إسلام ويب

معرفة الله في الرخاءللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لا شك في أن الله غني عن عباده كما أنهم مفتقرون إليه، وأسعد العباد هم الذين يتعرفون إلى الله في الرخاء بالتقرب إليه بما يرضيه، فإذا فعلوا ذلك وشكروا الله على نعمائه تعرف إليهم في الشدة كما تعرفوا إليه في الرخاء.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    حاجة العباد إلى التعرف إلى الله

    فإن الله سبحانه وتعالى هو الغني الحميد، لا يحتاج إلى شيء من عباده، والعباد جميعاً مفتقرون إليه خلقاً ورزقاً وتدبيراً، لا يمكن أن يستغني أحد عنه في طرفة عين، وقد قال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ[فاطر:15-17]، وقال تعالى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ[الأنعام:89]، ولا يمكن أن يصل إليه عباده بنفع ولا ضر؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى في سورة الحج: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى[الحج:36-37]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الصحيح أنه قال فيما رواه عن ربه عز وجل: ( يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني )، فلا يمكن أن يبلغه عباده بنفع ولا بضر؛ ولذلك فهم الفقراء إليه المحتاجون إليه في كل أوقاتهم، فلا بد إذاً أن يدركوا ذلك وأن يتقربوا إليه، وأن يعلموا أن غناه عنهم سبق وجودهم وسيعقبهم، فيحتاجون إلى التعرف إليه في الرخاء ليعرفهم في الشدة، وهذه نصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي نصح بها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وهي نصيحة لكل مؤمن؛ فكل مؤمن عليه أن يتعرف إلى الله في الرخاء ليعرفه في الشدة.

    المقصود بالتعرف إلى الله

    والمقصود بالتعرف إلى الله: التقرب إليه بالأعمال الصالحة وإقراضه قرضاً حسناً؛ فليس المقصود به أن تزداد معرفته بعبده؛ فهو العالم بجزئيات حياة كل عبد، فلا يمكن أن يتنفس تنفساً إلا بأمره، ولا يمكن أن يفكر تفكيراً إلا بعد إذنه؛ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[التكوير:28-29]، لكن التعرف إليه سبحانه وتعالى إنما هو بإقراضه قرضاً حسناً، وقد دعا إلى ذلك في كتابه فقال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً[البقرة:245]، وقال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ[الحديد:11]، فعند الله سبحانه وتعالى الخير الجزيل والثواب العظيم لكل من تقرب إليه بالأعمال الصالحة وبالأخص في وقت عدم الدواعي؛ فالإنسان في وقت الكرب تدعوه الدواعي للإنابة إلى الله والتوبة إليه والعمل الصالح، إذا أحس بأن أجله قد دنا وقد ارتفعت الروح من أسفل بدنه ووصلت إلى صدره وحشرجت فيه، وبلغت التراقي والتف الساق بالساق؛ فحينئذ يحتاج الإنسان إلى المبادرة إلى التوبة والمبادرة بالأعمال الصالحة، وكثيراً ما يوصي ببعض ماله في ذلك الوقت الذي كان محباً له، ولكن هذا الحال إنما هو من التعرف إليه في حال الشدة وقد وصل الإنسان إلى اليقين.

    وكذلك إذا كان في جوف البحر وقد اغتلم فجاءه من كل مكان ورأى الموت بعيني رأسه؛ كثيراً ما يلجأ إلى الله في ذلك الوقت حتى لو كان مشركاً، ثم إذا نجا من ذلك عاد إلى شركه؛ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ[الإسراء:67]، وكثيراً ما يكون الإنسان كذلك في وقت كرب آخر من مرض أو ألم أو فقد قريب أو حبيب أو حاجة إلى أمر ما يتذكر اللجأ إلى الله فيدعوه ويمد إليه أيدي الضراعة، ويعاهده على التوبة والرجوع والإنابة، لكن ذلك إذا كان في وقت الكرب بعد أن أتاه اليقين لا يغني ولا ينفع؛ فإن المشركين جميعاً يفعلونه؛ فالمشركون جميعاً يعرفون الله في وقت الشدة؛ ولذلك فإن فرعون عندما أدركه الغرق قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ المُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً[يونس:90-92]، فلم يغن عنه اعترافه بربوبية الله وألوهيته في وقت الشدة شيئاً؛ لأنه كان يقول في وقت الرخاء: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى[النازعات:24].

    عاقبة الغفلة عن التعرف إلى الله في وقت الرخاء

    إن حاجة الإنسان إلى معرفة الله والتقرب إليه في وقت الرخاء حاجة ماسة ولا يمكن أن يستغني عنها؛ لأنه بمجرد إغفاله لها يكتب من الغافلين ويزداد في الطغيان ويملى له، فالغافلون عن الله سبحانه وتعالى الذين لا يتعرفون إليه ولا يتقربون إليه بالأعمال الصالحة في وقت الصحة والعافية وفي وقت الوفرة في الأرزاق هؤلاء لا يزدادون إلا طغياناً وبعداً من الله؛ لأن الله يملي لهم فيقيض لهم الغنى والصحة والعافية حتى يزدادوا غفلة وبعداً عن الله تعالى، وقد قال الله تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى[العلق:6-7]، وبذلك يختم على قلوبهم فيطبع عليها بطابع النفاق، نسأل الله السلامة والعافية!

    تعرف أهل الإيمان إلى الله بنعمه

    أما من كان من أهل الإيمان فإنه يعرف الله في الرخاء فيتعرف إليه بنعمه التي أنعم عليه بها؛ فيتذكر في صحته وفراغه علاقته بالله، فإذا خلا وحده في غرفته وأخلد إلى الراحة والهدوء ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، يتذكر جلال الله وعظمته وكبرياءه، ويتذكر نعم الله عليه، ويتذكر أنه رقيب له في هذا الوقت لا تخفى عليه منه خافية؛ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ[ق:16]، وكذلك إذا كملت قواه ذكر أن الله هو الذي أنعم عليه بهذه القوى؛ فإذا نجح في أي أمر من الأمور التي تقتضي القوة لم يتكبر بذلك ولم يفخر به ولم يتسور به على عباد الله، بل كان من المبادرين إلى الاعتراف لله تعالى بالجميل.

    قال موسى بن عمران عليه السلام لما قواه الله فوكز رجلاً قوياً فقضى عليه، فإن موسى عليه السلام اعترف لله تعالى بهذه النعمة فقال: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ[القصص:17].

    وكذلك إذا تكاملت لديه النعم من السلطان والمال والجاه وغير ذلك، إذا كان من أهل الإيمان والتقوى زاده ذلك من الله قرباً وإنابة وشكراً، ولذلك فإن الله تعالى ألهم داود وآل بيته شكر نعمه لما أسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، فأعطاه الله الملك والعلم والحكمة، وأعطاه سليمان نبياً مؤازراً له مساعداً له في ملكه، ثم أسبغ على سليمان نعمه بعد ذلك ففهمه كل ما تسمعه الأذن، حتى أصوات الطير وأصوات الرياح وأصوات الحشرات والنمل، كل ما تسمعه الأذن يفهمه سليمان عليه السلام؛ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ[الأنبياء:79].

    وعندما توفى الله داود عليه السلام وجعل سليمان في خلافته لم يطغ بالنعمة بل شكرها لله؛ ولذلك قال الله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ[النمل:16]، واعترف بالنعمة لله فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ المُبِينُ[النمل:16]، فكان شاكراً لله تعالى على هذه النعمة، واعترف بذلك في كل أوقاته؛ ففي دعائه لله تعالى يقول: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ[النمل:19]، لم يتكبر ولم يتجبر وهو نبي ملك جمع الله له خيري الدنيا والآخرة، ومع ذلك يسأل الله أن يلحقه بالصالحين؛ لأن الحي يخاف الفتنة دائماً ويخاف سوء الخاتمة، ويخاف الشرك في كل أوقاته، فينبغي للحي أن لا يغتر بصلاح حاله؛ لأنه لا يدري عاقبة مآله هل هي صلاح أو فساد.

    ولذلك فإن أنبياء الله كانوا يسألونه الصلاح؛ فقد سمعتم في دعاء سليمان: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ[يوسف:101].

    وفي دعاء يوسف عليه السلام: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ[يوسف:101]، بعد أن أنعم الله عليه بهذه النعم الجليلة العظيمة، فملكه على مصر وجمع شمله بأبويه وإخوته ورفعهم على العرش وسجدوا له جميعاً، وحقق الله له تأويل رؤياه التي كان أراه من قبل، في كل ذلك شكر هذه النعمة لله تعالى ودان له بشكرها وسأله أن يلحقه بالصالحين.

    فأنبياء الله هم المثل والقدوات التي ينبغي أن يقتدي بها أهل الإيمان.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087504102

    عدد مرات الحفظ

    772720992