إسلام ويب

شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [6]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يشرع إذا نام عدد من الناس عن الصلاة، واستيقظوا وقد خرج وقتها وأرادوا قضاءها أن يؤذنوا لها، ومن استيقظ قبل طلوع الشمس بقليل فأحرم فصلى ركعة فطلعت الشمس، فصلاته صحيحة، وقد فرضت الصلاة في الإسراء عندما أسري برسول الله وعرج به مع جبريل إلى السماء ففرض الله عليه الصلوات الخمس.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    أما بعد:

    فقد وصلنا في شرح حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما إلى قوله: (فارتحل فسار غير بعيد)؛ أي: فارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن أمر أصحابه بالارتحال، ارتحل هو، (فسار غير بعيد)؛ أي: لما قطع الوادي نزل بأصحابه، وسر ذلك أنه بين أن في ذلك الوادي شيطانًا، فهو الذي جعلهم ينامون عن الصلاة، فارتحل عنه، وقد استشكل ذلك بعض أهل العلم فقالوا: الشيطان ينفر من القرآن، ومن الأذان، ومن وجود النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ذلك المكان، لكن يحمل هذا على أن ذلك المكان قد حبس فيه الشيطان، فهو من أوديته، ففي الأرض أودية حبس فيها شياطين، كما ثبت في حديث بيعة العقبة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذا ابن أزيب، هذا شيطان العقبة، لأفرغن لك)، (ثم نزل فدعا بالوضوء)؛ أي: الماء الذي يتوضأ به، (فتوضأ ونودي بالصلاة)، اختلف هل معنى (نودي بالصلاة) أذن لها أو أقيمت فقط، فمن أهل العلم من يرى أن النداء إذا أطلق فهو الأذان، فيرون أن الفائتة إذا كان يصليها جماعة فإن من سنتهم أن يؤذنوا، كمن نام عن الصلاة، إذا نام عدد من الناس عن الصلاة، واستيقظوا وقد خرج وقتها فأرادوا قضاءها فإنهم يؤذنون لها، وهذا في المقضية، أما المعادة؛ أي: التي تعاد لخلل فيها أو لفضل الجماعة، فليس لها أذان مخصوص، وهنا يلزم التفريق بين ثلاثة أمور هي: الأداء، والقضاء، والإعادة.

    فالأداء: فعل العبادة في وقتها لأول مرة، والإعادة: فعلها ثانيًا؛ أي: بعد أن فعلت بسبب خلل أو لطلب الفضل، والقضاء: فعلها خارج وقتها، فإن كان بعضها في الوقت وبعضها خارج الوقت، فهل تكون أداء جميعًا أو تكون قضاء جميعًا أو ما كان في الوقت فهو أداء وما كان خارج الوقت فهو قضاء؟ ويترتب على هذا الخلاف على الأقوال الثلاثة:

    من استيقظ قبل طلوع الشمس بقليل فأحرم فصلى ركعة فطلعت الشمس، فعند الجمهور صلاته صحيحة، ولا تبطل بطلوع الشمس فيها خلافًا للحنفية وقد بينا ذلك، فإذا جاء إنسان فاقتدى به بعد طلوع الشمس، فهل ينوي الأداء لأن إمامه قد نوى الأداء أو ينوي القضاء فتختلف نيته عن نية الإمام؟ فعلى القول بأن ما في الأداء أداء وما في القضاء قضاء فصلاة المأموم صحيحة؛ لأنه قاض، والإمام أيضًا قاض، وكذلك على القول بأن الجميع قضاء؛ لأن العبرة في الأمور كلها بخواتيمها، أما على القول بأن الجميع أداء فتكون صلاته باطلة لمخالفة نيته نية أمامه، وهذا يتمشى مع قواعد المالكية، ومع قواعد الحنفية أيضًا الذين يرون الارتباط بين صلاة الإمام والمأموم، أما قواعد الشافعية والحنابلة فلا يرون ارتباطًا كاملًا بين صلاة الإمام والمأموم، بل يرون: أن الإمام قد تبطل عليه الصلاة وتصح عن المأموم، والعكس، وأن المفترض قد يصلي وراء المتنفل كصلاة معاذ بأهل قباء، وقد صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرون أنه يمكن أن تختلف نيتهما، فيكون هذا مصليًا للظهر وهذا مصليًا للعصر، حتى في نية الصلاة المعينة.

    وعمومًا هذه الصلاة قطعًا كانت خارج وقتها جميعًا؛ لأنهم لم يستيقظوا إلا على حر الشمس، فكانت قضاء قطعًا فهل أذن لها أم لا؟ قد جاء في بعض طرق هذا الحديث التصريح بأن ذلك أذان، وجاء في بعضها أنه أمر بلالاً فأقام.

    والحديث الذي لدينا محتمل للأمرين لأنه قال: (ونودي بالصلاة فصلى بالناس)؛ أي: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، والصلاة الفائتة التي تقضى تصلى كما هي، فيجهر فيها إذا كانت جهرية، ويسر فيها إذا كان سرية؛ فلذلك صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فجهر في صلاته كصلاة الصبح في وقتها؛ لأنها قضاء لها، (فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم)، (فلما انفتل)؛ أي: انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته بعد أن أكملها، (إذا هو برجل معتزل)؛ أي: معتزل الصفوف، (لم يصل مع القوم): لم يشهد معهم الصلاة، (قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك)، وهذه الجملة هي محل الاستشهاد من الحديث، فقد عقد البخاري عليها هذا الباب، باب: الصعيد الطيب وَضوء المسلم يكفيه عن الماء؛ لأنه قال: فإنه يكفيك، و(الصعيد) كما سبق هو: ما صعد على الأرض من أجزائها، (فإنه يكفيك)، هذه العبارة لا تقتضي جزمًا بأن التيمم يرفع الحدث، ولا تقتضي جزمًا بخلاف ذلك أيضًا، لكنها تجزم بأن التيمم يستباح به ما يستباح بالماء، (ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم)؛ أي: واصل سيره، (فاشتكى إليه الناس من العطش)؛ أي: شكوا إليه أن ماءهم قد نفد، (واشتكوا إليه العطش فنزل فدعا علياً ورجلًا آخر)، ولم يسم هذا الرجل في هذه الرواية، لكن سمي في بعض الطرق، وأنه عمران بن الحصين الذي روى هذا الحديث، (فقال: اذهبا فابتغيا الماء)، أرسل علياً وعمران أن يبتغيا الماء؛ أي: أن يلتمسا ماء ليشرب منه المسلمون ويسقوا منه بهائمهم، (فانطلقا فلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟ فقالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة)؛ أي: أن علياً وعمران لما انطلقا في طلب الماء لم يقطعا كثيرًا من المسافة حتى لقيا امرأة تركب بعيرًا، وهي بين مزادتين، والمزادتان هما: القربتان اللتان زيد في جلودهما، فالقربة أصلًا تكون جلد شاة، فإذا زيد فيه من جلد شاة أخرى- فتح من البطن فزيد فيه من جلد شاة أخرى- سميت (مزادة)، وتسمى (سطيحة) أيضًا؛ أي: أنها يشق تعليقها فتكون منتشرة، و(السطيح): هو الإنسان الكسيح الذي لا يستطيع أن يقوم، وملازم للاضطجاع على الأرض، (فانطلقا فلقيا امرأة بين مزادتين)، وهي امرأة من المشركين، (بين مزادتين)؛ أي: تركب بعيرًا، (بين مزادتين أو سطيحتين من ماء على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟)، أين البئر الذي استقت منه؟ (فقالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة)، فذكرت أن الماء بعيد جدًّا، فعهدها بالماء الذي استقت منه مثل هذا الوقت؛ أي: قبل أربع وعشرين ساعة، (ونفرنا خلوف)؛ أي: رجالنا مسافرون، فالنفر العدد من الرجال، وقولها: (خلوفٌ)؛ أي: مسافرون، وفي رواية: (خلوفًا) بالنصب، وهي حال، ومعناها: نفرنا قد خرجوا خلوفًا، حال كونهم خلوفًا، فجملة (قد خرجوا) هي الخبر، وقد حذفت وقام الحال مقام الخبر، وقد قال ابن مالك رحمه الله في الألفية:

    وقبل حال لا تكون خبرا عن الذي خبره قد أضمرا

    كضرب العبد مسيئًا وأتم تبييني الحق منوطًا بالحكم

    فالحال تسد مسد الخبر حينئذ.

    (فقالا)؛ أي: قالا لهذه المرأة، (انطلقي إذًا)؛ أي: إذا ما كان الماء بعيدًا جدًا فانطلقي معنا، (قالت: إلى أين؟)؛ أي: إلى أين تذهبان بي؟ (قالا: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: الذي يقال له الصابي؟)؛ أي: هل هو الذي يقال له الصابي؟ أي: يقول له المشركون: الصابي، والصابي: من بدل دينه وانتقل منه إلى دين آخر، وفي رواية: (الصابئ)، وهي من صبأ كذلك، ومنه (الصابئة)، وهم فرقة من أهل الكتاب، (قالا: هو الذي تعنين)، فلم يقولا: (هو هو)؛ لأن هذا ليس من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم ولا هو وصف له، ولكنها عنته، (فقالا: هو الذي تعنين، فانطلقي، فجاءا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدثاه الحديث)؛ أي: عن بعد الماء، وأنهما لم يجدا إلا هذه الظعينة، وأن عندها هاتين المزادتين، (قال: فاستنزلوها)؛ أي: طلب منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنزل عن بعيرها، (ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء ففرغ فيه من أفواه المزادتين)؛ أي: صب فيه شيئًا يسيرًا من أفواه المزادتين أو السطيحتين، (وأوكأ أفواههما)؛ أي: ربط أفواههما، و(الوكاء) هو الذي يلف على أفواه القرب، وكذلك على المزادات، (وأطلق العزالي)؛ أي: فتح العزالي، و(العزالي) جمع عزلاء، وهي فتحة صغيرة كالثدي توضع في أعلى القربة، فيجعل فيها ثلاث عزالي؛ وذلك لأن العرب كانوا يجدون شحًّا في الماء في بلادهم، فكانوا لا يفتحون أفواه القرب للاستسقاء، بل يفعلون لها أفواهًا صغيرة، فيصبون منها في الآنية لئلا يفقدوا الماء، وهذه الأفواه الصغيرة هي التي تسمى بالعزالي، وأطلق العزالي؛ أي: في الإناء، (ونودي في الناس)؛ أي: نادى منادي رسول الله في الناس (اسقوا) وفي رواية: (أسقوا)، (اسقوا)؛ أي: اسقوا بهائمكم، وفي رواية: (أسقوا)، فيقال: (سقى) و(أسقى)، وهما بمعنى، وقد وردتا في القرآن، فقد قال الله تعالى: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا[الإنسان:21]، وهذه (سقى) الثلاثية، وقال تعالى: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا[الجن:16]، فهذه (أسقى) الرباعية، وقد اجتمعا في قول عنترة بن شداد العبسي:

    قد أوعدوني بأرماح معلبة سود لقطن من الحومان أخلاقي

    لم يسلبوها ولم يعطوا بها ثمنًا أيد النعام فلا أسقاهم الساقي

    (فلا أسقاهم) هذه أسقى الرباعية، و(الساقي) فاعل من (سقى) الثلاثية.

    و(استقوا)؛ أي: اشربوا واملئوا آنيتكم، فهذا الإناء الذي صب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفواه القربتين ثم فتح فيه عزالي القربتين أمرهم أن يسقوا منه بهائمهم وأن يستقوا منه؛ أي: أن يشربوا ويملئوا آنيتهم، وهذا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته، حيث كثر الله له اليسير القليل، (فسقى من سقى واستقى من شاء)؛ أي: سقى الناس بهائمهم ودوابهم وخيلهم، (واستقى من شاء)؛ أي: شرب من شاء وملأ آنيته وأسقيته، (وكان آخر ذلك)؛ أي: آخر من نال حظًّا من السقيا، (أن أعطى)؛ أي: أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الذي أصابته الجنابة إناء من ماء؛ أي: أعطاه إناء من الماء، (قال: اذهب فأفرغه عليك)، فأمره أن يغتسل به، وهذا يدل على أن التيمم لم يرفع عنه الحدث، إذ لو كان رفعه لما احتاج إلى الغسل بعد ذلك، لكنه يدل أنه تستباح به الصلاة؛ لأنه لم يأمره بقضاء الصلاة مرة أخرى، فقد كان أداها بالتيمم؛ فلذلك أمره أن يغتسل للمستقبل، لما يستقبل من الصلوات.

    (وهي قائمة تنظر)؛ أي: هذه المرأة المشركة قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها، تتعجب من هذا الأمر الذي لم تر مثله قط، (قال: وايم الله)، وفي رواية: (وأيم الله)، وفي رواية: (وأيمُ الله)، فـ(أيمُ) بمعنى: أيمنُ و(أيمُنُ) جمع يمين، والمقصود بذلك: كل ما يحلف به من صفات الله وأسمائه، فيقال فيها: (أيم وأيمُنُ)، وهمزتها هي من الهمز العشر التي هي في الأسماء من همز الوصل؛ ولذلك ترد في الدرج فتسقط؛ كقول نصيب:

    فقال فريق القوم لا وفريقهم نعم وفريق لايمن الله ما ندري

    معناه: (فريق لا ايمن الله ما ندري)، فلما كانت هذه الهمزة همزة وصل سقطت في درج الكلام:

    فقال فريق القوم لا وفريقهم نعم وفريق لايمن الله ما ندري

    وهي اسم قسم مثل (لعمرك)؛ فلذلك قال: (وايمن الله)، لكنها مجرورة بالواو التي معها؛ فلذلك يقال: (وايمِ الله) بالجر؛ لأن الواو واو قسم، مثلما تقول: (والله)، وإذا قطعت الهمزة فقلت: (وأيم الله)، جاز الكسر والرفع، جاز أن تكسر بالجر؛ لأن الواو حينئذ حرف قسم، وجاز الرفع أن تقول: (وأيمُ الله) بالرفع، فتكون مثل (لعمرُك).

    (لقد أقلع عنها)؛ أي: أقلع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أقلع الجيش، والمقصود بذلك: الكف عن الشرب من ذلك الماء، (عنها)؛ أي: القربة أو المزادة، ويقصد القربتان معًا، لكن الذي يبدو أنه ترك القربتين على البعير وأناخه، وجعل لكل قربة إناء، فقوم يستقون من هذا الإناء، وقوم يستقون من هذا، وهو يحدث عن القربة التي تليه، فهي التي يراها فقال: (لقد أقلع عنها)؛ أي: أقلع عنها الناس، أو أقلع عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، (وإنه ليُخيَّل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأ فيها)، فهذا من تكثير القليل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من دلائل نبوته ومعجزاته.

    فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجمعوا لها)، أمر أصحابه أن يجمعوا لهذه المرأة هدية، وهذا من حسن خلقه ومن كرم وجاهته وضيافته، (فجمعوا لها من بين عجوة) أي: تمر، (ودقيقة)، وهي الدقيق من القمح أو من الشعير الذي لم يمس النار، (وسويقة)، وهي الدقيق الذي قد مس النار قمحه أو شعيره قبل أن يسحق، (حتى جمعوا لها طعامًا)؛ أي: شيئًا كثيرًا، (فجعلوها)؛ أي: جعلوا ما جمعوا من الدقيقة والسويقة والعجوة، (في ثوب وحملوها على بعيرها)؛ أي: أناخوا لها البعير حتى ركبت، ويمكن أن يكون المعنى: جعلوا المرأة في ثوب فحملها الرجال حتى جعلوها على بعيرها، وذلك أنها ليست محرمًا لهم، وإذا ركبت هي فربما انكشف منها شيء، فأرادوا أن يكون ذلك أستر لها، فأجلسوها في ثوب وحملوها حتى جعلوها على بعيرها، ولكن المعنى الأول أوضح، وهو أنهم جمعوا الطعام في ثوب، وبعد أن ركبت هي على بعيرها، جعلوا الثوب بين يديها؛ فلذلك قال: (ووضعوا الثوب بين يديها)، فهذا يدل على أنها أُهدي إليها ثوب، وقد ملئ لها ذلك الثوب من طعام.

    (قال لها)؛ أي: قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعلمين ما رزأنا من مائك شيئًا)، (تعلمين) معناه: اعلمي، وفي رواية: (تعلَّمي)، بحذف النون، وقد أخطأ بعض شراح الصحيح، ومنهم الحافظ ابن حجر رحمه الله فقال: (تعلَّمين)، وهذا خطأ؛ لأن الأمر- جعل الأمر- لا تلحقه النون أبدًا، ولا يمكن أن يقال: (تعلَّمين) بمعنى (تعلَّمي)، فالنون إنما تلحق المضارع، (تعلمين ما رزأنا من مائك شيئًا) (ما رزأنا)؛ أي: ما نقصنا من مائك شيئًا، و(رزأه) بمعنى: نقصه، ويقال: (رزاه) أيضًا بمعنى نقصه، ويقال: (أرزأه) بمعنى نقصه، ومنه الرزية: وهي المصيبة التي تصيب الإنسان فتنقص بعض ماله أو أهله، قال الشاعر:

    إن سليمى والله يكلؤها ظنت بشيء ما كان يرزؤها

    (إن سليمى والله يكلؤها)، معناه: يحفظها، (ظنت بشيء ما كان يرزؤها)؛ أي: ما كان ينقصها.

    (ما رزأنا من مائك شيئًا، ولكن سقانا الله)، ولكن الله هو الذي أسقانا، فهذا توحيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقرار لله بنعمته، وبيان أن ذلك من فضل الله ولم ينسبه إلى نفسه، فقال: (ولكن الله هو الذي أسقانا)، و(أسقى) هنا رباعية معداة بالهمزة.

    (فأتت أهلها)؛ أي: رجعت هذه المرأة إلى أهلها وقد احتبست عنهم، وهذا يعرف فيما بعد؛ لأنه لم يصحبها أحد من الجيش حتى يحدث عن إتيانها أهلها، ولكن بعد إسلامها وإسلام قومها عرفوا ما حدثت به قومها؛ فلذلك قال: (فأتت أهلها وقد احتبست عنهم)؛ أي: مكثت مدة وهم ينتظرونها، (قالوا: ما حبسك يا فلانة؟)، سألوها ما الذي يحبسها، (ما حبسك يا فلانة؟)، (قالت: العجب!)؛ أي: حبسني العجب؛ أي: أمر عجيب غير مألوف، (لقيني رجلان فذهبا بي إلى هذا الرجل الذي يقال له: الصابي أو الصابئ ففعل كذا وكذا)؛ أي: حدثتهم بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالماء، (فوالله إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه)؛ أي: السماء والأرض، (ورفعت وقالت بإصبعيها)؛ أي: رفعتهما، بإصبعيها الوسطى والسبابة، فرفعتهما إلى السماء معناه: رفعتهما ليُرِيا، لكن رفعت السبابة إلى السماء والوسطى إلى الأرض مثلًا أو العكس؛ للدلالة على أنه أسحر من بين السماء الأرض؛ أي: أسحر الخلائق أو أنه حقًّا رسول الله، قالت: (إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه)؛ أي: ما بين السماء والأرض من الناس، (وقالت بإصبعيها)؛ أي: أشارت بهما، فرفعتهما إلى السماء، تعني السماء والأرض، تعني بهذه وهذه: السماء والأرض، (أو إنه لرسول الله حقًّا)، وذلك شك منها، وقد دخل الإيمان في قلبها ولكنه لم يستقر، وهو يدل على تجزئ الإيمان، وأنه يزيد وينقص، وقد حصل لها بعض اليقين ثم ازداد فيما بعد بحسن المعاملة، فرسخ ذلك الإيمان في قلبها بحسن معاملة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، كما سيتبين من آخر الحديث.

    (فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين، ولا يصيبون الصرم الذي هي منه)، كان المسلمون يعاملونها معاملة حسنة، فقد قال أبو الطيب المتنبي:

    إن المعارف في أهل النهى ذمم

    فكل من بينك وبينه معرفة فهي ذمة بينك وبينه ينبغي أن ترعى؛ فلذلك لما كانوا يعرفون هذه المرأة، وقد جرت لها هذه القصة مع النبي صلى الله عليه وسلم، لم يغيروا عليها ولا على الصرم؛ أي: الحي الذي هي منه، وكانوا يغيرون على الأحياء من حولها من أحياء المشركين، (فقالت يومًا لقومها: ما أرى إن هؤلاء القوم يدعونكم عمدًا فهل لكم في الإسلام؟) (ما أرى) معناه: هل ما أراه صحيح؟ أو الذي أراه... الذي أراه أن هؤلاء القوم، فيمكن أن يكون اللفظ (أن) أو (إن)، فإذا قلت: ما أرى أن هؤلاء القوم؛ أي: ما أراه، و(ما) موصولة، والضمير العائد محذوف تقديره (ما أراه أن هؤلاء القوم) تقصد بهم المسلمين، (يدعونكم عمدًا)؛ أي: يتركون الإغارة عليكم عمدًا، وفي الرواية الأخرى: (ما أرى إن هؤلاء القوم يدعونكم عمدًا)؛ أي: الذي أراه: إن هؤلاء القوم يدعونكم عمدًا؛ أي: يتركون الإغارة عليكم عمدًا بسبب المعرفة، وهذا من حسن التعامل، فدعاهم ذلك إلى الإسلام؛ فلذلك قالت: (فهل لكم في الإسلام؟) فدعتهم إلى الإسلام، وهذا يدل على أن الإنسان لا ينبغي أن يزدري نفسه، ولا أن يحتقر ما لديه من دعوة، فقد يستجاب لدعوته حتى لو كان امرأة، ولو كان ضعيفًا أو صغيرًا، فقد يستجاب لدعوته، وقد يسلم على يديه خلق فيزداد أجره بذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعلي يوم خيبر: (فلأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم)، فأطاعوها فدخلوا في الإسلام؛ أي: أسلموا.

    وهذا الحديث فيه كثير من الفوائد منها:

    أن النوم عن الصلاة لا إثم فيه إذا كان الإنسان قد عمد إلى الأسباب وهيأها، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلوا قال: (من يكلؤ علينا الصبح؟)؛ أي: من يرعاه علينا؟ (فقال بلال: أنا، فأسند ظهره إلى راحلته مقابل...)، وفي رواية: (أنه كان يصلي فأتاه الشيطان فدغدغه كما يدغدغ الصبي حتى نام، فلما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا بلالاً، فقال: يا رسول الله، أخذ بنفسي الذي أخذ بأنفسكم)؛ فلذلك أعمل الأسباب، ولكن إعمال الأسباب ولو لم يترتب عليه الفائدة المتوخاة منه فإنه يرفع الإثم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضير)، أو: (لا يضير)، فرفع عنهم الحرج ونفاه بذلك.

    كذلك في الحديث دلالة على أن النائم عن الصلاة أو عن أي فرض من الفرائض لا يجب إيقاظه؛ لأنهم لم يكونوا يوقظون النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يوقظ بعضهم بعضًا، إنما استيقظ أولئك الرجال الأربعة أولًا حتى كبَّر عمر فيما بعد.

    وكذلك يدل الحديث على جواز التعدي للأمر العام، إذا كان الأمر عامًّا فيمكن أن يتعدى على مال الغير، ويؤخذ للأمر العام، فهذه المرأة- وإن كانت مشركة- لكن تُعدي على مالها فجيء بها، وإن كان لم ينقص فيما بعد بسبب المعجزة.

    ويدل كذلك على أن النساء لسن مهيآت للعمل الذي فيه مشقة، ولا ينبغي أن يمارسن الأعمال التي فيها مشقة إلا إذا لم يجدن رجالًا؛ لأنها قالت: (ونفرنا خلوف)، تعتذر عن نفسها؛ إذ لو كان نفرها بالحضرة لما خرجت هي للاستسقاء.

    ويدل كذلك على مخاطبة الأجنبية ومكالمتها في غير ريبة أنه من الأمور الجائزة، فـعلي وعمران كلما هذه المرأة وأتيا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

    ويدل أيضًا على إحسان المعاملة حتى للمشركين، فرسول الله صلى الله عليه وسلم خاطبها فألان لها الكلام وجمع لها طعامًا ورد عليها ماءها، وكان أصحابه يتجنبون الإغارة على الحواء الذي هي منه؛ أي: الحي الذي هي منه.

    ويدل الحديث على ما جلب من أجله، وهو أن الصعيد يكفي المسلم في الطهارة؛ كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087498115

    عدد مرات الحفظ

    772681193