بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى يختار ما شاء من خلقه، فقد اختار من الأمكنة مكة المكرمة، واختار من الأزمنة الأشهر الحرم، واختار من البشر محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد بعثه على فترة من الرسل, واقترابٍ من الساعة, وجهالة من الناس، بعد أن عمت الجاهلية أرجاء الأرض، وبعُد عهدهم بالشرع، فارتدوا عن دين الله, وعبدوا الأوثان، ولم يبقَ إلا بقايا من أهل الكتاب وهم الرهبان في الأديرة، فحل مقت الله على أهل الأرض، ثم تداركهم بعين رحمته فبعث إليه الرحمة المهداة والنعمة المسداة محمداً صلى الله عليه وسلم.
وقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم غير بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك). فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بامتحان شاق للبشرية، فصدقته طائفة منهم, وكذبه جمهورهم، وكانت دعوته بمكة، فقد بعث عندما أتم أربعين سنة من عمره، وبداية ما جاءه من أمر الله جل جلاله في هذا الوقت.
وقد كان منذ صباه يأتيه التوجيه الرباني فينهى عن عمل الجاهلية, فلم يسجد قط لصنمٍ ولم يعبده، وكشف مرةً واحدةً عن عورته في بناء الكعبة فصيح عليه من السماء حتى وقع فرد ثيابه فلم تر عورته بعد ذلك، ولم يشرب خمراً قط، ولم يبع بالربا، ولم يمارس أي شيء من أعمال الجاهلية، فقد كان قبل بعثته موكولاً إلى إسرافيل عليه السلام, فكان يسدده وينصحه, ويأمره بالأمر من أمر الله يقذفه في روعه.
والوحي إنما أنزل إليه بعد أن أتم أربعين سنة، فحبب إليه الخلاء, وذلك لتقوية الروح؛ لأن الإنسان ما دام يعيش مع البشر فإنه إذا فقدهم أصيب بالوحشة، وسيكون حينئذٍ على جانب من الجبن لاستشعاره أنه بين الناس فهو بحاجة إليهم، فإذا كان سيلقى الملائكة ويسمع كلامهم وهم أشداء فإنه لابد أن يقوى, فتقوى روحه, وتزداد شجاعته, ويقوى جسمه، وذلك ما أنعم الله به على رسوله صلى الله عليه وسلم، فقوى جسمه, وقوى روحه, وقوت شجاعته، فشق صدره وهو طفل صغير مرضع في بني سعد، وغسل قلبه, وأزيلت منه المضغة السوداء، ثم بعد ذلك شقَّ مرة أخرى عندما أسري به، وهي الشقة الثانية، فقد شُق صدره صلى الله عليه وسلم مرتين.
فلما أتم أربعين سنة حبب إليه الخلاء, فكان يخلو في غار حراء فيتحنث فيه؛ وهو التعبد الليالي ذوات العدد، وكان يتزود لذلك، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، فمكث ستة أشهر لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، فكانت هذه الأشهر الستة هي أول ما جاءه من الوحي، فهو أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي كما في حديث عائشة، ثم بعد ذلك كان صلى الله عليه وسلم يرى أشياء ويسمعها؛ فيرى نوراً في بعض الجهات, ويسمع أصواتاً لا يدرك حقيقتها.
فلما كان في الثلث الأخير من الليل في ليلة جمعة؛ وهي ليلة السابع والعشرين من رمضان، وقيل: الثالث والعشرين من رمضان؛ وهي ليلة القدر في ذلك العام, جاءه جبريل وهو في غار حراء، فأتاه في صورة رجل، ولكنه أضخم من الرجال وأقوى، فأخذه فضمه إلى صدره فغطه -أي: خنقه خنقاً شديداً- حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله فقال: اقرأ، قال: (
ثم ذهبت به خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، وكان قد تنصر في الجاهلية، فكان يكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، فقص عليه الخبر، فلما سمعه ورقة قال: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، إن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، وقال له: ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك )، وهذا أول ما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم عن قضية الهجرة، فأول ما علم بخروجه من ورقة بن نوفل عندما قال له: ( ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال: أو مخرجي هم؟ قال: نعم، إنه لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن هلك, وفتر الوحي ).
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة، مكث ثلاث سنين لا يدعو إلا من يثق به، فاجتمع حوله خيرة من أهل مكة، وجمهورهم من الشباب الصغار ليس لهم مكانة ولا مال، ويسير منهم جداً هم الرجال البالغون، وفيهم رجل واحد كبير السن، وهو ياسر، وهو رجل من بني عنسٍ من أهل اليمن، كان سكن مكة، وحالف بني مخزوم، فعذبوا وأوذوا، ولم يزل ذلك يزيدهم تمكيناً, ولم يزل العدد يزداد، فأسلم عدد من رجال مكة، منهم: عبيدة بن الحارث بن المطلب، وكان رجلاً كبير السن، ونصر الله النبي صلى الله عليه وسلم بحنان عمه أبي طالب فكان يدافع عنه، وتألب عليه أهل مكة، ورأوا في دعوته أنها تسفيه لأحلامهم، وتكفير لآبائهم وأجدادهم، وأنها كفر بأصنامهم، فلذلك آذوه بأنواع الأذى، وبدأ الأذى أولاً بالأقوال، ثم بعد ذلك جاءت أذية الأفعال، وكان الأذى بالقول في حياة أبي طالب، فلما مات أبو طالب وقد كان موته في السنة التي ماتت فيها خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى، فكان ذلك حزناً شديداً على المؤمنين بمكة؛ لأن خديجة كانت تُطعم فقراءهم وكانت غنية، فكانت تطعم أولئك الشباب الذين يؤذيهم أهلوهم ويطردونهم من أعمالهم ووظائفهم، منهم: خباب بن الأرت وعمار بن ياسر وابن مسعود وزيد بن حارثة وغيرهم، فقد كان هؤلاء شباباً فقراء، فكانت خديجة تنفق عليهم، فماتت في ذلك العام, وفيه مات أبو طالب الذي كان يصارع عنهم، فكان عام حزنٍ على المسلمين، ولم يزد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ثباتاً على الحق ويقيناً بأن الله سينصره, وسيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار.
ولذلك ثبت في صحيح البخاري أن خباباً أتاه وهو متوسد برده في ظل الكعبة، فقال: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ قال: (إنه قد كان في من قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على مفرقه فيفرق به فرقتين، ثم يؤتى بأمشاط الحديد فيمشط بها ما بين عظمه من جلد ولحم لا يرده ذلك عن دينه، فو الذي نفس محمد بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون).
ففي ذلك الوقت قسم النبي صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الذين ليس لديهم عوائق في أنفسهم ولا في المجتمع من حولهم، فيمكن أن يتحملوا أعباء هذه التربية الجديدة, وهذا الدين الجديد، ويمكن أن يتحملوا مسؤلياتهم، وأن يصبروا على الأذى، وأن يكتموا السر، وهؤلاء جعلهم في دار الأرقم، وهي دار ليست للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لأحدٍ من بني هاشم، ولا لاحدٍ من حلف المطيبين الذي يقوده بنو هاشم، وإنما هي لشابٍ من بني مخزوم, وهم قادة الحلف الآخر الذي هو مناوئ لبني هاشم, وهو حلف لعقة الدم، وكانت هذه الدار على الصفا، واختارها رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك؛ فإنه لا يرتاب دخول أي طارق لها في أية ساعة من ليل أو نهار، فإذا رأى من يتابعه ذهب إلى المروة فجعل نفسه كأنما يسعى بين الصفا والمروة.
والقسم الثاني: الذين ليس لديهم عوائق في أنفسهم، ولكن لهم عوائق في المجتمع من حولهم لشدة تعلق الناس بهم في شئونهم، وهؤلاء لم يشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخلهم في هذا البرنامج التربوي الخاص، بل جعل لهم محضراً آخر؛ وهو دار سعيد بن زيد بن عمر بن نفيل العدوي، وهي دار أيضاً ليست للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لاحدٍ من بني هاشم، بل هي دار لرجلٍ من عدي بن كعب, وهم أيضاً من حلف لعقة الدم الذين كانوا يناوئون بني هاشم في الجاهلية، وهؤلاء منهم خباب بن الأرت، وكان حداداً يصلح للناس الأبواب والنوافذ، ومنهم عبد الله بن مسعود وكان راعياً يرعى الأغنام على الناس, ومنهم عمار بن ياسر وكان تاجراً يبيع للناس، فلو أنه أدخلهم في دار الأرقم لاكتشف أمره, واطلع على مكانه؛ لأن ابن مسعود كان يرعى الغنم, فلو أضل قوم شاة فجاءوا من الليل يبحثون عن ابن مسعود لوجدوه في دار الأرقم، فاكتشفوا العمل وأهله، وكذلك خباب فإنه كان يصلح للناس الأبواب والنوافذ، فلو جاء قوم في الليل يريدون إصلاح باب أو نافذة لوجدوه عند الأرقم بن أبي الأرقم ولارتابوا في الأمر، وكذلك عمار فإنه يبيع للناس حوائجهم في كل ساعات أوقاتهم، فلهذا جعل لهم داراً مستقلة، ولكن مع هذا كان لهؤلاء أثر بالغ في نصرة هذا الدين, وإعلاء كلمة الله، فيكفي أنه كان في ميزان حسناتهم إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
والقسم الثالث: الذين لديهم عوائق في أنفسهم، لا يصلحون لتحمل هذه الأعباء, ولا هذه الأسرار، وهؤلاء لم يلحقهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا البرنامج التربوي الذي بدأ به دعوته، بل كان إذا أتاه أحدهم قبل منه الإسلام, وقال له: ( ارجع إلى قومك فكن فيهم، فإذا علمت أن الله أظهرني فالحق بي )، وهذا يدل على أن تأخير البيان إلى وقت الحاجة مشروع، وأن الإنسان إذا دخل في الإسلام ولو جهل بعض تفاصيله فإنه معذور بالجهل.
وهؤلاء منهم أبو ذر الغفاري وهو جندب بن جنادة، فإنه قال: كنت في قومي أسمع عن مبعث رجل بمكة، فلما كثر عليَّ ذلك أرسلت أخي فقلت: اذهب إلى مكة فأتني بخبر هذا الرجل، فجاء فقال: وجدته وقومه عليه جرآء، والناس مختلفون فيه بين مصدق له ومكذب. فقلت: لم تشف لي غليلاً، فقعدت على راحلتي فأتيت مكة فاستقبلني الملأ من قريش، فقالوا: لعلك غريب بهذا الوادي. قلت: أجل. قالوا: إن بهذا الوادي رجلاً هو أسحر خلق الله, فحذاري أن تسمع شيئاً من كلامه لئلا يسحرك. فجعلت في أذني القطن؛ لئلا أسمع كلامه، فجلست عند الكعبة, فلما كان في وقت الظهيرة أتاني علي بن أبي طالب وكان شاباً حدثاً، فقال: لعلك غريب بهذا الوادي؟ قلت: أجل. قال: هل لك في من يضيفك؟ قلت: نعم, وددت ذلك. فقال: اتبعني. فلم يشأ أن يسايره لئلا يكون في ذلك انكشاف، فأمره أن يتبعه, فإذا رأى من يتابعه عدل علي إلى ظل الجدار فجعل كأنه يصلح نعله، وأبو ذر يتبعه، حتى أدخله على النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فلما دخلت عليه رأيت وجهه فعرفت أنه ليس وجه كذاب. وهذا من الأمور البينة، فالوجه لا يخفي شيئاً، فهو رأى وجه النبي صلى الله عليه وسلم مباشرةً، فعرف أنه ليس وجه كذاب، فجعل ينتزع القطن من أذنيه, ويسمع من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الطيب، فهداه الله للإسلام فانشرح صدره فآمن، وأكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب فأسلم، فقال: ( اذهب إلى قومك فكن فيهم، فإذا علمت أن الله أظهرني فالحق بي، فإني أخاف عليك قريشاً )، فقال: والذي بعثك بالحق لأرمين بها بين أظهرهم، فخرج إلى الكعبة فوجد الملأ من قريش قد اجتمعوا فصاح فيهم: ألا إني أسلمت وتابعت محمداً، فقاموا إليه يضربونه حتى وقع على الأرض, فجاء العباس بن عبد المطلب فانكب عليه فمنعهم من قتله، فمكث حتى اجتمعوا مرة أخرى فقام فصاح فيهم: ألا إني أسلمت وتابعت محمداً، فقاموا إليه يضربونه ويريدون قتله، فجاء أبو بكر فحال بينهم وبينه، وقال: أتقتلون رجلاً من غفار وتجارتكم تمر على غفار. فجعلها في إطار التجارة والأمر المادي، ثم أمره أن ينصرف فانصرف أبو ذرٍ وبقي في قومه حتى سمع بالهجرة فجاء مهاجراً إلى المدينة.
ومن هؤلاء أيضاً الطفيل بن عمرو الدوسي، وقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، فعرض عليه الإسلام فأسلم، فدعا له فجعل الله نوراً في وجهه، فكان يخترق به الظلام، فخاف أن يظن الناس به عاهةً, فتحول ذلك النور في رأس عصاه, فكانت كالمصباح في يده، فجاء إلى قومه من الليل، قال: فاستقبلني أبي, فقلت: إليك عني فلست منك ولست مني. قال: ولم يا بني؟ قلت: تابعت محمداً ودخلت في دينه. قال: ديني دينك. فاستقبلتني أمي فقلت: إليك عني فلست منك ولست مني. قالت: ولم يا بني؟ قلت: تابعت محمداً ودخلت في دينه. قالت: ديني دينك. فاستقبلتني صاحبتي فقلت: إليك عني فلست منك ولست مني. قالت: ولم؟ قلت: تابعت محمداً ودخلت في دينه. قالت: ديني دينك.
وبهذا تعلمون أن الطفيل بن عمرو رضي الله عنه كان صاحب استعجال وعلانية، فلم يكن يصلح لهذا العمل الذي بدأه رسول الله صلى الله عليه وسلم تربوياً في دار الأرقم يخفيه ويكتمه على أهل مكة، وكذلك عرفتم قصة أبي ذر لماذا لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم التحاقه بأهل دار الأرقم؟ لأنه قال: والذي بعثك بالحق لأرمين بها بين أظهرهم. وهذا ليس نقصاً في دين الرجلين ولا في إيمانهما، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم في أبي ذر: (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر )، وقال: (رحم الله أبا ذر يعيش وحده, ويموت وحده, ويبعث وحده)، وكذلك الطفيل بن عمرو فهو من السابقين الأولين, ومن ذوي الفضل والمكانة في الإسلام، ولكن إنما يتحمل الإنسان ما يطيق، فمن لا يستطيع شيئاً لا يكلفه، فلذلك من كان على شاكلة هذين الرجلين العظيمين، وكان على ما هما عليه من الصراحة والشجاعة والعلانية لا يصلح إذ ذاك لتلك المرحلة، فلذلك لم يدخلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا العمل.
وكذلك من هؤلاء عمرو بن عبسة وهو أخو أبو بكر الصديق من الرضاع، وكان يقول عن نفسه أنه ربع الإسلام أي: رابع من أسلم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون في قومه حتى إذا علم أن الله أظهره فليلحق به، فجاءه بعد الهجرة بسنة أو بسنتين فقال: أعرفتني يا رسول الله؟ قال: نعم, وكان عهده إذ ذاك ثلاث عشرة سنة.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن مكث ثلاث سنين بهذه السرية المطلقة عدل إلى العلن، فأنزل الله إليه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ[الحجر:94]، فوقف على الصفا فنادى قريشاً فاجتمعوا من حوله فقال: ( أرأيتم لو أخبرتكم أن وراء هذا الثنية جيشاً سيغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما عهدنا عليك كذباً، فقال: فإني نذيراً لكم بين يدي عذاب شديد )، فأنذرهم, فقال له أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله فيه: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ[المسد:1-5].
وصبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأذى حتى بلغ قمته وشدته بعد عشر سنين من هذه الدعوة، فأذن لبعض أصحابه في الهجرة إلى الحبشة؛ فإن بها ملكاً عادلاً لا يظلم عنده أحد، فخرجوا مهاجرين فركبوا البحر وفيهم رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي زوجة عثمان بن عفان، وفيهم أم سلمة وأم حبيبة، وهما إذ ذاك زوجتان لرجلين من المهاجرين هما: أبو سلمة بن عبد الأسد وكانت تحته أم سلمة، وعبيد الله بن جحش وكانت تحته أم حبيبة، ولكنه تنصر بأرض الحبشة فمات على النصرانية -نسأل الله السلامة والثبات-، وفيهم الزبير بن العوام وعدد كبير من الذين أسلموا إذ ذاك، وقد مكثوا فترة، فقيل لهم: إن أهل مكة أسلموا وذلك حين أنزلت سورة النجم، فرجع بعضهم إلى مكة ثم علموا أن الأمر قد ازداد شدة فرجعوا في الهجرة الثانية إلى الحبشة، وقد بقي بعضهم لم يهاجر الهجرة الثانية، وازداد العدد أيضاً بقوم لم يهاجروا في الهجرة الأولى.
واحتاج النبي صلى الله عليه وسلم إلى من يدافع عنه فدخل في جوار المطعم بن عدي بن الخيار بن نوفل بن عبد مناف وهو ابن عمه من بني نوفل، فكان يدافع عنه، فمكث بذلك أشهراً ثم رد عليه جواره؛ لأنه أحس أن المطعم سيضغط عليه، فبادر النبي صلى الله عليه وسلم, وكان كريماً فلم يشأ أن يرد عليه هذا الأمر بعد الضغط، وإنما جاء فبادر فرد عليه جواره، وكذلك رد أبو بكر الجوار على رجلٍ كان جاوره.
ثم بعد ذلك اشتد بهم الحال، وقد كتبت قريش الصحيفة من قبل ذلك في حياة أبي طالب، وحاصروا المؤمنين ومعهم أبو طالب في شعب أبي طالب وهو قريب من الصفا وراءها، فبقوا في ذلك الحصار لا يشتري منهم أحد ولا يبيع لهم, ولا يتزوج إليهم ولا يزوجهم. واشتد بهم الحال, وقد قتل منهم إذ ذاك نفر يسير, منهم ياسر وزوجته سمية، ومنهم عمرو بن هند وهو ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعمرو بن أبي هالة وهو ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من بني عمرو بن تميم، وقد قتل عند الركن اليماني يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوكسه رجال من قريش فوقع فمات، وكانوا أول الشهداء, ولم يفرض إذ ذاك الدفاع، بل قد فرض الله في ذلك الوقت الغفران، فقال: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[الجاثية:14]، وما ذلك إلا تعويد للمؤمنين على الصبر، وتدريب لهم على ما سيعانونه في ما بعد من أنواع البلاء، وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.
ولما اشتد البلاء عليهم أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فأري مهاجره, فرأى أنها أرض فيها نخل وفيها حرار، والحرار هي: الحجارة السود المحترقة التي فيها آثار البراكين، فظن في البداية أنها أرض البحرين أي: أرض بني عبد القيس بن أسد بن ربيعة، وقد جاءه رجال من عبد القيس إذ ذاك فأعجب بسمتهم، وكان يعرض نفسه على الناس في المواسم, فيلقى الوفود من كل أنحاء الأرض, ويعرض عليهم الإسلام في كل حجة.
ثم بعد ذلك جاءه وفد أهل المدينة وكانوا شباباً صغاراً من أهل المدينة فلقوه وأخبروه برغبتهم في هجرته إليهم، وذلك أنه كان بينهم وبين اليهود منافرة وهم جيرانهم بالمدينة، فكان اليهود يهددونهم فيقولون: إن نبياً قد حان مبعثه وإننا سنسبقكم إليه فنقتلكم معه قتل عادٍ وإرم، فبادر أولئك الشباب فسبقوا اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهداهم الله له واختارهم له، وطمس على قلوب اليهود فحسدوه وكرهوه وهم يعلمون أنه النبي الذي أخذ الله عليهم العهد أن ينصروه وأن يصدقوه، ولكنهم لم يفعلوا، فاختار الله له أهل طيبة من الأوس والخزرج, وكانت بينهم حرب قضت على رءوسهم وأكابرهم، وكان يوم بعاث يوماً قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم -كما قالت عائشة- فقتل فيه كبار السن، وبقي الشباب الذين يمكن أن يستجيبوا لهذه الدعوة, ويمتثلوا أمرها.
ومن سنة الله سبحانه وتعالى في دعوات الأنبياء جميعاً أنها لا تنتشر حتى يهاجروا، فأول هجرة هي هجرة آدم إلى الأرض في إهباطه هو وحواء، ثم بعد ذلك هاجر نوح عليه السلام في السفينة التي مكثت مدةً طويلة، قيل: أربعين سنة وهي فوق سطح الماء حتى استوت على الجودي في يوم عاشورا، كما في مسند الإمام أحمد، وبعد ذلك هجرة إبراهيم عليه السلام فإنه هاجر إلى الشام, وسيهاجر المسلمون إليه في آخر الزمان إلى المسيح بن مريم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يوشك أن يكون خير مهاجركم مهاجر أبيكم إبراهيم عليه السلام ).
وكذلك هاجر لوط بأهله إذ أمره الله بذلك، فقد أمره الله أن يخرج بأهله بقطع من الليل وفعل، وكذلك هاجر موسى ببني إسرائيل من مصر بالليل فاتبعهم فرعون، فلما رأوه وراءهم ورأوا البحر أمامهم وهم مصبحون أي: في وقت الفجر قالوا: يا موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ[الشعراء:61-62]، فأمره الله فضرب البحر بعصاه: فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ[الشعراء:63]، وشق لَهمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى[طه:77]، فمر منها موسى وبنو إسرائيل، فلما تجاوزوا البحر وقد أزلف فرعون وقرب هو وجنوده فرأوا نجاة بني إسرائيل اقتحموا البحر، فلما توسطوه التطم عليهم فلم تبقَ منهم باقية.
وكذلك هاجر عدد من الأنبياء ممن سواهم، فداود عليه السلام تعرفون هجرته وقتاله حين أمره الله سبحانه وتعالى بالجهاد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم افترض الله عليه هذه الهجرة.
وقد أذن لأصحابه أن يسبقوه، فأول من هاجر إلى المدينة مصعب بن عمير وذلك بعد بيعة العقبة الثانية، وهي العقبة المشهورة التي جاء فيها عدد كبير من الحجاج من المدينة، وكان المؤمنون منهم إذ ذاك شباباً, وسيدهم وقائدهم هو البراء بن معرور رضي الله عنه, ومعه ابن أخته كعب بن مالك، فجاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسند ظهره إلى جدار الكعبة أو الحجر، فواعدهم في الليلة الوسطى من ليالي التشريق في الشعب الذي خلف الجمرة في الثلث الأخير من الليل، فجاءوا يتسللون وكانوا اثنين وسبعين رجلاً ومعهم أربع نسوة لهم، فلما تتام جمعهم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمه العباس بن عبد المطلب فبايعوه بيعة النساء، كما في حديث عبادة بن الصامت، وبيعة النساء هي على ستة بنود المذكورة في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[الممتحنة:12]، فبايع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار على هذه البنود الستة، ورتبهم في اثنتي عشرة مجموعة، وجعل على كل مجموعة نقيباً، وهؤلاء النقباء كان لهم منزلة في الإسلام ومكانة, فقد اختارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين ذويهم، فلما انتهت البيعة قال له العباس بن نضلة وهو أحدهم: ( يا رسول الله! لو شئت لشهرنا سيوفنا على أهل منىً، فقال: لم أُؤمر بذلك).
فلما انتهت البيعة صاح الشيطان فوق الجبل فقال: يا أهل الجباجب -وهي الخيام- هل لكم في محمد والصبأة معه يبايعونه على حربكم، قال كعب بن مالك: فلم أسمع صوتاً هو أكبر من ذلك الصوت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا ابن أزيب, هذا شيطان العقبة لأفرغن لك)، هدده أنه سيفرغ له، فرجعوا فجاء المشركون في النهار يسألون وفد يثرب, فسكت المسلمون وبرأهم المشركون من أهل المدينة, فأقسموا لهم بما شاءوا من الأيمان لم يحصل هذا ولم تقع البيعة، فأرسل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وهو أول سفيرٍ في الإسلام، فجاء يعلمهم أمر الدين ويهيئهم للهجرة، وكان يساعده في إدارة شئون المدينة إذ ذاك وفي انطلاقة هذه الدعوة أبو أمامة أسعد بن زرارة رضي الله عنه، وكان من أفقه الذين أسلموا إذ ذاك, وأكثرهم حفظاً للقرآن لما أنزل من القرآن إذ ذاك.
وبعد ذلك أرسل النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم عبد الله بن أم مكتوم وكان رجلاً ضريراً أي: أعمى، فكان ثاني من هاجر من أهل مكة، وبعد ذلك أذن للناس في الهجرة فهاجر الرجال والنساء, وخرج عدد من النساء على أرجلهن من مكة مهاجرات إلى المدينة يحملن القرب، وهاجر عدد من الرجال منهم كبار السن كصهيب بن سنان الرومي وكان كبير السن، وكان رامياً معروفاً في الجاهلية, وكان يبري السهام، وكانت له تجارة بمكة، ولم يكن من أهلها وإنما جاء يطلب جوار البيت, وكان على علمٍ من الديانات السابقة، فأراد أهل مكة أن يمنعوا الناس من الهجرة، وأن يحولوا بينهم وبين ذلك, وتعرضوا لعددٍ كبير من المهاجرين، فمنهم من حبسوهم وآذوهم كالوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة وهم ثلاثة فتية من بني مخزوم، فوضعوهم في السلاسل والقيود وعذبوهم بأنواع العذاب، ولكن الله نجاهم في ما بعد بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، فقد قنت بالدعاء لهم بالصلاة فأنجاهم الله، وكذلك صهيب تعرضوا له فأرادوا رده عن هجرته فنثر لهم كنانته، وقال: يا معشر قريش! لقد تركت لكم تجارتي وبيتي ولم أخرج إلا بهذه السهام، ووالله لن يصل إلي أحد منكم حتى ينفد ما في جعبتي, ولن ينفذ سهم إلا من كبد أحدكم، فقال لهم أبو سفيان: قد أنصفكم الرجل فلا خير فيكم بعد أن يموت منكم هذا العدد أي: بعدد السهام التي لديه وهم يعرفون صدقه ورمايته، فرجعوا وتركوه، فباع نفسه لله تعالى فأنزل الله فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ[البقرة:207].
وقد حدثتنا أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما عن إذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فإن الله لم يأذن للنبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة ما دام بمكة مستضعفون, وما دام الأمر لم يستقر بالمدينة، حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عاقباً لهم خالفاً لهم في أهليهم، وكان لديه أمانات المشركين وهي كثيرة، منها أموال اليتامى والغيب، فكانوا يسمونه المأمون في الجاهلية، فكل مالٍ ليس له من يحضنه يأتون به إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فاجتمع لديه أمانات كثيرة من أموال أهل مكة، فأذن الله له بالهجرة.
قالت أسماء: فجاء في وقت الظهيرة في وقتٍ لم يكن يأتينا فيه، فرآه أبو بكر فقال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء في وقتٍ لم يكن يأتي فيه، فما جاء إلا لأمر، فلما استقبله أبو بكر قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أخرج عني من عندك. قال: إنما هما ابنتاي وإحداهما زوجك، فأخبره أن الله أذن له في الهجرة، قال: الصحبة.. الصحبة. فقال: نعم، فبكى أبي من شدة الفرح، وما كنت أعلم قبل يومئذٍ أن أحداً يبكي من الفرح )، فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خطة الهجرة، وهي كالتالي:
فأبو بكر يصحبه ويذهب معه إلى غار ثور وهو عكس الاتجاه تماماً، فغار ثور في الجنوب الشرقي من مكة، والهجرة في الشمال الغربي أي: جهة المدينة، وهذا الغار قريب جداً في طرف مكة؛ طرف البيوت، والهارب عادةً يقطع المسافة ولا يبقى في مكانٍ قريب، وأيضاً سيمكثان في هذا الغار ثلاث ليالٍ، والهارب في العادة ينتهز الفرصة قبل أن يشيع خبره فيقطع المسافة.
وأسماء هي المكلفة بالتموين أي: هي التي تأتي بالنفقة، وذلك أنها امرأة يمكن أن تستر بثيابها ما تحمله من النفقة، وكانت إذ ذاك في بداية الحمل بعبد الله بن الزبير في أشهرها الأولى، فكانت تحمل النفقة فتصعد قمة هذا الجبل المرتفع.
ونحن الآن بعد تعبيد الطريق وإصلاحها في العام الماضي صعدتها أنا وعدد من الحجاج خلال ساعتين تقريباً من أسفل الجبل إلى الغار، بعد تعبيده وتسهيله، وهو من أطول جبال مكة، والغار الذي فيه وعر جداً، فالغار حجارة مجتمعة وفي داخلها صخرة كبيرة قد وقعت من قبل، فالذي يقف على باب الغار لا يرى ما وراء تلك الصخرة حتى يدخل، فما لم ينحنِ الإنسان ويدخل داخل الغار لا يرى شيئاً مما وراء تلك الصخرة، والصخرة مطروحة في وسط الغار تماماً، والصخرة على قدر ارتفاع هذه الطاولة تقريباً أو أخفض منها قليلاً.
وعبد الله بن أبي بكر وكان شاباً ثقفاً لقناً يجمع لهما الأخبار، فيأتيهم بها، وعامر بن فهيرة وكان يرعى الغنم يغدو بالغنم على أثر أسماء فيطمسه, ويروح بها على أثر عبد الله فيطمسه، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشتري من أبي بكر ناقة، وكان أبو بكر قد أعد ناقتين، فامتنع أبو بكر من أن يأخذ الثمن فأصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يدفع له الثمن.
وترك الناقتين عند عبد الله بن أريقط، وكان خريتاً خبيراً بالمسافات؛ ليسلك بهما طريقاً غير معهودة، ولما علمت قريش بخروج النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر من مكة، وقد كانوا يريدون قتله قبل ذهابه وهم يعلمون أنه سيذهب وأهل المدينة ينتظرون مجيئه؛ لأنهم علموا أن الله قد أذن له بالهجرة، فكانوا يخرجون في كل يوم في الصباح إلى ثنية الوداع الجنوبية، وللمدينة ثنيتان كلتاهما تسمى ثنية الوداع: إحداهما في جنوب المدينة مقابلة لقباء، وهي الثنية الجنوبية، والأخرى في شمال سلعٍ وهي الثنية الشمالية التي يودعون منها المتجه إلى الشام، وتلك يودعون منها المنطلق إلى مكة.
فكانوا يخرجون إلى تلك الثنية ينتظرونه حتى ترجهم الشمس ويردهم الحر وهم ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم، فأرادت قريش قتل النبي صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا على بيته في الليل وهم ينتظرون آخر الليل ليضربوه ضربة رجلٍ واحد بسيوفهم، وهم يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في البيت، فإذا سجد قاموا فنظروا إليه, فإذا قام سمعوا قراءته وقد ألقيت عليهم المهابة، فلم يستطع أحد منهم أن ينصرف فجلسوا في مكانهم وناموا، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أضجع علياً مكانه وكساه برده, وأخذ من تراب فجعل على رأس كل رجلٍ منهم تراباً وخرج.
فلما دخل الغار كان أبو بكر يتقدم أمامه؛ لئلا يكون بالغار حية أو عقرب لتبدأ بأبي بكر قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفديه بنفسه، فأقاما بالغار, واشتد الطلب وأعطت قريش مائة ناقة لمن يأتي بأي خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وفي هذا المقام بالغار خرجت قريش كأنهم يتلمسون هذا المكان, والأثر لا يرى في الجبل، ولكن حول مكة غاران: أحدهما: غار حراء الذي أنزل فيه الوحي، والآخر: غار ثور، وغار حراء إلى جهة الشمال وهو أقصر من غار ثور وهو في قمة جبل حراء؛ لكنه أقصر وأسهل من غار ثور، فذهبوا يلتمسون رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغارين حتى أتوا إلى غار ثور، فرأوا حمامةً على باب الغار قد باضت، ويقال: إنهم رأوها قد نزلت أمامهم ولم تبض، ورأوا كذلك آثار نسج العنكبوت، فقالوا: ليس بهذا الغار أحد، فقال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لرآنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما )، فأنزل الله في ذلك: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[التوبة:40].
انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر صبيحة الإثنين من الغار فنزلا، فلقيا عبد الله بن الأريقط وعامر بن فهيرة ومعهما الناقتان، فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر على إحدى الناقتين وركب عبد الله بن الأريقط وعامر بن فهيرة على الأخرى، وانطلقوا فأتوا على طريقٍ غير مأهولةٍ حتى نزلوا بامرأةٍ في وادي قديد وهي أم معبد، وكان ذلك العام عالم شدة وقحط، وقد مضى على أهل مكة وما حولها ثلاث سنوات لم يأتهم مطر قبل الهجرة، وكان القحط شديداً إذ ذاك، فقد هلكت المواشي من شدة القحط، وكان الناس إذا نظروا إلى الأفق رأوا دخاناً شديداً، وما هو إلا لنقص البصر من سوء التغذية، فلما نزلوا على هذه المرأة إذا عندها شاة سخلة قد خلفها الجهد، فاستأذنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتلبها، فاستغربت ذلك! فهي شاة قد خلفها الجهد ليس بها أي لبن، فسمى الله ومسح ظهرها بيمينه ومسح ضرعها ونفضه فدرت، فاحتلب منها حتى امتلأت آنيتهم فشربوا جميعاً، وبقي اللبن في بيتهم، وفي هذا الوقت سمع أهل مكة صائحاً يصيح وهو من هواتف الجن يقول في نشيده:
جزى الله عنا والجزاء بفضله رفيقين حلا خيمتي أم معبدِ
هما نزلا بالبر وارتحلا به فيا سعد من أمسى رفيق محمدِ
ليهن بني كعب مكان فتاتهم ومقعدها للمؤمنين بمرصدِ
فعرفوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجاوز حدودهم.
وفي الطريق سمعت أمة أن بياضاً مر بالشاطئ، وقد قيل: إن الزبير بن العوام كان راجعاً من تجارة له بالشام ومعه ثياب بيض، فأهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر منها فكساهما ثياباً بيضاً، فأخبرت تلك الأمة مولاها وهو سراقة بن مالك فاستكتمها وركب فرسه وسار في أثرهما، فلما اقترب منهما ساخت به يدا فرسه في الأرض، فسألهم الأمان فأمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحق به وعاهده أن يكتم خبره، فقال: كيف بك إذا كنت ترفل في سواري كسرى؟ يعده بسواري كسرى ملك الفرس في ذلك الوقت.
فاستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه حتى وصل إلى المدينة فجر الإثنين، ولم يشأ دخولها إلا في وقت الضحى، فنزل بالعقيق فلما ارتفع الضحى ركب داخلاً إلى المدينة، وقد رجع الناس وكانوا في انتظاره عند ثنية الوداع، فصعد رجل من اليهود على نخلة فرآه، فقال: يا أهل يثرب هذا جدكم -أي: حظكم- الذي تنظرون، فاستبق الناس في استقباله وجواري أهل المدينة ينشدن:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
فاستقبلوه هنالك, فعدل إلى ظل نخلة ليسلم عليهم، فلما زالت الشمس وكثير منهم لم يكونوا يميزون رسول الله صلى الله عليه وسلم وما رأوه قط، فكانوا يلتبس عليهم بأبي بكر، فلما زالت الشمس جعل أبو بكر يظلل بثوبه على النبي صلى الله عليه وسلم فعرفوه، فعدل ذات اليمين إلى بني عمرو بن عوفٍ وهم من الأوس، فنزل في دارهم, وبدأ بناء مسجد قباء في وقت الظهر، فأسس على التقوى من أول يوم من الهجرة، وهو يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول.
وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر في يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، فلما كان يوم الجمعة وقد تتام بنيانه صلى فيه الفجر، ثم أذن الله له بالانصراف إلى وسط المدينة, فذهب إلى المدينة، فكان كلما مر ببطن من الأنصار أمسكوه وقالوا: انزل فينا فإن فينا الحلقة والمنعة، وهو يقول: ( دعوها فإنها مأمورة)، وقد أرسل خطام ناقته فهي مأمورة من عند الله سبحانه وتعالى بالتوجه، وتأخر في الطريق حتى حان عليه وقت الجمعة فصلى في مسجد بني سالم الحبلى, وهو على الطريق بين قباء والمدينة، ومكانه قريب أيضاً من المكان الذي كان المؤمنون في المدينة يصلون فيه الجمعة، فكانوا يصلونها بهزم النبيت بنقيع الخضمات تحت ظلال النخل، وكان يؤمهم إذ ذاك أبو أمامة أسعد بن زرارة، واستمرت الناقة في سيرها بعد الجمعة، فجاءت بين الظهر والعصر إلى ديار بني عدي بن النجار فبركت في حائطٍ في قبور للمشركين ونخل، ثم قامت فدارت ساعة ثم رجعت إلى مبركها الأول فبركت فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هذا المنزل إن شاء الله )، وسأل بني النجار أن يثامنوه جدارهم ذلك، فحلفوا ألا يأخذوا عليه ثمناً، فأمر بالنخل فقطع, وأمر بالقبور فنبشت، فإذا أقرب دارٍ إليه دار أبي أيوب الأنصاري، فنزل فيها.
وهذه هي وقائع الهجرة، وفيها كثير من التفاصيل الزائدة على ما ذكرناه لا نستطيع إحصاءها في مثل هذا الوقت الضيق.
وأما الدوس والعبر المأخوذة فمنها: أن هذا الدين امتحان من عند الله تعالى, وأنه لن يلتزم أحد به إلا أوذي عليه، وهذا عهد من الله، فقد قال الله تعالى: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[العنكبوت:1-3].
ومن هذه الدوس والعبر أيضاً: أن الذين يخالطون الإنسان قد لا ينزلونه منزلته ولا يعرفون قدره؛ ولذلك يقول الناس: أزهد الناس في العالم أهله، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان معروفاً عند أهل مكة، وقد بعث في خير أسرةٍ منهم, وهو أشرفهم نسباً، وكان معروفاً بحسن الخلق والاستقامة حتى قبل البعثة، ومع ذلك كذبوه وآذوه وأخرجوه من دارهم.
كذلك فإن من الدروس والعبر المأخوذة من الهجرة أيضاً: أن أمر هذا الدين لا يتم إلا بالتخطيط المحكم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم عرض عليه ملك الجبال أن يصدم الأخشبين على أهل مكة، فأبى ذلك؛ لعل الله يخرج من أصلابهم قوماً يعبدون الله لا يشركون به شيئاً، ومع ذلك يخرج لقتالهم يوم بدرٍ وليس معه من السيوف إلا ثمانية، وليس معه من الخيل إلا ثلاثة، وليس معه من الإبل إلا مائة بعير يتعاقب على كل بعير ثلاثة رجال، وأخذ بالأسباب.
ويؤخذ من هذه الهجرة أيضاً من الدروس والعبر: منهج النبي صلى الله عليه وسلم الذي بنى به دولة الإسلام, وأقام به هذا التنظيم المحكم الذي فتح مشارق الأرض ومغاربها.
وأركان ذلك خمسة:
فالركن الأول: الربانية، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من المتوكلين على الله سبحانه وتعالى القاصدين لوجهه الكريم، لا تأخذه في الله لومة لائم، لا يبالي بمكة وأهلها والأرض جميعاً ومن عليها، وإنما يقصد وجه الله الكريم، وذلك واضح جداً في تربيته لأصحابه، فالذين رباهم كيف كان حالهم في ما بعد؟ وكيف كان مستواهم؟ فهذا أبو بكر الصديق وقد كان أشد الناس حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ( لما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم يقول: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ[آل عمران:144]، ثم يقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! أما الموتة التي قد كتب الله عليك فقد متها، ويقول: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، فدافعوا عن دينكم ).
ولما أتاه الخبر أن العرب قد ارتدوا عن دين الله اخترط سيفه وكسر قرابه، وقال: أينقص هذا الدين وأنا حي؟ فانظروا إلى هذه الربانية الواضحة.
والركن الثاني: التربية، فقد رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تربيةً غيرت حياتهم كلها، فهذا عمر بن الخطاب كان يصنع صنماً من تمر ويسجد له ويعبده، فإذا جاع أكله، وبعد هذه التربية يقول للحجر الأسود الذي به شرفه وشرف آبائه: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
وهذا علي بن أبي طالب وهو من هذه الأمة الأمية التي لا تحسب ولا تكتب، بعد هذه التربية يقف على المنبر خطيباً فيقول: الحمد الله الذي يجزي كل نفسٍ بما تسعى، وإليه المآب والرجعى، فيسأله رجل فيقول: هلك هالك عن زوجةٍ وأبوين وابنتين, فيقول: صار ثمنها تسعاً.. ويستمر في خطبته.
هذه التربية لها الأثر البالغ، فقد غيرت أحوال الناس، فعثمان بن عفان كان من بطن من قريش أهل تجارة وهم بنو أمية، كانوا أهل تجارة وأهل حرصٍ على الدنيا، حتى إن عنبسة بن أمية أتاهم وهم ملأ من إخوته وبني إخوته فقال: يا معشر بني أمية! ما لي بمكة إلا هذا الغلام، فمن يتكفل لي بنفقته أخرج لكم عن مكة, وأهيم على وجهي حتى أموت، فلم يجبه أحد، وإخوانه اثنا عشر رجلاً، وكل واحد منهم له اثنا عشر ولداً، لم يجبه أحد منهم.
بعد هذه التربية أصبح عثمان بن عفان أجود الناس, ما عرف في الإسلام من بذل من المال ما بذل عثمان، جهز جيش العسرة, فجهز ثلاثة آلاف مقاتل برواحلها ورحالها وسلاحها وركائبها وكل ما تحتاج إليه، واشترى بئر رومة فجعلها في سبيل الله, وجعل دلوه مع دلاء المسلمين فيها، وبذل في سبيل الله من ماله الشيء الكثير، حتى إنه بعد أن تولى الخلافة قال للمسلمين: أما بيت مالكم فهو رد عليكم لا آخذ منه شيئاً؛ فقد أغناني الله عنه، لم يتقاضَ أي راتب من بيت المال، وقد مكث إحدى عشرة سنة وأشهراً وهو خليفة المسلمين لم يأخذ أي راتب من بيت المال.
فهذه التربية لها أثر بالغ.
الركن الثالث: التدرج والمرحلية، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقدم على مخاطرة ولا مغامرة بمكة قط، فلم يكسر أي صنم، ولم يقتل أحداً من رموز الشرك بمكة، وقد كان في دار الأرقم وهي على الصفا، وعلى الصفا إذ ذاك صنم اسمه إساف، وعلى المروة صنم اسمه نائلة، بل كانت قريش يعظمون إساف ونائلة حتى سموا الصفا والمروة باسميهما، وقد قال أبو طالب في ذلك:
وثور ومن أرسى ثبيراً مكانه وعير وراقٍ في حراء ونازلِ
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافياً غير ناعلِ
وحيث ينيخ الأشعرون رحالهم بمفضى السيول من إساف ونائلِ
فقوله: (من إساف ونائل) أي: من الصفا والمروة، مجتمع السيول بين الصفا والمروة, وهو في المسعى في وسطه.
فلم يكسر النبي صلى الله عليه وسلم أي صنمٍ من هذه الأصنام، فكان كلما ازداد العدد يزداد الإنتاج, عندما بلغ المقاتلون من أصحابه ثلاثمائة كانت معركة بدر، وعندما بلغوا عشرة آلاف كان فتح مكة، وعندما بلغوا ثلاثين ألفاً أو سبعين ألفاً دانت الجزيرة العربية كلها لدين الله, وخرج إلى الروم في غزوة تبوك، وكانت أموره مخططة منظمة، ولذلك أخرج البخاري في الصحيح من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اكتبوا لي من نطق بالإسلام )، وفي رواية: (أحصوا لي من دخل في دين الله)، فكان أمره مبنياً على الدراسة وعلى التخطيط وعلى الإحصاء.
الركن الرابع من هذه الأركان: الإخاء، فقد آخى بين المهاجرين أنفسهم, وبين المهاجرين والأنصار، وبين الأنصار أنفسهم إخاءً عظيماً, حتى كانوا يتوارثون به في صدر الإسلام، كما في حديث أم العلاء في صحيح البخاري قالت: ( كان المهاجري يرث الأنصاري, والأنصاري يرث المهاجري بإخوة الإسلام، حتى نزل قول الله تعالى: وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا[الأحزاب:6]، قالت: فكانوا يوصون لهم ). والمعروف الذي أذن الله به هو الوصية، فكانوا يوصون لهم.
الركن الخامس من هذه الأركان: الأخذ بالأسباب، فلم يترك أي سببٍ يؤدي إلى النصر إلا عمله، فقد كتب الكتب إلى كل جبارٍ يدعوهم إلى الإسلام، وأرسل الرسل، وبعث البعوث, وأرسل السرايا، وعمل بكل سببٍ يؤدي إلى النصر، سواءً كان معروفاً لدى العرب أو كان مستورداً من حضارة أخرى، فالمنبر مستورد من حضارة الحبشة، والخاتم مستورد من حضارة الروم، والخندق مستورد من حضارة فارس، فلم يرَ غضاضة في أخذ أي نافعٍ من أية حضارة أخرى, ولو كان غير معروف لدى بيئته وحضارته العربية.
كذلك من الدروس والعبر النافعة المتكررة في أمر الهجرة: أن الذين شابوا على أمرٍ يشق عليهم تركه، ولهذا ليس في المهاجرين كبير غير عبيدة بن الحارث بن المطلب، وكذلك كثير من المنافقين في المدينة هم كبار السن، والشباب لم يعرف فيهم النفاق.
وكذلك من الدروس والعبر المأخوذة منها أيضاً: أن هذا الدين يحتاج إلى أرضية ينطلق منها, ويحتاج كذلك إلى تنظيم محكمٍ كما حصل لأهل المدينة عندما وزعهم إلى اثنتي عشرة مجموعة, وبدأوا دعوتهم، وعندما عرضوا الإسلام على أهل المدينة تأذى بذلك الساسة والقادة، ومنهم سعد بن معاذ رضي الله عنه، فتأذى بهذه الدعوة، ولكنه هاب خاله أبا أمامة أسعد بن زرارة، فأرسل إليه ابن عمه أسيد بن الحضير ليرده عن هذا الأمر، فلما أتاه عرض عليه مصعب بن عمير الإسلام فقال: إن شئت سمعت منا فإذا أعجبك هذا قبلت وإلا رددته.
نقف عند هذا الحد، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر