الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فنشرع في تفسير سورة المعارج.
قال تعالى: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ[المعارج:1]، هذه من حماقات المشركين حين قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ[الأنفال:32]، والإنسان العاقل إذا رأى دلائل الحق وبراهين الهدى فإنه يتبع ما دلت عليه، مثل ما فعل السحرة رضي الله عنهم حين رأوا موسى عليه السلام ألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، هنالك السحرة علموا أن ما يفعله موسى عليه السلام معجزة حقة، وليس من السحر في قبيل أو دبير، وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:120-122]، ولما تهددهم فرعون بالتقتيل والتصليب والتنكيل قالوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا[طه:72].
لكن هؤلاء الكفار الحمقى، وكان من بينهم رجل يقال له النضر بن الحارث بن كلدة قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ[الأنفال:32]، وهذا مثل قوله تعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ[ص:16]، أي: عجل لنا نصيبنا من العذاب، فكانوا يستهزئون بما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يخوفهم بأن عذاباً سينزل بهم.
سَأَلَ سَائِلٌ[المعارج:1]، بمعنى: دعا داع، وفي قراءة نافع رحمه الله في رواية ورش : سال سائل بعذاب واقع، قال ابن جرير رحمه الله: هو واد من أودية جهنم يسيل بالعذاب، وقال بعض المفسرين: بل هو مخفف: سأل.
بِعَذَابٍ وَاقِعٍ[المعارج:1]، أي: بعذاب حاصل نازل لا بد منه، كما قال سبحانه: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ[النحل:1].
ثم قال: لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ[المعارج:2]، أي: هذا العذاب الذي قدره الله عز وجل على من أشرك وكفر، من الذي يدفعه عن الكفار؟ من الذي يمنعه من أن ينزل بهم؟ ليس له مانع وليس له دافع، كما قال سبحانه:
بسم الله الرحمن الرحيم.
وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ[الطور:1-8]، وكما قال عز وجل: وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ[الرعد:11].
قوله تعالى: مِنْ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ[المعارج:3] أي: هذا العذاب مقدر وحاصل من الرب العليم القدير الخبير، الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
وهو ذو المعارج، قيل: المعارج هي: السموات، وقيل: المعارج هي: الدرجات، وقيل: المعارج أي: الفواضل والنعم، وكل هذه معان صحيحة، فالله عز وجل هو الذي خلق السموات وهو مدبرها وهو مالكها جل جلاله، وهو سبحانه ذو الدرجات، يرفع من يشاء ويخفض من يشاء، يعز من يشاء ويذل من يشاء، وهو سبحانه وتعالى ذو الفواضل والنعم.
قال عز وجل: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ[المعارج:4]، (تعرج) بمعنى: تصعد، تصعد الملائكة، والملائكة هم: ذلك العالم الغيبي الذي لا نراه بأعيننا لكننا نؤمن به، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم يصعدون وينزلون، فثبت عنه في الحديث أنه قال: ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: يا ربنا! أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون )، فهؤلاء الملائكة يصعدون إلى هذه السموات العلى.
(والروح) قيل: هو جبريل عليه السلام، ويشهد لهذا قول ربنا جل جلاله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ[الشعراء:193-194]، وقول ربنا جل جلاله: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ[القدر:4]، وقوله جل جلاله: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا[النحل:102]، فجبريل عليه السلام يسمى: روحاً، وقيل: المراد بالروح: أرواح بني آدم.
وقوله: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ[المعارج:4]، أي: إلى الله عز وجل.
وقوله: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ[المعارج:4]، قال بعض المفسرين: المراد بذلك أن الملائكة يعرجون إلى الله عز وجل في لمح البصر، فيما لو أراد غيرهم أن يصعد تلك المسافة لاستغرق خمسين ألف سنة، وقيل: المراد بقوله تعالى: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ[المعارج:4] هو: يوم القيامة، وعندنا في القرآن ثلاث آيات هذه الآية، والآية التي في سورة الحج: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ[الحج:47]، والآية التي في صدر سورة السجدة: يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ[السجدة:5].
فهذان اليومان: اليوم الذي هو خمسون ألف سنة، واليوم الذي هو ألف سنة، سئل عنهما عبد الله بن عباس و سعيد بن المسيب رضوان الله عليهما، فقال كلاهما: لا أدري، يومان ذكرهما الله في كتابه الله أعلم بهما.
وبعض المفسرين في الجمع بين هذه المواضع سلكوا في ذلك سبيلين:
السبيل الأول: أن الآيات التي فيها ذكر الألف سنة المراد به: اليوم من أيام الآخرة، والآية التي فيها ذكر خمسين ألف سنة المراد به: اليوم الفاصل بين الدنيا والآخرة، وهو: يوم القيامة، يعني: يوم القيامة بخمسين ألف سنة، واليوم من أيام الآخرة بألف سنة.
وقال بعضهم: بل المراد بذلك: أيام الآخرة جميعها، لكنها على المؤمن كألف سنة، وعلى الكافر كخمسين ألف سنة، واستدلوا بقوله تعالى: فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ[المدثر:9-10]، بمعنى: أن اليوم من أيام الآخرة بالنسبة للمؤمن يسير خفيف، وبالنسبة للكافر عسير ثقيل، ويشهد لهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف عالم البرزخ بالنسبة للمؤمن قال: ( وتمر عليه فترة البرزخ كصلاة ظهر أو كصلاة عصر )، يعني: منذ أن يدفن في قبره إلى أن تقوم القيامة، هذه المدة الطويلة تمر عليه وكأنها صلاة ظهر أو كصلاة عصر؛ لأنه في روضة من رياض الجنة، أما الكافر -والعياذ بالله-، فكما قال ربنا: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ[غافر:46].
قال الله عز وجل: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً[المعارج:5]، يتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يعاني من بذاءات المشركين وسوء أدبهم مع ضعف عقولهم وضيق عطنهم، يقول الله عز وجل له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً[المعارج:5]، وهذا الصبر الجميل مطلوب من كل من يدعو إلى الله، ومطلوب من كل من يـأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، كما قال لقمان لابنه وهو يعظه: يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ[لقمان:17].
وقد ذكر الصبر في القرآن أربعاً وثلاثين مرة في نحو من تسعين موضعاً، الله عز وجل يأمر به وينهى عن ضده، كما في قوله تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ[القلم:48]، وكما في قوله سبحانه: وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ[الأحقاف:35]، فالله عز وجل يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر وينهاه عن الاستعجال، وكلنا معشر المسلمين مأمورون بالصبر، وقد أخبرنا جل جلاله بأن الصابرين أجرهم لا يعلمه إلا الله، فقال سبحانه: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ[الزمر:10].
وقد مضى معنا في هذه الدروس مراراً بأن الصبر المأمور به على ثلاثة أنواع:
فهناك صبر على طاعة الله، فنصبر على العبادات، وهناك صبر عن معصية الله، وهناك صبر على الأقدار، بحيث إن الإنسان يصبر إذا نزل به القدر، فربما يموت له ميت، وربما يمرض في جسده، وربما يفقد بعض ماله وربما يتسلط عليه عدوه، وكما قال جل من قائل: وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ[البقرة:155-157]، وقدوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه صبر على طاعة الله، فكان عليه الصلاة والسلام يواظب على الفرائض ويتزود بالنوافل، ويقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، ويذكر الله عز وجل بالليل والنهار، وكان صابراً عن معصية الله، فما عصى الله عز وجل طرفة عين، وكان صابراً على قضاء الله وقدره؛ ولذلك ربنا يقول له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً[المعارج:5]، والصبر الجميل هو: الذي لا يصحبه سخط، وإنما رضاً تام عن الله عز وجل.
قال الله عز وجل: ((إِنَّهُمْ))، أي: الكفار، يَرَوْنَهُ بَعِيداً[المعارج:6]، أي: يرون يوم القيامة بعيداً، فلا يعملون له حساباً ولا يقدرونه حق قدره؛ بل إذا حُدثوا عنه سخروا.
وَنَرَاهُ قَرِيباً[المعارج:7]، نراه قريباً؛ لأنه آت وكل آت قريب، والإنسان المؤمن دائماً يتذكر الموت؛ لأن الموت هو أول منازل الآخرة، ومن مات فقد قامت قيامته؛ ولأن المؤمن يرى الموت قريباً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وعد نفسك من الموتى )، وفي الحديث قال: ( وصل صلاة مودع )، فالإنسان المسلم إذا أصبح فإنه يقول: ( اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت )، وإذا أمسى قالها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قالها إذا أصبح موقناً بها فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقناً بها فمات من ليلته دخل الجنة )، بمعنى: أن الإنسان إذا أصبح يقول هذه الكلمة، ويعلم يقيناً بأنه يمكن أن يموت من يومه، وإذا قالها في المساء وهو أيضاً يوقن بأنه يمكن أن يموت من ليلته، وإذا صلى صلاة فإنه يوقن بأن هذه الصلاة قد تكون هي آخر صلاة يلقى بها ربه جل جلاله.
بينما الإنسان الذي ضعف إيمانه أو انعدم إيمانه باليوم الآخر فإنه -والعياذ بالله- يبتلى بطول الأمل، أما الموت فلا يخطر على باله، ولا يتذكره؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أكثروا من ذكر هادم اللذات )، فالإنسان دائماً يكثر من ذكر الموت، ويعلم أنه أقرب إليه من شراك نعله، وقد أجمع العقلاء من كل أمة على أن الموت لا يتقيد بسن ولا سبب ولا مرض.
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر
والله عز وجل جعل الموت قدراً مقدوراً وغيباً مستوراً عن العباد، لا يعلم ساعته إلا هو جل جلاله.
فالكافر يرى الآخرة بعيدة، بينما المؤمن يراها قريبة، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً[المعارج:6-7].
ثم ذكر ربنا جل جلاله بعضاً من أهوال ذلك اليوم، فقال: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ[المعارج:8]، أي: كالرصاص المذاب، أو كما قال بعضهم: كدردي الزيت الذي يتكور ويبقى في أسفله، وتجدون في القرآن قول الله عز وجل: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً[الطور:9]، وقول الله عز وجل: فَإِذَا انشَقَّتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ [الرحمن:37]، وكذلك يقول سبحانه: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً [الفرقان:25]، ويقول سبحانه: إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ [الانشقاق:1]، ويقول: إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ [الانفطار:1]، ويقول: وَفُتِحَتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً[النبأ:19]، ولا تعارض بين هذه المواضع كلها، يعني: مثل ما قال ربنا جل جلاله في بعض آيات القرآن بأن الإنسان مخلوق من تراب، وفي بعضها بأنه مخلوق من طين، وفي بعضها من حمأ مسنون، وفي بعضها بأنه مخلوق من صلصال كالفخار، وهذه كلها بيان عن الأطوار التي يتقلب فيها الإنسان، فالإنسان كان تراباً ثم صب على هذا التراب الماء فصار طيناً، ثم ترك هذا الطين حتى تغير فصار حمأ مسنوناً، ثم يبس فصار صلصالاً كالفخار، ثم بعد ذلك شكله الله عز وجل كيف شاء، وصوره كيف شاء، وعدل خلقته وشق سمعه وبصره بحوله وقوته، ثم نفخ فيه من روحه، ثم بعد ذلك تأتي رحلة الهدم، يعني: الإنسان إذا أراد أن يبني بناءً فإنه يبدأ من الأسفل، وما زال يمضي يمضي إلى أن يكتمل البناء، فإذا أراد أن يهدمه يبدأ من أعلى، فيكسر شيئاً فشيئاً، وهذا هو الإجراء الطبيعي، وإن كانوا الآن قد صاروا يضعون الديناميت في أسفل المبنى فينزل، لكنه أيضاً ينزل من أعلى إلى أسفل.
هكذا أيضاً إذا أراد الله عز وجل للإنسان أن تقوم قيامته فأول ما يبدأ به هو آخر ما انتهى به، فآخر ما هنالك نفخ الروح، فإذا قامت قيامتك فإن أول ما يبدأ به نزع الروح، تنزع هذه الروح من الإنسان ثم بعد ذلك يتحول، فيتحول إلى أن يعود إلى النقطة الأولى، وهي: أن يصير تراباً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب )، أي: إلا هذا العصعص الذي في أسفل العمود الفقري.
ربنا جل جلاله إذا ذكر في القرآن أن السماء تمور موراً، أو أنها تتشقق، أو أنها تنفطر، أو أنها تكون أبواباً، أو أنها تكون وردة كالدهان، فهذا كله بيان للأطوار التي تكون في يوم القيامة والأحوال التي تتقلب فيها هذه السماء.
ثم قال: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ[المعارج:9] أي: كالصوف، كما مضى معنا في سورة القارعة: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ[القارعة:5]، وفي قوله سبحانه: وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً[النبأ:20]، وفي قوله سبحانه: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ[النمل:88]، فهذه كلها أطوار.
قال عز وجل: وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [المعارج:10]، فمن كان في الدنيا لك صديق، تطلعه على سرك وتشركه في أمرك، فيوم القيامة لن تلتفت إليه ولن تهتم به، وهذا المعنى تكرر في القرآن، كقول ربنا جل جلاله: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[عبس:37]، وكما في قول ربنا جل جلاله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً[لقمان:33]، وكما في قوله سبحانه: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى[فاطر:18]، وكما في قوله سبحانه: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا[الحج:2]، فلن يهتم أحد بأحد.
ثم قال: يُبَصَّرُونَهُمْ[المعارج:11]، أي: يرونهم، والمعنى أنه يوم القيامة سيرى بعضنا بعضاً، ويعرف بعضنا بعضاً، لكن لن ينفع أحد أحداً، ولن يسأل أحد عن أحد، يَوَدُّ الْمُجْرِمُ[المعارج:11]، فاعل الإجرام ومقترف الخطيئة والذنب، لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ[المعارج:11]، أي: بأقرب الناس إليه، كما قال جل جلاله في وصف حال الكفار يومئذ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ[المائدة:35-37]، فهذا المجرم يودّ في ذلك اليوم لو يتخلص من العذاب، ولو كان يلقى العذاب مكانه أمه وأبوه وإخوانه وأزواجه وقبيلته وأنصاره، فهو يريد أن يفتدي من ذلك العذاب بكل ما يستطيع، يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ[المعارج:11]، الذين كان في الدنيا يحوطهم ويدفع عنهم ويتلقى الشرور دونهم.
ثم قال: وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ[المعارج:12]، صاحبته أي: زوجه، وأخيه الذي هو ابن أمه وأبيه، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ[المعارج:13]، الفصيلة هي: القبيلة والعشيرة، وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ[المعارج:14]، قال الله عز وجل: كَلاَّ[المعارج:15]، لن يفديه في ذلك اليوم أب ولا أخ ولا عم؛ ولذلك أبو طالب -الذي هو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي دخل معه في الشعب، وتحمل معه الجوع والحصار، لكنه لم ينطق بكلمة التوحيد- أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: ( في ضحضاح من النار، يوضع في أسفل قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه )، وكذلك أبو لهب الذي هو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، كما أخبر ربنا جل جلاله: سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ[المسد:3]، ففي ذلك اليوم لا تنفع القرابة ولا تنفع الصحبة.
قال: كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى[المعارج:15]، أي: إنها نار تتلظى وتتحرق وتتغيض لعقوبة هؤلاء المجرمين، نَزَّاعَةً لِلشَّوَى[المعارج:16]، قيل: الشوى: فروة الرأس، وقيل: الشوى: الجلد كله، وقيل: الشوى هي: المفاصل، اليدان والرجلان.. يعني: هذه النار من شدتها -والعياذ بالله- تنزع هذه الأعضاء عن مكانها.
تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى[المعارج:17-18]، أي: هذه النار يوم القيامة تدعو هؤلاء المجرمين، (مَنْ أَدْبَرَ) أي: أعطى دبره لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللحق الذي جاء به، مثل ما كانوا يقولون للنبي عليه الصلاة والسلام: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ[فصلت:5]، ومثل ما فعل قوم نوح عليه السلام، كلما دعاهم إلى الله عز وجل جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم، أي: تغطوا بثيابهم، لا يريدون أن يروا الحق ولا أن يستمعوا إليه، فالنار تدعو هؤلاء يوم القيامة.
تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ [المعارج:17]، أي: أعطى للرسول صلى الله عليه وسلم أياً كان دبره، وَتَوَلَّى [المعارج:17]، أي: ذهب وأقبل على دنيا ولم يلتفت إلى آخرته.
وَجَمَعَ[المعارج:18]، أي: جمع المال من حله وحرامه، فَأَوْعَى[المعارج:18] أي: جعله في الوعاء والوكاء، أوكى عليه وربط، روي عن أمنا عائشة رضي الله عنها: أنها كانت إذا سأل سائل، أو طرق الباب طارق، أمرت له عائشة رضي الله عنها بشيء، يعني أمرت جارية لها أو غلاماً بأن يأتي للسائل بشيء، فإذ جيء دعت من أمرته فنظرت فيه، يعني: نظرت في الشيء الذي يريد أن يعطيه لذلك السائل، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم مرة: ( يا عائشة أما تريدين أن يخرج من بيتك شيء إلا وقد علمت به، لا توعي، فيوعي الله عليك )، وفي لفظ: ( لا توكي، فيكوي الله عليك )، يعني: الإنسان الذي يعطي فإن الله عز وجل يعطيه، والإنسان الذي يضيق ويمنع فإن الله عز وجل يضيق عليه، كما جاء في الحديث: ( يا ابن آدم! أنفق ننفق عليك )، وكما قال سبحانه: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ[سبأ:39]، فمن وسع على عباد الله وسع الله عليه، ومن ضيق ضيق الله عليه.
إن أولى الناس بالتوسعة من ولاك الله أمرهم: الزوجة والعيال، فمن وسع عليهم وسع الله عليه، ومن ضيق عليهم ضيق الله عليه، والجزاء من جنس العمل.
أسأل الله أن يوسع علينا في الدنيا والآخرة! وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر