بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:
فيعدد الله نعمه على عباده، قال ربنا جل جلاله: وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس:33]، ثم قال بعد ذلك: وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ [يس:37]، وقال بعدها: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس:41]، وصلنا إلى قول ربنا جل جلاله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [يس:71]، وهذا الكلام تقريع وتوبيخ للمشركين الذين اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله، والذين عبدوا مع الله غيره وقالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى[الزمر:3]، يلفت ربنا جل جلاله أنظارهم ويوقظ قلوبهم، ويقول جل من قائل: أَوَلَمْ يَرَوْا[يس:71]، الرؤية هاهنا هي الرؤية القلبية، وإذا كان المراد بها الرؤية البصرية فالله عز وجل أنزلهم منزلة من لا يرى، وقد وصفهم الله بذلك حين قال: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171]، وقال تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:22-23].
قال تعالى: (( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ ))، خلقنا: أوجدنا وأبدعنا، مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا، المعنى: مما عملته أيدينا، وهاهنا نلاحظ بأن ربنا جل جلاله يعظم نفسه؛ فيقول: خَلَقْنَا))، ويقول: أَيْدِينَا))، ويقول: وَذَلَّلْنَاهَا[يس:72]، يشعر عباده بعظمته وقدرته.
وقوله: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا[يس:71]، هنا ذكر الأيدي تعييناً؛ دلالة على أن الله عز وجل فعل ذلك بقدرته، لم يكن له شريك ولا ظهير ولا معين ولا عضد، ما عاونه أحد في ذلك، كما قال في آية أخرى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ[الزمر:6]، ومثل ما قال سبحانه: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات:47]، فالله عز وجل تفرد بالخلق وحده، ما شاركه أحد، قال تعالى: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ[فاطر:3]، وقال سبحانه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الروم:40].
وقوله: فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [يس:71]، مالكون أي: مطيقون، يتصرفون فيها كيف شاءوا؛ فتجد البعير الكبير الضخم مذلل بيد طفل صغير يقوده، إن شاء أقامه وإن شاء أناخه؛ بل تجد القطار الطويل من الإبل كلها تسير بسير طفل صغير، الله عز وجل هو الذي هيأها وذللها.
وهذه الآية لفت ربنا جل جلاله الأنظار إليها في مواضع من كتابه كما في قوله في أوائل سورة النحل: وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:5-7]، وكما في قوله سبحانه: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ [غافر:79-81].
أولم ير هؤلاء المشركون ولم يتأملوا ويتفكروا أنا خلقنا لهم وأوجدنا وأبدعنا، مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً[يس:71]، هذه الدواب، فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ))، يتصرفون فيها كيف شاءوا.
وقوله: وَذَلَّلْنَاهَا [يس:72]، التذليل: جعل الشيء ذليلاً، وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ[يس:72]، وكلمة لهم: تفيد التمليك والتسخير، كما في قوله سبحانه: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، وكما في قوله سبحانه: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ[الجاثية:13].
وقوله: فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ [يس:72]، (ركوبهم) الركوبة والحمولة فعولة بمعنى مفعول، الركوبة بمعنى: المركوبة، والحلوبة بمعنى: المحلوبة، أي: يركبون على ظهورها فتنقلهم من مكان إلى مكان، وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [يس:72]، يأكلون من لحومها.
وقوله: وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ [يس:73]، لهم منافع أخرى سوى الركوب والحمل، كما قال ربنا جل جلاله: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ [النحل:80]، فهم يأكلون لحومها ويركبون ظهورها ويشربون لبنها ويستدفئون بشعورها وأوبارها وأصوافها؛ ولذلك في قول ربنا جل جلاله: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية:17]، قالوا: الدواب منها ما يركب، ومنها ما يحلب، ومنها ما يؤكل، ومنها ما ينقل على ظهره، فتحمل الأثقال، والإبل قد جمع الله فيها هذه الخصال الأربعة، فيحلب درها ويركب ظهرها ويؤكل لحمها، وكذلك.. وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ[النحل:7].
وقوله: وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ [يس:73]، يشربون من ألبانها، وكذلك من أبوالها للتداوي، كما في الحديث الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه: عن أنس بن مالك رضي الله عنه ( أن قوماً من عكل أو عرينة، -وفي بعض الألفاظ من عكل وعرينة- جاءوا إلى المدينة فاستوخموها -استوخموها أي: تغير عليهم هواؤها وأصابهم بعض الداء- فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! أبغنا -رسلاً، رسلاً أي: إبلاً تحلب- فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة )، وفي بعض الألفاظ: ( أنها كانت خمس عشرة من النوق، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها، فشربوا فصحوا )، يعني: رجعت إليهم عافيتهم، ( فارتدوا وقتلوا الراعي وساقوا الإبل؛ فجاء الراعي الآخر وكان اسمه يسار ، جاء فزعاً يصرخ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! قد قتلوا صاحبي، فأرسل النبي عليه الصلاة والسلام في طلب أولئك الأعراب فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم، والسمل هو: الفقء؛ لأنهم فعلوا ذلك بالراعي وألقوا في حر الشمس يستسقون فلا يسقون، وأنزل الله عز وجل قوله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33] ).
والشاهد أن النبي عليه الصلاة والسلام أمرهم أن يشربوا من ألبان تلك الإبل وأبوالها.
وقد ذهب الإمام مالك والإمام أحمد إلى طهارة أبوال الإبل، ويقاس عليها كل مأكول اللحم، فكل ما كان يؤكل لحمه من الدواب والطيور، فإن بوله طاهر، وكذلك روثه طاهر، يعني: لو أن الإنسان عنده خروف أو عنده غنمه فبالت على ثيابه، يمكنه أن يصلي بها ولا حرج، ومثله أيضاً لو كنت جالساً في المسجد فراثت عليك بعض الطيور فلا يلزمك أن تغسل هذا الروث لأنها طاهرة، هذا إذا كانت من مأكول اللحم، أما ما لم يكن مأكول اللحم كذوات الناب من السباع وذوات المخلب من الطير فهي على الأصل بولها ورجيعها نجس.
فمن جملة المنافع أن أبوال الإبل يتداوى بها، ولبعض الموفقين من العلماء والصيادلة أبحاث في ذلك أثبتوا من خلالها أن أبوال الإبل فيها شفاء من بعض الأدواء.
قال الله عز وجل: وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ[يس:73]، ثم وجه هذا السؤال المر: أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس:73]، أفلا يشكرون الخالق الذي أنعم عليهم بهذه النعم كلها، ويخلصون له ويحمدونه جل جلاله، وهذا الشكر قد أمرنا الله به، إذ لا يكفي أن تكون مسلماً وكفى، وتجحد نعمة الله، بل لا بد من أن تشكره بالليل والنهار، قال الله عز وجل: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]، وقال سبحانه: فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ [الأعراف:144]، وبين سبحانه أن هذه العبادة لا يقوم بها إلا القليل فقال: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ [سبأ:13]، ورغبنا في الشكر بأنه مؤذن بالزيادة: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ[إبراهيم:7].
والشكر كما قال أهل العلم هو في اللغة: الظهور، يقال: دابة شكور، إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف، فهي تعطى علفاً قليلاً وتبدن وتسمن، فيقال: هذه دابة شكور.
وأما في اصطلاح العلماء فالشكر هو: ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناء واعترافاً، وعلى قلبه شهوداً ومحبة، وعلى جوارحه انقياداً وطاعة، وبيان ذلك أن الشكر مبناه على أمور خمسة:
أولها: خضوع الشاكر للمشكور، وثانيها: محبته له، وثالثها: اعترافه بنعمته، ورابعها: ثناؤه عليه بها، وخامسها: ألا يستعملها فيما يكره، ألا يستعمل هذه النعمة فيما يكره المشكور جل جلاله.
إذاً: المطلوب منا: أن نخضع لربنا جل جلاله ونذل له؛ لأن نعمه علينا لا تعد ولا تحصى، ومطلوب منا كذلك: أن نحب ربنا جل جلاله، ومن علامات محبتنا إياه طاعة أمره واجتناب نهيه.
ومطلوب منا أيضاً: أن نعترف بنعمه ولا نجحدها، كما قال ربنا: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ[النحل:53].
ومطلوب منا: أن نثني عليه بها، فنكثر من الحمد، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: ( اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك؛ فلك الحمد ولك الشكر )، وأخبرنا أن من قالها فقد أدى شكر يومه، ومن قالها إذا أمسى فقد أدى شكر ليلته.
وأيضاً من الشكر: ألا تستعمل نعمة الله فيما يكره؛ فالله عز وجل أعطاك هذه الباصرة من أجل أن تستعملها في طاعته، تنظر بها في كونه، تنظر بها في كلامه جل جلاله، وتستعملها في طاعته بأن تتعلم الحلال والحرام، لا أن تستعملها فيما يكرهه جل جلاله؛ ولذلك جاء في الحديث: ( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها )، والعلماء رحمهم الله قالوا في شرح هذا الحديث: كنت سمعه وبصره ويده ورجله على تقدير مضاف، كنت حافظ سمعه وبصره ويده ورجله.
وقيل: كان في إيثاره رضاي على شهوات نفسه كأني صرت له بمنزلة سمعه وبصره ويده ورجله.
وقيل: أنه لا ينظر إلا لما يحبه الله، ولا يسمع إلا ما يحبه الله، ولا يبطش إلا فيما يحبه الله، ولا يمشي إلا بما يحبه الله.
وقيل: بل المراد في الإعانة على العدو، كان الله سمعه وبصره ويده ورجله؛ فهو يبطش بقوة الله، ويمشي بقوة الله، ويسمع ويبصر بقوة الله جل في علاه.
الشكر صفة عباد الله الصالحين؛ ولذلك لما أثنى ربنا على نوح قال: إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً [الإسراء:3]، ولما أثنى على إبراهيم أخبر بأنه: كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ[النحل:120-121]، وأخبرنا عن سليمان عليه السلام أنه قال: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19]، ولما رأى عرش بلقيس بين يديه قال: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي[النمل:40]، ما قال: بقوتي ولا بعلمي، لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:40].
وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أشكر الناس، قام من الليل حتى تفطرت قدماه، وقال: ( أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً )، وكان من شكره لنعمة ربه جل جلاله أنه قال: ( عرض علي ربي أن يحول لي بطحاء مكة ذهباً فقلت: لا، بل أجوع يوماً فأصبر، وأشبع يوماً فأشكر ).
ومن شكر الله: أن نشكر خلقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يشكر الله من لا يشكر الناس )، ولو أن إنساناً أحسن إليك فمن الدين أن تشكره، قال صلى الله عليه وسلم: ( لا يشكر الله من لا يشكر الناس؛ فمن صنع إليكم معروفاً فكافئوه؛ فإن لم تجدوا ما تكافئونه به فادعوا الله له حتى تروا أنكم قد كافأتموه )، وقال عليه الصلاة والسلام: ( ومن صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء ).
ولذلك مما يديم الألفة في الحياة الزوجية أن الزوج يشكر الزوجة، والزوجة تشكر الزوج، فلو أنها صنعت لك طعاماً أو هيأت لك فراشاً أو غسلت لك ثياباً أو صنعت إليك خيراً، فعليك تشكرها وتثني عليها، وتقول: جزاك الله خيراً، أحسن الله إليك.. وإذا أكلت من طعامها قل - وهي تسمع -: اللهم أطعم من أطعمني واسق من سقاني.. ونحو ذلك من الكلام.
وأيضاً الزوجة إذا صنع إليها الزوج معروفاً فواجب عليها أن تشكره، وتثني عليه، ولذلك لما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن النساء هم أكثر أهل النار، ذكر لذلك سببين:
السبب الأول: كثرة اللعن، والسبب الثاني: كفران العشير.
قال صلى الله عليه وسلم: ( لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك سوءاً، قالت: ما رأيت منك خيراً قط! ) تقول لك: أصلك ما فيك فائدة! فمن أجل هذا كن أكثر أهل النار عياذاً بالله.
ولذلك ربنا جل جلاله يسأل: أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس:35]، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: ( يا أبا هريرة كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قنعاً تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب )؛ فعلم النبي عليه الصلاة والسلام أبا هريرة أن من الشكر القناعة، أن يقنع الإنسان بما آتاه الله، سواء كان من المال، أو من الذرية، أو من الخلقة، أو من الخلق.. فعلى الإنسان أن يقنع ويحمد الله على نعمته.
ولذلك أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ننظر إلى من هو فوقنا؛ بل ننظر إلى من هو أسفل منا، وقال: ( فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم ).
لكن ماذا صنع هؤلاء المشركون الكافرون؟ قال الله عز وجل: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ [يس:74]، هؤلاء الذين خفت عقولهم وفسدت قلوبهم، وكانت تصوراتهم خاطئة كاذبة، اتخذوا من دون الله معبودات.
وسمي الإله إلهاً لأنه مألوه؛ أي: معبود، كما قال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ[الزخرف:84]، أي: معبود، وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ[الزخرف:84]، وقوم فرعون قالوا لـفرعون: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ[الأعراف:127]، أي: معبوداتك التي تعبدها، فـفرعون قبل أن يدعي الألوهية، وقبل أن يقول: أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى [النازعات:24]، هو نفسه كان يعبد الأصنام، لكنه ترقى! فبعدما كان عابداً صار معبوداً، فكان عابداً بالباطل وصار معبوداً بالباطل.
فالله عز وجل يقول: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً[يس:74]، اللات والعزى ومناة وهبل وذا الخلصة، وغيرها من الأصنام، لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ [يس:74]، أي: لينصروا، فقد كانوا يعتقدون بأن هذه الآلهة تجلب النفع وتدفع الضر، ثم بعد ذلك يوم القيامة ستشفع لهم لو كان ثمت بعث؛ قال الله عز وجل: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ[يونس:18].
قال الله عز وجل: لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ [يس:75]، أي: لا يقدرون، والنصر هذا يتوقف على أمرين:
الأمر الأول: الاستطاعة، والأمر الثاني: الإرادة؛ فمثلاً لو أن لصاً نزل في البيت - أجارني الله وإياكم - فالزوجة لا تنصرك لأنها لا تستطيع، كما قيل: نصرها بكاء وبرها سرقة! المرأة إذا أرادت أن تنصر تنصرك بالبكاء، وإذا أرادت أن تبر أباها تسرق من زوجها! هذا كلام العرب الأولين، نصرها بكاء وبرها سرقة!
وكذلك أحياناً قد تجد إنساناً يضرب أمامك، وأنت تستطيع نصره لكنك لا تريد؛ فلابد من استطاعة وإرادة.
فالله عز وجل قال: لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ[يس:75]، وفي آية أخرى قال: وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ [الأعراف:192]، يعني: ليس هناك استطاعة ولا إرادة، حتى لأنفسها! قال الله عز وجل: وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ[الحج:73]، فهذه الأصنام كانوا يصبون عليها العسل وكانوا يضعون عندها اللحوم، كما قال ربنا: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا[الأنعام:136]، كان الذباب يأتي فيأكل من ذلك العسل المصبوب على تلك الأصنام، وهي لا تستطيع أن تفعل شيئاً.
فالله عز وجل يقول: لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ[يس:75]، هذه الأصنام ما تستطيع أن تنصر هؤلاء العابدين.
ثم قال: وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ [يس:75]، للمفسرين في ذلك وجهان:
الوجه الأول: وَهُمْ))، أي: الأصنام، لَهُمْ))، أي: لعابديها، جُندٌ مُحْضَرُونَ ))، أي: يوم القيامة، يؤتى بهذه المعبودات فتكون مع عابديها في جهنم، ويشهد لهذا قول ربنا: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98]، العابد والمعبود في جهنم، اللهم إلا إذا كان قد عبد وهو بريء، ما دعا الناس لذلك، كمثل المسيح عليه السلام ما دعا الناس، ما قال: اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ[المائدة:116]؛ ولذلك يتبرأ يوم القيامة: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ[المائدة:117]، وكذلك الملائكة عبدوا، فيُسئلون يوم القيامة: أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ:40]، قالوا: سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:41]، يتبرءون ممن عبدوهم، وكذلك بعض الصالحين عبدوا من دون الله وهم لذلك كارهون ومنه متبرئون.
أما من عبد من دون الله وهو راض بذلك مقر له فيلعن بعضهم بعضاً ويكفر بعضهم ببعض، فهذه الآية، كما قال ربنا جل جلاله: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [العنكبوت:25].
قال الله عز وجل: مُحْضَرُونَ [يس:75]، أي: معهم في جهنم، هذا تفسير، وقد قال به مجاهد أبو الحجاج المكي ، تلميذ ابن عباس رضي الله عن الجميع.
الوجه الثاني: قال قتادة : وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ [يس:75]، وَهُمْ))، أي: المشركون، لَهُمْ))، للأصنام، جُندٌ مُحْضَرُونَ))، أي: يحوطونها ويدفعون عنها ويمنعون وصول الأذى إليها، ويشهد لهذا ما ذكر قبل قليل، بأنهم كانوا إذا ذبحوا الأنعام يجعلون شيئاً لله وشيئاً للأصنام؛ فلو جاء طير فأخذ شيئاً مما لله فوضعه في نصيب الأصنام قالوا: الله غني عن هذا، وإذا أخذ شيئاً من نصيب الأصنام ووضعه في نصيب الله فإنهم يردونه؛ فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ[الأنعام:136]، هذا صنيعهم.
ثم وجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: فَلا يَحْزُنْكَ [يس:76]، وقرأ نافع وحده: فلا يحزنك قولهم، فَلا يَحْزُنْكَ))، من حزن يحزن، أما: (فلا يحزنك)، من أحزن يحزن.
وقوله: قَوْلُهُمْ[يس:76]، قولهم هو: شاعر، ساحر، كاهن، مجنون، تتنزل عليه أساطير الأولين، قالوا: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ[النحل:103]، وقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء:90]، إلى آخر تلك الأباطيل التي كانوا يطلقونها؛ لكن الله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا تحزن، فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ[يس:76]، ونظير ذلك: قول الله عز وجل: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل:127]، وقوله سبحانه: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ[فاطر:8]، وكذلك قوله جل جلاله: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا[الأنعام:34]، بعدما قال له: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33].
ثم ختم الآية بتهديد هؤلاء: إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [يس:76]، فإساءاتكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومؤامراتكم عليه، وإسراركم البطش به وإيقاع الأذى به، الله عز وجل مطلع على هذا كله محيط به عالم، وهو قادر على أن يبطش بكم، وأن يأخذكم أخذ عزيز مقتدر.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر