحن نقص)، فالله عز وجل يعظم نفسه، وهكذا قال بعدها: (وزدناهم هدى)، (وربطنا)، فهذا كله تعظيم لذات الإله جل جلاله.
الفائدة الثامنة: أن الله عز وجل يحفظ عبده بما شاء، وهذا مضطرد في قصص القرآن، ومن ذلك: أن الله عز وجل قال لأم موسى: أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ [القصص:7] فما قال فخبئيه، أو فغطيه، وإنما قال: فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص:7]، هي خائفة عليه مع ذلك قال لها: ارميه في البحر، وهذا من العجب العجاب، وهكذا حفظ الله عز وجل نبيه يوسف عليه السلام لما ألقاه إخوانه في غيابة الجب، فقد جعل الله له حجراً يجلس عليه؛ لئلا يغرق في الماء، وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم لما أوى إلى الغار أرسل الله العنكبوت فنسجت، والحمامة فباضت، فالله سبحانه وتعالى يحفظ عباده بما شاء.
الفائدة التاسعة: أن في النوم حفظاً للقلب من القلق والاضطراب؛ ولذلك الصحابة رضي الله عنهم يوم بدر، وهذه أول معركة فقد كان فيهم قلق واضطراب، لكن الله أرسل إليهم النعاس، قال الله عز وجل: إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الأنفال:11]، يعني: كحبوب مهدئة لهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم، وهؤلاء الفتية المؤمنون سكن الله عز وجل روعهم، وطمأن قلوبهم بإلقاء النوم عليهم، ثم في الآيات دليل على أن الله قادر على أن يبعث من في القبور، قال سبحانه: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ [الكهف:12]، ولا فرق بين البعث من النوم، والبعث من الموت، قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر:42]، فالموت موت، والنوم موت، ولكن النوم هو الموتة الصغرى؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون )، ( وكان إذا قام من نومه قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا )، ( وكان إذا أوى إلى فراشه قال: باسمك اللهم أموت وأحيا ).
فمن بعث هؤلاء الفتية بعد أن ناموا ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً قادر على أن يبعث الموتى من قبورهم، ولو بقوا فيها آلاف السنين، أو ملايين السنين.
الفائدة العاشرة: أن قصص القرآن حق لا ريب فيها، قال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ [يوسف:3]، قصص القرآن كلها حق، لا ريب فيها.
الفائدة الحادية عشرة: الثناء من الله تعالى على أولئك المؤمنين الطيبين، فالله عز وجل يثني عليهم، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ [الكهف:13]، وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً [الفتح:28]، والله عز وجل يشهد لهم بالإيمان.
الفائدة الثانية عشرة: أن الإيمان يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي، قال الله عز وجل: وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]؛ ولذلك كثير من الناس يطرح هذا السؤال، يقول: أنا إيماني ضعيف، فنقول له: أطع ربك يقوى إيمانك. فهذه معادلة ظاهرة.
الفائدة الثالثة عشرة: أن من آمن بربه، وأطاعه زاده ربه هدىً، وهذا كثير في القرآن، يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً [الأنفال:29]، أي: تفرقون به بين الحق والباطل، وقال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الحديد:28]، وقال سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
الفائدة الرابعة عشرة: أن من كان في طاعة ربه فإنه سبحانه يقوي قلبه، ويعينه على تحمل الشدائد والصبر الجميل، فمن كان مطيعاً لربه عز وجل فإنه يعينه على تحمل الشدائد، ويعينه على أن يصبر الصبر الجميل، ويقوي قلبه جل جلاله، وهذا ظاهر فقد تجدون الإنسان الطائع، المحب لربه، المواظب على الجمع والجماعات، الذاكر لله، قد يبتلى بفقد ولده، أو أولاده، وقد يبتلى بنقص في ماله، وقد يبتلى بداء في جسده، فلا تجد منه إلا الرضا، والثناء على الله عز وجل، والحمد، والشكر، والتسليم، بينما الإنسان الفاجر الغارق في المعاصي إذا أصابته مصيبة وجل واضطرب، وتحير، وأصابه القلق، ويبدأ يطرح الأسئلة: لم؟ وكيف؟ وماذا صنعت؟ وما الحل؟ وما المخرج؟ وهذا كله لأنه لا يؤمن بقضاء الله عز وجل وقدره، وما أعد نفسه لذلك اليوم؛ ولذلك الله عز وجل يقول: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ [الكهف:14]، أي: ثبتهم وصبرهم جل جلاله.
الفائدة الخامسة عشرة: أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر كان واجباً على الأمم قبلنا، وأخذناها من قوله تعالى: إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ [الكهف:14]، أي: قاموا بين يدي الملك، يأمرونه بالمعروف، وينهونه عن المنكر.
الفائدة السادسة عشرة: الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد العبادة، رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:14]، وهذه مسلمة عند الجميع، إذاً: الواجب ألا ندعو من دونه إلهاً، فإذا كنا جميعاً نوقن بأن الله رب السموات والأرض فالواجب علينا جميعاً أن نعبده وحده، كما قال ربنا عن كفار قريش: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [لقمان:25]، وقال أيضاً: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [الزخرف:87]، وقال سبحانه: قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ [المؤمنون:84-89]. كانوا يقرون بأن الله هو الرب، وهو الخالق، والرازق، لكن كانوا يعبدون الأصنام، ويقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].
الفائدة السابعة عشرة: أن من أشرك مع خالق السموات والأرض إلهاً آخر فقد جاء بأمر شطط، بعيد عن الحق، في غاية الجور والظلم والتعدي، وأيضاً فهو ضال، مفتر، متعد.
الفائدة الثامنة عشرة: قال البيضاوي رحمه الله: في الآيات دليل على أن من قال ما لا دليل عليه في الدين فقوله مردود، فلو قال ما لا دليل عليه في الكيمياء أو في الأحياء ما قبلوا قوله، سيقولون له: أين تجربتك؟ أين أبحاثك؟ وهكذا في الدين لا نقبل قول كل قائل، بل لا بد من الدليل، قال تعالى: لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ [الكهف:15]، إذاً: لا نتبع كل ناعق، بل لا بد أن نتبع أسلوب القرآن: هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111].
الفائدة التاسعة عشرة: أن القائل على الله بغير علم هو أظلم الظالمين، قال سبحانه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الكهف:15].
الفائدة العشرون: وجوب الهجرة في سبيل الله عز وجل من الأرض التي يضيق فيها على المؤمن فلا يستطيع أن يعبد ربه؛ لأن هؤلاء الفتية لما ضاقت عليهم الأرض خرجوا مهاجرين، قال القرطبي رحمه الله: الآية صريحة في الفرار بالدين، وهجرة الأهل والبنين والقرابات، والأصدقاء والأوطان وجوب الأموال خوف الفتنة، وما يلقاه الإنسان من المحنة.
الفائدة الحادية والعشرون: أن الجهاد لا يجب إلا مع القدرة؛ لأن هؤلاء الفتية مؤمنون، وكان قومهم كفاراً مشركين، وجهاد الكفار واجب قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ [التحريم:9]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123]، فهؤلاء الفتية كانوا ثمانية، قال تعالى: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ [الكهف:22]، نفترض أنهم كانوا ثمانية، أو كانوا ثمانين، لكن الملك الجبار -عليه من الله ما يستحق- عنده من الشرط، والأتباع، والزبانية، والأعوان، والرعاء الذين يطيعونه في باطله ما لا يحصيه إلا الله، وعندهم من الأسلحة الشيء الكثير؛ ولذلك الله عز وجل ما أوجب على هؤلاء الفتية أن يجاهدوا أولئك الكفار، بل سلكوا الطريق الأنسب في تلك الحال، وهو الاعتزال، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان في مكة حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، وكان عليه الصلاة والسلام يصلي عند الكعبة، وفي بيعة العقبة لما بايعه الأنصار، وكانوا ثلاثةً وسبعين رجلاً وامرأتين، قالوا: ( يا رسول الله! لو شئت لأمرتنا أن نميل على أهل الوادي بأسيافنا لفعلنا، يعني: على المشركين الذين في الحج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم أؤمر بذلك )، وهذا الحكم ليس منسوخاً وإنما كل من كان في مثل ذلك الوضع فهذه دورة تتكرر.
الفائدة الثانية والعشرون: أن اعتزال المؤمن قومه الكفار، ومعبوديهم من أسباب لطف الله به ورحمته، اعتزال المؤمن قومه الكفار وما يعبدونه من الآلهة الباطلة سبب للطف الله ورحمته؛ لأن هؤلاء الفتية قالوا: لو اعتزلنا سينشر لنا ربنا من رحمته، وكذلك إبراهيم عليه السلام قال لأبيه وقومه: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً [مريم:48].
أسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المنتفعين، المعتبرين، المتعظين! والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى جميع المرسلين.
هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً [الكهف:15]، (هؤلاء) قالوا: الإشارة للتحقير، فهؤلاء الذين طاوعوك وتابعوك أيها الظالم على كفرك بالله، فعبدوا معك الأصنام، اتخذوا من دون الله عز وجل إلهاً باطلاً، وليس إلهاً حقاً، لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ [الكهف:15]، (لولا) للحث والتحضيض، فهل أتوا بحجة واضحة، ودليل ظاهر على أن هذه الأصنام تستحق أن تعبد من دون الله؟ هل هناك حجة؟
الجواب: ليس هناك حجة، لكن المقصود بذلك: التبكيت والتوبيخ، وقد كثر هذا في القرآن كقول الله عز وجل: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ [الأنعام:148]، وكقوله: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [النمل:64]، وكقوله أيضاً: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ [فاطر:40]، وكقوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ [فاطر:40]، وكقوله سبحانه: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [المؤمنون:117]، ومستحيل أن يكون عنده برهان، فالمقصود هنا: التبكيت والتوبيخ.
لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ [الكهف:15]، ثم يطرحون هذا السؤال: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الكهف:15]، والمقصود من الاستفهام: النفي، أي: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً.
يخاطب الفتية بعضهم بعضاً: وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً [الكهف:16].
قول الله عز وجل: (مرفقاً) قرأها نافع و ابن عامر و أبو جعفر بفتح الميم وكسر الفاء (مَرْفِقاً)، وقرأها البقية: (مِرْفَقاً)، لغتان والمعنى واحد، المِرفَق والمَرفِق، أي: ما يرتفق به ويعتمد عليه.
(وإذ اعتزلتموهم) أي: فارقتموهم وخالفتموهم، وفاصلتموهم في عبادتهم غير الله ففارقوهم أيضاً بأبدانكم، يعني: أنتم اعتزلتموهم اعتزالاً معنوياً وجدانياً، فالآن اعتزلوهم اعتزالاً جسدياً حسياً.
وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ [الكهف:16]، أي: والذي يعبدون من تلك الأصنام (إلا الله) استثناء منقطع، لكن الله ما اعتزلناه، ولا فارقناه جل جلاله، بل هو في قلوبنا، ومعنا حيثما كنا.
فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ [الكهف:16]، أي: اتجهوا إلى الكهف، واتخذوه لكم سكناً ومأوى، وبعد ذلك سترون ما يصنع بكم ربكم، فإن الله جل جلاله لا يخذل عبده، ولا يضيع وليه، فإنه سبحانه سينشر لكم من رحمته، وسينشر لكم من هداه، ومن رزقه، ومن بركته، ومن توفيقه، ومن حفظه ورعايته، ويهيئ لكم من أمركم الذي أنتم فيه ما ترتفقون به، وتعتمدون عليه، وتستندون إليه، وكأن قائل هذا الكلام واعظهم وعالمهم يقول لهم: يا معشر الشباب! يا هؤلاء الفتية! لا تخافوا ولا تحزنوا أنتم في معية الله، ما فارقتم قومكم، ولا اعتزلتم أهلكم لاختلاف لكم معهم على أمر من أمور الدنيا، بل فارقتموهم في سبيل الله، وفاصلتموهم من أجل الله، والله عز وجل لن يضيعكم، كما قال سبحانه: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر