إسلام ويب

مكانة المساجدللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • خص الله المساجد وميزها على غيرها، فكانت أحب البقاع إليه، وما ذلك إلا لأنها رموز الإسلام في أرض الله، ومنارات الحق، حيث حث على بنائها وعمارتها حسياً ومعنوياً، وإحياء دورها في شتى المجالات من تعليم وتدريب وتربية وقضاء، وإعادة لحمة المسلمين وتكثير سوادهم أمام أعدائهم.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، وقد اختار من خلقه أشياء نسبها إلى نفسه تشريفاً لها وتعظيماً، ومن ذلك هذه المساجد التي سماها الله بيوت الله، وشرفها بذلك عما سواها من الأماكن؛ فجعلها بداية الدنيا فقال سبحانه وتعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[آل عمران:96-97]، جعل الله بداية الدنيا من البيت الحرام الذي جعله مثابة للناس وأمناً، فمن هنالك ابتدأت الحضارة على هذه الأرض كلها، وشرف القدم يقتضي الاهتمام الزائد من خالق هذا الكون بهذه المساجد، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أحب البقاع إلى الله مساجدها، وأبغض البقاع إلى الله أسواقها )، فأحب المشاهد إلى الله هذه البيوت التي شرفها بأن أضافها إلى نفسه، وجعلها متمحضة لعبادته.

    مشروعية الإنشاء والبناء

    لقد خص الله سبحانه وتعالى المساجد بكثير من الخصائص ومن أعظمها: مشروعية إنشائها وبنائها، والأجر العظيم على ذلك؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من بنى لله مسجداً ولو قدر مفحص قطاة بنى الله به بيتاً في الجنة ).

    وانظروا إلى قدر مفحص قطاة! والقطاة الطير الكدر التي تسكن في الأرياف والبوادي، ومفحصها المكان الذي تحفره لتستقر فيه عند البر، وبنى الله له بيتاً في الجنة مقابل ذلك القدر، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( والذي نفس محمد بيده لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها )، وقال لأصحابه حين عجبوا من جبة أكيدر دومة الجندل ولمسوها بأيديهم كما في الصحيح، قال: ( والله لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها )، وبين النبي صلى الله عليه وسلم بيوت الجنة فبين أنها لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وأن سقفها قباب من لؤلؤ وزبرجد منحوتة، يرى باطنها من ظاهرها، وظاهرها من باطنها، إنها بيوت الجنة، إن سعتها لا تقدر؛ فانظروا إلى الجنة التي هذه بيوتها وعرضها كعرض السماء والأرض.

    إذا كان جزاء مفحص قطاة في هذه الدنيا يقابل بمثل هذه البيوت في الجنة فمعناه أن هذه البيوت صفقاتها رابحة، فيا أيها الراغبون في الربح! يا أيها التجار الذين يرغبون في زيادة الاستثمار! إن هذه البيوت هي مكان للاستثمار الرائج، هي التي دعاكم الله سبحانه وتعالى للاستثمار فيها فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ[الصف:10-12].

    استثمار الأوقات فيها بالطاعة

    إن هذه البيوت مكان للاستثمار في الأوقات وفي الجهد كله؛ فالنوع الثاني من أنواع تفضيلها أن وقت الإنسان فيها وقت شغلت فيه جوارحه عن معصية الله سبحانه وتعالى بطاعته؛ ولذلك عد النبي صلى الله عليه وسلم الجلوس فيها رباطاً في سبيل الله؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ألا أخبركم بما يحط الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط فذلكم الرباط.. فذلكم الرباط )، إنه جلوس لا يكلف؛ فالإنسان فيه ليس تحت بارقة السيوف، وليس في السجون، ولا في الأماكن التي يشق عليه الجلوس فيها، بل هو في راحة تامة وطمأنينة، يزاحم الملائكة الكرام المقربين، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ويتعرف عليهم على أبواب المساجد يكتبون الناس الأول فالأول، ويجالس أهل الذكر الذين اختارهم الله لشغلهم بطاعته عن معصيته، فهو بذلك يرابط في سبيل الله سبحانه وتعالى بمجرد الجلوس في هذه البيوت الطيبة.

    فضل قصد المساجد والمشي إليها

    كذلك فإن قصدها بين النبي صلى الله عليه وسلم منزلته فقال: ( بشر المشائين في سدف الليل إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة )، إن الظلمة التي يسير فيها الإنسان في آخر الليل إلى المسجد ثمنها النور التام يوم القيامة، عندما يضرب بين أهل الجنة وأهل النار بسور له باب باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب؛ فيتخبط أهل النار في ظلماتهم أشد تخبط، ضرب الله لهم مثلا بقوم كانوا تحت مطر شديد، ورعد شديد وبرق، إذا أضاء لهم البرق أخذ أبصارهم، فلا يدركون شيئاً مما ينظرون إليه من شدة وقع البرق، وإذا انطفأ البرق انطفأ نورهم بالكلية؛ فلم يستطيعوا تقدماً ولا تأخراً؛ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ[البقرة:19]، فهذا حال أهل النار، نسأل من الله السلامة والعافية.

    إننا محتاجون إلى النور التام يوم القيامة؛ ولذلك حضَّنا الله على سؤاله وبين أن أهل الإيمان يسألونه إياه؛ فحكى عنهم قولهم: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[التحريم:8]، كذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بذلك؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذهب إلى المسجد في آخر الليل يقول: ( اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، واجعلني نوراً )، وفي رواية: ( وأكمل لي نوراً )، وفي بعض الروايات أنها تبلغ تسع عشرة دعوة بالنور، فنحن محتاجون إلى هذا النور، وسوقه في الدنيا هي الظلمات على أبواب المساجد، فالذين يقصدونها في سدف الليل هم الذين يتمم الله نورهم يوم القيامة.

    فضل التعليم والتعلم في المساجد

    كذلك فإن من صفقاتها المربحة: أن جلوساً فيها لقصد التعليم أو التعلم بمثابة جهاد في سبيل الله يرجع منه الإنسان سالماً غانماً؛ فقد أخرج مالك في الموطأ عن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم ، قال: من خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه، كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً. إنها غنيمة باردة يرجع بها الإنسان وهو ينوي عند خروجه أن يعلم أو يتعلم في المسجد، فيرجع كالمجاهد في سبيل الله غانماً، فسلم وغنم.

    كذلك فإن عمارتها دليل على الإيمان، وهذه الصفقة ليست دون السابقة؛ فمجرد كون الإنسان من الذين يعمرون المساجد دليل على إيمانه؛ لقول الله تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ[التوبة:18].

    إقبال جميع المؤمنين عليها

    كذلك من صفقاتها المربحة: أن الله سبحانه وتعالى دعا إليها المؤمنين أجمعين، ذكوراً وإناثا، كباراً وصغاراً؛ فجعل مناديه ينادي: حي على الصلاة.. حي على الفلاح، فيسمع ذلك المؤمنون فيلبون نداء الله سبحانه وتعالى، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن إذا خرجن تفلات )، أي: غير متعطرات ولا متزينات، فهذا نداء الله وهذه مائدته في الأرض يدعو إليه عباده رجالاً ونساء، وأطفالاً وشيوخاً، وغير ذلك، يدعوهم جميعاً للاجتماع فيها؛ ولهذا أخرج مسلم في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ( من سره أن يلقى الله غداً مسلماً؛ فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن.. ) أي: في المكان الذي ينادى بهن فيه، ( فإنهن من سنن الهدى، وإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، ولعمري لو أن كل أحد منكم صلى في بيته، كما يفعل هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد رأيت الرجل يهادى بين الرجلين حتى يدرج في الصف ). فالرجل الذي لا يستطيع السير يهادى ويحمل بين رجلين حتى يدرج، أي: يدخل في الصف، هذا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لا يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق؛ كل الناس يشهدون له بالنفاق.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087509794

    عدد مرات الحفظ

    772761708