الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد:
قال المصنف رحمه الله: [ المسألة الأولى: اختلفوا في طهر الجمعة؛ فذهب الجمهور ]. منهم الأئمة الأربعة، [ إلى أنه سنة، وذهب أهل الظاهر إلى أنه فرض، ولا خلاف فيما أعلم أنه ليس شرطاً في صحة الصلاة ].
أي: الغسل ليس شرطاً في صحة صلاة الجمعة.
[ والسبب في اختلافهم تعارض الآثار، وذلك أن في هذا الباب حديث أبي سعيد الخدري ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (طهر يوم الجمعة واجب على كل محتلم كطهر الجنابة) ].
والحديث أخرجه البخاري و مسلم . وقد صرح فيه بالوجوب.
[ وفي حديث عائشة ] وهو كذلك عند البخاري و مسلم [ قالت: ( كان الناس عمّال أنفسهم، فيروحون إلى الجمعة بهيئتهم، فقيل: لو اغتسلتم ) والأول صحيح باتفاق ]. يعني حديث أبي سعيد ، والثاني كذلك صحيح.
[ والثاني خرجه أبو داود و مسلم ، وظاهر حديث أبي سعيد يقتضي وجوب الغسل، وظاهر حديث عائشة أن ذلك كان لموضع النظافة ]. أي: أنه كان عندهم أوساخ، فقال: لو اغتسلتم.
[وأنه ليس عبادة]. يعني يظهر من حديث عائشة أنه ليس عبادة.
[ وقد روي: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)، وهو نص في سقوط فرضيته إلا أنه حديث ضعيف ].
والراجح أنه حديث حسن.
الحاصل أن غسل الجمعة كأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم تدرج فيه، فقال أولاً: ( لو اغتسلتم لهذا اليوم)، فكان إرشاداً، ثم بعد ذلك بأنه أفضل، جاء فيه بالفضيلة: ( توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل )، ثم بعد ذلك جاءت الأحاديث على أنه واجب، فقال: ( طهر يوم الجمعة واجب على كل مسلم ) فليس هناك معارضة بين الأحاديث التي تدل على أن الغسل أفضل، والأحاديث التي تدل على أنه واجب؛ لأن تلك كانت في أول الإسلام، ثم جاء بعدها التصريح بالوجوب، ولهذا أقول: الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما، من طرق جماعة من الصحابة، قاضية بالوجوب، كحديث أبي سعيد المتفق عليه: ( غسل الجمعة واجب على كل محتلم )، وحديث ابن عمر عند الجماعة: ( إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل )، ذاك قال: واجب، وهذا قال: فليغتسل، فهذا يؤيده، وحديث أبي هريرة المتفق عليه: (حقٌ على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام )، والواجب يثبت بأقل من هذا، يعني: قال: أولاً: أمر، ثم قال: واجب، ثم قال: حق، وكل هذا يثبت الوجوب.
ولا يوجد صارف يصرف الأحاديث الدالة على الوجوب إلى الندب أو الجواز. أما قوله صلى الله عليه وسلم: ( حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام )، لم يعين يوم الجمعة.
لكن المراد به يوم الجمعة فقوله صلى الله عليه وسلم: ( غسل في كل سبعة أيام ) مطلق وحديث: ( غسل الجمعة واجب ... ) مقيد، فيحمل المطلق على المقيد.
فإن قال قائل: هل هناك دليل على الترتيب أنه كان في ثلاث مراحل؟
فالجواب: يقول الشيخ ناصر الألباني : بتتبع الأحاديث يُرى أنه قال لهم أولاً: ( هلا اغتسلتم! )، وبعد ذلك أمرهم بالاغتسال.
إذاً الواجب يثبت بأقل من هذا، وإلى الوجوب مال الشوكاني ، وشيخنا ناصر الدين الألباني .
قال المصنف رحمه الله: [ المسألة الثانية: وأما وجوب الجمعة على من هو خارج المصر، فإن قوماً قالوا: لا تجب على من خارج المصر]. كإنسان ساكن خارج المدينة التي تقام فيها الجمعة فلا تجب عليه.
[ وقوم قالوا: بل تجب، وهؤلاء اختلفوا ]، الذين قالوا: تجب [ اختلافاً كثيراً، فمنهم من قال: من كان بينه وبين الجمعة مسيرة يوم ] وهذا بعيد [ وجب عليه الإتيان إليها، وهو شاذ. ومنهم من قال: يجب عليه الإتيان إليها على ثلاثة أميال. ومنهم من قال: يجب عليه الإتيان من حيث يسمع النداء في الأغلب وذلك من ثلاثة أميال من موضع النداء ]. هذا يكون أقرب الأقوال؛ لأننا نقيسها على الجماعة، وإن كان ورد في ذلك حديث، لكنه ضعيف، فالقياس على الجماعة أن من سمع النداء يجب عليه الإتيان، فهذا كذلك. [ وهذان القولان عن مالك ، وهذه المسألة ثبتت في شروط الوجوب]. يعني لا يجب عليه إلا بهذا الشرط.
[ وسبب اختلافهم في هذا الباب اختلاف الآثار، وذلك أنه ورد أن الناس كانوا يأتون الجمعة من العوالي في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك ثلاثة أميال من المدينة.
وروى أبو داود ] لكنه ضعيف [ أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الجمعة على من سمع النداء)، وروي: ( الجمعة على من آواه الليل إلى أهله )، وهو أثر ضعيف ]. فأهل البلد الواحد يجب عليهم حضور الجمعة، فهي فرض عين عليهم.
أما القرى المجاورة لبلد تقام فيه الجمعة، فإن كانت قريبة بحيث تنسب في العرف إلى البلد الذي تقام فيه الجمعة، كقباء والعوالي، والدور والبيوت التي كانت محيطة بالمدينة تعتبر كلها من المدينة. فقد كانت تقام فيها جماعات متعددة، ما عدا الجمعة، فتقام في مسجده صلى الله عليه وسلم.
فمثلاً كانت هناك دور كثيرة، دور بني فلان.. دور بني فلان.. كلها تنسب إلى المدينة، لكنها متباعدة، وكانت فيها مساجد، في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن كانوا يوم الجمعة كلهم يأتون إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً فالسنة الاجتماع يوم الجمعة- فهذه القرى يسن لها أن تجتمع يوم الجمعة في مسجد واحد، كما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم، وزمن أصحابه من بعده .
فنحن الآن إذا وجدنا قرية كبيرة، ووجدنا بجانبها فللاً، هنا فِلة وهنا فِلة، ولكن بجوار الفلل قرية كبيرة فيها مسجد جامع، فما الأولى لهذه القرى الصغار؟
الأولى والأحسن لهم أن يجتمعوا في القرية الكبيرة، وتقام جمعة واحدة في القرية الكبيرة، وهذه هي السنة.
مداخلة: إذاً فإن لم يوجد مسجد يتسع لقرىً متقاربة فلا مانع من تعدد الجمع للمصلحة يعني: أن القرى الصغيرة المجاورة للقرية الكبيرة إذا رأوا أنهم، يقيمون في قراهم جمعاً متعددة فلا مانع؛ إذ تعدد الجمعة في البلد الواحد للحاجة جائز في الشرع- يعني إذا كان هناك بلد أو قرية أو مدينة وفيها مساجد متعددة، وهذه المساجد لا يوجد مسجد منها يتسع لكل الناس في القرية أو المدينة، فتتعدد الجمعة بحسب الحاجة، فإن لم تكن للقرى المجاورة جمعة، وهم يسمعون النداء من بلد الجمعة، فيجب عليهم الحضور، وذلك للحديث الصحيح في أمره صلى الله عليه وسلم بحضور الجماعة على من سمع النداء، فوجوب حضور الجمعة على من سمع النداء من باب القياس بالأولى، يعني: بفحوى الخطاب، إذا قلنا: بالأولى فمعناه بفحوى الخطاب، فالجمعة بالأولى، والقرى المجاورة إذا أقاموا لأنفسهم جمعاً فلا مانع، وإن لم يقيموا فلا بد أن يحضروا في المحل الذي أقيمت فيه الجمعة.
لكن إذا كان المسجد الذي تقام فيه الجمعة بعيداً مثلاً، ولكن نسمع بالميكرفون، بحيث أنه بغير الميكرفون لا يُسمع الأذان، فهل العمل بسماع الميكرفون أم العبرة بسماع صوت المؤذن بدون الميكرفون؟
نعم إذا سمعت النداء بالميكرفون في وقت لا تهدأ فيه الأصوات فيجب عليك الحضور؛ أما العبرة بالسماع فكما يقول الفقهاء: أن يقف رجل في آخر البلد في وقتٍ تهدأ فيه الأصوات فيسمع النداء، لا سيما صلاة الصبح، فهذا يُسمع على أكثر من ثلاثة أميال، فلو وقف إنسان في آخر القرية، على مرتفع وأذن، فإنه يُسمع صوته لأكثر من ثلاثة أميال. أما لو طبقنا هذه القواعد على الواقع في صنعاء مثلاً، ما يبلغ صوتك ولا مائة متر بسبب وجود المباني، فلو كانت صنعاء كلها مربوطة بأسلاك ومكبر ولا يوجد إلا مسجد واحد لو فرضنا ذلك فما الذي يجب على سكانها؟ يجب عليهم أن يبنوا عدة مساجد، وليس المسجد شرطاً لإقامة صلاة الجمعة، فلو كانت هناك مساحات أو ملعب كرة، وغيرها فتقام الجمعة فيها.
قال المصنف رحمه الله: [ المسألة الثالثة: وأما اختلافهم في الساعات التي وردت في فضل الرواح، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة) ].
أخرجه البخاري و مسلم ، [ فإن الشافعي وجماعة من العلماء ] منهم أبو حنيفة و أحمد . [اعتقدوا أن هذه الساعات هي ساعات النهار] يعني اثنتي عشرة ساعة [ فندبوا إلى الرواح من أول النهار ] أي: من بعد صلاة الصبح، وبعضهم قالوا: من شروق الشمس.
[ وذهب مالك إلى أنها أجزاء ساعة واحدة قبل الزوال وبعده ]. أي: لحظات قبل الزوال.
[ وقال قوم: هي أجزاء ساعة قبل الزوال، وهو الأظهر لوجوب السعي بعد الزوال إلا على مذهب من يرى أن الواجب يدخله الفضيلة ]. وهو كذلك فالواجب يدخله الفضيلة.
وقال الشوكاني في النيل (3/ 253-254) وما ذكرته المالكية أقرب إلى الصواب؛ لأن الساعة في لسان الشرع وأهل اللغة الجزء من أجزاء الزمان، كما في كتب اللغة، ويؤيد ذلك أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة أنه ذهب إلى الجمعة قبل طلوع الشمس وهم سمعوا الحديث ولا عند انبساطها، ولو كانت الساعة الذي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم هي المعروفة عند أهل الفلك لما ترك الصحابة الذين هم خير القرون، وأسرع الناس إلى موجبات الأجور الذهاب إلى الجمعة في الساعة الأولى أول النهار، أو الثانية، أو الثالثة، فالواجب حمل كلام الشارع على لسان قومه.
فلو قال قائل: أنا أجيئك بعد ساعة، فالمقصود بعد زمن يسير، فلم يكن الصحابة رضي الله عنهم يقسمون الساعات الفلكية في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم تقسيمنا الحاضر.
إلا أن يثبت له للشرع اصطلاح يخالف المتعارف عليه من لسان العرب، فلا يجوز حمله على المتعارف عليه ولا على الحادث بعد عصره صلى الله عليه وسلم، وإنما يحمل اللفظ الشرعي على معهود الشارع واصطلاحه فقط.
قال المصنف رحمه الله: [ وأما اختلافهم في البيع والشراء وقت النداء؛ فإن قوماً قالوا: يفسخ البيع إذا وقع النداء، وقوماً قالوا: لا يفسخ.
وسبب اختلافهم هل النهي عن الشيء الذي أصله مباح إذا تقيد النهي بصفة يعود بفساد المنهي عنه أم لا؟].
الراجح في ذلك أن البيع حرام بعد النداء الذي بين يدي الإمام ولكنه لو وقع فهو صحيح؛ لأن النهي لأمر خارج عن شروط صحة البيع وعن ماهيته.
فالنهي لأمر خارج عن البيع وهو الاشتغال بالبيع عن الجمعة، أما النهي عن بيع مالم ير، أو بيع مالم يستطع تسليمه، أو النهي عن بيع حبل الحبلة، والنهي عن بيع طائر في الهواء، والنهي عن بيع المغصوب لمن لا يستطيع انتزاعه، فمنهي عنه لأمر في البيع فلو قال شخص: أبيع لك طيراً في الهواء، أو جرادة نافرة. فلا يصحُ هذا. وكذلك لا يصح بيع العبد الآبق لأنك لا تعرف مكانه ولا تستطيع إرجاعه، فهذه البيوع باطلة لخللٍ في أحد أركان البيع وهو السلعة وأما البيع وقت صلاة الجمعة فحرام؛ لأنه تشاغل عن وقت الصلاة، وهذا يدل على أن الشريعة الإسلامية سمحة؛ لأنها جاءت بإبعاد الأعسار عن المسلمين، فللناس أن يذهبوا ويعملوا، ويبتاعوا ويشتروا إلى أن يسمعوا النداء. أما اليهود فيحرم عليهم العمل يوم السبت ولا يوجد لهم أي عمل فيه، وأما نحن فنعمل يوم الجمعة حتى نسمع النداء ثم نذهب إلى صلاة الجمعة، فإذا قضينا صلاة الجمعة رجعنا إلى أعمالنا.
قال المصنف رحمه الله: [ وآداب الجمعة ثلاثة: الطيب والسواك واللباس الحسن، ولا خلاف فيه لورود الآثار بذلك ]. يعني أن الطيب والسواك واللباس الحسن مطلوبة يوم الجمعة على وجه الاستحباب والسنية والندب.
قال المصنف رحمه الله: [الباب الرابع في صلاة السفر.
وهذا الباب فيه فصلان:
الفصل الأول: في القصر.
الفصل الثاني: في الجمع ].
قال رحمه الله: [ الفصل الأول: في القصر.
والسفر له تأثير في القصر باتفاق، وفي الجمع باختلاف]. في الجمع اختلفوا فيه، فـأبو حنيفة يقول: القصر واجب والجمع ممنوع.
[ أما القصر فإنه اتفق العلماء على جواز قصر الصلاة للمسافر إلا قول شاذ، وهو قول عائشة وهو أن القصر لا يجوز إلا للخائف؛ لقوله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا[النساء:101]، وقالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام إنما قصر لأنه كان خائفاً]. وهذا القول شاذ.
[ واختلفوا من ذلك في خمسة مواضع]. خمسة مواضع في القصر.
[أحدها: في حكم القصر]. هل هو عزيمة أو رخصة؟
[الثاني: في المسافة التي يجب فيها القصر]. كم تحديدها؟
[والثالث: في السفر الذي يقصر فيه]. المباح أو الطاعة أو المعصية؟
[والرابع: في الموضع الذي يبدأ منه المسافر]، عند خروجه من القرية أو بعده كثيراً عنها.
[والخامس: في مقدار الزمان الذي يجوز للمسافر فيه إذا أقام في موضع أن يقصر الصلاة]. كم هو عشرون يوماً أم أربعة أيام.
قال المصنف رحمه الله: [ فأما حكم القصر فإنهم اختلفوا فيه على أربعة أقوال:
فمنهم من رأى أن القصر هو فرض المسافر المتعين عليه.
ومنهم من رأى أن القصر والإتمام كلاهما فرض مخير له كالخيار في واجب الكفارة.
ومنهم من رأى أن القصر سنة.
ومنهم من رأى أنه رخصة وأن الإتمام أفضل، وبالقول الأول قال أبو حنيفة وأصحابه ]. أن القصر واجب.
[والكوفيون بأسرهم، أعني: أنه فرض متعين. وبالثاني قال بعض أصحاب الشافعي ]. يعني: أنه مخير إن شاء قصر وإن شاء أتم.
[ وبالثالث -أعني أنه سنة- قال مالك في أشهر الروايات عنه. وبالرابع - أعني أنه رخصة - قال الشافعي في أشهر الروايات عنه، وهو المنصور عند أصحابه ] أنه رخصة.
وذكر الإمام النووي أن القصر أفضل. فالشافعية الأفضل عندهم القصر، وقد يكون هناك قولٌ في المذهب الشافعي أن القصر رخصة وأن الإتمام أفضل. ومذهب أحمد لم يذكره المؤلف وهو مثل رأي الشافعي ، والجمهور أن القصر رخصة للمسافر.
قال المصنف رحمه الله: [ والسبب في اختلافهم معارضة المعنى المعقول ]. أي: معارضة المعنى المعقول أن القصر رخصة.
[ لصيغة اللفظ المنقول ] أي حديث عائشة رضي الله عنها: ( فرضت الصلاة ركعتين ... ).
[ ومعارضة دليل الفعل أيضاً للمعنى المعقول ]. دليل الفعل يعني فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مداومته على القصر في السفر للمعنى المعقول أن القصر رخصة وليس واجباً.
[ ولصيغة اللفظ المنقول ]. أي ومعارضة دليل فعله صلى الله عليه وسلم وهو المداومة على القصر في أسفاره لصيغة اللفظ المنقول.
[ وذلك أن المفهوم من قصر الصلاة للمسافر ] هذا المعنى المعقول [ إنما هو الرخصة لموضع المشقة، كما رخص له في الفطر وفي أشياء كثيرة، ويؤيد هذا حديث يعلى بن أمية ]. الذي أخرجه مسلم .
[ قال: ( قلت لعمر : إنما قال الله: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا[النساء:101]، يريد في قصر الصلاة في السفر، فقال عمر : عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألتني عنه فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته ) ].
فهذا يدل على أنه رخصة، ولكن قوله صلى الله عليه وسلم ( فاقبلوا صدقته ) يدل على الوجوب، لهذا قال الحنفية: وإن كان صدقة لكنه واجب قبولها.
[ فمفهوم هذا الرخصة.
وحديث أبي قلابة عن رجل من بني عامر ]. أخرجه الطحاوي وقال: هو ضعيف.
[ إنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة )، وهما في الصحيح ]. بل حديث أبي قلابة ليس في الصحيح.
[ وهذا كله يدل على التخفيف والرخصة ورفع الحرج، لا أن القصر هو الواجب ولا أنه سنة، وأما الأثر الذي يعارض بصيغته المعنى المعقول، ومفهوم هذه الآثار فحديث عائشة ] الذي أخرجه البخاري و مسلم .
[ الثابت باتفاق قالت: ( فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر ) ] يعني بقيت كأنها مفروضة ركعتين [ ( وزيد في صلاة الحضر ).
وأما دليل الفعل الذي يعارض المعنى المعقول، ومفهوم الأثر المنقول، فإنه ما نقل عنه عليه الصلاة والسلام من قصر الصلاة في كل أسفاره]. أي: دائماً.
[ وأنه لم يصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه أتم الصلاة قط ]. فهذا معارض لمفهوم المنقول في الرخصة، ولمفهوم المعقول في أنها رخصة، فاستمرار الرسول صلى الله عليه وسلم على القصر في كل أسفاره يعارض المعنى المعقول في الرخصة، على أنها رخصة يستوي تركها وفعلها، ويعارض مفهوم الحديث السابق، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (صدقة تصدقها الله عليكم).
[ فمن ذهب إلى أنه سنة أو واجب مخير، فإنما حمله على ذلك أنه لم يصح عنده أن النبي عليه الصلاة والسلام أتم الصلاة ]. فعلى الأقل يحمل على الندب.
[ وما هذا شأنه، فقد يجب أن يكون أحد الوجهين: أعني: إما واجباً مخيراً، وإما أن يكون سنة ]. فقد يجب بمعنى يحسن.
[ وإما أن يكون فرضاً معيناً، لكن كونه فرضاً معيناً يعارضه المعنى المعقول ]. وهو الرخصة.
[ وكونه رخصة يعارضه اللفظ المنقول ]، (فرضت الصلاة).
[ فوجب أن يكون واجباً مخيراً أو سنة ]. هذا الذي رجحه.
[ وكان هذا نوعاً من طريق الجمع ] أي قوله بأن القصر واجب مخير أو سنة هو نوع من الجمع بين الأدلة المتعارضة العقلية والنقلية.
[ وقد اعتلوا لحديث عائشة بالمشهور عنها] عللوا حديث عائشة بالمشهور عنها، أنها قد خالفت قوله: ( فرضت ... ) [ من أنها كانت تتم ] أخرجه البخاري ، أنها كانت تتم، وقال: تأولَت كما تأول عثمان .
[ وروى عطاء : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتم الصلاة في السفر ويقصر، ويصوم ويفطر، ويؤخر الظهر، ويعجل العصر، ويؤخر المغرب، ويعجل العشاء)]. وهذا الحديث ضعيف.
[ ومما يعارضه أيضا حديث أنس و أبي نجيح المكي قال: صحبت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فكان بعضهم يتم، وبعضهم يقصر، وبعضهم يصوم، وبعضهم يفطر، فلا يعيب هؤلاء على هؤلاء، ولا هؤلاء على هؤلاء ولم يختلف في إتمام الصلاة عن عثمان و عائشة ، فهذا هو اختلافهم في الموضع الأول ]. كذلك حديث أنس و أبي نجيح أيضاً ضعيف.
وفي صحيح مسلم قال: ( كنا نسافر مع رسول الله فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم )، وليس فيه ذكر القصر والإتمام.
الراجح وجوب القصر، وذلك لأنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم في جميع أسفاره إلا القصر، وهو في الصحيحين وغيرهما، وأظهر الأدلة على الوجوب حديث عائشة المتفق عليه بلفظ: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت في السفر، وأتمت في الحضر). روي بلفظ: ( فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ... )، وقد وافقها على هذا الخبر ابن عباس ، فأخرج مسلم عنه أنه قال: ( إن الله فرض الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم على المسافر ركعتين، وعلى المقيم أربعاً، والخوف ركعة ).
ففي الخوف يصلي ركعة، فهذه الأدلة دالة على أن القصر واجب عزيمة غير رخصة.
وكان عثمان يرى أن القصر رخصة، و ابن مسعود يرى أن القصر عزيمة، ولكن الإمام إذا قال قولاً رفع الخلاف، فإذا قال الإمام قولاً فيجب على غيره أن يتبعه، فالإمام هو الحاكم، ولهذا قال ابن مسعود : ( صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، و أبي بكر و عمر ، وصدراً من خلافة عثمان ، وليت حظي من الأربع الركعات ركعتان متقلبتان )، أي: من هذه الأربع التي سأصليها بعد عثمان قيل له: ولماذا لا تصلي ركعتين، فقال: الخلاف شر.
قال المصنف رحمه الله: [ وأما اختلافهم في الموضع الثاني وهي المسافة التي يجوز فيها القصر فإن العلماء اختلفوا في ذلك أيضاً اختلافاً كثيراً، فذهب مالك و الشافعي و أحمد وجماعة كثيرة إلى أن الصلاة تقصر في أربعة برد ]. الأربعة البرد ستة عشر فرسخاً، وهي مرحلتان فقط.
[ وذلك مسيرة يوم بالسير الوسط ] يعني مسيرة يوم وليلة، لأن المرحلة يشدون لها من قبل صلاة المغرب، ويصلون قبيل صلاة الصبح أو بعد صلاة الصبح، هكذا على الجمال.
[ وقال أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون: أقل ما تقصر فيه الصلاة ثلاثة أيام، وإن القصر إنما هو لمن سار من أفق إلى أفق ]. يعني: من الشروق إلى الغروب.
[ وقال أهل الظاهر: القصر في كل سفر قريباً كان أو بعيداً ].
[ والسبب في اختلافهم معارضة المعنى المعقول من ذلك اللفظ، وذلك أن المعقول من تأثير السفر في القصر أنه لمكان المشقة الموجودة فيه، مثل: تأثيره في الصوم، وإذا كان الأمر على ذلك، فيجب القصر حيث المشقة ]. وهو يوم وليلة أو كذا.
[ وأما من لا يراعي في ذلك إلا اللفظ فقط، فقالوا: قد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة)، فكل من انطلق عليه اسم مسافر جاز له القصر والفطر ].
على كل حال فالأشياء إما أن تحددها اللغة، أو يحددها الشرع، فإذا لم تحددها اللغة ولا الشرع؟
فمثلاً: السفر لم يحدد في الشرع ولم يحدد في اللغة، فيرجع فيه كما قال ابن تيمية : إلى العرف. ولكنا وجدنا تحديداً قصر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه ما قال: إنه حد السفر، ولكنه قصر فيه، فالأحسن أن نرجع إلى هذا الشيء الذي قصر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم.
[ فكل من انطلق عليه اسم مسافر جاز له القصر والفطر، وأيدوا ذلك بما رواه مسلم عن عمر : (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقصر في نحو السبعة عشر ميلاً)].
هذا ما رواه مسلم عن عمر يقول: على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلاً، فصلى ركعتين، قال: فقلت له، فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة ركعتين، فقلت له، فقال: إنما أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل.
[ وذهب قوم إلى خامس كما قلنا، وهو أن القصر لا يجوز إلا للخائف؛ لقوله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]].
فالراجح في أقل حد في السفر، ثبت قصر الصلاة فيه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما أخرجه مسلم عن أنس قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ، صلى ركعتين ) قال الحافظ في الفتح: وهو أصح حديث ورد في ذلك وأصرحه.
قال الشوكاني في النيل: إذا تقرر هذا فالمتيقن ثلاثة فراسخ؛ لأن حديث أنس تردد ما بينها وبين ثلاثة أميال، والثلاثة الأميال مندرجة في الثلاثة الفراسخ، فيؤخذ بالأكثر احتياطاً، وهي تساوي ستة عشر كيلو متراً وستمائة متر واثنين وثلاثين متراً.
والفرسخ: ثلاثة أميال، اضرب ثلاثة أميال في ألف وثمانمائة وثمانية وأربعين، يساوي خمسة آلاف وخمسمائة وأربعة وأربعين متراً، اضربها في ثلاثة كم يخرج؟
ستة عشر وستمائة واثنين وثلاثين، يساوي سبعة عشر كيلو تقريباً.
قال: [ وأما اختلاف أولئك الذين اعتبروا المشقة فسببه اختلاف الصحابة في ذلك، وذلك أن مذهب الأربعة برد مروي عن ابن عمر و ابن عباس ، ورواه مالك ، ومذهب الثلاثة أيام مروي أيضاً عن ابن مسعود و عثمان وغيرهما ]. وأفعال الصحابة لا يحكم لها هنا بالرفع؛ لأنها اجتهادات.
قال المصنف رحمه الله: [ وأما الموضع الثالث وهو اختلافهم في نوع السفر الذي تقتصر فيه الصلاة، فرأى بعضهم أن ذلك مقصور على السفر المتقرب به، كالحج والعمرة والجهاد، وممن قال بهذا القول أحمد . ومنهم من أجازه في السفر المباح دون سفر المعصية، وبهذا القول قال مالك و الشافعي . ومنهم من أجازه في كل سفر قربة كان أو مباحاً أو معصية، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه و الثوري و أبو ثور ].
وأجازوا ذلك في المعصية؛ لأنهم رأوا أن القصر فرض، فيجب القصر ولو كان في سفر معصية، أما الذين قالوا: إن القصر رخصة، قالوا: الرخصة لا تناط بالمعصية، إذاً نحن رجحنا على أنه فرض، فسنرجح أنه يقصر.
قال: [ والسبب في اختلافهم معارضة المعنى المعقول أو ظاهر اللفظ لدليل الفعل، وذلك أن من اعتبر المشقة أو ظاهر لفظ السفر، لم يفرق بين سفر وسفر.
وأما من اعتبر دليل الفعل قال: إنه لا يجوز إلا في السفر المتقرب به ].
يعني: الرسول أسفاره ما فيها معصية بحال، ولا مباح! فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يكون مخرجه ومدخله صدقاً.
[ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقصر قط إلا في سفر متقرب به ].
ولا يعقل أن يسافر النبي صلى الله عليه وسلم إلا في طاعة.
قال: [ وأما من فرق بين المباح والمعصية فعلى جهة التغليظ ].
قال: إن العاصي لا يرخص له ويغلظ عليه، ولكنَّ الفقهاء الذين يقولون: رخصة يقسمون المسافر إلى عاصٍ في السفر، وعاصٍ بالسفر أنه لا يقصر، فمن يقول: إنه لا يقصر، يقول: ولا يقصر العاصي بالسفر، أما العاصي في السفر فيقصر.
مثلاً: سمع رجل على أنه ستأتي فنانة إلى الحديدة، أو إلى صنعاء، وأنه سيقام حفل، فقال: أنا مسافر وأنا أريد أن أسمع الفنانة وأتفرج وكذا وكذا، هذا عاصي بالسفر، والثاني العاصي في السفر هو الذي فعل معصية اثناء سفره كما لو سافر شخص من الحديدة إلى عدن ونزل في طريقه بفندق وشرب فيه خمراً فهذا عصى في سفره فيترخص. سافر إلى صنعاء، معه مرافعة بقضية، أمام المحاكم فقط لحاجته، ولكن لما وصل هنا قالوا: سيقام الليلة حفل للفنانة فلانة بنت فلان. قال: أذهب أتفرج. هذا الذي يسمى عاصياً في السفر، هذا يقصر، وأما ذاك فلا يقصر، هذا على القول إن القصر رخصة، والرخص لا تناط بالمعاصي.
[ والأصل فيه: هل تجوز الرخص للعصاة أم لا؟ وهذه مسألة عارض فيها اللفظ المعنى، فاختلف الناس فيها لذلك ].
الراجح هو: وجوب القصر أو فرضية القصر، وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن العاصي بسفره يقصر، ومثله العاصي في سفره؛ لأن القصر عزيمة وليس برخصة هذا هو الراجح.
قال المصنف رحمه الله: [ وأما الموضع الرابع وهو اختلافهم في الموضع الذي منه يبدأ المسافر بقصر الصلاة، فإن مالكاً قال في الموطأ: لا يقصر الصلاة الذي يريد السفر حتى يخرج من بيوت القرية ]. من جنب البيوت.
[ ولا يتم حتى يدخل أول بيوتها ]. وبه قال الأئمة الثلاثة، [ وقد روي عنه أنه لا يقصر إذا كانت قرية جامعة حتى يكون منها بنحو ثلاثة أميال] خارجاً برّا.
[ وذلك عنده أقصى ما تجب فيه الجمعة على من كان خارج المصر في إحدى الروايتين عنه، وبالقول الأول قال الجمهور ].
ومنهم الأئمة: أبو حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد .
ومسافة الخروج من القرية حددوها عندما تخرج من دور القرية، خلاص مجرد أن تخرج من البيوت فلك أن تقصر.
قالوا: فإن كان لها سور، كصنعاء القديمة، فلا بد أن يخرج من السور، وإن لم يكن لها سور فلا يشترط إلا الخروج من الأبنية، وله أن يقصر في مزارعها. فعين الماء التي جنب القرية توضأ وصل فيها واقصر، وإذا كان هناك مزرعة خارج القرية، فيصح القصر فيها.
[ والسبب في هذا الاختلاف معارضة مفهوم الاسم لدليل الفعل]. مفهوم اسم السفر.
[ وذلك أنه إذا شرع في السفر فقد انطلق عليه اسم مسافر، فمن راعى مفهوم الاسم قال: إذا خرج من بيوت القرية قصر، ومن راعى دليل الفعل]. وهو فعل الرسول.
[ أعني: فعله عليه الصلاة والسلام قال: لا يقصر إلا إذا خرج من بيوت القرية بثلاثة أميال؛ لما صح من حديث أنس ]. عند مسلم .
[ قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شعبة الشاك- صلى ركعتين) ]. وهذا ليس في تحديد بدء السفر، وإنما هو في تحديد مسافة السفر، وقال شيخنا ناصر الدين الألباني : هذا الحديث في بيان تحديد المسافة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصر فيها، وليس في تحديد المسافة التي لا يمكن القصر إلا بعد قطعها. فالراجح أنه يقصر من مفارقة بيوت القرية.
[ وأما اختلافهم في الزمان الذي يجوز للمسافر إذا أقام فيه في بلد أن يقصر، فاختلاف كثير، حكى فيه أبو عمر نحواً من أحد عشر قولاً، إلا أن الأشهر منها هو ما عليه فقهاء الأمصار، ولهم في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: مذهب مالك و الشافعي أنه إذا أزمع المسافر على إقامة أربعة أيام أتم ].
يعني: عزم أنه يقيم أربعة أيام غير يوم الدخول والخروج، مثلاً: وصل يوم السبت، وعزم أن يسافر يوم الخميس، هذا لا يقصر؛ لأن يوم الدخول وهو يوم السبت غير معدود، فيبقى الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء، والخروج يوم الخميس، هذا لا يقصر، أما إذا كان أربعة أيام فيها يوم الدخول والخروج، فهذا يقصر.
[ والثاني: مذهب أبي حنيفة و سفيان الثوري أنه إذا أزمع على إقامة خمسة عشر يوماً أتم، والثالث: مذهب أحمد و داود أنه إذا أزمع على أكثر من أربعة أيام أتم أربعة أيام نضربها في خمس صلوات يساوي عشرين صلاة، إذا واحد وعشرين صلاة، يزيدوا صلاة واحدة على الأربعة الأيام.
[ وسبب الخلاف أنه أمر مسكوت عنه في الشرع، والقياس على التحديد ضعيف عند الجميع ].
أي: أن القياس على تحديد المدة ضعيف.
[ ولذا رام هؤلاء كلهم أن يستدلوا لمذهبهم من الأحوال التي نقلت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقام فيها مقصراً ].
أي: أحوال الرسول.
[ أو أنه جعل لها حكم المسافر ]. قال: (صلوا فإنا قوم سفر).
[ فالفريق الأول احتجوا لمذهبهم بما روى: ( أنه عليه الصلاة والسلام أقام بمكة ثلاثاً يقصر في عمرته) ]. في العمرة، يعني: عمرة القضاء.
[ وهذا ليس فيه حجة على أنه النهاية للقصير ]. أنه ثلاثة أيام.
[ وإنما فيه حجة على أنه يقصر في الثلاثة فما دونها ]. لكن ليست حجة أنها النهاية.
[ والفريق الثاني احتجوا لمذهبهم بما روي أنه أقام بمكة-عام الفتح- مقصراً، وذلك نحواً من خمسة عشر يوماً ]. أخرجه أبو داود ، وهو حديث ضعيف.
[ في بعض الروايات.. وقد روي سبعة عشر يوماً ]. كذلك أخرجه أبو داود .
[ وثمانية عشر يوماً ]. ذاك عن الترمذي .
[ وتسعة عشر يوماً ]. كذلك هذه كلها وردت كما قال.
[ وتسعة عشر يوماً رواه البخاري عن ابن عباس ]. وهذا هو الصحيح.
قال: [ وبكل قال فريق ].
[والفريق الثالث احتجوا بمقامه في حجه بمكة مقصراً أربعة أيام]. الذي قالوا: أربعة أيام، قالوا: إن الرسول قصر أربعة أيام.
[وقد احتجت المالكية لمذهبها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للمهاجر ثلاثة أيام بمكة مقاماً بعد قضاء نسكه)]. فالرسول صلى الله عليه وسلم لما قضى المهاجرون الحج قال: ( لا يقيمن أحدكم في مكة أربعة أيام)، (أو أكثر من أربعة أيام)؛ لأن المهاجر يحرم عليه أن يسكن البلد الذي هاجر منه، وإذا سكنه بطلت هجرته، فلما حدد لهم الرسول أن لا يسكنوا أربعة أيام، دل على أن الأربعة الأيام يكون فيها الإنسان مقيماً، ومن هذا الحديث أخذ الشافعية والمالكية التحديد بأربعة أيام، فقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى المهاجرين أن يقفوا بمكة أكثر من ثلاثة أيام، معناه الأربعة الأيام إقامة، وهذا دليل قوي.
[فدل هذا عندهم على أن إقامة ثلاثة أيام ليست تسلب عن المقيم فيها اسم السفر، وهي النكتة التي ذهب الجميع إليها، وراموا استنباطها من فعله عليه الصلاة والسلام، أعني: متى يرتفع عنه بقصد الإقامة اسم السفر؟ ولذلك اتفقوا على أنه إن كانت الإقامة مدة لا يرتفع فيها عنه اسم السفر بحسب رأي واحد منهم في تلك المدة، وعاقه عائق عن السفر أنه يقصر أبداً وإن أقام ما شاء الله ]. يقصر أبداً يعني على كل حال فإذا أقام مدة يريد السفر كل يوم، وعاقه عائق فإنه يقصر المدة التي قصر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال: [ ومن راعى الزمان الأقل من مقامه تأول مقامه في الزمان الأكثر مما ادعاه خصمه على هذه الجهة؛ فقالت المالكية مثلاً: إن الخمسة عشر يوماً التي أقامها عليه الصلاة والسلام عام الفتح، إنما أقامها وهو أبداً ينوي أنه لا يقيم أربعة أيام]. يعني: اثني عشر يوماً وهو ينوي أن لا يقيم أربعة أيام.
قال: [ وهذا بعينه يلزمهم في الزمان الذي حدوه ]. هذا الكلام فيه شيء، لكن نقول: على أنه إذا عزم أربعة أيام بغير يوم الدخول والخروج، هذا يتم، وإذا كان كل يوم يعزم على أنه سيخرج، ولكن لا تنتهي أعماله، فإنه يقصر إلى عشرين يوم. والراجح.. وأحسن ما يرجع إليه في تحديد القصر لمن أقام بغير بلده. أما بلده بمجرد ما يصل يعتبر مقيم.
هو ما ذكره الإمام الشوكاني في السيل (1/308، 309) فقال: أقول: الذي لم يعزم على إقامة معينة، لا يزال يقصر حتى يمضي له قدر المدة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة عام الفتح، وفي تبوك، وقد روي أنه أقام بمكة ثماني عشرة ليلة كما في رواية، أو سبع عشرة ليلة كما في رواية، أو تسع عشرة ليلة كما في رواية، وروي أنه أقام بتبوك عشرين ليلة. فإذا قضى المتردد وهو الذي لم يعزم على إقامة معينة عشرين ليلة، أتم صلاته.
يعني إذا جلس عشرين يوماً يقول: الصبح أسافر بكرة أسافر بعد بكرة أسافر، وهكذا حتى مضى عليه عشرون يوماً، نقول له: أما الآن فأتم.
فإن قال قائل: ومن أين لك أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أقام أكثر من هذه المدة لأتم صلاته ولم يقصر؟ فيجاب عنه بأن المقيم ببلد قد حط رحله وذهب عنه مشقة السفر، فلولا أنه صلى الله عليه وسلم قصر في هذه المدة لما كان القصر في ذلك سائغاً ولا جائزاً.
أي: أن المسافر لما يصل ويأخذ الفندق، ويقعد في الفندق، ويضع رحله، ولكنه كل يوم يريد أن يسافر هل هذا يسمى مسافراً في العرف؟ نرى أنه ليس مسافراً؛ لأنه لا يوجد عليه مشقة الآن، لكن لما رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم قصر اتبعنا الرسول، لولا أن الرسول قصر لقلنا: يجب عليه أن يرجع إلى الأصل الذي هو الإتمام.
فعلينا أن نقتصر على المدة التي قصر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأطلق عليه وعلى من معه فيها اسم السفر، فقال: ( أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر). وقد أطلق عليهم في هذه الثمانية العشر يوماً أنهم مسافرون.
وأما من عزم على إقامة معينة - يعني أربعة أيام - فلم يثبت فيه إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة في عام حجه، في أيام إقامته بمكة، وهو قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة، فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع.
وصلى الصبح في اليوم الثامن بمكة، ثم خرج إلى منى، فقد عزم صلى الله عليه وسلم على إقامة هذه الأربعة الأيام بمكة، وقصر الصلاة فيها، فمن عزم على إقامة أربعة أيام بمكة أو غيرها قصر، وإن عزم على إقامة أكثر منها أتم - هذا مذهب أحمد - اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم - هذا كلام الشوكاني - ورجوعاً إلى الأصل وهو أن المقيم يتم. [ والأشبه في المجتهد في هذا أن يسلك أحد أمرين: إما أن يجعل الحكم لأكثر الزمان الذي روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقام فيه مقصراً، ويجعل ذلك حداً من جهة الأصل وهو الإتمام ].
يعني يقول: على أنه يجعل أكثر الزمان، وهو العشرون يوماً، وبعد ذلك يرجع إلى الأصل الذي هو الإتمام.
[ فوجب ألا يزاد على هذا الزمان إلا بدليل، أو يقول: إن الأصل في هذا هو أقل الزمان الذي وقع عليه الإجماع ].
أو أن المجتهد يقول: الأصل أربعة أيام، وبعد الأربعة الأيام لا يجوز القصر مطلقاً.
[ وما ورد من أنه عليه الصلاة والسلام أقام مقصراً أكثر من ذلك الزمان، فيحتمل أن يكون أقامه لأنه جائز للمسافر، ويحتمل أن يكون أقامه بنية الزمان الذي تجوز إقامته فيه مقصراً باتفاق، فعرض له أن قام أكثر من ذلك، وإذا كان الاحتمال وجب التمسك بالأصل، وأقل ما قيل في ذلك يوم وليلة].
أي: أقل شيء قيل: أنه يقصر يوم وليلة.
قال: [ وهو قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن . وروي عن الحسن البصري أن المسافر يقصر أبداً إلا أن يقدم مصراً من الأمصار، وهذا بناءً على أن اسم السفر واقع عليه حتى يقدم مصراً من الأمصار، فهذه أمهات المسائل التي تتعلق بالقصر ]. يقول: على أن الذين يقعدون يحرسون في الجند ليسوا في مصر من الأمصار.. أو يحرسون في الثغور، أنهم مسافرون ما داموا في الثغور؛ لأنه يطلق عليهم أنهم ليسوا بمقيمين، قال: حتى يقدم مصراً من الأمصار، فإذا قدم مصراً من الأمصار خلاص انتهى.
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد ألا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر