بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فيقول البخاري رحمه الله تعالى: (باب: سترة الإمام سترة لمن خلفه).
الأغلب في تراجم البخاري إذا جاء بجملة كاملة بعد الباب أن يجعل الباب مفصولًا؛ أي: منونًا، ويأتي بالجملة بعده مثلما هنا: (باب: سترة الإمام سترة لمن خلفه).
وفي الحال ما جاء ما بعد الباب مفردًا، فإن الباب يضاف إليه مثل: (باب: الصلاة إلى العنزة)؛ فيضاف الباب هنا إلى ما بعده؛ لأنه ليس تركيبًا ولا جملة.
وقد عقد هذا الباب وما بعده من الأبواب لأحكام السترة.
و(السترة) هي: ما يستتر به الإمام أو المصلي فيجعله أمامه؛ لئلا يمر بين يديه ما يقطع نور صلاته، فالصلاة لها نور عظيم، وينطلق بين يدي المصلي، وقد جاء أن ربه جل وعلا يكون تجاهه؛ أي: أمامه؛ فلذلك لا يجوز للمصلي أن يمتخط بين يديه ولا عن يمينه، وإذا عرض له امتخاط أو بصاق فليجعله في طرف ثوبه وليثنه عليه، أو إذا كان في مكان محصب فليبصق تحت رجله، وإذا اضطر لغير ذلك فليجعله عن يساره، لكن لا يجوز له أن يجعله بين يديه ولا عن يمينه، أما بين يديه فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر في أن ربه جل وعلا أمامه في صلاته، وكذلك عن يمينه، فقد أخرج الحاكم في المستدرك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف ).
ويشرع للمصلي أن يتخذ سترة يجعلها بين يديه، سواء خشي المرور أو لم يخشه، فإذا خشي مرور أحد بين يديه تأكد جعل السترة بين يديه، وإلا كان ذلك على أصل المشروعية، واختلف أهل العلم في حكم السترة، فذهب جمهورهم إلى أنها سنة مطلقًا، سواء خشي مرورًا أو لم يخشه، وذهب آخرون إلى أنها سنة إذا خشي المرور فقط، وذهب آخرون إلى وجوبها؛ لأن ظاهر النصوص التي ترد هنا تقتضي الوجوب؛ فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها فقال: ( فليجعل بين يديه مثل مؤخرة الرحل )، وهذا أمر، والأصل في الأمر أنه للوجوب.
وكان مقتضى الترتيب والفهم المعقول أن لا يبدأ البخاري الكلام في السترة بهذه الترجمة، بل يؤخرها حتى نعرف حكم السترة؛ لأن هذا من الأحكام التفصيلية التي تأتي بعد معرفة مشروعية السترة، ولكن نظرًا لأن الصلاة يصليها ثلاثة: الإمام، والفذ، والمأموم، والإمام هو الضامن، وهو أول ما يبدأ به بالثلاثة، فما اختص به من السترة بدأ به قبل غيره؛ لذلك قال: (باب: سترة الإمام سترة لمن خلفه)، فإذا كان الإمام مستترًا إلى سترة، فإن تلك السترة كافية لمن خلفه من الصفوف حتى لو كانوا مئات الصفوف، ويجوز للإنسان أن يمر بين يدي بعض الصف إذا كان الإمام مستترًا؛ لأن سترة الإمام سترة له، وكذلك أن يمر بين الصفوف إن لم يكن في ذلك تشويش، أما إذا كان في مروره بين الصفوف تشويش على المصلين، أو كان يتكلم، أو نحو ذلك مما هو مناف لخشوع الصلاة وهيئتها، فلا ينبغي له أن يفعل؛ لأن ذلك يدخل التشويش على المصلين، فيقطع إقبالهم على الله وخشوعهم بين يديه.
وقوله: (لمن خلفه) يقصد للمؤتمين به جميعًا حتى من كان مناظرًا له مساويًا، كما إذا ضاق المسجد فلم يجد الإنسان مكانًا إلا عن يمين الإمام، فصف صفًا عن يمينه، أو جاء إنسان فصلى عن يمينه؛ فسترة الإمام سترة له، وكذلك إذا كانوا عن يساره أيضًا، ومن الأفضل في الصلاة أن يكونوا في أحد جانبيه فقط، وألا يكونوا عن يمينه وشماله معًا، إذا كان الإمام يصلي بالناس، فلا ينبغي أن يكون في وسط الصف حتى لو ضاق المسجد، فينبغي أن يكون في الطرف؛ فالأفضل أن يصلوا جميعًا عن يمينه وإن لم يَلِقْ كانوا جميعًا عن شماله.
قال: وعنه رضي الله عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه، فيصلي إليها والناس وراءه، وكان يفعل ذلك في السفر، فمن ثم اتخذها الأمراء )، (وعنه)؛ أي: عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج يوم العيد.. )؛ أي: إلى المصلى الصحراوي، وقد ذكرنا حكمة مشروعية الخروج إليه؛ لأنه إظهار لشعائر الإسلام وقوته، وكثرة أهله، وكثرة سواده؛ فلذلك يخرجون ظاهرين ليظهروا الدين في الصحراء التي لا تستر أحدًا، ولا تصلى صلاة العيد في المساجد لما فيها من الستر، ويطلب في صلاة العيد الخروج؛ ولذلك في حديث أم عطية في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بإخراج العواتق، والحيض، وربات الخدور؛ يشهدن الخير، ويكثرن سواد المسلمين )، حتى لو كن لا يصلين، فشهودهن تكثير للسواد وزيادة للعدد.
(إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه) (الحربة)؛ أي: المعهودة، والمقصود بها حربة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى (توضع) تركز في الأرض؛ أي: تغرس فيها، و(الحربة): رمح قصير من حديد، وهو آلة من آلات الحرب والقتال؛ فلذلك قال: فتوضع بين يديه، والمقصود بـ(بين يديه)؛ أي: بينه وبين القبلة (فيصلي إليها)؛ أي: يصلي تجاهها، ولا يقتضي ذلك المسامتة تمامًا، فإذا كان المصلي يصلي إلى شيء فيمكن أن ينحرف يمينًا أو شمالًا عنه، وبالأخص إذا كان حجرًا أو ما يشبه ما كان أهل الجاهلية يعبدونه من الأصنام؛ فيمكن أن ينحرف الإنسان عنه يمينًا أو شمالًا؛ لئلا يصمده صمدًا فيكون بين يديه كالتشبه بعابد الصنم، ومع ذلك لو صلى مقابله تمامًا كالذي يصلي مقابل الأسطوانة مثلًا، فلا حرج في ذلك إن شاء الله.
(والناس وراءه)؛ أي: صفوف الناس وراءه، وليس لهم سترة إلا سترة النبي صلى الله عليه وسلم، (وكان يفعل ذلك في السفر)؛ أي: كان إذا صلى في السفر في غير مسجد كما إذا كان مسافرًا فصلى في منزله- المنزل الذي ينزل فيه- فسيكون ذلك في صحراء؛ فكذلك يأمر بالحربة فتغرز بين يديه فيصلي إليها، (وكان يفعل ذلك في السفر، فمن ثم اتخذها الأمراء) (من ثم)؛ أي: من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم حافظ على هذا في العيدين وصلاة السفر، (اتخذها الأمراء)؛ أي: اتخذوها سنة، فكانت الحربة تغرز بين أيديهم فيصلون إليها، والمقصود بـ(الأمراء) الخلفاء الراشدون ومن اقتفى أثرهم، فهم الذين يحتج ابن عمر بعملهم؛ فيقصد أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً ومن كان من الأمراء أيضًا يقتدى به كـعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وأبي موسى الأشعري ومعاوية بن أبي سفيان، وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا أمراء الأمصار في ذلك الوقت، وكـعتاب بن أسيد أيضًا.
وهذا الحديث يدل على مشروعية السترة للإمام مطلقًا إذا لم يكن في بناء؛ لأنه ذكرها في صلاة العيد- وهي في المصلى الصحراوي وليس محوزًا ولا محوطًا- وفي السفر، والإمام فيه يصلي في الصحراء كذلك عادة، وفيه أيضًا دليل على ما عقد البخاري الباب له وهو أن سترة الإمام كافية للمؤتمين به، فإنه لم يكن لهم إلا سترة واحدة وهي سترة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو دليل أيضًا على جعل السترة بين يديه بمسافة قريبة، وسيأتي باب يحدد القدر الذي يكون بين المصلي وبين السترة وهو الباب الذي بعد هذا، وكذلك بقدر السترة نفسها، فأقل ما يستتر به الإنسان ثلثا ذراع، وهذا أقصر الحراب، أقصر الحراب ما كان ثلثي الذراع، وأطوال الحراب ما كان ذراعًا ونصفًا وهذا هو المعروف من أسلحتهم، ثلثا ذراع معناه عظمة الذراع من المرفق إلى الكوع، هذا ثلثا ذراع، وهذا القدر هو أقصر الحراب عند العرب، وأطولها ذراع ونصف؛ فهذا يدل على أن أقل ما يستتر به ثلثا ذراع، وأنه لا حد لأكثر ما يستتر به؛ لأنه صلى إلى جدار وغير ذلك.
ويدل الحديث كذلك على أنه يشرع للإمام أن يأمر بالسترة فتنصب، فإذا دخل الإمام الصلاة ولم يستتر، أو كان مصليًا يصلي دون السترة، فجاء إنسان فوضع بين يديه سترة، فإن ذلك يرفع الإثم عن المارين من ورائها، ولكنه لا يرفع الإثم عن الإمام نفسه؛ لأنه لم يفعل هذا الفعل ولم يأمر به، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، ويؤخذ ذلك من قوله: ( أمر بالحربة فتوضع بين يديه )، فإنه كان يأمر بذلك فيفعل عن أمره صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: عن أبي جحيفة رضي الله عنه، قال: سمعت أبي: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم بالبطحاء- وبين يديه عنزة- الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، تمر بين يديه المرأة والحمار )، هذا الحديث يحدث به أبو جحيفة السوائي رضي الله عنه، وهو من صغار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شهد حجة الوداع، لكنه كان طفلًا صغيرًا، وقد حدث عن نفسه أنه رأى بلالاً حين خرج بوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم من القبة التي نصبت له، فتزاحم الناس على وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ما بين نائل وغارف، فمنهم من يغرف على وجهه، ومنهم من ينال منه ولو كان بللًا يسيرًا، يتبركون بوضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه سمع بلالاً يؤذن، وكان ينحرف مع وجه بلال عندما يقول: حي على الصلاة.. حي على الفلاح، وهو طفل صغير يتتبع ذلك، وقد روى أبو جحيفة عن عدد من الصحابة، فروى عن أبيه، وعن علي بن أبي طالب، وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم.
وهو هنا يحدث عن أبيه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم.. )؛ أي: بالصحابة ( بالبطحاء.. )؛ أي: بطحاء مكة، وذلك في المكان الذي يسمى بالمحصب، وهو منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ( عندما رجع من الحج، فقد قال للناس في اليوم الثاني عشر عندما رمى الجمار: إنا نازلون غدًا إن شاء الله بمحصب بني كنانة حيث تعاهدوا على حرب الله ورسوله، فلما رمى الجمار في اليوم الثالث عشر خرج من منًى ولم يصل فيها الظهر حتى نزل بالمحصب، وقد ضربت له خيمة هنالك، فصلى هنالك الظهر والعصر والمغرب والعشاء )، وقيل: ( صلى العشاء عند الكعبة )، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى مشروعية ذلك للحاج غير المتعجل، فمن تعجل في يومين لا يشرع له التحصيب؛ لأن التحصيب تأخر، ومن تأخر فأتم الأيام الثلاثة، فرمى الجمار فيها، فيندب له عندهم التحصيب؛ أي: النزول بالمحصب؛ وذلك لإظهار شعيرة الدين، فهذا المكان تحالف فيه قريش على حرب الله ورسوله، وفيه كتبوا الصحيفة التي علقوها بالكعبة، وإظهار نعمة الله سبحانه وتعالى وشكرها بأن نصرنا عليهم، ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم، ونصر عبده، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده، كل ذلك من النعم التي تستحق الشكر؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف على الصفا وعليها دار الأرقم بن أبي الأرقم التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مختفيًا فيها مع أصحابه بمكة، تذكر قول الله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26]، فقال: ( لا إله الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده )؛ فلذلك أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل في المكان الذي تحالفوا فيه على حرب الله ورسوله، إعلانًا لانتصار الدين، وإعلاء كلمة الله، ولهزيمة الشرك وأهله، وإزالة آثار الشرك بالكلية.
وهذا المكان هو بوادي الأبطح، وهو من بطحاء مكة، وهو وراء المقبرة؛ أي: خلف مقبرة مكة التي هي المعلاة وتسمى بـ(الحجون) أيضًا، و(الحجون) مكان اتسع منه الوادي، فتباعدت الجبال عنه قليلًا، وهو الذي يقول فيه الشاعر الجاهلي:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا صروف الليالي والجدود العواثر
وهذا المكان معروف الآن وفيه مساجد، فيه مسجد يسمى مسجد (الإجابة) قيل: هو مكان قبة النبي صلى الله عليه وسلم، وبني فيه مسجد كبير أيضًا الآن، وفيه مسجد آخر ثالث وهو دون ريع أذاخر عندما يتسع الوادي، وهذا المكان الآن قريب من أمانة العاصمة المقدسة؛ أي: بلدية مكة، وهو الذي يسمى بالمحصب، وهو البطحاء التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيها هذه الصلوات؛ فلذلك قال: (صلى بهم بالبطحاء وبين يديه عنزة)؛ أي: نصبت بين يديه عنزة، والعنزة هي الحربة، (الظهر ركعتين، والعصر ركعتين).
وظاهر هذا السياق أنه لم يجمعهما وهذا الصحيح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع الظهرين ولا العشاءين طيلة أيام التشريق بمنًى، وكذلك لم يجمع الظهرين ولا العشاءين بمكة يوم خروجه من منى، بل صلى الظهر في وقتها ركعتين، ثم صلى العصر في وقتها ركعتين، والجمع جائز له؛ لأنه مسافر، ولكنه لم يفعل تشريعًا وإظهارًا؛ لأن الجمع ليس بواجب، فالجمع لا يجب على المسافر بل هو جائز له رخصة، وله الجمعان؛ أي: جمع التقديم وجمع التأخير، وأفضلهما أرفقهما، وجمع التقديم من أول وقت الصلاة الأولى إلى نهايته، وجمع التأخير من أول وقت الصلاة الثانية إلى نهايته؛ فيمكن أن يجمع الإنسان الظهرين عند الزوال، ويمكن أن يجمعهما في وسط وقت الظهر، ويمكن أن يجمعهما في آخره، فإذا جمعهما في أول وقت العصر كان جمع تأخير إلى أن تصفر الأرض عند الاصفرار، وتختلط الظلال، وذلك آخر المختار، وأفضلهما أرفقهما، أفضل الجمعين أرفقهما بالمسافر، والنبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون مسافرون بمكة؛ لأنهم باعوها لله، فلا يحل لهم المقام فيها؛ ولذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يقيمن مهاجر بعد قضاء نسكه بمكة أكثر من ثلاث )، وفي رواية في الصحيح أيضًا: ( يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه بمكة ثلاثًا )، فأذن بثلاث ليال للمهاجر يقيمها بمكة بعد انقضاء نسكه، وهذا يدل على أن ثلاثة أيام لا تقطع حكم السفر، وأن ما زاد عليها يقطع حكم السفر، وهذا الراجح؛ لأن الله إنما أذن في القصر للضارب في الأرض، فقال: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]، والضرب في الأرض: أن يتحرك الإنسان ويمشي، والمقيم ليس ضاربًا في الأرض، فإذا بحثنا في ذلك نجد أن الثلاثة لم تقطع حكم السفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن فيها للمهاجرين، ولم يأذن له فيما زاد عليها؛ فدل ذلك على أن ما زاد عليها قاطع للسفر؛ ولذلك قال مالك في الموطأ: (عن سعيد بن المسيب: إذا نويت إقامة أربعة أيام صحاح، فقد انحل سفرك) فالمسافر إذا نوى إقامة أربعة أيام صحاح- والمقصود بالصحاح ليس فيها يوم الدخول ولا يوم الخروج؛ لأن الإنسان يسافر في أثنائه فلا يعد له، فقد انحل سفره؛ فحينئذ لا يترخص رخص السفر.
والمسافر له أن يجمع، وله أن يفرق، وإذا فرق فيكون وقته كوقت غيره، فإذا كان وقت الحر فالأفضل الإفراد بالظهر إلى ربع قامة كما كتب عمر إلى عماله، أمر أن تؤخر الظهر حتى يكون الفيء ذراعًا، هذا هو ربع القامة؛ لأن كل إنسان معتدل قامته هي أربع أذرع بالإبهام، وكذلك هي سبعة أقدام بقدمه هو، هذا الإنسان المعتدل، وطوله وعرضه سيان إذا أخذت من آخر الوسطى إلى آخرها، فهذا القدر هو قدر قامتك؛ فكل إنسان طوله وعرضه سيان، وقد يقع الخلل اليسير بالنقص أو الزيادة، لكن هذا هو في أغلب البشر أن طوله سبعة أقدام له، وأربعة أذرع بالإبهام، وأنه مساو لعرضه.
والحديث كذلك فيه صلاته للظهر ركعتين، وصلاته للعصر ركعتين؛ فيدل ذلك على مشروعية القصر للمسافر، وقد اختلف فيه أهل العلم على قولين:
القول الأول: أن القصر واجب على المسافر، وهذا مذهب أبي حنيفة، واستدل هؤلاء بحديث عائشة وحديث عمر ( فرضت الصلاة مثنى مثنى، فأقرت صلاة السفر وزيد في الحضر )، فهذا الحديث يدل على أن الأصل هو القصر، وأن الإكمال هو الذي جاء بعده؛ فيكون الأصل وجوب القصر على هذا، وذهب الجمهور إلى أن القصر سنة غير واجب، وأنه رخصة رخصها الله سبحانه وتعالى وتصدق بها على عباده، كما في حديث يعلى بن أمية: ( أنه سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن قول الله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]، قال: ما بالنا نقصر وقد أمنا؟ فقال: لقد تعجبت مما تعجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم؛ فاقبلوا صدقته )، وهذا الحديث صريح بأن ذلك رخصة، وإذا كان رخصة فهو الحادث، وهو المتجدد؛ لأن الرخصة هي: الحكم الشرعي المتغير إلى سهولة لعذر مع بقاء سبب الحكم الأصلي، والجمهور يستدلون بهذه الآية فإن فيها: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء:101]، و(ليس عليكم جناح) ليست صيغة إيجاب ولا أمر، بل هي صيغة إباحة، ولكن يرى الحنفية أن القصر المذكور في آية النساء قصر كيفي لا كمي، وأن القصر الكمي هو المذكور في الحديثين السابقين، ومعنى القصر الكيفي؛ أي: في تقصير القراءة، وبالتالي سيقصر الركوع تبعًا لذلك، والسجود تبعًا لذلك؛ لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت متناسبة إذا أطال القراءة أطال الركوع، وإذا أطال الركوع أطال في الرفع منه، وهكذا في السجود، فتكون صلاته متناسبة.
(تمر بين يديه المرأة والحمار) هذا يدل على أن مرور المرأة والحمار- ويلحق بذلك أيضًا الكلب الأسود من وراء السترة- لا يضر صلاة المصلي، ولا يقطع نورها، فإذا مر الحمار أو الكلب الأسود أو المرأة من وراء السترة، فلا تأثير على نور صلاة المصلي بذلك، أما إذا مرت هذه الثلاثة بين المصلي وبين السترة، فإن ذلك يقطع نور صلاته، لكنه لا يبطلها كما سبق، وقد ذكرنا أن الكلب الأسود لم يرد له معارض، وأن الحمار جاء فيه معارض وهو حديث ابن عباس الذي سيأتينا، وأن المرأة أيضًا ورد فيها معارض وهو حديث عائشة وسيأتينا قريبًا إن شاء الله.
ثم قال البخاري رحمه الله: (باب: قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة).
فسواء أضفت الباب إلى (قدر) فجررت أو حكيت الجملة، فجعلت الباب مضافًا إلى الجملة (باب قدر كم) أو أفردت الباب، فقلت: (باب: قدر كم) فإذًا يجوز في هذه الترجمة ثلاثة أوجه: (بابٌ: قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة) أو (بابُ قدرِ كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة) أو (بابُ: قدرُ كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة).
وقد عقد هذا الباب لحريم المصلي الذي ينبغي أن يترك له، والقدر الذي ينبغي أن تكون فيه سترته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث السترة: ( وليدنُ منها )؛ وهذا يقتضي القرب من السترة إذا كان المصلي يصلي إليها، وتحديد ذلك مختلف فيه، فبعض أهل العلم قالوا: قدر ما ينبغي أن يكون حريم المصلي هو قدر ما يقاتل فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإن أبى فليقاتله؛ فإنما هو شيطان )، والقتال لدى العرب أشهر أسلحته ثلاثة، هي: السيف وطوله ثلاثة أذرع، أو الرمح وطوله اثنا عشر شبرًا من الوسط، أو السهم (القوس) وهو طويل أطول من ذلك بكثير، فالسهم لم ير أحد من الفقهاء أنه تترك رميته للمصلي، لكن منهم من رأى طول الرمح، ومنهم من رأى طول السيف، ومنهم من رأى أن يترك له اثنا عشر شبرًا بين يديه، وما زاد على ذلك يجوز المرور فيه، ومنهم من رأى أن يترك له قدر السيف؛ أي: ثلاثة أذرع، وما زاد على ذلك يجوز المرور فيه، وذلك للحرج الذي يحصل؛ لأن الإنسان إذا كان يصلي في مؤخرة المسجد وأنت تريد الخروج لحاجة لابد منها، فإذا كان ما بينه وبين الكعبة لا يمر منه أحد، ولو طال كان هذا حرجًا على الناس؛ فلا بد من تحديد حريم للمصلي؛ ولذلك فالناس في هذا على مذهبين:
المذهب الأول: التحديد، والمذهب الثاني: عدم التحديد.
فمذهب التحديد اختلف أصحابه على هذه الأقوال: هل يكون التحديد بقدر طول السيف والمقاتلة به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإن أبى فليقاتله؛ فإنما هو شيطان )، أو يكون بقدر المقاتلة بالرمح وهو اثنا عشر شبرًا من الوسط، أو يحدد بغير ذلك كما سنذكره عن ابن العربي.
المذهب الثاني: عدم التحديد، وهم الذين يرون أن المرجع في ذلك إلى التشويش، فما يدخل التشويش على المصلي ويقطع عليه خشوعه فهو المنفي، وهذا يختلف باختلاف الناس، فإذا كان المصلي ساجدًا فمررت قريبًا منه ولم يشعر بك، فإنك لم تدخل عليه تشويشًا، وكذلك إذا كان ضريرًا- أي: أعمى- فمررت بين يديه بحيث لا يراك، فإنك لا تدخل عليه تشويشًا إلا بإحساسه بمرورك، أما ما سوى ذلك فإن المصلي يشوش عليه مرور إنسان بين يديه بالقرب منه، وقد قال ابن العربي رحمه الله: (تالله لقد زلت أقدام العلماء في هذه المسألة، ولا يملك المصلي من الحريم إلا موضع سجوده وركوعه) قال: إن الذي يترك للمصلي من الحريم هو موضع سجوده وركوعه فقط، وما زاد على ذلك ليس له.
وعمومًا فموضع السجود إذا قسناه من موضع الأصابع- أصابع الرجلين- فهو ثلاثة أذرع بالإبهام، السجود المعتدل إذا نظرت إلى موضع الجبهة، فإنه ثلاثة أذرع بالإبهام؛ لأننا ذكرنا أن قامة الإنسان هي أربعة أذرع بالإبهام، فإذا سجد الإنسان ارتفعت فخذه، وطولها ذراع بالإبهام، فلا تكون من موضع السجود؛ فيكون موضع السجود ثلاثة أذرع بالإبهام؛ فإذًا هذا هو قدر موضع السجود، أما الركوع فإنه أقصر من ذلك، فالمثني فيه هو ظهر الإنسان فقط؛ ولهذا فإن المصلي إذا كان قائمًا فإن نظره يكون إلى موضع السجود لكن لا يحده؛ أي: لا يحدد أن ينحني إلى موضع السجود، ولا ينظر إلى ما يتحرك فيها، وإلى آثار السجود، أو إلى الألوان في الفراش، أو غير ذلك، فلا يحد النظر، بل يكون بصره لو وقع لوقع على موضع السجود، ولا ينبغي أن يرفعه قبل السماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من ذلك، وذكر أنه: ( لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء في صلاتهم، أو لتخطفن أبصارهم ثم لا تعود إليهم )؛ فهذا يقتضي التحذير الشديد من رفع الأبصار إلى السماء في حال الصلاة.
فقال: عن سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: ( كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الجدار ممر شاة )، سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه من كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار، وقد روى عنه عددًا كثيرًا من الأحاديث، وهو يصف قدر ما كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: المكان الذي يصلي فيه، وبين جدار المسجد؛ أي: الجدار الجنوبي، فلم يكن في العهد النبوي محراب، ولم يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم المحراب، والمحراب في أصل اللغة: هو المسجد بكامله، فالمساجد هي المحاريب: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ [سبأ:13]، المحاريب؛ أي: المساجد، كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا [آل عمران:37]؛ أي: المسجد، وفي الاصطلاح: خص بعد أن بنى معاوية رضي الله عنه المقصورة أمام المصلين ينفرد فيها الإمام، وهو أول من بنى المحاريب، أصبحت تبنى في المساجد.
فمعاوية بن أبي سفيان من أولياته، وليست بدعة كالمنائر، فالمنائر أيضًا لم تكن موجودة في العهد النبوي، وكان المسجد يصعد فوقه، وكان المؤذن ربما صعد فوق المسجد كما في حديث أبي هريرة: ( وكان للنبي صلى الله عليه وسلم مشربة فوق مسجده )؛ أي: عريش يجلس فيه، وكان جلس فيه تسعًا وعشرين ليلة لما آلى من نسائه، فكان في هذه المشربة التي فوق المسجد؛ فلذلك يجوز السكنى فوق المسجد، ويجوز أيضًا التأذين فوقه، أن يؤذن المؤذن فوقه، وهذا أصل لمشروعية المنائر، ولم تكن موجودة في العهد النبوي، ولا حرج من استعمالها، ولا يعد هذا في نطاق البدعة، بل هو من المصالح المرسلة.
فلذلك قال: (كان بين مصلى النبي صلى الله عليه وسلم)؛ أي: المكان الذي يصلي فيه دائمًا، ومصلاه هو عند الأسطوانة المخلقة، والأسطوانة المخلقة من أساطين المسجد النبوي؛ أي: التي تمسح بالطيب، وذلك أنها في الأصل هي مكان الجذع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب عنده قبل أن يصنع له المنبر، فلما صنع له المنبر ووضع في مكانه؛ لأن هذا المكان يراه منه الناس جميعًا، لا يحول بينه وبين الناس أعمدة، والمكان الذي كان يخطب منه أولًا عند الأسطوانة المخلقة لو وقف عنده لحالت الأساطين بينه وبين بعض الناس- فلذلك انتقل إلى المنبر، فكان يخطب فوقه، لكنه لم يغير مكان صلاته، فبقيت صلاته عند الأسطوانة المخلقة، والأسطوانة المخلقة- كما ذكرنا- سبب تخليقها- أي: تطييبها- أنها في مكان الجذع الذي حن لما فارقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب عنده، فلما وضع له المنبر في مكانه، وقام يخطب عليه، حن الجذع حتى سمع له أهل المسجد جميعًا حنينًا كحنين الناقة؛ فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر، واستلمه حتى سكت، فسمعوه كصوت الصبي يتردد البكاء في صدره محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الأسطوانة كان الصحابة يخلقونها؛ أي: يضعون عليها الخلوق وهو: الطيب الأصفر.
(كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الجدار)؛ أي: جدار المسجد الجنوبي الذي هو جهة القبلة، (ممر الشاة)؛ أي: القدر الذي تمر منه الشاة، وهذا مقارب لما ذكرناه عن ابن العربي؛ أي: قدر الركوع والسجود تقريبًا، وهو أيضًا موافق لحديث ابن عمر: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي، فجاءت شاة تريد أن تمر بين يديه، فزجرها فلم تنته، فتقدم حتى ألصق بطنه بالجدار )؛ فهذا يدل على أن الجدار كان قريبًا منه، والحديث يدل على اقتراب المصلي من سترته، فإذا كان يستتر بالجدار فليدنُ منه، وإن كان يستتر بسارية فليدن منها، وهكذا.
ثم قال: (باب: الصلاة إلى العنزة).
هذا الباب هو تفصيل لبعض ما سبق، وقد سبق حديث ابن عمر وحديث أبي جحيفة، وكلاهما ذكر فيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت تغرز له الحربة أو العنزة بين يديه؛ ليصلي إليها )، لكن في هذا الحديث ذكر للعنزة واستعمال لها في غير ذلك.
فقال: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج لحاجته تبعته أنا وغلام، ومعنا عكازة أو عصًا أو عنزة، ومعنا إداوة، فإذا فرع من حاجته ناولناه الإداوة )، هذا الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه وهو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد توفي أبوه وهو طفل، فربته أمه أم سليم بنت ملحان وهي ابنة عم أبيه من بني النجار، ولما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرًا إلى المدينة جاءت به أم سليم إليه، وكانت محرمًا للنبي صلى الله عليه وسلم من الرضاع، فإن عبد الله بن عبد المطلب قد أرضعته مليكة وهي أمها، ويقال: إنها أرضعت عبد المطلب؛ لأن عبد المطلب ولد بالمدينة وعاش بها مدة، لكن يستغرب ذلك؛ لأن عبد المطلب كبير السن، وفرق بينه وبين آل ملحان في السن، فـمليكة صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاشت في الإسلام؛ فمن المستغرب جدًا أن تكون أرضعت عبد المطلب، لكن كانت أم حرام بنت ملحان وأم سليم أختها من محارم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع؛ ولذلك كن يأخذن عرقه، فيجعلنه في الطيب.
فجاءت به أمه أم سليم بنت ملحان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم سليم كانت تلقب بـالرميصاء، فقالت: (يا رسول الله، هذا خويدمك أنس يخدمك) فخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، قال فيها: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلت، ولا لشيء تركته: لم تركت)؛ لحسن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسن تأديبه.
قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج لحاجته)، معناه: إذا خرج إلى الخلاء، (تبعته أنا وغلام)، وفي الرواية الأخرى (نحوي)؛ أي: مقارب لي في السن (ومعنا عكازة)، و(العكازة) هي: العصا القصيرة التي يتوكأ عليها الإنسان ويعتمد عليها، وتسمى (العكاز) أيضًا بالتذكير، ويستعملها النصارى في الأديرة، وهي من شأن التعبد عندهم؛ ولذلك قال أبو الطيب المتنبي:
ويمشي به العكاز في الدير تائبًا وما كان يرضى عدو أبلق أجردا
فيقصد أن ملك الروم بعد أن هزم في هذه المعارك أخذ يتعبد بتعبد النصارى، فدخل الدير، وأخذ العكاز.
أي: ما كان يرضى بمشي الخيل فضلًا عن العكاز.
(أو عصًا) فالعكازة: هي العصا القصيرة أو عصًا؛ أي: طويلة، وذلك باختلاف الحالة، تارة يأخذون عكازة، وتارة يأخذون عصًا (أو عنزة) تارة يأخذون حربة وهي: العنزة، والقصد بها أن النبي صلى الله عليه وسلم يجعل عليها ثوبه يستتر به، فلم يكن للمكان الذي يجلس به باب يسد ويغلق، فكان يأخذ العصا فيجعل عليها ثوبه، أو يأخذ العكاز فيجعل عليه ثوبه، أو يأخذ الحربة فيرفع عليها ثوبه، فيستتر بذلك، (ومعنا إداوة) (معنا)؛ أي: مع أنس والغلام الذي نحوه، (إداوة) وهي قربة صغيرة يجعل فيها الماء، (فإذا فرغ من حاجته ناولناه الإداوة) وذلك إذا دعاهما يناولانه الإداوة للاستنجاء بها.
والحديث يدل على مشروعية الاستعانة بخدمة الأحرار، وقبول خدمة غير الأجراء، وبالأخص لمن يرجى أن يتعلم منه، أو أن يتأدب بأدبه، وفيه أيضًا مشروعية التوقير لكل من هو موقر شرعًا، ومشروعية خدمته، وكذلك مشروعية ذلك للصغار، فهم الذين لا يستحيي من خدمتهم في مثل هذه الأمور؛ ولذلك امتن الله على أهل الجنة بأن خدمهم ولدان مخلدون، قد اختلف أهل التفسير في معنى (مخلدون) فقالت طائفة منهم: دائمًا صغار، فهم مخلدون على تلك السن ولو مر عليهم آلاف السنين يبقون غلمانًا دائمًا؛ لئلا يستحي الإنسان من خدمتهم، وقيل معنى (مخلدون)؛ أي: مزينون بالخلدة، وهي أقراط الذهب، تجعل في الأنف وفي الأذن.
وفي الحديث كذلك الاستتار عن قضاء الحاجة؛ فهو سنة، وكذلك الإبعاد؛ لأنه قال: (إذا خرج لحاجته) وكذلك استعمال الماء في الاستنجاء، فهو أفضل وأنقى، وقد يجب ويتعين في ما انتشر عن مخرجه، وليس بالحديث ذكر استعمال العنزة في الصلاة، وقد عقد هو الباب على ذلك، فقال: (باب: الصلاة إلى العنزة)، لكن قصده رحمه الله بذلك: بيان أن الحديث في هذا الباب قد سبق وهو حديث أبي جحيفة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم بالبطحاء وبين يديه عنزة )، فذكر هنا هذا الحديث إتمامًا للفائدة في استعمال العنزة.
وهذا الحديث مما حصل فيه ما يسمى بتصحيف السمع أو بتصحيف القراءة؛ فإمام من عنزة قال: (صلى إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم) يفخر بذلك؛ لأنه رأى في الحديث (صلى إلى عنزة) فظن أنها إلى عنزة إلى قبيلة عنزة، وحصل تصحيف آخر لآخر، فقال: (إلى شاة) فهي تصحيف آخر أشد من هذا؛ لأنه يظن أن العنزة عنز، وأن العنز هي شاة، وقد ذكر التصحيفين العراقي في ألفيته في الكلام على التصحيف، على أنواع التصحيف.
ثم قال: (باب: الصلاة إلى الأسطوانة).
عقد هذا الباب لنوع آخر من أنواع السترة للصلاة وهو الأسطوانة؛ أي: السارية؛ أي: العمود الذي يبنى عليه المسجد، والأسطوانة هذا اللفظ في الأصل فارسي معرب، فقال: عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: أنه كان يصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف، فقلت: (يا أبا مسلم، أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة؟ فقال: إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها)، سلمة بن الأكوع الأسلمي رضي الله عنه من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي سبق الخيل على رجليه في غزوة ذي قرد، وأسهم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يسهم للفارس وهو يمشي على رجليه، وكذلك فإن صوته سمعه أهل المدينة من الغابة، فصاح ثلاثًا: واصباحاه! فسمعه أهل المدينة من ثمانية وعشرين كيلو، سمعوا صوته من هذه المسافة، وقد أذن له النبي صلى الله عليه وسلم في التعرب بعد الهجرة، هو من المهاجرين هو وأخوه عامر بن الأكوع، الذي استشهد رجع عليه سيفه يوم خيبر، وثلاثيات البخاري التي بين البخاري فيها وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث أشخاص، أغلبها من هذا الإسناد، يرويه البخاري عن المكي بن إبراهيم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع، ويزيد بن أبي عبيد هو مولى لـسلمة بن الأكوع وكان ملازمًا له، وكان من أهل العلم من التابعين وهو الذي يحدث بهذا الحديث، وقد أدركه المكي بن إبراهيم، وقد أدرك من سواه، فـالمكي بن إبراهيم قال: (كتبت بإصبعي هاتين عن ستين من التابعين، ولو علمت أني يحتاج إلي لزدت) المكي له خصائص عجيبة، فكان لا يسمع شيئًا فينساه، وكان حسن الكتابة سريعها، وقد أدرك الكبار فحفظ عنهم، وقد تزوج مائة امرأة في عمره، والبخاري روى عنه الثلاثيات، فهو هنا يحدث عنه عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع: أنه كان يصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف، أي: إن سلمة كان يتحرى هذه الأسطوانة، ويلزم الصلاة عندها، والمقصود هنا: صلاة النافلة، يتنفل عند هذه الأسطوانة (التي عند المصحف) والمقصود بالمصحف: الأوراق التي جمع فيها أبو بكر رضي الله عنه القرآن غير مرتب، (ترتيب المصحف)، وقد فعل ذلك عندما قتل القراء باليمامة، فأمر زيد بن ثابت وكاتبين آخرين أن يكتبوا له القرآن، وقد كان مفرقًا في الصدور في الحفظ، ومكتوبًا في: البطاقات، والوثائق، والجلود، واللخاف، والأكتاف، وفي بعض الأحيان يكتب على سعف النخل، وعلى الخشب، كانوا يكتبونه على كل شيء يمكن يثبت عليه، فأمر أبو بكر رضي الله عنه بجمعه، فجمعه في الصحف، وقد استنكر زيد بن ثابت ذلك في البداية، فلما رأى أن الله شرح قلب أبي بكر له استجاب له فجمع، وهذا هو أول جمع للقرآن، فجمع في خلافة أبي بكر، ثم بعد ذلك جمع عثمان الناس على مصحف واحد؛ أي: على قراءة واحدة، وهي العرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل؛ لأنها التي ذهب منها المنسوخ، وحرق عثمان المصاحف الأخرى، وهذا المصحف كان كبيرًا جدًّا، وكان عند الأسطوانة؛ أي: عند هذه الأسطوانة التي تشتهر بأسطوانة المصحف، وتسمى أيضًا (أسطوانة عائشة رضي الله عنها)، ويقال: إن المصحف الذي كان عندها بقي خلافة أبي بكر وعمر وعثمان عند هذه الأسطوانة، ثم أخذه علي بن أبي طالب، ويذكر أنه هو المصحف الذي جادل به الخوارج لما قالوا له: (حكمت الرجال في كتاب الله)، فذهب إليهم فدعاهم، ودعا أن لا يحضر معه إلا قراء القرآن، ألا يدخل على أمير المؤمنين اليوم إلا قارئ لكتاب الله، فجاء الناس بمصاحفهم، فأخرج علي مصحفًا كبيرًا، وجعله بين يديه، فجعل يكلم المصحف ويقول: احكم؟ فقالوا: ما تكلم من هذه الأوراق والمداد يا أمير المؤمنين؟ فقال: إنكم تزعمون أنه لا حكم إلا له، وإنما يحكم الرجال به؛ فرد عليهم بذلك وقرعهم به.
وعمومًا فهذه الأسطوانة هي التي تسمى بأسطوانة عائشة وهي في الروضة، وقد كتب على العمود الذي جعل مكانها الآن (أسطوانة عائشة) وسبب تسميتها باسم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أنها ذكرت فضلًا فيها، وذكرت لعدد من الصحابة كانوا عندها: ( أنها كانت ترى النبي صلى الله عليه وسلم إذا انفتل من صلاة الظهر، ذهب إلى تلك الأسطوانة، فصلى عندها ركعتين بعد الصلاة )، فسألوها أن تدلهم عليها؛ فصرفت الحديث إلى موضوع آخر، ولم تتكلم فيه، فعرفوا أنها أعرضت عن تعيينها لهم، فقاموا من بيتها، فبقي عندها عبد الله بن الزبير وهو ابن أختها، فقال ابن عباس لأصحابه: (إن أبا خبيب قد تخلف عند أمنا، فانظروا إليه حتى يخرج من عندها، فإنها ستدله على الأسطوانة، فإذا صلى عندها فاعرفوها) فجلس ابن عباس وأصحابه ينتظرون ابن الزبير، حتى خرج من عند عائشة فأتى تلك الأسطوانة، فصلى عندها ركعتين، فعرفوا أن ابن الزبير ألح على عائشة حتى أرته الأسطوانة، وكذلك فإن عائشة أيضًا أرت هذه الأسطوانة عروة بن الزبير، فأرته هذه الأسطوانة، فكان إذا خرج الناس من المسجد- وقد كف بصر عائشة- يذهب بها عروة إلى هذه الأسطوانة، فتصلي عندها في الليل وقد خرج الناس من المسجد.
فلذلك قال: (فقلت) الكلام هنا لـيزيد بن أبي عبيد وهو الراوي عن سلمة بن الأكوع: (يا أبا مسلم) هذه كنية سلمة بن الأكوع، (أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة) أراك تتحرى؛ أي: تطلب الأحرى كأن ذلك أفضل، فالأحرى معناه: الأقمن والأفضل، وتحرى الشيء بمعنى: طلب الفضل فيه، أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة؛ أي: تقصدها للصلاة، قال: (فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها) فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقتدون بقوله وفعله؛ فإذا رأوه يفعل فعلًا لزموه؛ ولذلك دخل عليه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وقد طر شاربه؛ أي: زاد الشعر حتى وصل طرته، والطرة: حمرة الشارب، فأضجعه النبي صلى الله عليه وسلم على وسادة، وأخذ سواكًا وسكينًا، فجعل السواك على طرته وقطع بالسكين، فلم تزل تلك قصته بعد، كان المغيرة بن شعبة لا يقص شاربه إلا عبر السواك والسكين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قص له على هذا الوجه فأحب ذلك، وكذلك ابن عمر لما مر أمام بيت حفصة وقد أسبل إزاره، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا عبد الله، ارفع إزارك، فرفعه، ثم قال: زد؛ فزاد، ثم قال: زد؛ فزاد، فلما سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم جرح ابن عمر ساقه من ذلك الموضع ليعلم المكان الذي أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يصل إليه إزاره ).
فلذلك كان سلمة رضي الله عنه يتحرى الصلاة عندها، فلما سأله مولاه يزيد بن أبي عبيد، قال: ( فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها )؛ أي: يقصدها، والحديث يدل على الصلاة إلى الأسطوانة؛ أي: أن تكون سترة، ويدل أيضًا على فضل هذا المكان بخصوصه، وعلى تفاوت فضل المسجد، وعلى أن الصلاة في المكان الذي صلى الله عليه وسلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم له فضل بخصوصه؛ لما مضى في حديث ابن عمر من قصد التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقصد بذلك التمسح بنفس الأسطوانة، أو التعلق بها؛ فلم يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، بل الذي فعلوه هو الصلاة عندها فقط، و(عند) ظرف مكاني للحضور والقرب، هي تدل على القرب؛ أي: إن مكان صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قريب منها.
ثم قال: (باب: الصلاة بين السواري في غير جماعة).
لما ذكر الصلاة إلى الأسطوانة وعندها أيضًا في الحديث؛ لأنه احتاج إلى أن يبين أن الصلاة بين الأساطين إذا كان ذلك في جماعة فهي مكروهة؛ لما فيها من تقطيع الصفوف، وقد اختلف الفقهاء في علة ذلك، فقال بعضهم: لأن ذلك المكان هو مكان طرح النعال، والنعال لا تخلو من أوساخ ونحو ذلك، وقد أنكر هذا بعض الفقهاء، فقالوا: إدخالها في المسجد أصلًا بدعة، ويقصدون بالبدعة أنها لم تكن معروفة في الصدر الأول، إلا النعال التي كان أصحابها يلبسونها فيصلون فيها؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه، وتلك النعال هي النعال من الجلود؛ أي: الرقيقة ليست مثل نعالنا الآن؛ فلذلك يستطيع الإنسان أن يجلس جلوس الصلاة فيها، وأن يسجد باستقامة، أما نعالنا اليوم فهي كبيرة لو جلس عليها جلوس الصلاة لما تمكن من أداء ذلك؛ ولذلك قال حسان رضي الله عنه:
رقاق النعال طيب حجزاتهم يحيون بالريحان يوم السباسب
وقال آخرون: بل العلة في ذلك أنها تقطع الصف، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم حض على أن يكون الإنسان متصلًا بأخيه في الصف، وأمر بوصل الصفوف، وقال: ( عباد الله، لتسون بين صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم )، وقال: ( ما لي أرى الشياطين خلال صفوفكم كأنهم غنم عفر )، ويجاب عن ذلك بأن عددًا من السلف، قالوا: موضع الأسطوانة ليس بفرجة- كما قال ذلك مالك في المدونة وغيره- قالوا: موضع الأسطوانة ليس بفرجة، والسبب أن الإنسان قد يحتاج إليها، فالمساجد ضيقة، ولم يكونوا يستطيعون بناء المساجد الواسعة في كثير من الأحيان، وتكثر فيها الأساطين؛ لأنه لم يكن لهم الأعمدة الطويلة جدًّا التي تغني عن تقارب الأساطين؛ فيضطر الناس لتقارب الصفوف، فيحتاج إلى أن تتخلل الأساطين في بعض الأحيان الصف، فقال: موضع الأسطوانة ليس بفرجة.
وقال بعضهم: بل لأن ما بين الأساطين هو مأوى الشياطين، ويجاب عن هذا بأنه يحتاج إلى نص، ولم يرد نص بذلك؛ فالشياطين ليس المسجد أصلًا مأوى لها، بل تفر منه، إلا في حال وسوستها للإنسان من الشيطان، إذا بدأ المؤذن يؤذن يدبر، فإذا سكت أقبل حتى يخطر بين المرء وبين قلبه وهو بالصلاة، ثم إذا أقيمت الصلاة أدبر، فإذا سجد الإنسان يقول: يا ويلتاه! أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فلم أسجد فلي النار، فهذا شيطان الصلاة بالخصوص، فقد يكون هو الذي يقصده قائل ذلك، لكن يحتاج هذا إلى دليل خاص.
وعمومًا البخاري رحمه الله عقد الباب على الصلاة بين السواري؛ أي: بين الأساطين في غير جماعة، إذا لم يكن الإنسان في جماعة، فلا حرج أن يصلي بين الأساطين، ودليل ذلك هو هذا الحديث الذي ذكره، وهو حديث دخول النبي صلى الله عليه وسلم للكعبة حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفيه قال: ( فسألت بلالاً حين خرج: ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: جعل عمودًا عن يمينه، وعمودًا عن يساره، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، ثم صلى )، وفي رواية: ( عمودين عن يمينه )، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة وهي إذ ذاك سقفها يقوم على ستة أعمدة، وما زالت إلى الآن كذلك، سقف البيت الآن على ستة أعمدة، جعل الصف الأول من الأعمدة وهو ثلاثة خلفه، وجعل عمودين عن يمينه، وعمودًا واحدًا عن شماله، وصلى إلى جهة الباب المغلق، وجعل الباب قبل ظهره، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المكان ركعتين كما أخبر بذلك بلال، فهذا أقل ما يمكن أن يحمل عليه أنه صلى كما سبق، وابن عمر لم يسأل بلالاً: كم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما سبق في هذا الحديث.
والحديث دليل على جواز الصلاة بين الأساطين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عمودين عن يمينه، وعمودًا عن يساره؛ هذا يقتضي أنه بين الأساطين، لكن لم يكن في جماعة، فلا يخاف من تقطع الصف حينئذ.
ثم قال: (باب: الصلاة إلى الراحلة والبعير والشجر والرحل).
عقد هذا الباب لبيان ما يستتر به مما يجوز الاستتار به، سواء كان حيًّا أو جمادًا، فقال: (باب: الصلاة إلى الراحلة)، و(الراحلة) هي: الناقة أو البعير الذي يرتحل عليه الإنسان، وعطف البعير عليها عطف تفسير وبيان، فقال: (والبعير) وقد سبق أن البعير يطلق على المذكر والمؤنث، على ما يركب من الإبل مطلقًا، (والشجر) سواء كان ذلك إلى جذوعه، أو كان الشجر ملتفًا بين يدي الإنسان، فيكفي الاستتار إليه، (والرحل) التي توضع على الراحلة فتركب، فهي المركب الذي يوضع على الراحلة، فيمكن الاستتار به، فكل هذه يجوز الاستتار بها.
فقال: وعنه؛ أي: عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه كان يعرض راحلته )؛ أي: ينيخها معترضة بينه وبين القبلة، فلا يكون وجهها إليه ولا قفاها، بل تكون معترضة بينه وبين القبلة؛ لأنه إذا كان إلى قفاها فإنها دائمًا تحرك ذنبها، وربما آذت المصلي بذلك، وأيضًا عند الشافعية فإن أبوال الإبل نجس، فربما نجست المصلي بذلك، وكذلك إذا كان وجهها إليه فإنها تجتر ما أكلته، وربما خرج بعض ما تجتره من فيها، فيتأذى بذلك المصلي، وأيضًا فتحريكها مله ومشغل، وأيضًا في وجهها رائحة فمها ونحو ذلك؛ فلذلك يعرضها بينه وبين القبلة، ( أنه كان يعرض راحلته فيصلي إليها )، (فيصلي إليها)؛ أي: يستتر بها، و(إلى) حرف انتهاء وغاية، والمقصود بذلك: أنها هي السترة التي بين يديه.
(قيل لـنافع) وهو الراوي لهذا الحديث عن ابن عمر وهو مولاه (أفرأيت إذا هبت الركاب..) معناه: ما كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هبت الركاب؟ معناه: إذا جاء عارض فقامت الناقة وهب النائم من نومه بمعنى: استيقظ، وهبت الرياح: إذا انطلقت، وهبت الناقة كذلك: إذا أسرعت، ومن ذلك قول لبيد بن ربيعة رضي الله عنه:
فلها هباب في الزمام كأنها صهباء خف مع الجنوب جهامها
(فلها هباب)؛ أي: إسراع (في الزمام كأنها صهباء)؛ أي: مزنة (خف مع الجنوب جهامها) و(الجهام): هو ما ليس فيه ماء من بقايا المزن؛ فإنه سريع مع الرياح.
(إذا هبت الركاب)، و(الركاب) جمع ركوب وهي: الراحلة التي تركب، قال: كان يأخذ هذا الرحل فيعدله فيصلي إلى آخرته؛ أي: إنه كان يصلي إلى رحله و(يعدله) معناه: يقيمه حتى يعتدل، فلا يجعله مضطجعًا؛ لأنه يكون قصيرًا حينئذ بل يعدله ويصلي وراءه؛ أي: يجعل ما يليه منه هو موخرة الرحل، وتسمى (آخرة الرحل)، وتسمى (أخرة الرحل) بلا مد، ففيها ثلاث لغات: (موخرة الرحل) و(أخرة الرحل) و(آخرة الرحل) وهي التي يستند إليها الإنسان، فالرحل له طرفان: ما بين يدي الإنسان، ويجعله بين ركبتيه، وهو الذي يسمى بـ(القربوس)، وما خلفه ويستند إليه وهو أطول، وهو الذي يسمى بـ(موخرة الرحل) فالموخرة أطول؛ لأنها يستند إليها الإنسان، والقربوس قصير، يكون بين الركبتين؛ لأنه سينزل الإنسان مما يليه، فلو طال لعثر به؛ ولذلك يقول الشاعر:
وإذا احتبى قربوسه بلجامه علك الشكيم إلى انصراف الزائر
(وإذا احتبى قربوسه) وهذا مقدمة الرحل، ويجعل أيضًا مقدمة السرج، فمقدمة السرج تسمى أيضًا قربوسة، (وإذا احتبى قربوسه بلجامه) فإذا أدير على القربوس اللجام فكأنه احتبى به، الاحتباء هو: أن يجعل الإنسان يديه أمام ركبتيه، أو أن يجعل ثوبًا من ورائه، ويمسكه أمام ركبتيه وهو جالس رافع ركبتيه.
وإذا احتبى قربوسه بلجامه علك الشكيم إلى انصراف الزائر
(علك) بمعنى: مضغ، و(الشكيم) هو: الحديدة التي تجعل في فم الفرس فتسكن اللجام فيه، (علك الشكيمة إلى انصراف الزائر).
فلذلك قال: (كان يأخذ هذا الرحل) والمقصود رحله، وليس المقصود هذا الرحل بذاته، هذا الذي لدى نافع قد يكون رحل ابن عمر، فيكون ابن عمر هو الذي كان يأخذ هذا الرحل.
إذا قامت الركاب فسلم من اثنتين مثلًا، ويصلي صلاة الليل فيأخذ الرحل ويعدله ويصلي إليه، وإذا كان الرحل قريبًا فلا بأس من تناوله، وجعله بين يديه أيضًا كالذي كان يصلي إلى إنسان، فقام فمد يده إلى المقعد، فحركه حتى جعله أمامه، وهذه حركة يسيرة في الصلاة، ولا حرج فيها، أو تحرك هو حتى كان مقابل الأسطوانة، فهذا لا حرج فيه أيضًا، (كان يأخذ هذا الرحل فيعدله)؛ أي: يقيمه (فيصلي إلى آخرته) أو أخرته، أو قال: موخرته، وهي كلها لغات في إلقاء الشاخص الذي هو في آخر الرحل يستند إليه الراكب (وكان ابن عمر يفعله)؛ أي: كان ابن عمر أيضًا يعرض راحلته فيصلي إليها؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
هذا الحديث يدل على الاستتار بالراحلة، وهي البعير، ويدل على الاستتار كذلك بمؤخرة الرحل، ولم يذكر فيه الشجر، لكن بما أن الرحل إنما يقتطع من الشجر؛ فدل ذلك على أن أصله أولى بالاستتار منه، وهذا استنباط من البخاري رحمه الله وهو واضح بالاستدلال.
قال: (باب: الصلاة إلى السرير).
ذكر هنا نوعًا آخر من السترة وهو الاستتار بالسرير الذي ينام عليه الإنسان إذا كان بين يديه، والسرير عادة يكون مرتفعًا عن الأرض قدر السترة، فمن الأسرة ما يكون طوله ذراع، ومنها ما يكون طوله ثلثي ذراع، وأقل الأسرة ما يكون طوله نصف ذراع، ولكنه يمنع المرور بين يدي المصلي إذا كان بين يديه، فإذا جاء إنسان يريد المرور فلا بد أن يأتي من وراء السرير.
فقال: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ( أعدلتمونا بالكلب والحمار؟! لقد رأيتني مضطجعة على السرير، فيجيء النبي صلى الله عليه وسلم، فيتوسط السرير فيصلي، فأكره أن أسنحه، فأنسل من قبل رجلي السرير، حتى أنسل من لحافي )، كان سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرته، كانت له أسرة في بعض الأحيان ترفعه عن التراب والغبار، وهذا السرير عليه حصير، والحصير يؤثر في جنبه كما ذكرنا سابقًا، وعائشة رضي الله عنها لما حدثت بالحديث الذي لم تسمعه هي من النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقطع الصلاة ثلاثة: ( المرأة الحائض، والكلب الأسود، والحمار )، قالت: (أعدلتمونا بالكلب والحمار؟) (أعدلتمونا) معناه: أساويتم بيننا، تقصد النساء فتتكلم باسمهن، (بالكلب والحمار)؛ أي: الكلب الأسود والحمار، كأنها تشكك في الرواية أو على الأقل في بقاء دلالتها، فترى أن الذي روى ذلك لم يتأكد من سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنه إذا كان سمعه منه فقد نسخ، فقالت: (لقد رأيتني) والمقصود: عرفتني، عرفت نفسي (مضطجعة على السرير)؛ أي: في حال اضطجاعي على سريري (فيجيء النبي صلى الله عليه وسلم فيتوسط السرير)؛ أي: يكون وراءه في مقابل وسطه (فيصلي)؛ أي: إلى السرير، فالسرير بينه وبين القبلة (فأكره أن أسنحه)، ومعنى (التسنيح): أن تمر بين يديه على جهة اليمين وأنت توليه يمينك، وغيره هو التذريح: وهو أن تمر أمامه إلى جهة اليسار وتوليه يسارك، و(البارح) و(السارح) كلاهما كان معروفًا لدى العرب، فكانوا يتيامنون بالسانح إذا مر إلى جهة اليمين، ولم يكن أعضب القرن؛ أي: الغزلان إذا مرت بين يدي المسافر، فاتجهت إلى جهة اليمين، ولم يكن أعضب القرن؛ أي: مكسوره، أو اتجهت إلى جهة اليسار، ولم تكن أعضب القرن، أو الطير كذلك إذا مر يمينًا أو شمالًا، كانوا يرتبون على ذلك تفاؤلًا أو تشاؤمًا، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التشاؤم والطيرة، وبين أن ذلك من أمر الجاهلية، وكان يعجبه الفأل، فهذا الفرق بين السانح والبارح ومن ذلك قول الكميت بن زيد:
طربت وما شوقًا إلى البيض أطرب ولا لعبًا مني وذو الشيب يلعب
ولم تلهني دار ولا رسم منزل ولم يتطربني البنان المخضب
ولا السانحات البارحات عشية أمر سليم القرن أم مر أعضب
(السانح) الذي يمر بين يديه وهو يوليه يمينه، ويمر إلى جهة اليمين فيوليه يمينه، و(البارح) الذي يمر بين يديه إلى جهة اليسار فيوليه يساره؛ فلذلك قالت عائشة: (فأكره أن أسنحه)؛ أي: أن أمر بين يديه إلى جهة الرأس جهة اليمين، (فأنسل من قبل رجلي)؛ أي: رجلي السرير؛ أي: تنسل في الفراش إلى جهة السرير ولا تقوم؛ لأنها تكون بين يديه حينئذ، فتنسل وهي مضطجعة إلى جهة رجلي السرير؛ أي: ما يلي الرجلين من السرير، السرير ليس له رجلان لكن ما يكون جهة الرجلين منه وهو جهة الشرق، فتنسل عائشة إليه، ورأس السرير هو ما كان إلى جهة الغرب؛ لأن السرير كان في قبلة حجرة عائشة، والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي إليه، والقبلة إلى جهة الجنوب، والرءوس تكون إلى جهة الغرب، والأرجل إلى جهة الشرق، وهذا هو حال الدفن في الحجرة، فقد دفن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأسه إلى جهة الغرب، ووجهه إلى جهة الجنوب جهة القبلة، ورجلاه إلى جهة الشرق.
(فأنسل من قبل رجلي السرير حتى أنسل من لحافي)؛ أي: حتى تخرج من اللحاف الذي تلبسه فوق السرير؛ لئلا تكون بين يديه؛ وهي تستدل بهذا على جواز مرور المرأة بين يدي المصلي إذا كانت لا تلهيه، فقد مرت هي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ولم تقطع صلاته، وكان مرورها بالانسلال وليس بالقيام والمشي، فيحتمل أن يكون الذي يقطع هو مرورها ماشية بين يديه؛ لأن المرأة إذا أقبلت استشرفها شيطان، وإذا أدبرت استشرفها شيطان وذلك في المشي، أما إذا كانت تنسل فلا يقطع ذلك نور صلاة المصلي، وقد يكون المقصود أن ذلك يختص بالمرأة الحائض فقط؛ لأنه قال: (والمرأة الحائض)، ويكون له (الحائض) حينئذ اسم فاعل لا صفة مشبهة، والفرق بين اسم الفاعل والصفة المشبهة: أن اسم الفاعل يدل على الحدوث والتجدد، والصفة المشبهة تدل على الدوام والبقاء، فقولك: (زيد حسن)، هذه صفة مشبهة ولا تكون اسم فاعل، لكن قولك: (زيد ضارب عمروًا غدًا) هذا اسم فاعل؛ ولذلك (فرح) صفة مشبهة، و(فارح غدًا) أو (جادل غدًا) هذا اسم فاعل؛ لأنه مرتبط بالحدوث والتجدد.
فما أنا من رزء وإن جل جازع ولا بسرور بعد موتك فارح
فهذا اسم فاعل لا صفة مشبهة.
على أنها التي هي حائض حالًا، فتكون اسم فاعل بمعنى التي هي حال المتلبسة بالمانع، فهي التي تقطع، أما غيرها من النساء فلا تقطع؛ لنجمع بين الحديثين.
والحديث يدل على ما عقد له البخاري الترجمة وهو الصلاة إلى السرير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوسطه ويصلي إليه، ويدل أيضًا على ما استدلت به عائشة أن مرور المرأة- وبالأخص إذا كانت تزحف- بالانسلال بين يدي المصلي لا يقطع، ويدل أيضًا على جواز الصلاة إلى النائم إذا كان بين يدي المصلي- وسيعقد البخاري بابًا لذلك، فيورد فيه هذا الحديث.
إذًا أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر