بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:
فتقدم معنا الكلام أن إنساناً لو قال لآخر: يا زانية بالهاء الفارقة بين المذكر والمؤنث أنه يقام عليه الحد؛ لأنه إما أن يكون جاهلاً بلغة العرب، فهذا ظاهر في أنه أراد القذف، وإما أن يكون عالماً بها وحينئذٍ فهو يعلم بأن العرب قد تطلق المذكر على المؤنث والعكس، ومنه قول الله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [النحل:14]، والمعنى تلبسنها، فإن الحلية لا يلبسها الرجال.
وتقدم معنا قول حسان عليه من الله الرضوان:
منع النوم بالعشاء الهموم وخيال إذا تغار النجوم
إلى آخر ما قال رضي الله عنه وأرضاه.
وتقدمت مسألة فيمن رمى مشركاً قد أسلم، فلو أن إنساناً كان على الشرك ثم أسلم، فرماه مسلم فقال له: زنيت، أو قال له: يا ناكح أمه، أو يا ناكح أخته فيما لو كان مجوسياً، فإنه لو رماه بذلك حال الشرك فلا شيء عليه، ولو رماه بعد إسلامه فإنه محدود، وهذان فرعان لا خلاف عليهما، أما لو رماه مطلقاً ولم يحدد هل كان ذلك في أيام شركه أو بعد إسلامه فإنه كذلك يحد.
ثم تعرضنا لمسألة من رمى صغيراً لم يبلغ الحلم، أو صغيرةً لا يتأتى وطؤها بالزنا، فهل يقام عليه الحد أو لا يقام؟ وسبق التفصيل فيها، وهذا الدرس سيكون مسك الختام في الكلام عن هاتين الآيتين الكريمتين.
المسألة الأولى: من قذف رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمه فقد أجمع أهل العلم على أن ذلك ردة وخروج عن دين الإسلام، وأنه يجب قتله، ومن رمى سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه بالفاحشة، أو رمى أمه فلا خلاف في أن هذا كفر؛ لأن الأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام وعلى رأسهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هم أوسط الناس نسباً، وأطهرهم شرفاً، وهم أولى الناس بأن يوصفوا بالصدق والأمانة والعفاف والصلة، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولذلك من رمى النبي عليه الصلاة والسلام، أو قذف أمه فلا خلاف في أنه خارج من دين الإسلام، وأنه يجب قتله، فلا يقام عليه مجرد الحد بالجلد، وإنما يقتل ردةً.
واختلف أهل العلم فيما لو تاب، وقال: أتوب إلى الله عز وجل وأستغفره، أنا مخطئ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنه عليه الصلاة والسلام أطهر الناس عرضاً، وأسلمهم نسباً، ونحو ذلك، يعني: أظهر التوبة والبراءة، فهل يقتل أو لا يقتل؟ فبعض أهل العلم قالوا: لا تنفعه توبته قضاءً، لكن تنفعه ديانة عند الله؛ لأنه قذف النبي صلى الله عليه وسلم وهو ميت، ولا يملك أن يعفو عليه الصلاة والسلام، ثم إن هذه المعرة التي ألحقها به أصابت الأمة كلها، فمن أساء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فإساءته تلحق كل مسلم، ولذلك قالوا: توبته لا تنفعه قضاءً.
وقال آخرون: بأن التوبة تنفعه فلا يقتل؛ لعموم الأدلة القاضية بأن الإنسان إذا تاب من أعظم أنواع الكفر فإن توبته تنفعه، قال الله عز وجل: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]، وفي حديث أسامة رضي الله عنه لما كان في معركة من المعارك، ( ورفع سيفه على رجل من المشركين، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله فقتله أسامة رضي الله عنه، ثم لما حكى ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال له عليه الصلاة والسلام: أقتلته بعدما قالها؟ قال: يا رسول الله ما قالها إلا تعوذاً من القتل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل شققت عن صدره؟ قال: لا، قال: فلا أنت قبلت منه لا إله إلا الله، ولا أنت شققت عن صدره، ماذا تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ يقول أسامة رضي الله عنه: حتى تمنيت أني ما أسلمت إلا يومئذ )، يعني: تمنى أنه في ذلك اليوم دخل في الإسلام من أجل أن يتخلص من هذه المصيبة التي وقع فيها رضي الله عنه وأرضاه، هذه خلاصة المسألة.
أجمعوا على أن قاذف النبي صلى الله عليه وسلم، أو قاذف أمه مرتد قد خرج من ملة الإسلام، وأجمعوا على أنه يجب قتله، لكن خلافهم فيما لو أظهر توبةً وندماً هل يرتفع عنه حكم القتل أو لا؟ فبعضهم قال: لا يرتفع؛ لأن المعرة قد لحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو غير موجود من أجل أن يعفو. ثم ثانياً: لأن المعرة قد لحقت الأمة كلها، ومن المستحيل أن نذهب للمسلمين واحداً واحداً من أجل أن يعفوا.
وبعض أهل العلم قالوا: عموم الأدلة قاض بأن من تاب تاب الله عليه.
المسألة الثانية: من قذف مسلماً ميتاً، رجلاً كان أو امرأةً، فلولده وإن سفل ولأبيه وإن علا المطالبة بالحد، وليس للعصبة دونهم المطالبة به مع وجودهم، فإن لم يكن له ولد ولا والد فإن العصبة يقومون مقامهم. ومعنى هذا: لو أن إنساناً قذف إنساناً ميتاً، رجلاً كان أو امرأة، بأن قال: فلان هذا زان، أو فلانة زانية، فليس كون هذا الإنسان ميتاً يجعل عرضه مباحاً، ولا شك أن القاذف قد عصى ربه، وقد تكلم بما لا ينبغي الكلام به، وهذا الأمر يدخل في عموم الآية: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4].
ويدخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه عن السبع الموبقات: ( وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات )، فيطالب بإقامة الحد ولده أو ولدها وإن سفل، ومعنى وإن سفل: يعني: الولد أو ولد الولد، أو يطالب بإقامة الحد الأب وإن علا، ونقصد بذلك الأب وأبا الأب ونحو ذلك، والإخوة ليس لهم القيام بذلك مع وجود الولد أو وجود الأب، أما إذا لم يكن ثمة ولد ولا والد ففي هذه الحالة العصبة كإخوة المقذوف أو المقذوفة يقومون بالأمر، ويمكن من استيفاء الحد دفعاً للمعرة عن هذا الميت، وقياماً بحقه.
المسألة الثالثة: لو أن إنساناً قذف إنساناً، والمقذوف يعلم من حاله أنه قد وقع في الزنا، فهل له أن يطالب بإقامة الحد ديانةً أو لا؟ طبعاً من ناحية الآية واضح بأن الله قال: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، فلو أنه طالب بإقامة الحد حسب ظاهر الآية فهو من حقه، لكن نقول: من ناحية الديانة سيتسبب في أذى مسلم، وجلد ظهره، ورد شهادته، ووصمه بالفسق، وهو يعلم من حاله أن هذا القاذف صادق، ولذلك لا يحل لمسلم أن يؤذي مسلماً، ومثلما أني حريص على حماية عرضي، فينبغي أن أكون حريصاً على حماية ظهر ذلك المسلم، ولذلك الأقرب والعلم عند الله تعالى أن من علم من حاله أنه قد وقع في الزنا لا يحل له أن يطالب بإقامة الحد على هذا القاذف، وإنما يجعل الأمر فيما بينه وبين الله عز وجل.
المسألة الرابعة: في بعض الألفاظ التي يفهم منها القذف، أو يفهم منها غيره.
كان علماؤنا رحمهم الله يقولون: من قال لآخر: يا كشخان، أو يا قرنان، أو يا قرطبان، أو يا معفوج، أو يا ديوث، أو يا ابن منزلة الركبان، أو يا ابن ذات الرايات، أو يا ابن الفاسقة، أو يا ابن الفاجرة، أو يا ابن الخبيثة، أو قال لامرأة هذه الكلمة القبيحة التي يستعملها الناس الآن: قحبة، فإن هذه الكلمة بعض الناس ينبز بها النساء، ويقول: فلانة هذه كذا.
ومثله أيضاً بعض الناس قد ينبز غيره باللفظ القبيح، مثلاً يقول له: يا قواد، وهذه كلمة معروفة عندنا، وهو السمسار بين المتفاحشين، والآن مثلاً في واقعنا بعض الناس يقول: يا ابن الحرام عياذاً بالله، أو فلان ابن حرام، هذه الكلمات مردها إلى العرف، فإذا كان العرف يقضي بأنها قذف فإنه يثبت بها الحد، فالأولون لما كان الواحد يقول للآخر: يا قرنان، قالوا: القرنان هو زوج الفاعلة، عياذاً بالله، والكشخان، ومثله القرطبان، قالوا: هو من يرسل مزارعه مع امرأته، ويتيح له أن يخلو بها، أو يرسل غلامه مع امرأته، يعني: خادمه ولا يتحرج من ذلك، ومثله أيضاً قولهم: يا معفوج، عياذاً بالله، ومعنى ذلك أنه اتهمه بالفاحشة في نفسه بأنه يؤتى كما تؤتى النساء، فهذه الكلمات كلها مردها إلى العرف، والآن أكثر الناس لو سئل عن معنى معفوج ما يعرف، وليست مستعملة عندنا، لكن يقوم مقامها الكلمات التي يستعملها الناس الآن كقولهم: فلان ابن حرام ونحو ذلك، أو لو قال إنسان لآخر: يا مخنث، ومثله في بعض البلاد يقول له: يا خنيث، فهذه الكلمات كلها مردها إلى العرف، فإن قضى العرف بأنها قذف فإن الحد يثبت ويجب إقامته.
أما من قال لغيره مثلما يقول الناس: يا كلب، أو يا تيس، أو يا حمار، أو يا بقرة، أو يا ثور، أو نحو ذلك، فبعض العلماء قالوا: بأن هذا لا يعد شتماً؛ لأن العرب قد تسمي به، فمن الصحابة من اسمه عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه، ويوجد من أهل العلم الكبار سفيان بن سعيد الثوري ، وآخر اسمه أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي ، ولا زال العرب إلى الآن يسمون بالفهد وبالأسد، والجربوع، فالمقصود أن هذه الكلمات لا شك في أنها شتم، وليس معنى أن صحابياً اسمه عياض بن حمار المجاشعي أن يقول أحدنا لآخر الآن: يا حمار، معللاً بأن هناك من الصحابة من اسمه حمار هذا لا يصلح؛ لأنه واضح أنه أراد تشبيهه بالصفات القبيحة التي في الحمار من البلادة والغباء وما إلى ذلك، ولو أن شخصاً قال: فلان هذا هائج مثل الثور، أو فلان هذا ينبح مثل الكلب، ومعلوم بأن من شبه غيره بحيوان من الحيوانات فإنه أراد بذلك عيبه ونقصه وشتمه، ولا يعد قذفاً لكن فيه التعزير ليؤدب، إذ كيف تنزل إنساناً مخلوقاً محترماً. فضله الله عز وجل على كثير ممن خلق تفضيلاً إلى هذا المستوى، هذا لا يجوز.
اللهم اجعلنا من التوابين، واجعلنا من المتطهرين، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر