بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:
فيقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [النور:27].
قرأ ورش و حفص و أبو عمرو و ابن كثير و يعقوب و أبو جعفر يزيد بن القعقاع بالضم: (( لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ))[النور:27]، بضم الباء، وقرأ الباقون بكسرها: (لا تَدْخُلُوا بِيُوتًا غَيْرَ بِيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا )، وكذلك في خواتيم السورة: (( أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ ))[النور:61] إلى آخر الآية، وهكذا في سائر القرآن، وهما لغتان، يقال: بُيوت، ويقال: بِيوت.
أما معاني المفردات فقول ربنا جل جلاله: لا تَدْخُلُوا [النور:27]، (لا) ناهية، وهو نهي جازم يفيد تحريم دخول بيوت الغير بلا إذن.
قال الله عز وجل: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27]، الاستئناس فيه وجهان لأهل التفسير.
قيل: الاستئناس بمعنى الاستكشاف، ومنه قوله تعالى: إِنِّي آنَسْتُ نَاراً [النمل:7]، بمعنى: أبصرت.
وقيل: الاستئناس بمعنى الاستعلام والاستخبار، ومنه قول الله عز وجل: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، (فإن آنستم) بمعنى: إن علمتم من اليتامى، (تستأنسوا) أي: تستعلموا وتستخبروا.
وقال بعض المفسرين المعاصرين: الاستئناس من الأنس، (حتى تستأنسوا) حتى تشعروا بالأنس من صاحب البيت، ومعناه: أن صاحب البيت قد يأذن لك وهو غير راغب في حضورك، فمثلاً لربما يطرق الباب طارق وصاحب البيت يتوقع شخصاً ما، فيسارع بفتح الباب، فيفاجأ بأن الشخص ليس هو المرغوب أو المطلوب، فلو أن المستأذن لم يجد من صاحب البيت أنساً، ولم يجد منه ترحاباً فخير له أن يرجع.
إذاً عندنا وجهان معتبران عند المفسرين الأولين:
الوجه الأول: أن الاستئناس بمعنى الاستكشاف، ومنه قوله تعالى: إِنِّي آنَسْتُ نَاراً [طه:10].
الوجه الثاني: الاستئناس بمعنى الاستعلام والاستخبار، ومنه قوله تعالى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً [النساء:6]، وبعض المعاصرين قالوا: من الأنس، بمعنى لا بد أن تشعر من صاحب البيت أنه مرحب بك، راغب في دخولك، وإلا لو وجدت منه وحشةً وإعراضاً فخير لك أن تذهب.
قال تعالى: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ [النور:27] الإشارة إلى الاستئذان والسلام، خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:27]، وهاهنا أيضاً قراءتان في (تذكرون)، خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:27]، و(لعلكم تذَّكَّرون).
أما سبب النزول: فروى الإمام الطبري من حديث عدي بن ثابت رضي الله عنه: ( أن امرأةً من الأنصار شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالت: يا رسول الله! إني أكون في البيت على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، لا والد ولا ولد، فيأتي الأب فيدخل علي، ولا يزال رجل من قومي يدخل علي وأنا على تلك الحال؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27]. قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! أرأيت الخانات والمساكن التي في طريق الشام ليس فيها أحد؟ فأنزل الله عز وجل قوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ [النور:29] )، فهذا هو سبب نزول هذه الآيات.
امرأة من الأنصار شكت للنبي صلى الله عليه وسلم بأنها تكون أحياناً قد وضعت ثيابها، وتخففت مما يسترها، فيأتي بعض الناس فيدخل عليها وهي على تلك الحال، لا تحب أن يراها أحد، لا والد ولا ولد، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
أبو بكر رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم بأن هناك بيوتاً موضوعة للسابلة، أشبه بالفنادق الآن، وكذلك المحلات التي هي للنفع العام، مثلاً الواحد منا إذا أراد أن يدخل دكاناً، ومعلوم بأن هذا الدكان مملوك لزيد من الناس، لكن الدكان قد فتحت أبوابه من أجل أن يلج الناس ويأخذ كلٌ حاجته، فالله عز وجل خفف فقال: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [النور:29].
من تطبيقات هذه الآية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بيت سعد بن عبادة ؛ فقال: السلام عليك ورحمة الله، فرد سعد بصوت لا يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: وعليك السلام ورحمة الله، فسلم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، فرد سعد ثلاثاً دون أن يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع عليه الصلاة والسلام، فتبعه سعد وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما سلمت تسليمةً إلا وهي بأذني، وقد رددت عليك لا أسمعك، وإنما أحببت أن تكثر من السلام علينا والبركة، فأدخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت، وقرب إليه زبيباً؛ فأكل عليه الصلاة والسلام، ثم دعا قائلاً: أكل طعامكم الأبرار، وأفطر عندكم الصائمون، وصلت عليكم الملائكة )، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وهذه القصة رواها مطولةً الطبراني من رواية قيس بن سعد بن عبادة ، وكذلك رواها أبو داود من حديث ثابت البناني ، عن أنس فالنبي صلى الله عليه وسلم طبق هذه الآية، جاء فاستأذن ثلاثاً ثم رجع.
ومن تطبيقات هذه الآية كذلك ما قالته زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما: كان عبد الله إذا أتى البيت لا يدخل حتى يعلم أهله بتنحنح أو ببصاق، كراهة أن يهجم منهم على ما يكره، فـعبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان إذا أتى بيته الذي فيه امرأته ما كان يدخل حتى يعلمهم بتنحنح أو بصاق بأنه قد جاء، كراهة أن يهجم منهم على ما يكره.
والمعنى الإجمالي لهذه الآية المباركة:
يخاطبنا ربنا جل جلاله بوصف الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النور:27]، يا مؤمنون! يا طيبون! يا من رضيتم بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن إماماً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً! لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [النور:27]، سواء كانت غير بيوتكم؛ لأنها مملوكة لقاطنيها، أو لأنهم قد استأجروها، أو لأنها قد وهبت لهم، أو قد أذن لهم بالإقامة فيها من غير أجرة ولا ملك ولا هبة، المهم أن هذه البيوت ليست بيوتكم الآن، وإنما هي لغيركم، حتى لا يأتي أحد وقد أجر بيته لغيره فيدخل من دون إذن ويقول: هذا البيت مسجل باسمي.
قال تعالى: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27]، حتى تستعلموا، وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الاستئذان يكون ثلاث مرات، قال أهل العلم: الاستئذان الأول لإعلام أهل البيت، ثم الثاني ليأخذوا حذرهم، ثم الثالث ليأذنوا أو يردوا، ( الاستئذان ثلاث مرات، فإن أذن لأحدكم وإلا فليرجع )، وقد طبق هذه الآية أبو موسى رضي الله عنه، ( أبو موسى الأشعري ذهب إلى بيت عمر بن الخطاب فاستأذن ثلاثاً ثم رجع، فانتبه عمر وقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس ؟ قالوا: بلى! وقد رجع، قال: اطلبوه، أي: أعيدوه، فقال له عمر : ما الذي جاء بك؟ وما الذي ردك؟ قال له: يا أمير المؤمنين! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الاستئذان ثلاث -أي ثلاث مرات- فإن أذن لأحدكم وإلا فليرجع. فقال له عمر : لتأتيني ببينة أو لأجعلنك نكالاً -وفي بعض الألفاظ: أو لأوجعنك ضرباً- فجاء أبو موسى رضي الله عنه إلى المسجد فحكى ذلك للصحابة -فالصحابة تعجبوا كيف تخفى هذه السنة على عمر -، قالوا: والله لا يقوم معك إلا أصغرنا، فقام معه أبو سعيد رضي الله عنه وذهب إلى عمر وشهد عنده بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام، فاعتذر عمر لـأبي موسى ، وقال له: ما أكذبتك، ولكني كرهت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ).
إذاً: الواحد منا إذا ذهب إلى بيت غيره فإنه يستأذن ثلاث مرات، إما أن يدق الباب ثلاثاً، وإما أن يدق الجرس ثلاثاً، وإما أن يسلم ثلاثاً، الأولى لإعلامهم أن بالباب طارقاً، والثانية ليأخذوا حذرهم؛ فإذا كان هناك شيء يريدون إخفاءه أخفوه، إذا كان إنسان يريد أن يأخذ زينته أخذها، ثم الثالثة إما أن يأذنوا وإما أن يردوا.
قال تعالى: وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28]، وليس بالضرورة أن يكون الرد بالكلام بل قد يكون ضمناً؛ فلو أنك استأذنت ثلاثاً فلم يفتحوا لك فكأنهم قالوا لك: ارجع، ولو لم يقولوا لك: ارجع، وكان بعض السلف رضوان الله عليهم يقول: يا ليتني أذهب إلى بيت واحد من إخواني؛ فيقول لي: ارجع فأرجع وأنا مغتبط؛ لأن الله قال: ذلكم خير لكم، ذلكم أزكى لكم، وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [النور:28].
فالله عز وجل قال: لا تَدْخُلُوا [النور:27]، أيها المؤمنون بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27]، حتى تعلموا أهلها، وتشعروا بالأنس منهم، ويحصل منكم سلام؛ لأن الدخول بغير إذن قد يوقع بصر الإنسان على شيء من العورات، والعورات كما يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال: ليست العورات عورات الجسد فقط، وإنما هناك عورات الطعام، فقد يكون الإنسان مثلاً في آخر الشهر يتغدى عدساً أو فولاً مثلاً، أو غير ذلك من طعام لا يحب لغيره أن يراه، وهناك عورات الأثاث، فأحياناً البيت لا يكون مرتباً، ولا يكون على حالة مهيأة لاستقبال الضيوف، وهناك عورات اللباس، فأحياناً الإنسان عورته مستورة، ولكنه يجلس بلباس لا يليق أن يراه غيره عليه، وهناك عورات المشاعر النفسية، بمعنى أن الإنسان أحياناً يكون في ضيق، وأحياناً في هم وغم وكرب، وأحياناً يكون بينه وبين زوجه شجار وعراك، أو بينه وبين أولاده تغاضب وتنافر، وليس مهيأً لاستقبال أحد، كما يقول الناس بلسانهم: اليوم الجو مكهرب، فليس من الحكمة أن يأتي الإنسان في كل وقت ويريد من الناس أن يستقبلوه في كل وقت، وقد عذرنا ربنا جل جلاله، فقال: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27].
ثم بين ربنا جل جلاله أن هذا التشريع إنما هو لخيرنا ولراحتنا ولنفعنا، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:27]، (لعلكم تذكرون)، أي: لعلكم دائماً تتذكرون نعمة الله عليكم، ورحمة الله بكم، وإحسانه إليكم، حين وضع لكم هذه التشريعات المحكمة، وهذه الأحكام المبينة.
وكلمة (لعلكم) للمفسرين فيها وجهان:
الوجه الأول: بأن لعل بمعنى اللام، أي: ذلكم خير لكم لتتذكروا، ومنه قول القائل:
فقلتم لنا: كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كلمع سراب في الملا متألق
فقوله: (كفوا الحروب لعلنا نكف) أي: لنكف.
الوجه الثاني: لعلكم على بابها من الترجي، ولكن الترجي في حيز المخلوقين لا في حيز الخالق جل جلاله، فالله لا يترجى، وإنما الذي يترجى المخلوق.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر