إسلام ويب

سورة البقرة - الآية [208]للشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد حثت الشريعة الإسلامية المؤمنين على الخير وأمرتهم به، وحذرت من الشر ونهت عنه، وإن مما أمرت به الشريعة الغراء الدخول في دين الله كاملاً، والتمسك به جملة وتفصيلاً، ونهت عن اتباع خطوات الشيطان؛ إذ إنه العدو الأكبر للمؤمن، وخطره أعظم الأخطار، وشباكه أشد الشباك. ولقد حث الله تعالى عباده المؤمنين بالإكثار من النفقة في وجوه الخير، وإخراج أطيب الأموال في الحياة الدنيا، قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة.

    1.   

    قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة...)

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    أسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

    معنا في هذا الدرس النداء السادس في الآية الثامنة بعد المائتين من سورة البقرة: قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ[البقرة:208].

    سبب نزول هذه الآية كما قال بعض أهل التفسير: إن جماعة من اليهود الذين أسلموا، وفيهم عبد الله بن سلام ، و أسد بن كعب ، و ثعلبة ، (سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يأذن لهم أن يسبتوا)، يعني: يعظموا يوم السبت، وأن يقوموا الليل بالتوراة، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، يأمرهم فيها بشعائر الإسلام والاشتغال بها عما عداها، يعني: يا يهودي! يا من أسلمت! اعلم بأن ديانتك منسوخة، وأن شريعتك قد بطل العمل بها، فوجب عليك أن تجعلها وراء ظهرك، وأن تشتغل بشريعة الإسلام دون سواها.

    قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وفي ذكر عبد الله بن سلام مع هؤلاء نظر، إذ يبعد أن يستأذن في إقامة السبت، وهو مع تمام إيمانه بتحقق نسخه ورفعه وبطلانه والتعويض عنه بأعياد الإسلام، فـابن كثير رحمه الله يقول: عبد الله بن سلام رجل راسخ الإيمان، زكاه الله عز وجل في القرآن، فقال سبحانه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمَْ[الأحقاف:10]، وقال الله عز وجل: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ[الرعد:43]، قالوا: هو عبد الله بن سلام، رضي الله عنه.

    وعلى كل حال فإن الله عز وجل يأمرنا -نحن المسلمين- بأن ندخل في هذا الدين كله، أصولاً وفروعاً، عقيدة وشريعة، آداباً وأحكاماً، أخلاقاً وسلوكاً، لا نأخذ منه ما يوافق أهواءنا وندع ما يخالفه.

    وقال بعض أهل التفسير: بل الآية نازلة في أهل الكتاب، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى! آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وادخلوا في دينه، ويؤيد هذا المعنى ما رواه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار)، فاليهودي لن تنفعه يهوديته، والنصراني لن تغني عنه نصرانيته، لقول الله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[آل عمران:85].

    وجوب الاستسلام والانقياد لله ظاهراً وباطناً

    قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ[البقرة:208]، قوله: فِي السِّلْمِ[البقرة:208]، قرأ نافع ، و الكسائي ، و ابن كثير ، و أبو جعفر يزيد بن القعقاع بالفتح، وقرأ الباقون بالكسر، وهما لغتان بمعنى: الاستسلام والطاعة، فكلمة الإسلام معناها: أن تستسلم لله عز وجل في أمره ونهيه، وقوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ[الأحزاب:36]، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[النور:51]، فهذا هو دأبهم، وقوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ[النساء:65].

    وقوله تعالى: ادْخُلُوا )) الدخول حقيقته نفوذ جسم في جسم، واستعير ها هنا لمعنى، وهو ملازمة الاتباع والالتزام وشدة التلبس بالطاعة، فقوله تعالى: ادْخُلُوا فِي السِّلْمٌِ )) أي: استسلموا لله جملة، وأطيعوه ظاهراً وباطناً، فاستسلموا لله بقلوبكم وجوارحكم، وارضوا بقضائه وحكمه، وشرعه ودينه.

    تحريم مشابهة أهل الكتاب في الأخذ ببعض الكتاب وترك بعضه

    قال تعالى: ادْخُلُوا فِي السِّلْم كافهٌِ[البقرة:208]، قوله كَافَّةً )) قالوا: حال من السلم، وأصلها من كف يكف، بمعنى: منع، وعلاقة الجملة شدة الالتزام، كما يقول الألوسي رحمه الله: وأنها مانعه للأجزاء من التفرق.

    بمعنى أن الله عز وجل يريد منا ألا نشابه أهل الكتاب، فالذين قالوا: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، قال الله عز وجل عنهم: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ[البقرة:87]، وقبلها قال: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ[البقرة:87]، فالذين جعلوا القرآن عضين، بعضوه وجزءوه، فأطلقوا عبارات يقولون فيها: الدين لله والوطن للجميع، أو يقولون فيها: المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات، بمعنى: التسوية بين الكافر والمؤمن، بين الصالح والطالح، ونسمع دعوات إلى وحدة الأديان أو إلى ديانة إبراهيمية تجمع أتباع الملل الثلاثة، فهؤلاء جميعاً الدعاة إلى هذا الباطل يخاطبون بهذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ٌ[البقرة:208]، ومثلهم أيضاً الذين يريدون أن يتملصوا من بعض شعائر الإسلام، فيريدون مثلاً أن يغيبوا الجهاد ويذموه، أو يريدون أن يغيروا تشريعات الإسلام فيما يتعلق بحقوق الطفل وحقوق المرأة، ويوافقوا تلك الاتفاقات الدولية والمعاهدات العالمية التي قامت على الزور والباطل وتشريع ما لم يأذن به الله، فهؤلاء جميعاً نقول لهم كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً )) أي: خذوا الدين كله، وكما قال الله عز وجل: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ[مريم:12] وكما خاطب بني إسرائيل: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة:63]، أما إن كان يريد أن يأخذ الدين في الجزء الذي يتعلق بالمساجد، وشهر رمضان وأيام الحج، ثم بعد ذلك يريد أن يسير على هواه في الأمور الأخرى، فهذا لم يدخل في السلم كافه، وإنما دخل في جزء من السلم، ودين الله عز وجل لا يقوم به إلا من أحاط به كله، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً )).

    كلام سيد قطب في الآية

    يقول سيد قطب رحمه الله: الاعتقاد بالآخرة له دوره الأساسي في إفاضة السلام على روح عالمه، ونسيان القلق والسخط والقنوط.

    فإن الحساب الختامي ليس في هذه الأرض، والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة، إنما الحساب الختامي في الآخرة، والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب.

    والاعتقاد بالآخرة كذلك حاجز دون الصراع المجنون المحموم الذي تداس فيه القيم، وتداس فيه الحرمات بلا تحرج ولا حياء، فالآخرة فيها عطاء وغناء، وفيها عوض عما يفوت، وشعور المؤمن بأنه يمضي مع قدر الله في طاعة الله، وتحقيق إرادة الله، وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والاستقرار والسلام والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق، ولا سخط على العقبات والمشاق، وبلا قنوط من روح الله ومدده، وبلا خوف من ضلال القصد، أو ضياع الجزاء، ومن ثم يحس بالسلام في روحه، فقوله تعالى: (( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ))، يدل على أن الإنسان لو أخذ الدين كله فإنه سيشعر بسلام واطمئنان وراحة وحبور وسرور؛ لأنه يعتقد أنه في طاعة الله، ويمشي مع قدر الله، وأن الله يفعل ما يشاء.

    النهي عن تتبع خطوات الشيطان

    قال تعالى (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ))، هذا أمر، أعقبه نهي فقال سبحانه: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانٌِ[البقرة:208]، قوله: خُطُوَاتِ الشَّيْطَانٌِ ))، بضم الطاء قراءة الجمهور، وقرأ نافع ، و أبو عمرو ، و حمزة ، و خلف العاشر بإسكان الطاء، ومثلها أيضاً في سورة النور، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ))، والخطوات: جمع خطوة، وهي المسافة ما بين القدمين إذا مشى الإنسان، بمعنى: أن الله عز وجل يصور العاصي كأن الشيطان يمشي أمامه، وهو يمشي على خطا الشيطان، وهي صورة مقززة، وصورة تقبح حال العصاة.

    يقول أهل العلم: إن الشيطان يزين العمل بمعاصي الله، ويجمل القبيح في أعين الناس، وهو يتبع مع ابن آدم ست خطوات، لابد أن يوقعه في واحدة منها، لأنه قطع العهد على نفسه فقال: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمَْ صَرَاطَكَ الْمُسْتَقِيْم[الأعراف:16] أي: على صراطك المستقيم، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ[الأعراف:17]، فهذا الشيطان يحرص على أن يوقع الإنسان في الشرك والكفر بالله عز وجل، سواء كان كفراً بالربوبية، أو بالألوهية، أو بالأسماء والصفات.

    فإن عجز أوقع الإنسان في البدعة، أن يشرع في الدين ما لم يأذن به الله، والبدعة بريد الكفر، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد احتجب التوبة عن كل صاحب بدعة، حتى يدع بدعت).

    ثم إذا عجز عن البدعة أوقع الإنسان في الكبائر، وهي المهلكات الموبقات.

    فإن عجز أوقعه في الصغائر، وهي تجتمع على الإنسان حتى تهلكه، فإن عجز انتقل إلى الدرجة الخامسة وهي أن يشغله بالعمل المباح عن العمل الواجب.

    فإن عجز شغله بالعمل المفضول عن العمل الفاضل.

    وللشيطان مع كل إنسان مدخل وأسلوب، ففي قول الله عز وجل: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرَ[الحشر:16]، ذكر المفسرون قصة العابد برصيصا من بني إسرائيل، قالوا: كان يتعبد في صومعته، وكان هناك إخوة أربعة أرادوا الخروج إلى الغزو، وعندهم أخت واحدة ليس هناك من يرعاها، فقالوا: لا نأمن عليها إلا هذا الراهب، فجاءوا بأختهم، وقالوا: إنا خارجون للغزو فاجعلها عندك، فاستعاذ بالله من ذلك، لكنهم ألحوا وأصروا، فقال لهم: اجعلوها في تلك الصومعة، يعني: بعيدة عنه، فكان كل يوم ينزل بالطعام ويضعه على بابها ثم يصعد إلى صومعته ويناديها من أجل أن تأخذ الطعام، فجاء الشيطان ووسوس له، وقال له: لو أنها خرجت لتأخذ الطعام لربما يراها بعض الفساق، فأدخل إليها الطعام، فالرجل أدخل الطعام، ثم بعد حين جاء الشيطان وقال له: هذه أنثى وحيدة مسكينة تجلس وحدها، فلو أنك خرجت من مكانك، وهى خرجت في مكانها، فآنستها، وذكرتها بالله، وعلمتها؛ فاستجاب، ثم بعد حين قال له: لو جلست فلربما يراها بعض الفساق، ادخل إلى حجرتها وعلمها، فدخل، وما زال الشيطان يزينها ويجملها ويراود هذا الراهب عن نفسه، حتى ضرب على فخذها ثم وقع عليها، فحملت منه ثم وضعت، فقال له: الآن يأتي إخوانها من الغزو فيفضحوك، اقتل الغلام، فقتل الطفل، ثم قال له: لا شك أنها ستخبر إخوانها، فاقتلها، فقتلها ودفنها، وصعد إلى صومعته كأنه ما فعل شيئاً؛ لأن ضميره قد مات، فبعد ذلك جاء إخوانها وسألوه فبكى وترحم عليها، وقال: الأخت كانت قد مرضت ثم ماتت، فقمت عليها فدفنتها، فصدقوه، فجاء الشيطان للأخ الأصغر في المنام وأخبره بما حصل لأخته من قصة الراهب كاملة، ثم جاء للأخ الأوسط، ثم جاء للذي بعده، ثم للذي بعده، فلما أصبحوا قال الأخ الأصغر: والله! لقد رأيت عجباً، رأيت فيما يرى النائم كأن قائلاً قال لي: وحكى القصة، وقال الآخر: وأنا رأيت مثل الذي رأى، وهكذا، حتى ذهبوا إلى الحاكم وأخبروه، فجاء بالراهب، وما زال به حتى اعترف بكل الذي كان، وبأنه زنى ثم قتل وكذب، فحكم عليه بالصلب، فجاءه الشيطان وقال له: أنا الذي زين لك ما مضى، وإني قادر على أن أنجيك الساعة، قال له: وكيف ذلك؟ قال: تسجد لي، فسجد له، فقال له الشيطان: إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين، قال الله عز وجل: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ[الحشر:16].

    لذلك فإن الإنسان المؤمن إذا أصبح أو أمسى فإنه يقول: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)، وكثير من الناس آتاه الله علما، ولكن والعياذ بالله اتبع خطوات الشيطان، إما خطوات فكرية أو عملية، ولذلك بعضهم بعد أن عاش عمراً طويلاً يبحث في علم الكلام، وفي أدلة المتكلمين قال:

    نهايـة إقـدام العقـول عقـال وأكثر سعي العالميـن ضـلال

    وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغايـة أمرنـا أذاً ووبــال

    ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا قيـل وقالـوا

    فهذا العالم يقول: أفنيت عمري كله في قيل وقالوا، وما استفدت شيئاً والعياذ بالله، فقد أظلم القلب؛ لأنه لم يتبع أنوار الوحي؛ فلذلك حذر الله من اتباع خطوات الشيطان، وعلل الله عز وجل هذا النهي بقوله: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ))، فقوله: إِنَّهُ ))، الضمير يعود إلى الشيطان،إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ ٌ[البقرة:16] أي: ظاهر العداوة.

    قال مطرف بن عبد الله الشخير رحمه الله: أغش عباد الله لعباد الله الشيطان.

    من فوائد الآية

    من فوائد الآية: وجوب قبول شرائع الإسلام كافة، وحرمة التخير فيها، يعني: لا يجوز لك أن تختار وتنتقل، وإنما كما قال تعالى: (( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ٌ )).

    ثانياً: ما من مستحل حراماً أو تارك واجباً إلا وهو متبع للشيطان في ذلك، فالذي يصوم ولا يصلي هو ممن اتبع خطوات الشيطان، لأن الذي أمر بالصيام هو الذي أمر بالصلاة، وهو الله جل جلاله.

    ثالثاً: وضوح عداوة الشيطان لعباد الله المؤمنين.

    رابعاً: تحريم اتباع الشيطان فيما يدعو إليه من الكفر والضلال، وأن يستعيذ الإنسان منه بقوله تعالى: رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِين * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ[المؤمنون:97-98].

    1.   

    قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم...)

    النداء السابع في الآية الرابعة والخمسين بعد المائتين من سورة البقرة: يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ[البقرة:254]، هذه الآية جاءت بعد الآية التي بين الله فيها أنه قد أرسل رسلاً، وأنه قد فضل بعضهم على بعض، فكأن الأمر بالإنفاق بعد ذكر الرسل ليبين ربنا جل جلاله أن هذه الشعيرة المباركة وهذه الخصلة الفاضلة هي مما جاءت به الرسل، وأمرت به الأمم، وقبل ذلك بآيات أمر الله عز وجل بالجهاد، فقال سبحانه: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[البقرة:244]، ثم بعدها أمر بالإنفاق فقال: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةًَ[البقرة:245]، يقول بعض أهل التفسير: النفقة ها هنا مقصود بها النفقة في الجهاد، كأنهم شبهوا هذه الآية على هذا النسق بقول الله عز وجل وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهَِ[التوبة:41].

    يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ )) النفقة: هي إخراج المال الطيب في الطاعات والمباحات، والإنسان إذا أخرج مالاً في الطاعة كالزكاة الواجبة، أو صدقة التطوع، أو تفطير الصائمين، أو في المباحات كنفقته على نفسه، في طعامه وشرابه ولباسه وأثاثه وسكنه، وكان هذا المال من حلال طيب، فهذه هي النفقة التي أمر الله عز وجل بها، وأخبر أنها متقبلة عنده.

    يقول ابن عطية رحمه الله: ظاهر هذه الآية أنها تعم جميع وجوه البر: من سبيل خير، وصلة رحم. يعني: سواء كانت هذه النفقة في سبيل من سبل الخير، أو في صلة رحم، فنحن مأمورون بها.

    الحث على الإنفاق قبل الموت

    يذكرنا ربنا جل جلاله أننا لا ننفق من أملاكنا وأموالنا، وإنما مما أفاء الله علينا، ومما أنعم به علينا، فيقول: (( أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ))، كما قال في آية أخرى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ[الحديد:7]، فكأن الله يقول: أنفقوا مما رزقناكم في حياتكم الدنيا ولا تنتظروا الموت، حتى إذا أتى الموت قال الواحد منكم: هكذا وهكذا ولفلان كذا، ولفلان كذا، وإنما لينفق الواحد منكم وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويأمل الغنى.

    قال تعالى: أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ ))، وهو يوم القيامة، فهناك لا يستطيع إنسان أن يفدي نفسه و لو بذل ملء الأرض ذهباً، كما قال الله عز وجل: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47]، فالكفار في ذلك اليوم يريدون أن يفدوا أنفسهم بكل شيء لكن لا يستطيعون، فإن ذلك اليوم لا بيع فيه؛ لأن الناس سيبعثون حفاة عراة غرلاً، كما قال تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ[الأنبياء:104].

    نفرة الخلق عن بعضهم يوم القيامة

    قوله تعالى: لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌٌ[البقرة:254] لا خلة: أي: لا صداقة، وسميت الصداقة خلة؛ لأنها مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين، فيوم القيامة لا تنفع الصداقة ولا المودة كما قال الله عز وجل: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ[المؤمنون:101] بل حتى الرحم لا تنفع في ذلك اليوم كما قال الله عز وجل: يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ[المعارج:11] وَصَاحِبَتِهِ )) أي: زوجته وأخيهِ * وَفَصِيلَتِهِ[المعارج:12-13] أي: قبيلته الَّتِي تُؤْويهِ[المعارج:13]، وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ[المعارج:14].

    وقال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[عبس:34-37].

    الشفاعة المنفية والشفاعة المثبتة

    قوله تعالى: (( وَلا شَفَاعَةٌ )) الشفاعة مشتقة من الشفع الذي هو ضد الوتر، والشفاعة معناها الوساطة، بأن يضم الشافع جاهه إلى جاه المشفوع فيه عند مشفوع عنده من أجل أن يحق حقاً، أو يبطل باطلاً، أو من يجلب مصلحة، أو يدفع مفسدة، فهذه هي الشفاعة، والقرآن الكريم هاهنا ينفيها.

    يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: والشفاعة المنفية هاهنا هي الشفاعة التي لا يسع من بذلت عنده ردها.

    فمثلاً إذا أراد الأستاذ أن يعاقب الطالب، أو يفصله، أو يطرده، أو يحرمه من الامتحان وغير ذلك، فجاء أبو الطالب يشفع، فللأستاذ أن يقبل وأن يرد، لكن لو أن وزير التعليم قال لذلك الأستاذ: أنا أشفع في هذا الطالب، فهل يسعه ردها؟ في الغالب لا، فهذه هي الشفاعة المنفية، ولله المثل الأعلى، فلا يستطيع أحد أن يشفع عند الله شفاعة لا ترد، بل الله عز وجل يقبل شفاعة من يحب أن يقبل شفاعته ويرد من لم يقبل شفاعته، وهذا هو معنى (لا شفاعة)، كما قال الله عز وجل: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ[البقرة:255]، وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا[طه:109]، وقوله تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى[الأنبياء:28]، ولذلك قال العلامة ابن جزي المالكي رحمه الله: حيثما كانت الشفاعة منفية في القرآن فهو عند الحديث عن أهوال القيامة، وحيثما كانت الشفاعة مقترنة بإذنه جل جلاله فهو من أجل الشفاعة التي كان يعتقدها الكافرون، وفي آية أخرى قال الله عز وجل: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ[المدثر:48].

    لكن الشفاعة ثابتة في الأحاديث المتواترة أن الله عز وجل يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (سل تعط، واشفع تشفع)، فيشفع النبيون، ويشفع الصديقون، ويشفع الشهداء، ويشفع العلماء، ويشفع الأبناء في الآباء والآباء في الأبناء، وهناك شفاعات خاصة، وشفاعات عامة، وهذا كله مما يجمع به بين نصوص الشرع بحيث لا تتعارض.

    خلاف أهل العلم في المقصود بالكافرين في قوله تعالى (والكافرون هم الظالمون)

    يقول الله عز وجل: (( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ )).

    قال الزمخشري : الكافرون أي: مانعوا الزكاة، واستدل بقول الله عز وجل: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ[فصلت:6-7]، قال: وقد سماهم الله كافرين تغليظاً مثلما قال: لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ[آل عمران:97]، وَمَنْ كَفَرَ)) أي: ومن لم يحج فإن الله غني عن العالمين.

    والمراد بالكافرون هاهنا على قول الزمخشري : مانعوا الزكاة، لكن أهل التفسير قالوا: الكافرون هم الذين يلقون الله عز وجل كفاراً، أي: لا أظلم ممن وافى الله يوم القيامة كافراً، فهؤلاء الذين ظلموا الحق فأنكروه، وظلموا أنفسهم فأوردوها موارد الهلاك، وظلموا الناس وصدوهم عن الهدى، وفتنوهم عن الإيمان، وموهوا عليهم الطريق، وحرموهم من الخير.

    قال عطاء بن دينار رحمه الله: الحمد لله الذي قال: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ))، ولم يقل: والظالمون هم الكافرون؛ لأنه لو قال كذلك لكان كل ظالم كافر، لكن الله عز وجل أخبر في هذه الآية أن كل كافر ظالم، وهذا تشهد له نصوص كثيرة كقول الله عز وجل: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ[الأنعام:21]، وقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا[البقرة:114]، وغير ذلك من الآيات.

    فضل النفقة

    هذه الآية المباركة حثت على النفقة، وقد أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين ما في النفقة من الأجر والثواب والخير والبركة، فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها فيما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخادم مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئاً) يعني: أنك تكتسب وتجعل في البيت سكراً وقمحاً وزيتاً وخلاً وبصلاً وعسلاً، فلو أن الزوجة وجدت أن المصلحة والخير أن تنفق من هذا الشيء لجارة أو ذات رحم أو صديقة أو غير ذلك فلها أجرها بما أنفقت، ولا يضيع أجرك أنت؛ لأنك أنت الذي جئت بهذا الشيء، وللخادم في البيت الذي يتولى العطاء أجره.

    وفي صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك؛ أعظمها أجراً الذي تنفقه على أهلك).

    شروط النفقة المتقبلة

    النفقة المتقبلة لها شروط ثلاثة:

    الشرط الأول: أن تكون من الطيب، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ[البقرة:267] يعني: فلا تنظر الطعام الذي قاربت مدته على النهاية فتتخلص منه، بل لا بد أن يكون من طيبات ما كسبت.

    ثانياً: أن تخرجه طيبة به نفسك، فلا تخرجه ويدك ترتجف، وقلبك محترق، بل أخرجه طيبة بها نفسك.

    ثالثاً: لا تتبعها مناً ولا أذى، وفي الحديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)، وذكر من بينهم: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه).

    وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص : (ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك).

    فالمعنى: أنفقوا مما رزقناكم، وليس المقصود فقط الزكاة، أو الصدقة فقط، وإنما حتى النفقة التي تنفقها في البيت، الخبز الذي تشتريه، الخضر، الفاكهة، السكر، اللحم، كله في ميزان حسناتك لو أنك ابتغيت به وجه الله.

    وفي الحديث: (حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، واستقبلوا أمواج البلاء بالتبرع والدعاء)، وفي الحديث الآخر: (يا ابن آدم أنفق أنفق عليك)، وفي الحديث الثالث (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وينزل فيه ملكان يناديان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) أي: هذا الممسك أتلف اللهم ماله، وفي الحديث (صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار، وصلة الرحم تزيد في العمر) إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة.

    من فوائد الآية

    هذه الآية فيها فوائد كثيرة منها:

    الفائدة الأولى: الحث على النفقة في جميع طرق الخير، إذ قال: أنفقوا، ولم يعين باباً، فالأبواب كلها أبواب خير، فلك أن تنفق في علاج مريض، أو كفالة يتيم، أو إطعام جائع، أو التصدق على مسكين، أو كسوة عار، أو تفطير صائم، أو في بناء مسجد، إلى غير ذلك من أبواب الخير.

    الثانية: التذكر بنعمة الله على الناس؛ لأنه جل جلاله هو الذي رزقهم، وأنعم عليهم بالنعم.

    الثالثة: أن الله عز وجل أمرنا بإنفاق بعض المال لا كله، إذ لم يقل: أنفقوا ما رزقناكم، وإنما قال: (مما رزقناكم)؛ لأن الله عز وجل يعلم أن النفس مجبولة على الشح؛ ولذلك الله عز وجل قال: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُوْن[البقرة:2-3]، فقال مما رزقناهم هو يمثل الجزء، فلذلك لو احتسبت الزكاة في المليون فستكون خمسة وعشرين ألفاً، وهي لا تمثل شيئاًً، وفي أربعين شاة شاة، وفي ثلاثين بقرة تبيع، وفي خمس من النوق شاة، فدائماً الصدقة القليلة متقبلة عند الله عز وجل.

    الرابعة: دلت الآية على أن هذه النفقات مدخرة عند الله ليوم لا تفيد فيه المعاوضات بالبيع ونحوه، ولا التبرعات ولا الشفاعات، ولذلك الممسك يوم القيامة يندم، ويقول: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ[الحاقة:28]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المنافقون:9-11]، فهذا تحذير من الغفلة وتنبيه لوجوب الأخذ بأسباب النجاة التي تعين في نجاة العبد يوم القيامة، ثم حصر الظلم في الكفار؛ لأنهم خرجوا على ما خلقهم الله له، وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768032430