إسلام ويب

فقه الأسرة [6]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أعظم نعم الله على العباد منحهم الأولاد زينة لحياتهم، وكما أنها نعمة إلا أنها مسئولية عظيمة، يجب العناية بها في كل المراحل، بداية بالحمل وما يترتب عليه من تأثير على الجنين، ومروراً بمرحلة الولادة والطفولة، ثم مرحلة التعليم والفتوة، فيجب الحرص على إعطاء كل مرحلة حقها من التربية والتأديب، والقيام بشكر هذه النعمة كما ينبغي.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد الله رب العالمين, وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنة إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن من نعم الله سبحانه وتعالى على عباده ما يهبه لهم من الأولاد، وهي نعمة لا يستطيع الإنسان الحصول عليها إلا بقدر الله سبحانه وتعالى ومشيئة، ولذلك عد هذه الخصائص الإلوهية فقال: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49-50], وهذا التقسيم حاصر، فإن أقسام الناس في الذرية محصورة في هذه الأربعة يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا [الشورى:49], من وهب له الإناث ولم يوهب له الذكور هذا القسم الأول.

    وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49], من وهب له الذكور دون الإناث وهذا القسم الثاني.

    أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا [الشورى:50], من وهب له الثنتان معاً وهذا القسم الثالث.

    وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا [الشورى:50], وهذا القسم الرابع.

    فالتقسيم إذاً حاصر لا يكون من الخلائق إلا من هو من أحد هذه الأصناف الأربعة.

    وهنا بين الله تعالى أن ذلك لا يكون إلا بقدره، وما يوهب من الذرية إنما هو هبة من الله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن يطلب بالأسباب, فطلب الذرية ما هو إلا بمثابة استزراع الزرع، فالإنسان يحرث الأرض ويجعل فيها الحب، ولكنه لا يدري ما يخرج منها، إلا ما أراد الله إخراجه, ولذلك قال الله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد:8-9], وقد قال الزمخشري رحمه الله:

    إنما الأرحام أرضون لنا محترزات فعلينا الزرع فيها وعلى الله النبات

    فالله سبحانه وتعالى هو المنبت، ولذلك قال في سورة الواقعة: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة:63-64], فلا يمكن أن ينبت شيء منه إلا بقدر الله سبحانه وتعالى وتدبيره.

    مسئولية الرعاية والعناية

    لكن هذه النعمة تترتب عليها مسئولية عظيمة جسيمة، وهي مسئولية الرعاية والعناية، فالإنسان يخلق من ضعف ثم يصل إلى القوة، ثم يرجع أدراجه إلى الضعف والشيبة، ويخرج من بطن أمه جاهلاً لا يعلم شيئا، ولكنه مؤهل للعلم، فله ثلاثة أنواع من أنواع الإدراك تابعة لأصل خلقته.

    فالإنسان خلق من ثلاثة عناصر وهي: العقل الذي شرف به على الحيوان, والروح التي هي نفخة غيبية من أمر الله, والبدن الذي هو من تراب.

    وكل واحد من هذه العناصر الثلاثة له إدراك يدرك به, فالروح إدراكها إنما يقع بالوجدان والإحساس فيحس الإنسان باللذة والألم، وما يعتريه من الرضا والغضب وغير ذلك، وهي أمور لا تدرك بالحواس فليس للبدن بها صلة، ولا تدرك أيضاً بمقتضيات العقول وترتيب الأدلة، فلا هي مما يدرك بذلك ولا يستطيع أحد أن يقنع أحداً أنه راضٍ أو أنه غضبان أو أنه سعيد أو أنه متألم، فهذه الأمور وجدانية يجدها الإنسان في خاصة نفسه.

    وما يظهر عليها من الشوائب التي تدل عليها في بدن الإنسان هي عوارض تتفاوت بين الناس، فقد يجد الإنسان سبباً عظيماً للألم فلا يتألم، وقد يجد سبب عظيماً للذة فلا يلتذ, وقد يجد سبباً عظيماً للرضا فلا يرضى, وقد يجد سبباً عظيماً للغضب فلا يغضب، فكل ذلك يرجع إلى الأمر النفسي.

    ثم بعد هذا إدراك العقل، وهو بترتيب الأدلة وتركيب الجزئيات على الكليات، ويستطيع الإنسان توصيله إلى غيره، فمدركات العقول متعدية، كل أمر اقتنعت به في عقلك تستطيع أن تقنع به الغير، بخلاف الأمر الذي اقتنعت به في روحك وميزانك فلا تستطيع أن تقنع به الغير.

    ومن هنا فإن ما يراه الإنسان في المنام هي من مدركات الأرواح، وليست من مدركات الأبدان ولا من مدركات العقول، فلا يستطيع الإنسان أن يقنع بها الغير, فما تراه في المنام لا تستطيع أن تريه شخصاً آخر، ولا أن تسمعه إياه، فهو من مدركات الأرواح ولا يتعدى العقول ولا إلى الأبدان.

    وأما مدركات الأبدان فهي ما يدرك بالحواس الخمس، عن طريق السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس، فلها إدراكها, ولذلك امتن الله تعالى بها فقال: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [النحل:78], فهذه جامعة لما ذكر، فالسمع والأبصار هما أكبر الحواس فائدة وأكثرها توصيلاً للعلم فيما يتعلق بالبدن، والأفئدة تشمل إدراك الأرواح وإدراك العقول، فهي شاملة للجانبين السابقين, لكن لا بد في نشأة الإنسان وبداية ضعفه من أن يخضع لرعاية وعناية هي التي تسمى بالتربية.

    مسئولية التربية السليمة وأطوارها

    وهذه التربية مسئولية عظيمة جسيمة، يحتاج فيها الإنسان إلى إدراك عظم تحملها، وأن يقوم بها على وجهها الصحيح, ولذلك لم يكل الله سبحانه وتعالى إلى الإنسان في خاصة نفسه، بل عهد به إلى والديه وكلفهما بتربيته والعناية به، ثم بعد ذلك عهد بمتابعة التربية إلى المجتمع, فالتربية عملية معقدة تمر ثلاثة أطوار:

    الطور الأول: يكون فيه الإنسان غير مشارك في تربية نفسه لا تخطيطاً ولا تنفيذاً, فلا هو يخطط لنفسه ولا هو ينفذ ما خطط له, وهذا الطور لا يمكن أن يوكل فيه الإنسان إلا إلى أقرب إنسان إليه وذلك والداه اللذان أنجباه، فعهد الله به إلى والديه في هذا الطور؛ لأنه هو غير مشارك في العملية لا تنفيذاً ولا تخطيطاً.

    الطور الثاني: الإنسان فيه مشارك في التنفيذ، وغير مشارك في التخطيط، كالطالب في المدرسة، فالبرامج معدة مسبقاً سلفاً، وهو مشارك في التنفيذ؛ لأنه محور العملية التعليمية, فهذه يقوم به المجتمع بمؤسساته.

    الطور الثالث: ما يكون الإنسان فيه مشاركاً في الأمرين معاً، في التخطيط والتنفيذ، وذلك بما يدركه من التجارب ويختزنه في ذاكرة دماغه من القضايا التي يأخذ به التجارب المستقبلية.

    فالقسم الأول هو أخطر هذه الأقسام، ولا يمكن أن يعهد به إلى بعيد؛ لأن البعيد غير مؤتمن في كثير من الأحوال وبعده سبب للحسد والبغضاء، وسبب كذلك لعدم الرحمة، فاحتيج إلى أن يكون المشرف على هذا الوقت في حال الاستضعاف والمذلة من هو أبلغ رحمة, ولذلك لم توكل هذه التربية إلى الآباء فقط، وإن كانت لديهم الشفقة ولديهم العقول ومهاراتهم أقوى وأكبر، ولكن الرحمة ناقصة لديهم، فالرحمة لدى الأمهات أبلغ، فلذلك كان الحق مشتركاً بين الأبوين ما داما زوجين، فإذا افترقا كانت الأم أولى بالحضانة, فإذا تزوجت بغير أبيه سقط حظها بالحضانة، فتنتقل الحضانة إلى أمها إن كانت متصفة بالشروط الشرعية، فإن هي فقدت تلك الشروط انتقلت الحضانة إلى الخالة أيضاً إذا اتصفت الشروط الشرعية؛ لأن الخالة بمثابة الأم، فإن هي فقدت أو اتصفت بمانع أو بطل فيها شرط من الشروط رجعت الحضانة إلى الوالد، ثم إلى بناته وهن أخوات الصغير، وهكذا على ترتيب أولياء الإنسان في الحضانة.

    وهذه الحضانة هي جزء فقط من العملية التربوية وليست كلها, فلذلك يحتاج الإنسان إلى العناية بها ومعرفة جزئياتها, فأول ذلك: ما يحصل للإنسان عند مولده، فالإنسان ما دام جنيناً في بطن أمه لم يدخل بعد هذه الحياة فحياته تابعة لحياة أمه، تنفسه مما تدخله هي من الأكسجين، وتغذيته مما تتغذى به، والحبل السري الذي يخرج من سرته يدخل إليه ما يحتاج إليه من الطعام والأكسجين، وينقل عنه أيضاً فضلاته وما زاد من التعفنات التي يخرجها في دمه، فكل ذلك يذهب على الإنسان عن طريق هذا الحبل، فالحبل فيه سالب وموجب، فالسالب هو الذي يذهب بفضلات الإنسان، والموجب هو الذي يدخل إليه ما يحتاج إليه، مثل السلك الكهربائي الذي فيه القسمان معاً.

    فلذلك يحتاج فقط في هذه المرحلة إلى عناية بأمه، فالحامل لا بد من العناية بها ومراعاة ظروفها؛ لأنها لا تعيش حياة عادية، فكل شيء من حياتها هي مشاركة فيه حتى الهواء الذي تتنفس به في رئتها هي مشروكة فيه, ودمها الذي يجري في عروقها هي مشروكة فيه, وغذاؤها الذي تتغذى به هي مشروكة فيه، فلذلك تحتاج إلى رحمة وعناية خاصة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087504169

    عدد مرات الحفظ

    772721498