بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.
ومع النداء التاسع والخمسين في الآية الثامنة والخمسين من سورة النور قول ربنا تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور:58].
قوله تعالى: ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ [النور:58]، قرأها نافع و ابن كثير و أبو عمرو وابن عامر و أبو جعفر و يعقوب بنصب التاء على أنها بدل من (ثلاث مرات): (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات)، (ثلاث عورات لكم)، على أن هذه بدل من هذه.
وقرأ الباقون بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، وتقدير الكلام: هذه الأوقات المتقدم ذكرها ثلاث عورات لكم، أي: تظهر فيها العورات.
أيها الإخوة الكرام! هذه الآية المباركة يقال فيها ما قيل في قول الله عز وجل: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27].
فقد نزلت هذه الآية لمعالجة بعض الأوضاع الخاطئة التي كان عليها أهل الجاهلية، وبقيت بعد الإسلام.
فمن الأوضاع الخاطئة التي نزلت الآية الأولى لمعالجتها: أن الواحد من أهل الجاهلية كان يهجم على أهل البيت يدخل، وبعدما يدخل يقول: قد دخلـت.
وهذه الآية أيضاً كما أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: بلغنا أن رجلاً من الأنصار وامرأته صنعا للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً، فقالت زوجته وهي أسماء بنت مرشدة رضي الله عنها: ( يا رسول الله! ما أقبح هذا، إنه ليدخل على المرأة وزوجها وهما في ثوب واحد كل منهما بغير إذن؛ فأنزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ، أي: من العبيد والإماء، وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ، أي: من أحراركم من الرجال والنساء، ثَلاثَ مَرَّاتٍ [النور:58] ).
وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن سويد قال: ( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العورات الثلاث فقال: إذا أنا وضعت ثيابي بعد الظهيرة لم يلج علي أحد من الخدم من الذين لم يبلغوا الحلم ولا أحد من الأجراء إلا بإذن، وإذا وضعت ثيابي بعد صلاة العشاء ومن قبل صلاة الصبح )، أخرجه السيوطي رحمه الله في الدر المنثور.
وقيل في سبب نزول هذه الآية: إن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أحد الأنصار وهو مدلج بن عمرو الأنصاري ليدعو عمر رضي الله عنه، وكان الأنصاري غلاماً صغيراً، فدخل على عمر وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه، فقال عمر رضي الله عنه: لوددت أن الله عز وجل نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا ألا يدخلوا هذه الساعات علينا إلا بإذن. ثم انطلق معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجده وقد أنزلت هذه الآية، وهذا من موافقات عمر رضي الله عنه مثلما قال: ( يا رسول الله! هلا حجبت نساءك فإنه يدخل عليهن البر والفاجر )، ومثلما قال: ( يا رسول الله! هلا اتخذت من مقام إبراهيم مصلى )، ومثلما قال لأمهات المؤمنين: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ[التحريم:5]، فبهذا تكون هذه إحدى موافقات عمر رضي الله عنه للوحي.
يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النور:58]، (ملكت أيمانكم) هم العبيد والإماء، وقيل: بل المراد النساء خاصة، ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم من النساء، أي: الإماء، إذ الرجال يستأذنون في كل وقت.
وقوله: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ [النور:58]، أي: لم يبلغوا مبلغ الرجال والنساء وهم من الأحرار.
وقوله: ثَلاثَ مَرَّاتٍ [النور:58]، أي: في ثلاثة أوقات.
وقوله: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ [النور:58]؛ لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة.
وقوله: وَحِينَ تَضَعُونَ [النور:58]، أي: تتجردون من ثيابكم.
وقوله: مِنْ الظَّهِيرَةِ [النور:58]، وقت الظهر؛ سمي الظهيرة لأن الشمس تكون ظاهرة فيها.
وقوله: وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ [النور:58]؛ لأنه وقت التجرد من الثياب والالتحاف بثياب النوم.
ثم قال تعالى: ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ [النور:58]، هذه أوقات العورات الثلاث؛ لأن الناس يختل فيها تسترهم وتحفظهم وترتفع الكلفة فيها، وأصل العورة: الخلل، ومنه قيل: لمن في عينه خلل: أعور، وكذلك من إطلاق العورة على الخلل قول الله عز وجل حكاية عن المنافقين: يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً [الأحزاب:13].
لكن هذه الكلمة لو أطلقت فيراد بها ابتداءً ما يكره الإنسان انكشافه من جسده، هذه هي العورة: ما يكره أن يراه غيره.
قال الله عز وجل: لَيْسَ عَلَيْكُمْ[النور:58]، يا أيها المؤمنون، وَلا عَلَيْهِمْ [النور:58]، أي: على المماليك والصبيان، جُنَاحٌ [النور:58]، أي إثم، ولا حرج في الدخول بالاستئذان، بَعْدَهُنَّ [النور:58]، بعد الأوقات الثلاثة.
قال تعالى: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النور:58]، الله عز وجل رفع الحرج وأباح الدخول بلا استئذان؛ لأن العادة أن أهل البيت الواحد يطوف بعضهم على بعض.
قال تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ [النور:58]، أي: الأحكام. وَاللَّهُ عَلِيمٌ)) بأمور خلقه حَكِيمٌ )) بما دبره لهم جل جلاله.
أيها الإخوة الكرام! هذه الآية مراد بها حفظ الأعراض، ومراد بها حفظ الآداب: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، علموا أولادكم وربوا خدمكم على وجوب الاستئذان في هذه الأوقات الثلاثة: من قبل صلاة الفجر، وفي وقت الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء؛ لأن هذه الأوقات أوقات يتجرد فيها أهل البيت من ثيابهم، ويخلو فيها الرجل بامرأته، فلربما تقع عين الطفل على منظر لا يملك له تفسيراً، ولا يجد له تعليلاً، ويعلق بذهنه، وما زال الشيطان يوسوس له حتى ينشأ على شيء من الخلل النفسي والاضطراب، فمن أجل هذا كله أراد الله عز وجل لأطفالنا أن ينشئون نشأة سوية، خالية من العقد، وأن ينشأ أولادنا على أن يعرفوا أن هذه عورات، وأن ستر العورة مطلب شرعي وأمر قرآني، ويكون ذلك كالسجية فيهم شيء طبيعي.
قال الله عز وجل: لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ [النور:58]، ومعروف بأن الذي لم يبلغ الحلم لا يتوجه إليه خطاب التكليف، لكن المعنى: لتأمروا أولادكم وما ملكت أيمانكم بأن يستأذنوا عليكم؛ لأن الأولاد والخدم تبع لأرباب البيوت.
أيها الإخوة الكرام! هذه الآية أهملها كثير من الناس، وليس ترك هذه الآية في زماننا هذا، بل شكا العلماء من قديم، فقد روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير رحمه الله قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما وهو صحابي: ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النور:58] إلى آخر الآية، والآية التي في سورة النساء وهي قوله تعالى: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [النساء:8]، عند قسمة التركة إذا حضر من لا حق له في التركة من الأقرباء، من اليتامى، من المساكين فإننا نفرض لهم شيئاً، والآية التي في الحجرات وهي قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، هذه أيضاً تركها الناس وأبوا إلا أن يقولوا: أنا فلان بن فلان، وأنا من قبيلة كذا، وأنا من جنس كذا.
يستفاد من الآية فوائد:
أولها: أن الأمر في قوله تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمْ [النور:58] للوجوب عند جمهور العلماء، وقال أبو قلابة رحمه الله: هو للندب. لكن معلوم من قواعد الأصول: أن الأمر إذا تجرد عن القرائن أفاد الوجوب، والنهي إذا تجرد عن القرائن الصارفة أفاد التحريم؛ فيجب عليك أيها الإنسان أن تؤدب أولادك بهذا الأدب، ولا يوجد حالياً ملك يمين، لكن أدبوا أولادكم على هذا المعنى: وجوب الاستئذان في هذه الأوقات الثلاثة.
ثانيها: تعليل الأحكام؛ لأنه لكل حكم علة، لكن هذه العلة قد نعرفها وقد نجهلها، فالله عز وجل هنا علل فقال: لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النور:58]، في هذه الأوقات الثلاثة، لم يا رب؟! قال: ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ [النور:58]؛ لأن هذه الأوقات أوقات ربما تنكشف فيها عوراتكم، وتتخففون من ثيابكم، فوجب عليكم أن تعلموا أولادكم أن يستأذنوا قبل الدخول عليكم.
أيها الإخوة الكرام! بعض العلماء قال: هذه الآية منسوخة؛ لأن البيوت يومئذ لم يكن لها ستور ولا حجاب فأمروا بالاستئذان، أما بعدما بسط الله الرزق واتخذ الناس الستور فرأى أن ذلك أغنى عن الاستئذان.
لكن الذي عليه جمهور العلماء: بأن هذه الآية ليست بمنسوخة بل حكمها ثابت إلى اليوم.
قال الرازي رحمه الله: دلت الآية على أن من لم يبلغ وقد عقل فإنه يؤمر بفعل الشرائع وينهى عن ارتكاب القبائح.
(من لم يبلغ) يعني: ما زال صغيراً لكنه بدأ يميز؛ فهذا يؤمر بفعل الشرائع وينهى عن القبائح. والدليل حديث: ( مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر )، مع أن ابن عشر لم يبلغ في الغالب، وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان أصحابه يصومون الصغار؛ فإذا بكوا جعلوا لهم اللعبة من العهن.
إذاً نربي أولادنا الصغار على الوضوء، نربي أولادنا الصغار على ستر العورات، نربي البنات على الاستتار من الرجال رغم أنها ما زالت صغيرة عمرها سبع سنوات ثمان سنوات، لكن تنشأ من الصغر على أنك أنثى وللأنثى خصوصية، نربيها على الحشمة تلبس الطويل وتتستر؛ من أجل أن يصبح ذلك سجية لها وخلقاً.
وكذلك نربيهم على أن يأكلوا ويشربوا بأيمانهم، وأن يسموا الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للغلام: ( يا غلام! سم الله وكل بيمينك، وكل مما يليك )، وهذا الكلام قاله لـعمرو بن أبي سلمة وهو صغير يتيم في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا الحسن لما أخذ تمرة من تمر الصدقة وهو طفل، والطفل إذا وجد شيئاً يأخذه، قال له الرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كخ، كخ، إنما هي أوساخ الناس، لا تحل لمحمد ولا لآل محمد، وأدخل صلى الله عليه وسلم أصبعه وعالج التمرة برفق حتى أخرجها من فم الغلام )، يعني: ما قال عليه الصلاة والسلام: لا. دعه إنه صغير، دعه يأكلها، أو ضحك له.
وللأسف أنه يوجد اليوم بعض الناس لو أن ولده سرق ضحك له، وهذا معناه: أن يكون لصاً كبيراً بعد ذلك! فينشأ هذا الطفل وقد استقر في نفسه أن السرقة من المكارم ومن الأشياء التي يغبط عليها.
كذلك نربي أولادنا على اجتناب الخمر والخنزير، وننهاهم عن سائر المحظورات، وهذا كله داخل في قوله تعالى: قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6].
أيضاً الرازي رحمه الله ذكر بأن الآية دالة على أن الواجب اعتبار العلل في الأحكام إذا أمكن؛ لأنه تعالى نبه على العلة في هذه الأوقات الثلاثة.
أسأل الله أن ينفعني وإياكم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر