الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الشيخ العلامة إبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان رحمه الله تعالى: [ (فمن خطر بقلبه ليلاً أنه صائم فقد نوى) لأن النية محلها القلب ].
فيما يتعلق بمسألة النية تقدم أنه لابد أن يسبق الصوم نية؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عمر: ( إنما الأعمال بالنيات )، يعني: إنما قبولها أو ردها وثوابها وعقابها يكون بحسب النية ومقدارها، وقوة تمكنها من القلب. ولابد أن تكون النية سابقة للعمل ومصاحبة له، وأن لا يأتي الإنسان بناقض لها بعد ذلك أو في أثنائها.
ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في المسند والسنن من حديث سالم عن عبد الله بن عمر أن حفصة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا صيام لمن لم يبيت النية من الليل ). وهذا الحديث على ما تقدم أنه اختلف في رفعه ووقفه، واختلف أيضاً في وقفه على من؟ على حفصة أم على عبد الله بن عمر ؟ تقدم الكلام على هذا.
فلابد أن تكون النية سابقة للعمل، وهذا الذي عليه عامة السلف وأكثر الفقهاء يقولون: لابد من أن تسبق النية صيام الفرض.
وأما بالنسبة للنفل فعلى ما تقدم الكلام عليه من أنه يتسامح فيه على خلاف عند الفقهاء في مسألة الزمن الأقصى في تبييت النية أو وضع النية فيه، فمنهم من حدده بنصف النهار، ومنهم من جعل ذلك موسعاً وإلى قبل الغروب بساعة، فيجعلون ذلك على الساعة.
وأما بعض الفقهاء وهذا القول الثاني في مسألة الفرض, وهو مروي عن زفر من أهل الرأي. وينسب كذلك لــــأبي حنيفة عليه رحمة الله أنه قال: لا حرج أن تكون نية الفرض في رمضان من النهار. وله قول في ذلك آخر -أعني: أبا حنيفة- أنه يجب على الإنسان أن يجعل النية من الليل موافقاً لجمهور الفقهاء، ولكن نجد أن أبا حنيفة عليه رحمة الله يفرق في مسألة النية في الفرض بين الفرض المعين وبين الفرض غير المعين، يعني: عنده ثمة فرض موسع، وثمة فرض غير موسع.
فالمعين ما عين وعرف كرمضان، وأما بالنسبة لغير المعين فهو كقضاء رمضان، هو واجب عليك ولكن لم يحدد من جهة الزمن، فيوجب النية في الفرض غير المعين من الليل، أي: أنك حين تصوم صوماً تريد به القضاء فلابد أن تحدد النية أنك أردت هذا القضاء، وأما رمضان فمعلوم أن هذا رمضان، فهو معين من الشارع، فكأنه يرى أن ما عينه الشارع لا يحتاج إلى تبييت نية من الليل، وهذا في أحد قوليه عليه رحمه الله.
وأما الإنسان الذي يتردد في النية كأن يقول: إن كان غداً من رمضان فأنا صائم، وإن لم يكن من رمضان فلست بصائم، أو إذا كان غداً من رمضان فإني صائم، وإذا لم يكن من رمضان فهو صوم نفل لا صوم فريضة، فهذا يرجع إلى أصل, وهو مسألة التردد بالنية، ويأتي الكلام عليه بإذن الله تعالى.
وأما هنا يقول: (فمن خطر بقلبه ليلاً أنه صائم فقد نوى)، فالنية هي مجرد العلم وتبييت للشيء, وكأنه يريد أن يبين المعنى المراد من عقد النية، ومعلوم أن للقلب عملاً وله قولاً، فعقد النية والعلم بالشيء مع عدم وجود نقضيه في القلب كاف في أمر النية.
وهل يجب على الإنسان أن يبيت النية لكل ليلة من ليالي رمضان أم يكفي ذلك نية واحدة من أول رمضان؟
نقول: هذه المسألة من مسائل الخلاف أيضاً، وقد اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في هذه المسألة على قولين: منهم من يقول بوجوب النية لكل ليلة، وهذا مذهب الإمام أحمد عليه رحمة الله.
والقول الثاني: قالوا: إنه يكفي لرمضان نية واحدة من أول ليلة، فإذا نوى فإن ذلك يجزئه عن سائر الليالي شريطة ألا يوجد ناقض ينقض نية الأصل في أثناء رمضان، وبهذا القول يقول جماعة من الفقهاء: لو أن الإنسان نقض نيته في أثناء صيام رمضان فصام عشرة أيام ثم سافر، ففي السفر ينوي الفطر ولا ينوي الصوم، ثم أقام قالوا: في حال إقامته يجب عليه أن يجدد النية وأن لا يكتفي بما سبق، بل لابد من النية من الليل.
الإمام مالك رحمه الله في هذه المسألة يجعل النية بالنسبة للأيام المتواصلة على حالين:
الحالة الأولى: صيام متتابع لا يقطعه فطر النهار، وذلك كصيام رمضان، وكذلك أيضاً صيام الأيام المتتابعة، ككفارة الظهار وأمثالها، قالوا: فإنه يكفيه في ذلك نية واحدة، وذلك أنه لم يقطعه فطر النهار، وأما الفطر الليلي فإنه لا يضر في ذلك.
وأما الحالة الثانية: وهي ما يقطعها فطر النهار، وذلك في الأيام التي يتخللها شيء من الفطر على ما تقدم في مسألة الصيام في السفر أو في حال الإنسان الذي يصوم شهرين متتابعين في أي نوع من أنواع الكفارة، فالمرأة إذا عذرت مثلاً بالفطر في النهار، فأفطرت لحيضها، أو لنفاسها، أو الرجل لسفره، أو الرجل والمرأة لمرضهما، قالوا: فيجب عليه حينئذ أن يعيد النية في ذلك؛ لأنه تخللها فطر النهار، فالمالكية يفرقون بين الحالين، بين ما يتخلله فطر النهار، وبين ما يتخلله فطر الليل.
قال المصنف رحمه الله: [ (وكذا الأكل والشرب بنية الصوم). وقال الشيخ تقي الدين: هو حين يتعشى عشاء من يريد الصوم، ولهذا يفرق بين عشاء ليلة العيد وعشاء ليل رمضان ].
وذلك أن الإنسان يقوم في السحر ليأكل وهذا كاف كأمارة لوجود النية في قلبه، فالعلم بأن غداً رمضان كاف، والفعل أيضاً الذي يشير إلى وجود العلم السابق في القلب من أن غداً من رمضان كالذي يتعشى أو يتسحر لرمضان، فهذا كاف في أنه بيت النية، فإذا خطر في قلبه أن غداً رمضان، أو أكل لأجل الإمساك فهذا أيضاً من أمارات النية.
هذه الأشياء التي يذكرها العلماء عليهم رحمة الله يريدون أن يبينوا بها أنه لا يشرع الإفصاح، ولكن هذه أمارات على ما وجد في القلب من نية، ولهذا الذي يأكل في آخر الليل في ليلة رمضان يختلف عن الذي يأكل في ليلة العيد، فليلة العيد يأكل ولا يوجد صيام، فهذه الأكلة ليست لتحري جوع أو عطش بخلاف ليلة رمضان.
قال رحمه الله: [ (ولا يضر إن أتى بعد النية بمناف للصوم)؛ لأن الله تعالى أباح الأكل إلى آخر الليل فلو بطلت به فات محلها ].
وذلك أن الإنسان إذا نوى الصيام وعزم ثم قام من عشائه ثم رجع إلى الماء وأكل طعاماً وشرب ماء فإنه حينئذ لا يضره ذلك، فقد أتى بما يناقض النية؛ لأن الله عز وجل أباح له. ونيته في ذلك ليس صيام الليل وإنما هو صيام النهار، فإذا جاء النهار فإنه يرجع في ذلك إلى ما يناقض النية.
والنية إذا عقدها الإنسان تبطل بنية مناقضة لها ولو لم يفعل الإنسان المفطر، فيفطر الإنسان بنيته ويمسك بنيته كذلك، وعلى هذا نقول: من نوى الفطر أفطر ولو لم يطعم. وقد اختلف العلماء عليهم رحمة الله في قطع الصوم بالنية، هل ينقطع بذلك أو لابد من مباشرة المفطر؟
اختلفوا في هذه المسألة على قولين: فذهب جمهور العلماء -وهو ظاهر قول مالك، والشافعي، والإمام أحمد عليه رحمة الله- إلى أن النية كافية في قطع الصوم ولو لم يتناول الإنسان المفطر.
وذهب أبو حنيفة ومن وافقه من أهل الكوفة إلى أنه لابد من فعل المفطر.
ويلزم من هذه المسألة جملة من الأحكام والمسائل:
منها: أن الإنسان إذا نوى من الليل وبيت الصيام ثم نوى قطعها من النهار ولو لم يكن عنده شيء فهذه النية عنده لا تكفي فلابد من المباشرة، فعند جمهور العلماء أنها كافية وذلك كحال الإنسان مثلاً إذا دعي إلى وليمة وقد بيت النية من الليل بيت القطع وبيت الفعل، يعني: أنه سيذهب لتناول طعام الوليمة، وكذلك أيضاً قطعها.
نقول: إذا أراد الإنسان أن يأكل فإن ذلك يختلف عن قطع النية، قطع النية لا يلزم منه الأكل، فإذا قطع النية اكتفي بذلك، وإذا قال: سأذهب إلى فلان ولكني لا أريد قطع النية حتى أباشر وأنظر، ففي هذه الحال إذا تناول المفطر أفطر عند الجميع، وأما إذا بيت النية فإنه يفطر عند جمهور العلماء خلافاً لــــأبي حنيفة، فعنده لابد من الفعل.
وهذا يلتزمه العلماء الفقهاء الثلاثة حتى في مسائل الصلاة, فإذا نوى الإنسان قطع صلاته انقطعت صلاته وهو فيها، ولكن عند أبي حنيفة لابد من فعل مبطل الصلاة، وذلك أن الإنسان إذا استقبل القبلة وكبر للصلاة ثم تذكر أنه لم يصل صلاة أخرى فإنه يحتاج إلى أن يقدم الصلاة التي تركها، فجمهور العلماء يرون أنه بمجرد النية يبطل الصلاة، ثم يستأنف بتكبيرة أخرى بعد النقض القلبي فيأتي بالصلاة السابقة.
وعلى مذهب أبي حنيفة لابد من أن يفعل مبطلاً, وذلك كأن ينحرف عن القبلة أو أن يسلم من صلاته، فحينئذ يقوم باستئناف صلاة أخرى، وذلك يحدث في مسألة ترتيب الصلوات, فإذا كان على الإنسان فائتة، أو جملة من الفوائت فأراد أن يقضيها ثم أراد أن يرتب فجاء بصلاة متأخرة ونسي المتقدمة فكبر, ترد هنا هذه المسألة كذلك؛ ولهذا نقول: إن الصواب في ذلك أن النية كافية في قطع الصوم ولو لم يفعل الإنسان مفطراً.
وهذا أيضاً يظهر في مسألة الصيام إذا ذهب الإنسان إلى أن يقطع صومه النفل بتناول مفطر، فذهب إلى كأس وجده فارغاً, وحينئذ فعلى قول جمهور العلماء فإنه قطع بمجرد نيته ولو لم يجد شيئاً، وعلى قول أبي حنيفة فإن صيامه صحيح، هذا في مسألة الفرض والنفل عند جمهور العلماء.
والنية في النفل تصح نهاراً ولو لم يكن ثمة نية، يعني: لم يكن ثمة نية قبل ذلك من الليل وإنما وجدت نهاراً، فيتسامح في مسألة النفل ما لا يتسامح في مسألة الفرض.
وأما بالنسبة للدليل على إجزاء نية النهار في النفل هو ما جاء في حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى, أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاها فقال: ( أعندكم شيء؟ فقالت: لا. قال: فإني إذاً صائم ) ، ثم سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً آخر فقال عليه الصلاة والسلام: ( إني أصبحت صائماً أعندكم شيء؟ فقالت: أهدي إلينا حيس فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم )، فأكل منه النبي عليه الصلاة والسلام بعدما نوى الصيام.
في هذا مسألة: أن الإنسان إذا نوى النية من الليل في النافلة هل له أن يقطعها نهاراً أم لا؟ له أن يقطعها نهاراً، فمن بيَّت من الليل الصيام, ثم في نصف النهار نوى قطعها هل يقطعها أم لا, ويجوز له ذلك أم لا؟ اختلف العلماء في هذه المسألة. فمنهم من قال: إن الإنسان إذا بيت النية من الليل حرم عليه أن يقطعها من النهار، وهذا قول جاء عن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله، رواه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث الحارث عن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله, وهو قول جماعة من الفقهاء من أهل الرأي.
جمهور العلماء على أن صيام النفل يجوز للإنسان أن يقطعه من النهار ولو بيته من الليل، والفقهاء من أهل الرأي يفرقون بين من بيت الصيام من الليل، وبين من بيته من النهار.
قال رحمه الله: [ (أو قال: إن شاء الله غير متردد) كما لا يفسد الإيمان بقوله: أنا مؤمن إن شاء الله ].
وذكر الاستثناء في مسألة العمل لا يضرها باعتبار أن الأصل هو ما وجد في القلب بخلاف من كان متردداً في أصل النية، وذلك أن الإنسان إذا كان متردداً في أصل نيته ولم يجزم الصيام, هل أصوم غداً أو لا أصوم؟ كما يرد كثيراً في صوم يوم الثلاثين عند الشك حيث يقول: إن كان غداً رمضان فإني صائم، كحال الإنسان المسافر أو المنقطع عن وسائل الاتصال فلا يدري أحوال الناس كمن كان مغترباً، أو كان سجيناً بعيداً مثلاً عن العلم بأحوال الناس، فيقول: إن كان غداً فإني أصبح صائماً.
هذا يرجع إلى أصل التردد في النية وعدم العزم بها، هل يصح ذلك من الإنسان أم لا؟ بالنسبة للنفل فالعلماء والفقهاء يتسامحون في مسألة النية ولو كانت من النهار، أما مسألة التردد في الفرض فهذه مسألة أخرى.
في النفل إذا قال الإنسان: أنا لا أدري غداً الإثنين أصوم أو لا أصوم؟ إن وجدت أحداً يعين، أو وجدت في نفسي نشاطاً صمت وإلا لم أصم، هذه المسألة من جهة الأصل فيها اليسر.
أما بالنسبة للفرض كمن يشك في أول رمضان فيتردد إن كان غداً من رمضان صمت أو لم أصم، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: جمهور العلماء قالوا بعدم صحة ذلك, ولو صام وجب عليه أن يقضي ذلك اليوم، وذهب أبو حنيفة عليه رحمة الله إلى أن ذلك لا يضره، وذلك للأصل الذي يبنون عليه في مسألة النية.
ويستدلون على ذلك بما جاء في الصحيح من حديث سلمة بن الأكوع: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً من أسلم أن ينادي في الناس في يوم عاشوراء ضحى: أن من كان صائماً فليتم صومه، ومن كان قد أكل فليمسك بقية يومه ) . قالوا: أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالإمساك, وكان عاشوراء قبل رمضان فرض، قال: فيأخذ رمضان حكم عاشوراء كذلك للاشتراك في مسألة الفرض.
ولكن نقول: هذه مسألة أخرى وليست هي المسألة التي نتكلم عنها, وذلك أننا نتكلم على مسألة التردد بالنية، ولا نتكلم على رجل تفاجأ أنه رمضان وهو لا يعلم به، هذا الرجل قد بيت التردد من الليل، وهذا قد جاءه العلم أن رمضان اليوم وهو لا يعلم به.
فهذه المسألة هي مسألة أخرى وهي مسألة من علم بدخول رمضان نهاراً, وكان قد أكل أو لم يأكل. فنقول في هذه المسألة: أنه إذا كان قد أكل فيمسك، ويتم صيام بقية اليوم، وإذا كان لم يأكل فإنه يمسك البقية كذلك، وهل يجب عليه القضاء أم لا؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: جمهور العلماء يرون وجوب القضاء. وذهب جماعة من الفقهاء -وهو قول أبي حنيفة ، وكذلك عمر بن عبد العزيز ، ورجحه ابن تيمية- إلى أنه لا يجب عليه القضاء؛ لماذا؟ لأنه ما ملك نية من الليل ولم يتردد فيها ولو علم لجزم، فهو معذور في هذا، فعلم نهاراً فأمسك، وإذا أكل قبل ذلك فهو معذور لعدم علمه بأنه رمضان، كحال الإنسان الذي نسي فأكل أو شرب فمرت عليه دقائق أو ساعات لم يعلم أن هذا صيام فعذر في ذلك، وكحال الإنسان أيضاً إذا لم يعلم أنه رمضان، فلم نلزم عليه القضاء ولو أكل منه.
قال المصنف رحمه الله: [ (وكذا لو قال ليلة الثلاثين من رمضان: إن كان غداً من رمضان ففرض وإلا فمفطر) فبان من رمضان أجزأه؛ لأنه بنى على أصل لم يثبت زواله, وهو بقاء الشهر.
قال المصنف: [ (ويضر إن قاله في أوله) لعدم جزمه بالنية ].
وهذا ظاهر المذهب أنهم يفرقون بين التردد بالنية في أول رمضان، وبين التردد بالنية في آخره، وذلك أن الأصل بقاء النية بالنسبة للصيام بخلاف شعبان فالأصل بقاء الفطر لا الصيام.
قال رحمه الله: [ (وفرضه الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس) لقوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] ].
حقيقة الإمساك على ما تقدم أن الصيام المراد به الإمساك, وهذا هو المعنى من جهة اللغة، ومعناه أيضاً من جهة الشرع الإمساك عن المفطرات، وهذا ظاهر في قول الله عز وجل: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] .
فالإمساك هو الأصل عن المفطرات، وإنما ذكر الأكل والشرب لأنها هي الأصل، وهي ما يغلب على أحوال الناس، ويشترك في الحاجة إليه سائر الصائمين مهما اختلفت أحوالهم، وأجناسهم، وأعمارهم، فإنهم يفطرون على أكل وشرب.
وهنا في قوله: (وفرضه الإمساك)؛ لأن أصله وماهيته الإمساك، فهو أصل الصيام، فمن أكل أو شرب فقد أفطر.
قال رحمه الله: [ وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق ) ، حديث حسن.
وعن عمر مرفوعاً رضي الله عنه: ( إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس أفطر الصائم )، متفق عليه.].
وهنا في قوله في الإمساك من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس يشير المصنف إلى أصل الإمساك والفرض الذي يجب على الإنسان، وأما ما عداه فيأتي الكلام عليه في مسألة الإمساك فيما بعد غروب الشمس وما يسمى بالوصال.
والوصال على أنواع: نوع أن يصل الإنسان الصوم بالصيام من السحر إلى السحر.
ونوع أن يصل الإنسان صومه بأيام متتابعة, فلا يطعم لا في فطر ولا في سحر بقدر وسعه, فيصوم يومين أو ثلاثة، فربما يفطر إن احتاج عند الفطر، أو يفطر عند السحر، فيصل الليل بالنهار.
ونوع هو أن يفطر عند الفطر ولا يطعم في السحر، أن يطعم في الفطر ولا يطعم في السحر, وهي عكس النوع الأول.
قال المصنف رحمه الله: [ (وسننه ستة: تعجيل الفطر، وتأخير السحور) لحديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور، وعجلوا الفطر )، رواه أحمد ].
وشرع هنا في السنن, ويسن في الصيام كثير من العبادات، والأصل في ذلك أن العبادة في رمضان تعظم، وأما أدلة التضعيف فهي ضعيفة إلا ما جاء في ليلة القدر بأنها خير من ألف شهر.
أما التضعيف فيما عدا هذه الليلة من جهة العمل فهذا يحتاج إلى دليل، والأصل في الشريعة أن العبادة إذا كانت في زمن معظم أو في مكان معظم فإنها تعظم ولا تضاعف إلا بدليل، وذلك أن مقتضى التعظيم للزمان والمكان يقتضي منه تعظيم العمل، ومعلوم أن التعظيم شيء والمضاعفة شيء آخر.
فتعظيم العمل هو أن يكون العمل في ذاته والثواب في ذاته ولكن يعظم أجره، وأما المضاعفة فهي تعدد جنس وذات وعدد الأجر الذي يؤتاه الإنسان، والله عز وجل قد عظم رمضان، وفضل جملة من الأزمنة كالأشهر الحرم، وعظم أمكنة كمكة والمدينة في حرمهما، فالعبادة في ذلك تعظم، وجاء الدليل في بعض العبادات بتضعيفها كالصلاة، وهل الصيام في مكة والمدينة يضاعف كالصلاة؟ نقول: يعظم لعدم الدليل على التضعيف، وإنما جاء التضعيف في الصلاة، ولم يأت عن النبي عليه الصلاة والسلام في غيرها.
فمن صام وسبح وهلل وتصدق فإن ذلك يعظم عند الله عز وجل, وهذا عليه ظواهر النصوص، ولا ينبغي أن يكون ثمة خلاف وإلا لا معنى للتعظيم، ولكن التضعيف يحتاج في ذلك إلى دليل.
وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام بعض الأحاديث في مضاعفة العمل في رمضان مطلقاً، وذلك عند ابن خزيمة في كتابه المصنف من حديث علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن سلمان الفارسي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر من تقرب إلى الله فيه بسنة كان كمن تقرب إليه بفريضة، ومن تقرب إليه بفريضة كان كمن تقرب إليه بسبعين فريضة )، يعني: في سائر الأعمال التي يفعلها الإنسان، فهذا نوع من التضعيف والتعظيم.
وهذا الحديث ضعيف, وذلك لأنه قد تفرد به علي بن زيد، وكذلك في إسناده انقطاع، وقد أعله غير واحد من العلماء كــــابن خزيمة، وكذلك ابن رجب وغيرهما من النقاد.
وهذا في مسألة السنية في ذكر المصنف في قوله: (وسننه ستة)، ما كان خاصاً في رمضان، وهو ما دل الدليل عليه أنه يفعل في رمضان، وأما ما لم يدل الدليل عليه أن يفعل في رمضان من سائر الأعمال التي دل الدليل على فضلها، فهي في رمضان أعظم فيفعلها الإنسان، كالتسبيح، والتهليل، والاستغفار، وصلة الأرحام، لكن هل تدخل في سنن الصيام؟
الجواب لا يعدها العلماء في سنن الصيام باعتبارها سنن في كل العام، فالسنن ما دل الدليل على تخصيصها في رمضان، وذكر منها تعجيل الفطر، وقد دل الدليل على ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام, كما جاء في حديث سهل بن سعد في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( ما تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر ) .
وذكر هنا في حديث أبي ذر تعجيل الفطر، وتأخير السحور، وتعجيل الفطر آكد من تأخير السحور، وكلاهما سنة؛ لماذا كان تعجيل الفطر آكد من تأخير السحور؟ لأن تعجيل الفطر أظهر في الامتثال، وذلك أنه بغروب الشمس يظهر في ذلك الامتثال عند التناول والأكل، فأمسكت لأجلك تديناً وأفطرت لأجلك تعبداً وامتثالاً لأمرك فظهر ذلك.
ولهذا نجد أن الأصل في الشريعة أن الله عز وجل إذا فرض شيئاً حده بحدود حتى لا يدخل فيه غيره، فنجد الصلوات الخمس وغيرها من الصلوات كالسنن والنوافل وغيرها مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، وهذا فيه ضبط للصلاة حتى لا يدخل فيها غيرها، وكذلك أيضاً في رمضان، الله عز وجل أوجب صيام رمضان وجعل ما قبل رمضان محرماً وما بعد رمضان محرماً؛ وذلك أن ما قبل رمضان صوم يوم الشك وهو يوم الثلاثين أو التاسع والعشرين، وبعده صيام يوم العيد، فحرم هذا وحرم هذا لماذا؟ حتى يظهر في ذلك الامتثال، فأكلت لأجلك وصمت لأجلك ثم ختمته وأكلت لأجلك، فيظهر في ذلك الامتثال.
ولهذا يستحب أكل التمرات عند الذهاب إلى العيد بدلاً من إمساكك بالأمس حتى يظهر منك الفطر.
إذاً شرع الله سبحانه وتعالى تعجيل الفطر وتأخير السحور, وذلك لمناسبة الامتثال والانقياد اليومي في كل يوم.
وكذلك أيضاً في مسألة تحريم صوم يوم الشك، وتحريم صوم يوم العيد حتى تنضبط وتحد الفريضة فلا تضيع، ومعنى تضيع: أن لا يتداخل معها غيرها، فلو لم يضبط رمضان من جهة الصيام بأن لم يوجب الله صيام رمضان ولم يحرم ما قبله وما بعده، لو وجدت من الناس من يصوم شعبان وشوالاً، أو يعتاد الصيام وتضيع الفريضة ولا يشعر بها، ولهذا حدت بمثل هذا العمل.
كذلك أيضاً نوافل الصلوات شرعت بتكبير وتسليم حتى يفصل بين هذه وهذه، ويعرف الإنسان مراتبها؛ ولهذا تأكد أمر تعجيل الفطر امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى بضبط العبادات وحدها.
تعجيل الفطر كما تقدم هو آكد من تأخير السحور؛ لأنه أظهر في الامتثال، وكلاهما سنة. والمراد بتعجيل الفطر: هو أن يبادر الإنسان بتناول المفطر ولو لم يفطر معه الناس إذا تيقن غروب الشمس، ولهذا قد جاء في المصنف وغيره عن مجاهد عن عبد الله بن عمر أنه كان يفطر ويستره حتى لا يراه الناس، يعني: يسيئون الظن به؛ لأنه يبكر بعد غروب الشمس.
ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى أوجب على الإنسان الإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس, وحثه على تعجيل الفطر وعلق الأمر بغروب الشمس، ولهذا نقول: إن الفطر يعلق بغروب الشمس لا بالأذان، فالأذان والفطر تعلقان بغروب الشمس لا أن يتعلق الفطر بالأذان، والأذان يتعلق بغروب الشمس.
ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا أقبل)، كما تقدم معنا هنا ( إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم )، يعني: بمجرد غياب الشمس، والله عز وجل يقول: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] ، وهذا أمر من الله سبحانه وتعالى بالامتثال بالفصل بين مرحلة الإمساك ومرحلة الفطر، ولهذا نقول: إن المستحب في الفطر هو تعجيله إذا عرف الإنسان الوقت.
وهنا مسألة وهي: إذا تيقن الإنسان من غروب الشمس ولم يؤذن المؤذن استحب له أن يفطر ولو لم يؤذن؛ لأنه هو والمؤذن يرتبطان بالأذان، إلا إذا كان الإنسان أمام الناس ويخشى إساءة الظن، فينبغي أن يستتر بفطره كما استتر ابن عمر بفطره؛ لماذا؟ لأن في ذلك ذب عن عرضه كما ذب ابن عمر عن عرضه باستتاره، وذلك أنه سنة والوقيعة فيه محرمة.
قال المصنف رحمه الله: [ (والزيادة في أعمال الخير) من القراءة والذكر والصدقة وغيرها ].
ذكر هنا الزيادة في أعمال الخير من القراءة والذكر والصدقة وغيرها، فمن هذه الأعمال ما دل الدليل عليها خصوصاً في رمضان كقراءة القرآن، وذلك كما جاء في حديث عبد الله بن عباس في مدارسة جبريل ( كان يدارسه القرآن في رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه دارسه فيه مرتين ) ، وكذلك عموم الخير (فالنبي عليه الصلاة والسلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة) ، فكل خير من صدقة، وإحسان، وإغاثة ملهوف، وإعانة محتاج، وإكرام ضيف، وغير ذلك فإنه يشرع له أن يكثر من ذلك.
قال المصنف رحمه الله: [ (وقوله جهراً إذا شتم إني صائم) لحديث أبي هريرة مرفوعاً: ( إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يسخط, فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم )، متفق عليه.
بعض العامة يقول: اللهم إني صائم، ذكر اللهم هذا غير محفوظ عن النبي عليه الصلاة والسلام، فيقول: إني صائم، أو أنا صائم، وإذا كانوا جماعة وشتموا يقولون: نحن صائمون، يعني: يكتفى بالإشعار.
إذاً: فالمراد من العبارة إعلام وإخبار لا دعاء، فلا يقل: اللهم، لأن ذلك دعاء.
قال رحمه الله: [ قال المجد : إن كان في غير رمضان أسره مخافة الرياء، واختار الشيخ تقي الدين الجهر مطلقاً؛ لأن القول المطلق باللسان ].
والأظهر في ذلك أنه يفرق بين ما بان صومه واشتهر عند الناس مما يعتاد الناس صومه، وذلك في رمضان، وكذلك أيضاً في الأيام الظاهرة الفاضلة كيوم عرفة ويوم عاشوراء التي يعتاد للناس ويشتهر في صيامه أن يقول تلك العبارة، وما لا يعتاد الناس عامة على صيامه، وذلك كصيام يوم وإفطار يوم، فإن عامة الناس لا يصومون يوماً ويفطرون يوماً، وإنما هو صيام الخاصة، فهذا الأفضل أن لا يقول فيه ذلك؛ لأنه يفصح عن شيء لا يفعله إلا الخاصة، فربما كان في ذلك قدحاً في نيته، ويتدرج ذلك أيضاً بحسب علو الصيام واشتهاره في الناس، وبحسب أيضاً من تعرض له، فيأتي بعد ذلك صيام الإثنين، وبعد ذلك صيام الخميس أو ثلاثة أيام من كل شهر وغير ذلك، أو صيام الست من شوال ونحوها.
قال المصنف رحمه الله: [ (وقوله عند فطره: اللهم لك صمت, وعلى رزقك أفطرت، سبحانك وبحمدك، اللهم تقبل مني إنك أنت السميع العليم) لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، و أنس رضي الله عنه: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: اللهم لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا، اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) .
وعن ابن عمر مرفوعاً رضي الله عنهما: ( كان إذا أفطر قال: ذهب الظمأ، وابتلت العروق، ووجب الأجر إن شاء الله ) ].
وهنا في مسألته يقول: (وقوله عند فطره: اللهم لك صمت, وعلى رزقك أفطرت)، لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام دعاء معين عند فطره، وقد جاء ذلك جملة من الأحاديث, ذكر المصنف بعضها، أما حديث أنس بن مالك فقد رواه الطبراني في كتابه الدعاء من حديث داود بن الزبرقان عن عمران بن داور القطان عن قتادة عن أنس بن مالك و داود بن الزبرقان متروك الحديث وهو منكر وقد تفرد بهذا الحديث.
وأما حديث عبد الله بن عباس فيرويه عبد الملك بن عنترة عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عباس ، وأيضاً إسناده منكر.
وأما حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله فقد رواه أبو داود في كتابه السنن من حديث الحسين بن واقد عن مروان بن المقفع عن عبد الله بن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند فطره: ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله )، وهذا أمثل شيء، تفرد به الحسين بن واقد عن مروان بن المقفع عن عبد الله بن عمر ، و مروان هو قليل الحديث، وبعضهم يعله به، لكنه أمثل شيء جاء في هذا الباب.
وأما بالنسبة عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى فقد جاء في ذلك بعض الآثار عنهم، ولا تخلو من ضعف.
قال رحمه الله: [ رواهما الدارقطني , وفي الخبر: ( إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد )].
هنا يقول: (وفي الخبر: ( إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد )، جاء في ذلك جملة من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم, من ذلك ما رواه ابن ماجه في كتابه السنن قال: ( إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد )، هذا الحديث يرويه ابن ماجه في كتابه السنن من حديث إسحاق بن عبيد الله عن عبد الله بن أبي مليكة عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجاء ما يعضد هذا الحديث من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أيضاً, وهو عند أبي داود الطيالسي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وجاء أيضاً عند البيهقي في كتابه السنن من حديث عبد الله بن عمر قال: ( إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد )، وفي إسناده محمد بن إسحاق البلخي , وقد تفرد بهذا الحديث وهو ضعيف، وجاء أيضاً في السنن من حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى، ومن حديثه أيضاً جاء عن أبي سعيد الخدري وغيرها.
فمنهم من يحسن هذه الأحاديث بمجموع الطرق, وهي لا تخلو من ضعف، ولكن أصل الدعاء عند الفطر عليه عمل السلف، وقد جاء عن بعضهم في ذلك فجاء عن الربيع بن خثيم كما رواه ابن فضيل في كتابه الدعوات أنه كان يدعو عند فطره، فالدعاء عند الفطر مشروع، ولكن صيغته لم تثبت , ولعله إنما أضمر ذلك حتى يدعو الناس بما يحتاجون لتباين أحوالهم وحاجاتهم.
وينبغي للإنسان أن يدعو بجامع الدعاء مما يصلح دينه ودنياه، وبعض العلماء يأخذ من قول الله عز وجل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، استحباب الدعاء عند الفطر، قالوا: وذلك أن الله عز وجل قد ذكر هذه الآية بعدما ذكر وجوب الإمساك ومشروعية الفطر، فخلل ما بين آيات الصيام بذكر الدعاء، وقد أشار إلى هذا بعض الأئمة كــــابن كثير رحمه الله في كتابه التفسير.
قال المصنف رحمه الله: [ (وفطره على رطب، فإن عدم فتمر، فإن عدم فماء) لحديث أنس رضي الله عنه: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم يكن فعلى تمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء ) . رواه أبو داود والترمذي، وقال حسن غريب ].
وهنا في هذه المسألة يقول: (وفطره على رطب، فإن عدم فتمر، فإن عدم فماء)، هذا الترتيب جاء له ما يدل عليه من حديث أنس بن مالك ، طبعاً هذا الحديث قد جاء في المسند والسنن أيضاً وإسناده ضعيف، وذلك أنه يرويه جعفر بن سليمان عن ثابت البناني عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و جعفر بن سليمان تفرد بهذا الحديث ولم يوافق عليه بذكر الرطبات، وهو يروي المناكير عن ثابت كما ذكر ذلك علي بن المديني عنه، ولكن الذي جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام صحيحاً هو الفطر على التمر, ولم يخص الرطبات، فالرطب من التمر وهو نوع من أصنافه، فإذا أكل الإنسان رطباً أو أكل تمراً لا تفاضل بين هذه، فالدليل جاء في ذلك أعم، فتفضيل الرطب على التمر معلول، وقد أنكره جماعة من الأئمة، فأنكره أبو زرعة، وأبو حاتم، والبزار، وغيرهم، وظاهر صنيع الترمذي رحمه الله في كتابه السنن أنه يعله كذلك.
فنقول: إن ذكر الرطبات منكر عند الفطر، والحديث فيه معلول، أما التمر فهو سنة وثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة, منها: ما جاء في المسند وكذلك أيضاً في السنن من حديث حفصة عن الرباب بنت صليع عن سلمان بن عامر : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفطر على تمر, فإذا لم يجد حسا حسوات من ماء ) ، ويعضده كذلك ما جاء عند الترمذي وغيره من حديث أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر أفطر على تمر، فإذا لم يجد فعلى ماء، وقال: إنه طهور ) ، هذا الحديث يرويه ابن عامر عن شعبة بن الحجاج عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحديث البداءة بالتمر أفضل، وإذا لم يجد الإنسان تمراً فإنه يتناول الماء، وإذا لم يجد ماء يفطر على ما شاء.
وهنا مسألة وهي إذا تعارض تعجيل الفطر والفطر على تمر فأيهما يقدم؟ يعني: الإنسان إذا لم يجد طعاماً ومعه عصير وبيته بعيد يحتاج إلى دقائق حتى يصل ليفطر على تمر، فهل السنة يقدم التعجيل على سنة التمر؟ نقول: التعجيل آكد من التمر؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما كان مسافراً ووجد الصحابة -كما في الصحيح- في الصوم كلفة قام النبي عليه الصلاة والسلام على راحلته وأخذ الإناء فشرب؛ لماذا؟ لأن هذا مقتضى التعجيل حتى يقطع صومه لأنه قد شق عليهم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر