الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضاء نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى المهاجرين والأنصار.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.
أما بعد:
فبداية من هذا الدرس -إن شاء الله- نشرع في ذكر الأحكام المتعلقة بفريضة الصيام، نسأل الله أن يبلغنا أيامه، وأن يعيننا على صيامه وقيامه، فكما أن المسلم مطلوب منه أن يتعلم أحكام الطهارة والصلاة فكذلك مطلوب منه أن يتعلم أحكام الصيام؛ لأن الصيام من الفروض العينية التي تلزم كل واحد منا ذكراً كان أو أنثى؛ ولذلك لا بد من معرفة هذه الأحكام، وأول المسائل التي تذكر في هذا الباب: تعريف الصيام.
الصيام في اللغة: الإمساك، ومنه قول العرب: صامت عليه الأرض، إذا أمسكته وأخفته، وصامت الأرض على ما في باطنها من المعدن، أي: أمسكته وأخفته، وكذلك كل إمساك فهو صيام، قالت مريم عليها السلام مخاطبه قومها: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا[مريم:26]، أي: إمساكاً عن الكلام؛ بدلالة قولها: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم:26].
وأما الصيام في شرع الله عز وجل فهو: التعبد لله بالإمساك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. ولا يشرع في ديننا التعبد لله بالإمساك عن الكلام، ولا يشرع في ديننا التعبد لله بالقيام في الشمس، ولا يشرع في ديننا كذلك أن يتعبد الإنسان لله عز وجل بالإمساك عن الطعام والشراب بعد غروب الشمس؛ ( ولذلك لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً قائماً في الشمس قال: ما باله؟ قالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يصوم ولا يجلس، ولا يستظل ولا يتكلم )، نذر لله عز وجل أموراً أربعة: نذر صياماً، وقياماً في الشمس، وإمساكاً عن الكلام، وألا يجلس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مروه فليجلس، وليستظل، وليتكلم، وليتم صومه، مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ[النساء:147] )، فهذه الأمور التي نذرها لا يشرع منها إلا شيء واحد وهو الصيام في الوقت المشروع ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
ولذلك نقول في الصيام: هو التعبد لله بالإمساك، وإلا قد يمسك الإنسان عن الطعام والشراب لا بنية التعبد، مثلاً لو أن إنساناً عنده عملية جراحية، فإن الطبيب يقول له: لا تأكل، ولا تشرب شيئاً من ساعة كذا إلى ساعة كذا، فهل هو متعبد؟ ليس متعبداً، ولذلك نقول: الصيام هو: التعبد لله بالإمساك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات في الوقت المشروع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
وما بعد غروب الشمس فلو أن الإنسان أمسك فإنه يكون مذموماً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر )، وقال: ( نحن معاشر الأنبياء أمرنا بثلاث: بتعجيل فطورنا، وتأخير سحورنا، ووضع أيماننا على مياسرنا في الصلاة )، وهو عليه الصلاة والسلام كان يواصل، فكان يصوم ثم إذا غربت الشمس لا يطعم شيئاً، ولا يشرب شيئاً، ويستمر صائماً إلى اليوم الذي يليه، ولربما يواصل أسبوعاً كاملاً لا طعام ولا شراب، فلما أراد بعض الصحابة أن يحاكوه نهاهم صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ( يا رسول الله! إنك تواصل، قال: إني لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني )، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يجد من لذة العبادة وحلاوة المناجاة ما يشغله عن الطعام والشراب.
والصيام فرض بالنص والإجماع، فالنص قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] بمعنى فرض، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( بني الإسلام على خمس )، وعد من بينها صوم رمضان.
وأما مرتبته من الدين، فهو ركن بإجماع المسلمين، فصيام رمضان أحد الأركان الخمسة التي لا يتم الإسلام إلا بها.
وهذا الصيام لو أن سائلاً قال: ما الحكمة منه؟ فقولوا له: إن الله عز وجل يختبر عباده بما شاء، فلربما يختبر عباده بعبادة بدنية، ولربما يختبرهم بعبادة مالية، ولربما يختبرهم بعبادة مركبة من مال وبدن، فهناك بعض العبادات البدنية، كالصلاة مثلاً، فالصلاة عبادة بدنية، وقد يبذل فيها المال أحياناً، كأن يشتري الإنسان ماءً ليتوضأ به، أو يشتري ثياباً يستر بها عورته، وهي من شروط الصلاة، ولكنها تبعها، فلو لم يجد ماءً تصح صلاته إذا تيمم، وإذا لم يجد ماءً ولا ما يتيمم به يصلي بغير طهور، ولو أنه لم يجد ثياباً يستر عورته، فلا يتركها، ولكن يصلي ولو كان عارياً، فالمقصود بأن الصلاة عبادة بدنية، وكذلك الصيام عبادة بدنية، والزكاة عبادة مالية، والحج لا بد فيها من مال وبدن.
والحكمة من هذا أن الله عز وجل ينوع هذه العبادات ليختبر عباده، من الذي يمتثل تعبداً لله، ومن الذي يمتثل تبعاً لهواه؛ لأن بعض الناس قد يهون عليه -مثلاً- أن يصلي ألف ركعة، ولا يهون عليه أن يبذل درهماً، وبعض الناس قد يهون عليه أن يبذل ألف درهم ولا يهون عليه أن يصلي ركعة، هذا الأمر موجود، والناس يقولون: فلان من الناس رجل باذل، رجل معطاء، رجل كريم، ينفق على الفقراء والمساكين، لكن للأسف لا يصلي، ومعنى ذلك أنها فلتات من وساوسه فإنه يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرماً، وإنما هو إنسان تبع لهواه.
أما عبد الله حقاً فهو ينظر ماذا يريد الله منه، إن كان الله يريد منه صلاة صلى، وإن كان يريد منه بذلاً للمال أو للطعام أو للجاه أو للعلم أو غيره بذل، وإن كان الله يريد منه صياماً صام، ولذلك قال علماؤنا: إن الله عز وجل أحياناً يتعبدنا ببذل المحبوب، وأحياناً يتعبدنا بالكف عن المحبوب، أو ببذله، فأحب شيء إلى الناس هو المال، كما قال الله عز وجل: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [آل عمران:14]، وقال: إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ[العاديات:6-8]، والخير: هو المال، فيحب المال، والله عز وجل يتعبده بأن يبذل هذا المحبوب، وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [البقرة:177]، وأحياناً يتعبده بالكف عن المحبوب، مثلاً لو أن الواحد منا في هذه الأيام في شدة الحر، وفي نحر الظهيرة، وقد جف ريقه في فمه، أحب شيءٍ إليه الماء البارد، فالله عز وجل يتعبدنا في رمضان بالكف عن هذا المحبوب، فهذا الشيء الذي تحبه، يقول الله عز وجل لك: لا تقربه، لا تشرب، أنت جائع نعم لكن لا تأكل، أنت تشتهي النساء نعم، لكن لا تقرب النساء، فيتعبدنا أحياناً ببذل المحبوب، وأحياناً بالكف عن المحبوب.
متى فرض صيام رمضان؟
بإجماع المسلمين كان فرض صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة، في شعبان، أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد صام تسعة رمضانات، إلى أن توفاه الله عز وجل.
وكان فرض الصيام على التدريج؛ لأن شريعتنا أظهر سماتها ثلاث:
السمة الأولى: التدرج في التشريع، السمة الثانية: قلة التكاليف، السمة الثالثة: رفع الحرج.
قلة التكاليف ومنها الصلوات -مثلاً- ففي أربع وعشرين ساعة ليست سوى خمس صلوات موزعة توزيعاً عادلاً، عند طلوع الفجر الصادق، وعند زوال الشمس، فإذا صار ظل كل شيء مثله، وإذا غربت الشمس، وإذا غاب الشفق، وبعد ذلك تستريح، وهكذا من اليوم الذي يليه، ومجموع ركعاتها سبع عشرة ركعة، وليس فيها مشقة تخرج عن الوسع والطاقة.
والسنة اثنا عشر شهراً، ما فرض الله علينا سوى صيام شهر واحد.
والحج ليس واجباً سوى مرة في العمر؛ ولذلك تجدون بعض العبادات يومية، كالصلاة، وبعض العبادات حولية، كالصيام والزكاة، وبعض العبادات عمرية كالحج والعمرة، فيكفيك أن تحج مرة واحدة أو أن تعتمر مرة واحدة، فقلة التكاليف في الشريعة ظاهرة.
أما من ناحية رفع الحرج، فيقول الله: يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، فأحياناً تخفف العبادة فبدل أربع ركعات تقصر فتكون ركعتين، وفي الطهارة: بدلاً من الوضوء التيمم، وبدلاً من الغسل التيمم، ومسح على الخفين، ومسح على الجوربين، ومسح على الجبيرة، ومسح على العصابة.. ونحو ذلك، وقد تلغى العبادة فمثلاً الحائض ليس عليها صلاة لا أداء ولا قضاء، وكذلك الشيخ الهرم الذي بلغ من الكبر عتياً يصوم ما استطاع الصيام، ويطعم ما استطاع الإطعام، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[البقرة:286]؛ ولذلك قالوا: رفع الحرج في شريعتنا فيه التخفيف والإنقاص، وفيه التقديم، وفيه التأخير، وفيه الإبدال، وفيه الإلغاء، وفيه الترخيص، وفيه التغيير.. كل هذا موجود في شريعتنا، فأحياناً العبادة تتغير صفتها، مثل صلاة الخوف مثلاً، فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239].
ومن سمات التشريع عندنا: التدرج، فالله عز وجل لما أراد أن يحرم على الناس الخمر تدرج بهم، فقال الله عز وجل: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [النحل:67]، فبين أن السكر ليس رزقاً حسناً، ثم بعد ذلك قال: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، فلما فهموا ذلك قال لهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43]، ثم بعد ذلك قال: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، فتدرج، ومثله كذلك في الربا، قال الله عز وجل: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ [الروم:39]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً[آل عمران:130]، ثم جاءت الآية الباتة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278-279]، والصلاة أول ما فرضت ركعتين.. ركعتين، ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، فأقرت في صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر، فصار عندنا ثلاث صلوات تصلى أربعاً، وعندنا صلاة تصلى ثلاثاً، وبقيت صلاة الصبح ركعتين، فهذه سمات ثلاث.
وأما بالنسبة للصيام فقد كان المفروض في أول الإسلام صيام عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، ثم بعد ذلك فرض الله صيام رمضان على التخيير، فمن شاء صام ومن شاء أطعم، فالذي عنده مال وما أراد أن يصوم فله أن يأكل، لكن مكان أكله يطعم مسكيناً، قال الله عز وجل: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]، ثم جاء الأمر الجازم للكل بالصوم، قال الله عز وجل: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، فكان النسخ بالأثقل، فأول ما فرض صيام عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، وبعد ذلك صار شهراً كاملاً لكن على التخيير، ثم بعد ذلك صار أمراً جازماً للكل.
وهناك نسخ للأخف، فإن الناس في أول الأمر كان قد أذن لهم أن يطعموا إذا غربت الشمس، ولهم أن يأكلوا ويشربوا ما شاء الله مالم يناموا، فلك أن تأكل وتشرب مالم تنم، فإذا نمت فلا يحق لك أن تستيقظ بعد ذلك في أثناء الليل فتأكل مرة ثانية، فنحن الآن نأكل -مثلاً- في رمضان وننام، ثم نقوم قبل الفجر فمنا من يشرب لبناً، ومنا من يطعم رقاقاً، ومنا من يأكل ملوَّحة والعياذ بالله! ومنا من يكثر من أنواع مختلفة وهكذا، وكان هذا في أول الإسلام ممنوعاً، وإنما تأكل وتشرب إلى أن تنام، فإذا نمت فلا يحل لك أن تأكل، فجاء أحد الصحابة يقال له صرمة بن قيس رضي الله عنه فصلى المغرب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء إلى بيته، وبينما زوجه تهيئ طعاماً غلبته عيناه فنام قبل أن يأكل، فقالت زوجته بعد ما أتت بالطعام: أنمت؟ يا هنتاه! كلمة تفجع وتوجع، فأصبح رضي الله عنه صائماً، فلما انتصف النهار أغشي عليه، والمدينة شديدة الحر، فنزل التخفيف في قول الله عز وجل: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187] إلى أن قال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، فصار هناك تدرج في فرض الصيام من أجل أن يتهيأ الناس للقبول إلى أن استقر التشريع في طوره الأخير شريعة دائمة، فلا تتغير إلى يوم القيامة، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3].
ويوجد الآن بعض المخرفين يقولون: شريعة الإسلام شريعة متطورة، وهي كلمة حق أريد بها باطل، يعني كلمة حق من ناحية أن شريعة الإسلام تصلح للحكم مع اختلاف الزمان والمكان، وتعدد الأعراف والعادات، لكن هم لا يريدون ذلك، وإنما يريدون أن يدسوا أنوفهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال، حتى دعا بعضم إلى تغيير أنصبة المواريث وتغيير مقادير الزكاة، وبعض الملاحدة دعا إلى ترك الصيام؛ لأن الصيام يعطل الإنتاج بزعمه، إلى غير ذلك من الترهات والأباطيل.
إذا علم ذلك فالواجب أن نعلم أن الصيام من أرقى العبادات، وأعظم الطاعات، وأفضل القربات، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أن رجلاً سأله قال: يا رسول الله! دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار.. )، وأوجز، ( قال: عليك بالصوم فإنه لا عدل له )، أي: لا مثيل له، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه )، وثبت عنه أنه قال: ( من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه من النار سبعين خريفاً )، وثبت عنه أنه قال: ( الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربي! منعته طعامه وشرابه فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي ربي! منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعانه )، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الصيام جنة )، أي: وقاية من النار، ووقاية من الآثام، ( فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم إني صائم، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، وإن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون، فإذا دخلوا أغلق دونهم )، فهذه كلها أحاديث ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل الصيام، وكان صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان يخطب الناس، كما روى ذلك ابن خزيمة من حديث سلمان رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: ( يا أيها الناس! قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، قد جعل الله صيامه فريضة وقيامه تطوعاً، من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر جزاؤه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد في رزق المؤمن فيه، من فطر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه وعتقاً لرقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء )، هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك رمضان شهر كثير خيره، عظيم بره، وحري بكل مسلم أن يفرح كلما اقترب رمضان، والمسلم الذي يريد أن يدخر شيئاً لآخرته كلما اقترب رمضان لا ينزعج، فإنما هذا حال من في قلوبهم مرض، كلما اقترب رمضان ضاقت صدورهم، وتأزمت حالتهم، خاصة من كانوا عاكفين على الشهوات، كما قال الشهواني السكير:
إذا العشرون من شعبان ولت فواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بكاسات صغار فإن الوقت ضاق عن الصغار
يقول: اشرب الخمر بكاسات كبيرة؛ من أجل يدخر لرمضان فيكون عنده مخزون من الخمر، والله عز وجل لا حاجة له أصلاً في صيامه، فمبنى الصيام على الإيمان والاحتساب.
أسأل الله عز وجل أن يبلغنا رمضان، وأن يعيننا على الصيام والقيام، وأن يوفقنا لصالح الأعمال، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر