إسلام ويب

الشباب المسلم الواقع والآفاقللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • خلق الله الإنسان على مراحل عدة، واختص منها مرحلة الشباب التي تنتهي بسن الأربعين؛ لأنها سن النشاط والجد والعمل، ولذلك كانت مخصوصة بالمساءلة يوم القيامة بعد السؤال عن العمر كله، فعلى كل مسلم ومسلمة أن يستغل شبابه في طاعة الله تعالى، والعمل لدينه، قبل أن يدركه الكبر أو الموت فيقول: رب لولا أخرتني إلى أجل قريب، ولا يستطيع العمل.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    أما بعد:

    مراحل خلق الإنسان

    فإن مفهوم الشباب مفهوم يختلف باختلاف إطلاقه؛ فقد يرد ويقصد به سن معينة يمر بها الإنسان في تكوينه، وهي المدرجة في المرحلة السابعة من المراحل التي بين الله تعالى في كتابه في خلق الإنسان؛ فقد ذكر الله سبحانه وتعالى في خلق الإنسان تسع مراحل يمر بها؛ وهي المذكورة في قول الله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:12-16].

    فهي تسع مراحل؛ السابعة منها هي قوله: ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ [المؤمنون:14]، والمقصود بها تنامي الإنسان بعد ميلاده إلى أن يبدأ ضعيفاً ثم يقوى، ثم يضعف الضعف المقرون بالشيبة، ثم بعد ذلك تأتي المرحلة الثامنة وهي الموت، ثم تأتي المرحلة التاسعة، وهي البعث بعد الموت.

    ابتداء سن الشباب وانتهاؤه

    إن هذه المرحلة من حياة الإنسان تبدأ في حال الضعف، وتشهد واقعه الأول الذي هو خروج من الظلمات؛ التي هي: ظلمات الرحم، والبطن، ثم بعد ذلك دخول إلى هذه الدنيا التي فيها الأنوار والظلمات، ثم يمكث الإنسان أطوار التربية فيها، وبعد ذلك ينتقل إلى مدة عمره إلى أن يصل إلى ارتفاع الشباب وقوته، وهذه المرحلة هي مرحلة الخصوبة في حياة الإنسان، فهي التي يصلح فيها للتلقي عن الله سبحانه وتعالى، والتعلم والفهم؛ لأن هذا العقل بفطرته، وبخلق الله تعالى له يستعد للتلقي والقبول في بداية الشباب، وإذا بلغ شخص من العمر عتياً؛ فإن إمداد عقله سيضعف؛ وذلك إمداد عقل الفطرة، ويبقى يعوض له بعقل التجربة الذي يكتسبه مع طول العمر، ومع ما مر عليه من التجارب، لكن العقل الفطري يتوقف إذا بلغ أشده من العمر؛ وهو أربعون سنة، وهذه نهاية عمر الشباب، وهي التي يرسل الله عليها الرسل.

    السن التي يرسل الله فيها الرسل

    فالله سبحانه وتعالى عندما قص علينا قصة موسى ذكر أنه حين بلغ أشده جاءته الرسالة، وعندما قص علينا قصة يوسف ذكر أنه حين بلغ أشده جاءته الرسالة, والرسول صلى الله عليه وسلم بعث حين أكمل أربعين سنة، وهذه القاعدة لم يشذ عنها إلا نوادر قلة؛ فـعيسى عليه السلام أخبر الله أنه آتاه الحكم والكتاب صبياً، وقد تكلم في المهد، وأخبر عن ذلك في قوله: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم:30-32].

    وكذلك يحيى عليه السلام أخبر الله سبحانه وتعالى في امتنانه على أبيه زكريا حين سأل الله الذرية الصالحة، أخبر عنه أنه يؤتيه الكتاب والحكم وهو في صباه؛ لكن القاعدة العامة: أن الرسل إنما يبعثون على إكمال الأشد، وذلك إذا أتموا أربعين سنة.

    عمر العمل والتلقي قبل سن الأربعين

    أما ما قبل الأربعين فهي فترة الخصوبة في عمر الإنسان، ووقت الاستفادة والتلقي، وهو وقت عظيم جداً وخطر؛ لأنه سلاح ذو حدين، إما أن يصرف في المنجاة الدائمة الخالدة الباقية، وإما أن يصرف في الهلاك والبوار الذي يشب عليه، ويشيب عليه، ويستمر إلى القبر.

    وتذكرون قصة صالح بن عبد القدوس حين دخل على المهدي الخليفة؛ فذكر أنه تائب من الزندقة، فقبل المهدي توبته واستتابه بين أيدي الناس، فأشهر توبته، وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم انصرف راجعاً فدعاه، فقال: أنشدني قصيدتك السريعية السينية، فظن أن الخليفة معجب بقصيدته فأنشده إياها، فما وصل إلى قوله فيها:

    والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه

    قال: حكم الشيخ على نفسه، يا حرسي اقطعوا رأسه؛ فالشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه، لكن الشاب يمكن أن يتغير، ويمكن أن يستفيد في تربيته، وينتفع في الأطوار التي تمر عليه؛ ولهذا شرعت التربية في هذه المرحلة، والعرب يقولون: العوان لا تعلم الخمرة، والعوان معناه: غير الفارض، وغير البكر التي قد ذهبت أسنانها من النعم، فهذه يلحق بها ما كان يشبهها من بني آدم؛ فالمرأة العجوز لا تعلم الخمرة معناه: هيئة لي الخمار على رأسها، وستر رأسها بالخمار؛ لأنها قد جربت ذلك، والمقصود في المثل أن من كبرت سنه على وجه معين يصعب تغييره عن ما ألف وما تعود.

    السن الغالبة في أتباع الرسل

    ومن هذا المنطلق نعلم أن أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام لم يكونوا إلا شباباً في أغلب الأحيان، ومن النادر أن يكون فيهم الشيوخ الكبار، انظروا إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واقرأوا تراجمهم، وقد ترجم الحافظ ابن حجر في الإصابة لثمانية آلاف وخمسمائة منهم، ليس فيهم كبير سن من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مجموعة معدودة على الأصابع، منها قوم مخضرمون عاشوا ستين في الجاهلية، وستين في الإسلام، لكن الكبار الشيوخ قلة جداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم عبيدة بن الحارث بن المطلب الذي كان جسمه جسم شيخ كبير، وعقله عقل شاب ثقف متأدب؛ ولهذا قال يوم بدر حين خرج إلى البراز؛ فبارز عتبة بن ربيعة حتى قتل كل واحد منهما الآخر، وأطن عتبة ساقه، وحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما وضع بين يديه وهو يجود بنفسه، قال: يا رسول الله! لوددت أن أبا طالب حي حتى يعلم أنا أحق منه بقوله:

    كذبتم وبيت الله نبزى محمد ولما نقاتل دونه ونناضل

    فنسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل

    ولقي الله وهو عنه راض، وكان من شهداء بدر الذين رضي الله عنهم وأرضاهم.

    وكذلك قلة من الأنصار من كبار السن، هم الذين أسلموا برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ منهم: عمرو بن الجموح الذي كان أولاده يحتالون عليه، ويشوهون عليه صنمه؛ لعل الله أن يهديه إلى الإسلام، وكان سيد قومه، وكان شديدًا على المسلمين في بداية العهد، ولكن أولاده وزوجته ما زالوا يحتالون عليه حتى هداه الله إلى الإسلام؛ فجاء يوم أحد، وقد ندم على ما فاته من الجهاد في سبيل الله، وكان رجلاً أعرج؛ فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بعرجته إلى القتال؛ فقال: (إن الله قد عذرك)، فالله سبحانه وتعالى يقول: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [الفتح:17]، ( فقال: يا رسول الله! إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة )؛ فقتل يوم أحد ولقي الله وهو عنه راض، ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبره، ودفن هو و عبد الله بن عمرو بن حرام في قبر واحد، وكانا من الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثمانية أيام، حين وقف عليهم فقال: (إني شهيد على هؤلاء بأن صدقوا ما عاهدوا الله عليه).

    هؤلاء الذين تبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أغلبهم من الشباب الذين ليس لهم تلك المكانة في قومهم، وليست لهم تلك المنزلة المرموقة في الملأ المقدم، ولا في الأغنياء، ولا في قادة القبائل، وإنما هم أفراد لا يؤبه لهم، لا يفتقدون إذا غابوا، ولا يقام إليهم إذا شهدوا، وهؤلاء هم الذين استطاعوا أن ينتصروا على أهوائهم، وآثروا الآخرة على الأولى؛ فقدموا أنفسهم قرباناً إلى الله سبحانه وتعالى، وصدقوا في بيعتهم مع الله سبحانه وتعالى، وسلكوا طريق من سبقهم.

    فـنوح عليه السلام يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن مجادلة قومه له أنهم قالوا: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ [هود:27]، وكذلك أخبرنا الله تعالى عن موسى فقال: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ [يونس:83]، وكذلك يخبرنا عن أصحاب الكهف الذين تقرأ قصتهم في مقدمة سورة الكهف؛ هذه السورة التي هي عصمة من الدجال ، يقول الله سبحانه وتعالى فيها: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13].

    وكذلك لم تشهد المدينة في بداية هذه الدعوة انتشار النفاق في أوساط الشباب، وإنما كان الشباب هم الذين يطلعون على أخبار المنافقين، ويكافحون مخططاتهم، فها هو زيد بن أرقم كان يتيماً تربى في حجر رجل غني من بني عمه، وكان ربيبه زوج أمه، وأحسن إليه، وسد له مسد أبيه، ولكنه آثر الله ورسوله عليه؛ فكان رديفه ذات ليلة، فسمعه يقول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فسمعها هذا الولد الصغير، سمعتها أذناه، ووعاها قلبه، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، وقال لهذا الرجل الذي هو ربيبه: (والله إنك لأمن رجل علي، ولكني آثرت الله ورسوله، ووالله لأبلغن ما سمعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره الخبر، جاء الرجل يعتذر ويحلف لقد كذب عليه الولد، وشهد له الناس بأنه هو الصادق، وأن الولد الكاذب، فجاء جبريل من فوق سبع سموات فشهد بصدق زيد بن أرقم؛ فحك رسول الله أذنه وقال: أذن واعية).

    كذلك كان منهم فتى صغير حدث له عم كبير من سادة قومه، وهو أبو عفك وكان ضريراً أعمى، فكان إذا خلا بنفسه في الليل ولم يحضره إلا أقاربه، ذكر هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، الهجاء الذي يهجوهم به ابن الأشرف وجماعته من اليهود، فردده هذا المنافق؛ فسمع ذلك هذا الشاب من قريبه هذا، فلم يتحمل سماعه فقام إلى سيف ووضعه في سرته، واضطجع عليه حتى قتله، وأنشد أبياته التي يقول فيها:

    أبا عفك خذها على كبر السن

    هؤلاء هم الذين لم تثقل كواهلهم أعباء هذه الدنيا ولا مشاغلها، ولم يتحملوا كثيراً من المسئوليات؛ فاستطاعوا أن يؤثروا الآخرة على الأولى، ولم تتعلق قلوبهم بمصالح هذه الدنيا الفانية، صلحوا لأن يستقبلوا عن الله سبحانه وتعالى، وأن يتفهموا كلامه، ولم تنطو قلوبهم على الغل والحسد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087504168

    عدد مرات الحفظ

    772721482