إسلام ويب

مشاهد القيامةللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لابد وأن يسير الإنسان إلى مستقر له هو لاقيه، فإذا مات الإنسان فقد قامت قيامته، وهي المعنية بالقيامة الصغرى، ولها مشاهد بعد الموت. أما القيامة الكبرى فقد نصب الشارع لها علامات وأشراط صغرى وكبرى، وتبدأ بنفخ إسرافيل في الصور، ثم يركب الناس بعد ذلك طبقاً عن طبق حتى يكون المستقر الجنة أو النار، والسعيد حقاً من زحزح نفسه عن النار وقربها من الجنة

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الإنسان يسير إلى مستقر له هو لاقيه لا محالة، فعليه أن يتدبر فيما أمامه، وأن يتذكر تلك المشاهد التي تنتظره؛ لأن ذلك مدعاة للإعداد لها، ولذلك فإن: ( رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في جنازة فلما وضع الميت في قبره نظر إلى أصحابه، فقال: أي إخواني! أعدوا لمثل هذه الضجعة )، فعلى الإنسان أن يستعد لهذه المشاهد التي يؤمن بها، ويعلم أنها آتية لا محالة، وأنه ليس له ملجأ ولا مفر، وليس له ملتحد عنها، فهي أمامه في طريقه لابد أن يمر عليها، فيحتاج إلى التفكر فيها والتدبر، فهو ما يلين الله به القلوب الغليظة، ونحن محتاجون إلى لين قلوبنا فما أقساها! يقرأ علينا القرآن الذي لو عرض على الجبال لتفجرت بالماء، ولا نتأثر به وقد قال الله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[الحشر:21].

    فلابد إخواني! من ساعات يدور فيها أمر الآخرة في خلد الإنسان، فيفكر في عرضه على الله سبحانه وتعالى ماشياً، حافياً، عارياً، أغرل، ليس معه إلا عمله، وأن نفكر في مشاهد القيامة وتباين نتائج الامتحان، فنحن اليوم في هذه الدار في دار الامتحان، وقد وزعت علينا صحائفنا وأقلامنا، وكل إنسان منا يبادر إلى ما ينجيه، أو يبادر إلى ما يرديه، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، والنتائج تعلن ليس فيها تزوير ولا غش، ينادي المنادي على رؤوس الأشهاد: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ[يس:59].

    والفصل حينئذ لا معقب له؛ فإنه يضرب بين أهل الجنة وأهل النار بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، فتلك النتائج ليس فيها تعقيب ولا طعن؛ ولذلك لابد أن نستعد لها من الآن مادامت الفرصة سانحة، والعمر مواتياً، فسيحال بين الإنسان وبين أن يقول: لا إله إلا الله! فلابد أن يبادر مادام يمكن أن يقدم شيئاً لنفسه، وأن يتدارك ذلك قبل فوات الأوان.

    إن القيامة قيامتان: قيامة صغرى، وقيامة كبرى، فالقيامة الصغرى هي الموت، إذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الأعراب فيسألونه: ( متى الساعة؟ فينظر إلى أصغرهم فيقول: لا تقوم الساعة حتى يموت هذا حتى تقوم قيامته )، ( فسئل عن ذلك؟ فقال: إذا مات ابن أدم فقد قامت قيامته )، وذلك أن الإنسان بمجرد الموت تنكشف عنه الغشاوة، فيرى ما لم يكن يحتسب، ويبدو له ما كان عنه غائباً، كما قال الله تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47]، كثير من الناس يرى الأجداث، فيرى القبور الضيقة وقد وضعت فيها الجنائز ثم رد عليها التراب، وذرت عليها السوافي وهجرها أهلها، وانقطعت أخبار أهلها، فلا اتصال ولا أخبار، ولا سلام ولا إجابة.

    فلئن صرت لا تحير جواباً لبما قد ترى وأنت خطيب

    حقيقة الموت

    فيرى هذا الأمر فيظنه هيناً، وأنه مجرد انتقال من حال إلى حال، أو أنه فناء وانعدام، وكل ذلك محض هراء، فإن الإنسان بمجرد الموت يدخل في مسلسل من الانشغالات لا حصر لها، فالموت ينسيه كل ما سبق، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أكثروا من هاذم اللذات الموت، فما ذكر في سعة إلا ضيقها، وما ذكر في ضيق إلا وسعه )، أكثروا من ذكر هذام اللذات الموت، هادم اللذات، أي: قاطعها، فهو يقطع على الإنسان لذاته ومشاريعه وآماله، مادام الإنسان حياً يؤمل أن يعيش ويؤمل أن يعمل كثيراً من الأعمال، حتى يأتي الموت فسينقطع به الأمل، ولذلك: ( خط رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس خطاً، ثم خط خطاً مربعاً، فجعل ذلك الخط في وسطه، ثم أخرج منه خطاً خارجاً، وأدخل فيه خطوطاً صغيرة عن يمينه وعن شماله، فوضع يده على الخط الذي داخل المربع، فقال هذا ابن آدم، ووضع إصبعه على الخط الخارج منه فقال: وهذا أمله، ووضع إصبعه على الخط المربع، فقال: وهذا أجله، ثم أشار إلى الخطوط الصغيرة فقال: وهذه أعراض، إن أخطأه هذا أصابه هذا )، فأنتم تشهدون في حياتكم هذه كثيراً من الأعراض والأمراض، يمر بالإنسان السرور والحزن، واللذة والألم، والرخاء والفقر، والفراغ والإشغال، والصحة والضعف، وانشغال البال وسعادته، كل ذلك يمر على الإنسان في اليوم الواحد.

    خروج الروح واستلام الملائكة لها

    وبعد ذلك تأتي التقلبات التي لا حصر لها ولا تخطر على بال الإنسان بمجرد الموت، بخروجه من هذه الدار، فالإنسان إذا تصور أنه لو أخرج من دار أهله فجرد من كل ما يعرفه من ملابسه وغطيت عيناه وأذناه، ثم رمي به في الصين مثلاً، ولا يعرف اللغة الصينية، أليست الدنيا ستظلم في وجهه، وستتغير عليه أحواله، لا يعرف شيئاً فيراه، لا يسمع كلاماً يفهمه، ولا يرى شيئاً من الملابس التي يعهدها، ولا من المطاعم التي يعهدها ولا من المشارب ولا من المنازل والمساكن، كل شيء يتغير لديه، خرج وعهده بالشمس في رابعة النهار، فجاء في ليل دامس، وألقي في نفس اللحظة في ذلك المكان الموحش، هذا لا شك مؤثر في حياة الإنسان، فكيف بالانتقال بالكلية من هذه الدار إلى دار أخرى تغايرها بالكلية! هذه الدار فيها الكذب، وفيها المعاذير، وفيها الضحك، وفيها البكاء، وفيها الأعذار، والدار الآخرة ليس فيها شيء من ذلك؛ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ[النجم:59-61]، تتغير الأحوال على الإنسان بالكلية، وتزول الغشاوة عن عينيه وهو يشاهد ما لم يكن يخطر له على بال، كما قال الله تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ق:19-22]، ينكشف الغطاء عن الإنسان فبصره في ذلك اليوم حديد، يرى من الأمور ما لا يمكن أن يدرك بالبصر في الحياة الدنيا؛ وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47].

    وهذه القيامة الصغرى مشاهدها تبدأ من إدبار الدنيا وإقبال الآخرة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن العبد إذا كان في منقطع من الدنيا وإقبال من الآخرة أتاه ملك الموت فإن كان محسناً جلس عند رأسه فقال: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30]، فتتهوع نفسه كما تتهوع القطرة من في السقاء، فتكون في يد ملك الموت، فلا تمكث في كفه طرفة عين حتى يسلمها إلى ملائكة كأن وجوههم الشموس قد جلسوا مد البصر، وهم باسطوا أيديهم، فيضعونها في كفن من أكفان الجنة ويعطرونها بها إلى السماء، فيستأذنون فتفتح لهم أبواب السماء، ويقال: مرحباً بالنفس الطيبة! حتى تخر ساجدةً تحت العرش، ثم يؤذن لها في الرجوع إلى سؤال الملكين، وإن كانت النفس خبيثة جلس عند رأسه فقال: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وعقوبة، فتتفرق في البدن فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فلا تمكث في كفه طرفة عين حتى يسلمها إلى أولئك الملائكة وهم: بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ[الأنعام:93-94]، فيضعونها في سفط من أسفاط النار، ويضعون عليها من قطران النار، ويرتفعون بها فيستأذنون عند باب السماء فلا تفتح لهم أبواب السماء؛ لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:40-41] ).

    ثم بعد هذا عندما تقبض روحه، وتسير في هذه الرحلة إما أن تقبل فتفتح لها أبواب السماء، وإما أن ترد فلا تفتح لها أبواب السماء، ترجع وقد بدأ الدفن فيصل إلى القبر وهو أول منازل الآخرة وهو أعظم من كل ما قبله وأعظم منه كل ما بعده، فكل درجة من درجات السلم هي أعظم من سابقتها تنسي الإنسان كل ما مر عليه من قبل، ولذلك فإن الإنسان عند موته يبشر بمقعده من الجنة، أو بمقعده من النار، فملك الموت يقول: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر:28-29]، وإن كانت خبيثة قال لها: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وعقوبة، لكن الإنسان ينسى هذا بمجرد وضعه في القبر، ثم بعد ذلك كل مشهد من مشاهد القيامة الصغرى ينسي الإنسان ما مر به من قبل، يعرض عليه مقعده من الجنة ومعقده من النار، فينسى ذلك، وفي المحشر لا يتذكر الإنسان مصيره، فلا يدري إما إلى جنة وإما إلى نار؛ لأن كل المشاهد وإن كان قد عرفها من قبل مصيره ورآها بعيني رأسه، كل مشهد ينسيه كل ذلك، ولذلك فكل ما مر على الإنسان من النعيم، وكل ما مر عليه من الأذى والإهانة في هذه الدار ينساه بتلك الضجعة في قبره قبل أن يوارى في التراب، فإذا وضع هنالك وعاد إلى التراب التي منها خلق كما قال الله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى[طه:55].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087504064

    عدد مرات الحفظ

    772720562