إسلام ويب

تقويم الله لغزوة أحد [1]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من سنن الله في الحياة سنة تداول الأيام والأحداث، والتدافع بين الحق والباطل؛ وهذا مقتض لحصول ما أراده الله من الابتلاء والتمحيص والاصطفاء والاختيار، وقد يغفل عن هذا كثير من الناس فيحصل التأثر السلبي والانهزام والضعف، والمؤمن الصادق الذي يدرك هذه السنن يكون على قدر كبير من الثبات وقوة الشخصية في مواقفه ومبادئه. وأرشد سبحانه وتعالى عباده إلى معرفة هذه السنن وأن لا يهنوا أو يحزنوا لما أصابهم يوم أحد، فهم الأعلون عنده، وقد مس الكفار أعظم مما مسهم، وبين سبحانه أن نتيجة معركة أحد ابتلاء واختبار للمؤمنين الصادقين ورفع لمقام بعضهم إلى مرتبة الشهادة، وأنه سبحانه لا يحب الظالمين.

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى يحكم العالم بسنن لا تتغير، لا يمكن أن يجد لها الإنسان تبديلًا ولا أن يجد لها تحويلاً، وهذه السنن هي عادة الله في خلقه، وهي حاكمة للعالم كله، فمنها سنة التدافع بين الحق والباطل ولو توقفت لتعطلت الدنيا كلها، ومنها كذلك سنة ظهور الباطل وانتشاره امتحانًا للناس، ومنها سنة التضحيات واقترانها بالنصر، إنما النصر مع الصبر، وغيرها من السنن.

    ففي تقويم الله تعالى لغزوة أحد وبيانه لنتائجها يقول: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ[آل عمران:137].

    قد خلت: أي قد مضت من قبلكم يا معشر المؤمنين سنن، فما يحصل في التاريخ إنما هو تكرار لما حصل فيه في الماضي، فقد قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ [الأحقاف:9].

    فما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدين جاء به الأنبياء من قبله، وما واجهه به المنذرون واجهوا به من قبله من الرسل ولذلك قال الله تعالى: مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت:43].

    فكل ما يحصل إنما هو تجارب مضت وهي معادة مكررة، ومن عادة الله سبحانه وتعالى أن تكون للباطل صولة ثم يضمحل بعد ذلك، ويظهر الحق فهو يعلو ولا يعلى عليه، ولذلك قال الله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ [الأنبياء:106].

    وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55]، وقال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:39-41].

    وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].

    وقال تعالى: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ[الأنفال:19].

    وقال تعالى: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا [الإسراء:8].

    أثر غفلة الناس عن سنة التداول وتغير الأمور

    فكل هذه الآيات تبين هذه السنة من سنن الله سبحانه وتعالى وهي متحققة لا محالة، ولكن كثيرًا من الناس يغفل عنها، فما يحصل لدى الناس من الانهزام والاستعجال وتمني خلاف الواقع إنما هو غفلة عن التجارب وعما مضى في تاريخ هذه البشرية، فكثير من الناس إذا تعلقت آمالهم بأمر من الأمور أو لاح لهم بارق النصر في جهة من الجهات، ثم أخلف ذلك فلم يتحقق، وذلك بأمر الله تعالى وحكمته البالغة انهزموا وأصيبوا بالإحباط، وسبب ذلك عدم اطلاعهم على السنن وعدم أخذهم بها، فلو أخذوا بسنن الله الماضية وحال السابقين لما أصابهم ذلك الوهن ولما حصل في قلوبهم ما حصل من الإخفاق والإحباط.

    إن على كل إنسان في خاصة نفسه أن ينظر إلى سنن الله المسيرة للعالم قبله، فكل إنسان في خاصة نفسه في حياته إخفاقات ونجاحات، وفي حياته تحقق لبعض الآمال وفوات لبعضها.

    تأثير سنة التداول على حياة المؤمن ومواقفه

    فإذا كان صاحب إيمان وتصديق يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، فيتحقق قول الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ[الحديد:22-23].

    ومن هنا فلا يمكن أن يحزن المؤمن ولا أن يهزم بعلمه أن كلما يصيبه قد كتب من قبل، وأن مع العسر يسراً، وأن بعد الحال الذي هو فيه حال آخر قد يغاير ذلك الحال وينافيه، كل ذلك مضى في تاريخ الأمم والشعوب.

    ومن هنا فعلى الإنسان إذا نال خيرًا عاجلًا أن لا يغتر به، وأن يعلم أنه ستأتي الدولة الأخرى بعد ذلك، فالدنيا دول فكل يوم لله فيه أمر، وقد جعل الله تعالى أحوال الناس متباينة، وكذلك إذا أصابته ضراء عليه أيضًا أن لا يتضعضع وأن لا يحزن لها؛ لأنه يعلم أن الدولة التي تلي تلك أيضًا على خلاف ذلك الواقع، ومن هنا فلا بد أن يتذكر الإنسان حال كل من سبقه، فالإنسان وارث لمن سبقه، وكل مكان أنت فيه قد سبقك إليه غيرك، فأنت وارث لآبائك وأجدادك ولتتذكر حالهم وما مر عليهم في هذه الدنيا، وبه تعلم أنك أنت لست بدعًا ولست تجربة جديدة، ولست نوعًا فريدًا، إنما أنت سالك لطريق الذين مضوا وسبقوا، والمقعد الذي تشغله قد شغله من قبلك آخرون فذهبوا، وهكذا في أمور الدنيا كلها، لا يمكن أن تتولى أمرًا ولا أن تقوم بوظيفة، ولا أن تشغل أي حيزٍ من الدنيا إلا وقد شغل قبلك ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087504102

    عدد مرات الحفظ

    772720993