الشيخ محمد الخضيري: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه.
في حلقة ماضية تحدثنا عن قول الله عز وجل: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34]، وبينا ما في هذه الآية من الأحكام العظيمة التي أرشدنا إليها ربنا، لتستقيم حياتنا الزوجية.
إن هذه الآية تعتبر نبراساً للحياة الزوجية القويمة، وكنا وصلنا إلى قول الله عز وجل: وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً [النساء:34]، ولأهمية الحديث عن نشوز المرأة، وموقف الرجل من إصلاح زوجته إذا خرجت عن طاعته، أحببنا أن نفرد هذه الحلقة، ومعي فضيلة الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف أبو عمر ، ونبدأ حديث هذه الحلقة بكلمة منه في هذا الميدان.
الشيخ عبد الحي يوسف: أكرمك الله أبا عبد الله !
أقول: إن الإسلام دين واقعي، يعالج الواقع، وليس ديناً يحلق بأتباعه في أجواء الفضاء، ولا يأمر أتباعه بما لا يطاق، فالله جل جلاله يعلم بأنه لا تخلو حياة زوجية من مشكلات، ولو كان بيت يسلم من مشكلات لسلم بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو خير الناس وأفضل الناس، وأطيب الناس وأحسنهم خلقاً، لكننا نقرأ في السنة الصحيحة أن نساءه أكثرن عليه من طلب النفقة حتى اعتزلهن في علية شهراً، لا يدخل على واحدة منهن، وأنزل الله عز وجل آيات التخيير في سورة الأحزاب، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً [الأحزاب:28]، يعني: أن هذه التي تريد الذهب والفضة، والعيش الهنيء والسعة ليس مكانها بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن العجيب ها هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بأحبهن إليه عائشة ، قال لها: ( يا عائشة ! إني سأعرض عليك أمراً فلا تعجلي حتى تستأمري أبويك، تقول رضي الله عنها على سبيل الفخر: وكان يعلم أن أبوي لا يأمراني بفراقه، فتلا عليها الآية )، فقالت كلمةً رضي الله عنها وأرضاها -نسأل الله أن يرزقنا حبها، وأن يحشرنا معها- ( قالت: أفيك أستأمر أبوي يا رسول الله؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة )، ثم عاد إليها طبع النساء والغيرة ( قالت: يا رسول الله! أتخير الأخريات؟ فقال: نعم، قالت: لا تخبرهن بما اخترت )؛ لعلها أن تتخلص من بعضهن، ( فقال عليه الصلاة والسلام: إنما بعثت معلماً، ولم أبعث متعنتاً ) عليه الصلاة والسلام.
فهاهنا نقول: إن الآية جاءت في بيان السبيل الأمثل لمعالجة الخلاف الزوجي، وليس كما يسمع كثير من الناس أول كلمة في لسانه الطلاق، وهذا غلط، فإن الطلاق إنما يأتي بعد خطوات أربع.
قال الله عز وجل: وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ [النساء:34]، ما هو النشوز؟
الشيخ محمد الخضيري: النشوز هو الخروج عن الطاعة، يقال: جبل ناشز يعني: خارج، أو مرتفع، وشيء ناشز أي: خارج عن الأشياء الأخرى المساوية له، والنشوز هو الخروج عن الطاعة، فمعنى ذلك: أن المرأة إذا ترفعت عن طاعة زوجها قيل لها: ناشز.
الشيخ عبد الحي يوسف: ومنه قول الله عز وجل: وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا [المجادلة:11]، فالنشوز حقيقته ترفع المرأة، فلا تستجيب لدعوة زوجها في الفراش؛ ولا تقوم بخدمته الخدمة المعقولة من مثلها لمثله، كصنيع بعض النساء إذا طلب منها زوجها ماءً قالت له: قم فاشرب، ويشيع بينهن بأن الخدمة غير واجبة، وقد علمن بأن خير النساء كن يخدمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير النساء فاطمة وقد كانت تخدم علياً وأولادها، حتى شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يديها قد مجلت مما تطحن في الرحى رضي الله عنها وأرضاها، فنقول: الخدمة واجبة.
الشيخ عبد الحي يوسف: قال الله عز وجل: وَاللاَّتِي تَخَافُونَ [النساء:34]، وها هنا الخوف بمعنى الظن الغالب الذي يقوم على بينات، وقد نبه المفسرون إلى أن ربنا جل جلاله يعبر بالخوف في مسائل الحياة الزوجية قال تعالى: وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً [النساء:128]، وهنا قال: وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ [النساء:34]، وأيضاً قال: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً [البقرة:182]، يعني: لا نترك المشكلة حتى تستفحل وتكبر وتعسر على الحل، وإنما نبادر إلى الحل من قريب، قال الله عز وجل: وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ [النساء:34] فاتبعوا معهن هذه الخطوات التالية.
الشيخ محمد الخضيري: أول هذه الخطوات: (فعظوهن)، يعني: يأتي الزوج ويعظ المرأة، والمرأة بطبعها العاطفي الرقيق القريب تستجيب للعظة، خصوصاً إذا أحسن الزوج في عظتها، وإذا رأى أنه قد لا يستطيع هذا الأمر، فإنه ينبغي أن يستعين بمن يستطيع عظتها، وهنا يبدو للإنسان فضل الزواج بالمرأة التي تخاف الله سبحانه وتعالى، فإنها إذا وعظت وذكرت بالآخرة، وخوفت بالله جل وعلا، وذكرت بأجر الصبر على الطاعة، ونحو ذلك اتعظت ورجعت إلى أصل الطاعة، واستجابت لزوجها.
الشيخ عبد الحي يوسف: صحيح، ولذلك نقول: إذا كان لا يحسن الوعظ فإنه يستعين بغيره، وقد يستعين بشريط، وقد يرشدها إلى برنامج معين في قناة فضائية من القنوات الطيبة، وقد يستعين بكتاب إذا كانت الزوجة تحسن الاستفادة من الكتاب.
الشيخ محمد الخضيري: بل أنا أذكر شيئاً غريباً يفعله بعض الناس وهو غير مباشر؛ لأن الناس يستوحشون من الشيء المباشر، فمثلاً بعض الناس يصطنع صنماً كأنه صاحبه، يشكو إليه حال زوجته من نفس المشكلة التي يعاني منها من زوجته، فهو يوجه له الجواب والزوجة تسمع، من باب: إياك أعني واسمعي يا جارة.
الشيخ عبد الحي يوسف: نعم، هذه من الحيل المباحة، والحيل إذا كانت تؤدي إلى مباح فهي مباحة، وأيضاً لا بد أن نقول ها هنا: إن المرأة الصالحة إن وعظت اتعظت، وإن زجرت انزجرت، كما قيل في صفة الزوجة الصالحة: هي التي إن أعطيت شكرت، وإن منعت صبرت، وإن زجرت انزجرت، تعين بعلها على الزمان، ولا تعين الزمان على بعلها، وهي الواسع صدرها، العظيم صبرها، الخفي صوتها، الكثير صمتها.. إلى آخر ما قيل. وبالمقابل فإن المرأة السوء -والعياذ بالله- قالوا فيها: هي التي تشير بالأصابع، وتبكي في المجامع، تأكل لماً، وتوسع ذماً، كلامها شديد، وصوتها وعيد، يعني: دائماً عالية الصوت، وهذا مما يورث النفرة فيما بين الزوجين.
الشيخ عبد الحي يوسف: وإذا ما نفع الوعظ انتقل بنا ربنا جل جلاله إلى علاج آخر.
الشيخ محمد الخضيري: وهو الهجر في المضجع، وهو شديد على المرأة، قال العلماء: الهجر إما أن يهجرها في الفراش بالكلية، وهذا أشد الأمرين، وإما أن يوليها ظهره، فإذا جاء إلى فراشه فإنه لا يستقبلها كما يفعل الأزواج مع زوجاتهم، وإنما يدابرها، أي: يلقيها ظهره كأنه غير مبال بها، ولا شك أن المرأة إذا كانت تحب زوجها، وترغب في عشرته، والبقاء معه، وتألفه، لكنها سلكت هذا المسلك الوبيل وهو النشوز وعدم الطاعة فإنه سيؤثر فيها هذا الهجر تأثيراً بالغاً.
الشيخ عبد الحي يوسف: نعم. وهذا مقيد بأن يكون في البيت؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا تهجر إلا في البيت )، فبعض الأزواج إذا غاضب زوجته ذهب إلى بيت أمه، أو ذهب إلى بيت أخته، أو ذهب إلى كذا، أو تعمد أن يجلس في المقهى، أو مع الأصحاب، أو كذا إلى ما شاء الله، فهو أولاً ما أحسن صنعاً بل خالف السنة.
ثانياً: ما أثبت قدرته على الاستغناء عنها، لكن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تهجر إلا في البيت ).
الشيخ عبد الحي يوسف: إذا ما نفع هذا العلاج جاءت الخطوة الثالثة وهي التي يدندن حولها أعداء الإسلام كثيراً، قال الله عز وجل: وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]، هذا الضرب ينبغي أن نعلم فيه عدة أمور:
أولاً: أنه مقيد بكيفية معينة.
ثانياً: أنه ليس العلاج الأمثل؛ لأنه لما نزلت هذه الآية عمد كثير من الصحابة إلى ضرب زوجاتهم، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وقال: ( إن نساءً كثيرات طفن ببيوت أزواج محمد صلى الله عليه وسلم يشكين من ضرب أزواجهن لهن، أولئكم ليسوا بخياركم )، وهذا الحديث ينفر المؤمن من أن يكون ضارباً.
ثم ( النبي صلى الله عليه وسلم ما ضرب بيده شيئاً قط، لا زوجةً، ولا خادماً، إلا أن يكون في سبيل الله )، ففي الجهاد عليه الصلاة والسلام كان يفلق الهام، وكان الضحوك القتال عليه الصلاة والسلام؛ ضحوك مع أزواجه، ومع أصحابه، ثم بعد ذلك في المعارك قتال لمن عادى الله ورسوله، وأحداث السيرة شاهدة بذلك.
ثالثاً: النبي عليه الصلاة والسلام بين الأدب عند الضرب فقال: ( لا تقبح )، أي: لا تقل لها: أنت قبيحة، أو قبحك الله، أو أنت وجهك كذا كما يقول بعض الناس، أو عندما رأيت وجهك هذا ما رأيت خيراً، ونحو ذلك، والعياذ بالله، ثم قيد الضرب صلى الله عليه وسلم بألا يكون ضرباً مبرحاً، قال علماؤنا: لا يقطع لحماً، ولا يكسر عظماً، ولا يسيل دماً، ثم يمنع أن يكون الضرب على الوجه؛ لأن الضرب على الوجه محرم، سواء كان لزوجة أو لطفل أو لغير ذلك، ( فإن الله خلق آدم على صورته ) أي: على صورة هذا الوجه.
الشيخ محمد الخضيري: وفي قوله: (واضربوهن) لا يراد من هذا الضرب الانتقام، وإنما يراد منه التعبير عن عدم رضا الزوج عن سلوك المرأة، فإن بعض الناس يظن أنه يباح له أن يضرب زوجه ضرباً يتشفى به، وهذا الضرب الذي يتشفى به الإنسان ويبرز نقمته على امرأته لا شك أنه يورث للمرأة الضغينة والعداوة، ولا يمكن أن يحل المشكلة، ولكن الذي يحل المشكلة عندما يكون ضربك بأطراف الأصابع، أو على الظهر، أو على الكتف، أو على اليد؛ لكي تشعر المرأة أنها أخطأت، وأنها جانبت الصواب والحق.
الشيخ عبد الحي يوسف: وها هنا يحضرني كلام طيب لـسيد قطب رحمه الله، في الرد على تلك الهجمات التي تتناول أحكام الإسلام بالنسبة للأسرة، يقول: وقد علم من الدراسات النفسية الحديثة بأن بعض النساء لا تقتنع بزوجها إلا إذا قهرها عضلياً، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، يعني: أن الله جل جلاله يعلم بأن بعض النساء لا ينفع معها إلا هذه الوسيلة.
وإذا كانت هذه الوسائل الثلاث ما نفعت شرع علاج رابع.
الشيخ محمد الخضيري: نعم، وقبله إن أذنت لي قال الله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً [النساء:34]، يخوف الزوج، ومعناه: إن كنت قادراً على المرأة وأكبر منها فالله أقدر منك وفوقك، وهو قادر عليك، فإياك أن تظلم أو تتعدى.
الشيخ محمد الخضيري: ثم قال: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً [النساء:35].
الشيخ عبد الحي يوسف: جل جلاله، ولذلك يقول هنا: (إن يريدا) والذي عليه أكثر المفسرين بأن الفاعل هنا الحكمان، وبعض أهل التفسير قال: الزوجان، لكن الذي يظهر بأن المراد الحكمان، وإذا أردنا أن نختار حكمين فلنخترهما أولاً: من أهل التقوى والصلاح. ثانياً: من أهل الرأي. يعني: لا يذهب الواحد منهم ويتكلم بكلام يعمق الهوة، ويزيد الطين بلة كما يقال، وإنما يحاول أن يقول خيراً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس الكذاب الذي ينمي خيراً أو يقول خيراً ليصلح بين الناس )، وفي حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها قالت: ( ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في الكذب مما يقول الناس إلا في ثلاث: في إصلاح ذات البين، وفي الحرب، وفي كلام الرجل لامرأته، والمرأة لزوجها ).
أسأل الله عز وجل أن يصلح ذات بيننا، وأن يقيم بيوتنا على تقوى منه ورضوان، وأن يجعلها عامرةً بتلاوة القرآن، وأن يبصرنا بعيوبنا، وأن يصلحنا وأزواجنا وذرياتنا، إنه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر