بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:
فقد مضى معنا خبر العبد الصالح الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إلى الله، ويشد أزر المرسلين الثلاثة حين قال: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [يس:20].
وذكر هذا الرجل المبارك مسوغات هذه الدعوة بأن هؤلاء الرسل لا يطلبون من الناس أجراً، ولا يسألونهم منفعة دنيوية، وهم في الوقت نفسه مهتدون، بارون، راشدون، صادقون، آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر، لم يعرف عنهم ما يدنس سيرتهم أو يلوث سمعتهم.
ثم بدأ يذكر لهم المسوغات التي تجعله يفرد ربه جل جلاله بالعبادة، وقال: وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:22]، يعني: أن الله عز وجل منه المبدأ وإليه المصير، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء.
وقوله: الَّذِي فَطَرَنِي[يس:22]، أي: خلقني أولاً، وهو الذي إليه المرجع والمآب.
ثم سألهم مستنكراً: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ [يس:23]، كيف أعبد من دون الله عز وجل أصناماً وأوثاناً؟! فلو أن الله جل في علاه أراد أن ينزل بي ضراً فهذه الآلهة لا تغني عني شيئاً، ولا تمنع عني ضراً ولا تكشف عني بأساً، وما يحصل منها إنقاذ، لو فعلت ذلك إني إذاً لفي ضلال مبين.
ثم أعلنها واضحة مدوية: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [يس:25]، يعني: ما كان يكتم إيمانه ولا كان يخفي إسلامه؛ بل أعلن على الملأ أنه مؤمن بالله وحده لا شريك له ولا رب سواه، فلما قال ذلك ما تحمل قومه؛ بل بادروا إلى قتله إما أنهم حرقوه، أو أنهم حفروا له ثم ردموا عليه، أو أنهم نشروه بالمنشار أو فعلوا به غير ذلك، المهم أنهم قتلوه، ومجرد ما فارقت الروح الجسد قيل له: ادْخُلْ الْجَنَّةَ[يس:26]، وصل إلى جنة عرضها السموات والأرض، فهذا الرجل تمنى أمنية، قال: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27]، يعني: يا ليت هؤلاء القوم المكذبين الضالين رأوا ما أعد الله لي في جنات النعيم وما أكرمني به في مستقر رحمته؛ من أجل أن يؤمنوا بالذي آمنت به ويهتدوا للذي هداني الله إليه.
ثم بين ربنا جل جلاله هوان العباد عليه إذا كفروا، فقال: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ [يس:28]، أي: ما احتاج ربنا جل جلاله أن يرسل عليهم جنوداً من السماء، وعدداً من الملائكة وإنما سلط عليهم ملكاً واحداً صاح صيحة تقطعت بها قلوبهم في أجوافهم وفزعوا لتلك الصيحة فصاروا جميعاً هلكى خامدين؛ قال تعالى: إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ [يس:29]، أي: أموات غير أحياء، فما أهون الخلق على الله إذا هم كفروا به، قال صلى الله عليه وسلم: ( من جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم لم يبال الله به في أي أودية الدنيا هلك )، وهذه سنة ربنا جل جلاله.
ولذلك أبرهة الحبشي لما أراد أن يهدم الكعبة وتكبر على الله، فالله عز وجل سلط عليه طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، وكذلك يأجوج ومأجوج الذين يظنون أنه لا أحد أقوى منهم، سلط الله عز وجل عليهم النغف، نوع من الدود يدخل في أنوفهم فيتركهم صرعى، وقل مثل ذلك في أناس أهلكهم الله بما افتخروا به، كمثل فرعون الذي قال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي[الزخرف:51]، فالله عز وجل جعل هذه الأنهار حتفه وهلاكه، كما قال سبحانه: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90]، وكذلك عاد الذين قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً[فصلت:15]، الله عز وجل سلط عليهم الريح، وثمود أرسل الله عليهم صاعقة.. وهكذا في سائر الأمم المكذبة، وقارون الذي افتخر بقصره وماله قال الله عز وجل: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81].
فأهلك الله تلك القرية المكذبة للرسل بصيحة واحدة، قال تعالى: إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ [يس:29].
وقوله تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ[يس:30] الحسرة: هي الندم الذي يلحق العبد عند فوات مطلوب أو حصول مرهوب، أي: إذا فاته شيء محبوب يرغب فيه أو حصل له شيء مخوف مرهوب يهرب منه، حين ذلك يصير حسيراً، أو يصير محسوراً، من الحسرة.
وقوله: يَا حَسْرَةً[يس:30]، منصوبة لأنها منادى نكرة، يا حسرة هذا أوانك فاحضري! هذا زمانك، ويَا حَسْرَةً[يس:30]، مثل ما قال ربنا: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ [الزمر:56].
وقوله: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ[يس:30]، من المتحسر؟ ومن المتحسر عليهم؟
قال الإمام أبو جعفر الطبري رحمه الله: هذا تحسر من العباد على أنفسهم؛ تندماً وتلهفاً بعدما رأوا العذاب، هم في الدنيا كانوا يكذبون، لكن يوم القيامة سيرون جهنم رأي عين؛ قال تعالى: إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً [الفرقان:12-13]، يدعون بالويل والثبور؛ تحسراً منهم على أنفسهم.
وقيل: بل هو من كلام الملائكة، فالملائكة يتحسرون على أولئك الكفرة الفجرة؛ ولذلك يسألونهم بعدما يرمون بهم في جهنم: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا[الملك:8-9]، وفي آية أخرى يقولون: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر:71].
وقيل: بل هو من كلام العبد الصالح الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، سيقول: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ[يس:30]، يتحسر على أولئك الذين عاندوا وكفروا فأوردهم الله جهنم وبئس الورد المورود.
وقيل: بل العباد هاهنا هم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، يتحسر أولئك الكفار أنهم كذبوا بهم.
قال تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [يس:30]، الله عز وجل يبين بأنه ما من أمة جاءها رسول إلا وقد حصل له استهزاء، والاستهزاء مأخوذ من الهز وهو السخرية والاستخفاف، كل أمة استهزأت برسولها، كما قال ربنا جل جلاله: وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الأنبياء:41]، وقال سبحانه: وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ [الرعد:32]، وقال سبحانه: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ[المؤمنون:44]، وقال أيضاً: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا[الأنعام:34]، وقال سبحانه: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [فاطر:4]، وقال أيضاً: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [فاطر:25]، وقال الله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [سبأ:34]، وقال أيضاً: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات:52].
ولذلك ربنا جل جلاله يبين في هذه الآية عموماً ما حصل للرسل جميعاً، قال الله عز وجل: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ[يس:30]، (ما) نافية، مِنْ رَسُولٍ[يس:30] (من رسول) نكرة في سياق النفي تفيد العموم، و(من) هنا زائدة للتوكيد، والمعنى: ما يأتيهم رسول إلا كانوا به يستهزئون، و(من) هذه قد تدخل على الفاعل، وقد تدخل على المفعول، كما في قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ[الأنبياء:25]، أي: وما أرسلنا من قبلك رسولاً، إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].
إذاً: لابد من وقوع الاستهزاء؛ ولذلك الإنسان الذي يدعو إلى الله على خطا الأنبياء والمرسلين إذا استهزئ به أو سخر منه أو استخف بحقه فإنه له أسوة وقدوة في أولئك القوم الكرام عليهم الصلاة والسلام.
وقد أجمع أهل العلم على أن الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم كفر مخرج من الملة، سواء كان هذا الاستهزاء بقول أو فعل، وسواء كان المستهزئ جاداً أم هازلاً؛ لأن الاستهزاء أذى، والله عز وجل قال: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:61]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ[الأحزاب:57]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا[البقرة:104]، وقال: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ[الأحزاب:53]، سواء كان الاستهزاء بقول أو فعل.
بمعنى: لو أن إنساناً عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سبه أو انتقصه أو ذمه، أو طعن في نسبه أو خلقه أو خلقته، أو عيره بشيء مما جرى له من العوارض البشرية كالنسيان أو المرض، أو ما أصابه في بعض الحروب من الجراحات والآلام.. هذا كله والعياذ بالله كفر، أو كان الاستهزاء به بالفعل، كما لو أن إنساناً سمع مقالة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو شيئاً من سيرته فغمز بعينه أو أخرج لسانه أو اختلج بوجهه.. أو نحو ذلك، وسواء كان جاداً أو هازلاً؛ لأن جماعة من المنافقين قالوا عن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام وأصحابه: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً وأكثر كلاماً وأجبن عند اللقاء؛ فنزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم بأن فلاناً وفلاناً وفلاناً قالوا كذا وكذا.. فجاءوا يعتذرون، يقولون: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ[التوبة:65].
فقال الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ[التوبة:65-66]، فالاستهزاء بالنبي عليه الصلاة والسلام كفر، وعلى هذا تتابعت فتاوى علماء الإسلام، فأفتى الإمام مالك رحمه الله بقتل من قال: إن رداء النبي صلى الله عليه وسلم وسخ، وأفتى الإمام أبو محمد القابسي بقتل إنسان قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: اليتيم، جمال أبي طالب ، وأفتى الإمام أبو محمد بن أبي زيد القيرواني بقتل إنسان كان مع جماعة، فهؤلاء الناس يتذاكرون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني يقولون: بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان أبيض مثلاً مشرباً بحمرة كث اللحية، في وجهه تدوير، أزج الحواجب بغير قرن، شثن الكفين، مسيح القدمين، دقيق المسربة، سواء البطن والصدر.. ونحو ذلك من الصفات، فمر بهم رجل دميم، أي: قبيح المنظر فقال هذا الرجل: صفة رسول الله في صفة هذا المار، فأفتى الإمام أبو محمد بن أبي زيد بقتله، قال: قبحه الله وقد كذب، ولا يخرج من قلب سليم الإيمان، لأن الكلام هذا ما يخرج من إنسان مؤمن أبداً، فقتل هذا الرجل، فلما زاحت عنه الأيدي صلب، واستدار إلى غير القبلة.
فانتقاص النبي عليه الصلاة والسلام كفر أكبر مخرج من الملة، وهذا الحكم يسري على جميع الأنبياء، فأي إنسان ينتقص أي نبي من الأنبياء فإنه يكفر ويقتل؛ لأن الانتقاص والاستهزاء صفة للكافر، فالكافر هو الذي يستهزئ بالأنبياء؛ ولذلك الله عز وجل قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95]، فنقرأ في القرآن بأن فرعون استهزأ بـموسى قال: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52]، ونقرأ بأن قوم إبراهيم استهزأوا فقالوا: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60]، فقولهم: يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ))، هذا نوع من الاستخفاف والاستهزاء، ونقرأ بأن قوم نوح استهزأوا بـنوح ، فقالوا: مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ[المؤمنون:24]، وكذلك لما وجدوه يصنع السفينة قالوا: يا نوح صرت نجاراً بعدما كنت نبياً؟! وأين الماء الذي ستجري عليه هذه السفينة؟! فقال لهم عليه السلام: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود:38]، وكذلك قوم هود سخروا منه قالوا: مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [المؤمنون:33]، وكفار قريش قالوا عن النبي عليه الصلاة والسلام: أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً [الفرقان:41]، وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31].
إذاً: الاستهزاء سمة للكفار، قال الله عز وجل: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [يس:30].
قال سبحانه: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ [يس:31]، أَلَمْ يَرَوْا))، الرؤية هنا بمعنى العلم، والرؤية رؤيتان: إما رؤية بصرية وإما رؤية قلبية، يعني: الله جل جلاله لما يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ [الفجر:6]، والنبي عليه الصلاة والسلام ما رأى بالباصرة ما فعل ربنا بعاد، وقوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1]، هذا كله يراد به الرؤية العلمية، الرؤية القلبية.
وهنا قال: أَلَمْ يَرَوْا[يس:31]، المقصود: كفار قريش، فكفار قريش ما سمعوا بما نزل بقوم هود وقوم صالح وأصحاب مدين والمؤتفكات، هذه كلها بلاد قريبة منهم.
قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا[يس:31]، (كم) هنا الخبرية التي تفيد الكثرة، أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ[يس:31]، القرون جمع قرن وهو الجيل، والرسول عليه الصلاة والسلام في حديث عمران بن حصين قال: ( خيركم قرني )، والمقصود بالقرن هنا: ليس ما اصطلح عليه الناس الآن أن القرن مائة عام.. لا؛ بل القرن: الجيل، ( خيركم قرني )، أي: الجيل الذي عاصر النبي صلى الله عليه وسلم ممن آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، ( ثم الذين يلونهم )، أي: جيل التابعين، الذين تتلمذوا على الصحابة، ( ثم الذين يلونهم )، وهم تابعو التابعين، رضوان الله على الجميع.
قال تعالى: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ [يس:31]، (أنهم) أي: كأنهم إليهم لا يرجعون.
قال الله عز وجل: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:32]، بالتشديد: لَمَّا))، هذه هي قراءة عاصم و ابن عامر و حمزة و ابن جماز .
و(لما): بمعنى إلا، وقرأ الباقون بالتخفيف وهم: نافع و ابن كثير المكي و أبي عمرو بن العلاء البصري : وإن كل لما جميع لدينا محضرون.
إن: المخففة من الثقيلة، ما: مزيدة للتوكيد، واللام هي الفارقة، والمعنى: وإنه كل لمحضرون، هذه القرون التي أهلكها ربنا جل جلاله، قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات.. كلهم سيرجعون ويحضرون بين يدي الله عز وجل ليحاسبهم على كفرهم واستهزائهم وضلالهم.
نقف عند هذا الحد، أسأل الله أن يهدينا سواء السبيل، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر