الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا يا رب العالمين!
[ فصل: (ومن جامع نهار رمضان في قبل أو دبر ولو لميت أو بهيمة في حالة يلزمه فيها الإمساك مكرهاً كان أو ناسياً لزمه القضاء والكفارة) لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( أن رجلاً قال: يا رسول الله وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا، فسكت, فبينا نحن على ذلك أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق تمر فقال: أين السائل؟ خذ هذا تصدق به، فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها -يريد الحرتين- أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه, ثم قال: أطعمه أهلك )، متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم للمجامع: ( صم يوماً مكانه )، رواه أبو داود ، ويلزمان المكره والناسي لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل].
ذكر المصنف رحمه الله جملة من المسائل في المفطرات، وكذلك أيضاً في شيء من الكفارات، وأشار في هذا الفصل إلى مسألة الجماع في نهار رمضان.
والجماع في نهار رمضان محرم باتفاق العلماء لا يختلفون في ذلك، وهو كبيرة من كبائر الذنوب، وذلك لجملة من القرائن:
أولها: أن الكفارة فيه كفارة مغلظة، والكفارة المغلظة دليل على أن الفعل كبيرة من كبائر الذنوب، وذلك لأن التحريم جاء في كلام الله، والأصل في المحرمات المنصوص عليها في القرآن أنها محرمات مغلظة، وأما بالنسبة للآثار المترتبة على الجماع في نهار رمضان فثمة مسائل، ومن هذه المسائل ما يتعلق بجماع المتعمد، وجماع المتعمد فيه مسائل:
أولها: فطر المجامع إذا قلنا بتحريم الجماع في نهار رمضان, فما الحكم في فطره؟ يعني: أنه إذا جامع هل يفطر أم أن الشارع إنما حرم عليه الجماع تحريماً لا يلزمه من ذلك الفطر، كبعض المحرمات التي يأمر الله عز وجل بتركها لكنها لا تفسد العمل، وذلك مثل الحج، يحرم الله عز وجل على عباده شيئاً من المحرمات وتسمى بمحظورات الإحرام، ولكن بمجموعها لا تفسد الحج، كذلك بالنسبة للصيام من المحرمات التي أصلها محرم وغلظها الشارع في رمضان: الجهل، وشهادة الزور، والغيبة, والنميمة وغير ذلك، لكنها لا تفسد الصوم.
وما يأتي أيضاً من هذه الأحكام على قول من قال بعدم التفطير في بعض المنهيات، كالنهي عن المباشرة، وكذلك أيضاً القبلة، ومسألة الحجامة وغير ذلك، أيضاً في قول بعضهم في النهي عن السواك في العشي، هل هذا يلزم من ذلك النهي التفطير أم لا؟
أما مسألة المجامع في رمضان فمنهم من يقول بالتفطير, وهذا قول عامة الفقهاء بل حكي فيه الإجماع، يعني: أن المجامع في نهار رمضان يفطر بجماعه, ويجب عليه مع ذلك القضاء، وهذه المسألة اتفق عليها الأئمة الأربعة عليهم رحمة الله، أعني: بوجوب القضاء، ولازم ذلك أنهم يقولون بالفطر.
وثمة قول لبعض الفقهاء يقولون بعدم القضاء، والذين يقولون بعدم القضاء اختلفوا في الفطر على قولين: قوم قالوا بأنه أفطر ولكنه أفطر متعمداً, والأصل عندنا أن المتعمد لا يقضي سواء كان أكل أو شرب أو جامع، ويلحقون المجامع بالآكل والشارب متعمداً، قالوا: لا يجب عليه في ذلك القضاء. وذهب إلى هذا جماعة من العلماء, وهذا قول ابن تيمية رحمه الله أنه لا يرى وجوب القضاء من جهة الأصل على تارك الركن المتعمد, وذلك باطراد في مسألة الصلاة، وكذلك أيضاً في مسألة الحج، ويوجب عليه التوبة، وما دل الدليل عليه من الكفارة كمسألة الفطر في نهار رمضان متعمداً.
الطائفة الثانية: قالوا بأنه لم يفطر أصلاً, وإنما الكفارة هي كفارة لذنبه الذي فعله، ولا يعني ذلك أنه أفطر, وذلك أنهم يقولون أن الفطر يكون مما دخل إلى جوف الإنسان مما في حكم الأكل والشرب وما دل عليه الدليل.
بعض العلماء يحكي الاتفاق في هذه المسألة على الفطر، ويحكي الإجماع أيضاً على القضاء، وقد نص جماعة من الأئمة على حكاية الإجماع، والإجماع على ذلك فيه نظر، نعم اتفق الأئمة الأربعة عليهم رحمة الله تعالى على هذا ، ولكن الدليل أولاً الوارد في ذلك فيه كلام, وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صم يوماً مكانه )، ويأتي الكلام عليه.
إن السلف الصالح عليهم رحمة الله يتكلمون في مسألة الكفارة عليه، وقل ما يذكرون القضاء، فمنهم من يحمل عدم ذكر أكثرهم للقضاء على أنه مفروغ منه، ومنهم من يحمله على المعنى الآخر ويقول: إنهم لا يقولون بالقضاء باعتبار أنه لا تلازم بين وجود الكفارة المغلظة وبين فطر الإنسان بفعله بالجماع.
وأما الدليل الوارد في ذلك وهو حديث أبي هريرة عليه رضوان الله، والزيادة في ذلك التي عند أبي داود في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( صم يوماً مكانه )، والحديث جاء من حديث ابن شهاب الزهري ، وقد رواه عن ابن شهاب الزهري جماعة، رواه مالك بن أنس ، و شعبة بن الحجاج و معمر بن راشد وغيرهم, يروونه عن ابن شهاب ولا يذكرون هذه الزيادة: ( وصم يوماً مكانه ) .
وهذه الزيادة قد رواها أبو داود في كتابه السنن من حديث هشام بن سعد عن ابن شهاب الزهري وذكر هذه الزيادة، و هشام بن سعد يضعف، وقد رد هذه الزيادة غير واحد من العلماء، وقد أنكرها الإمام أحمد عليه رحمة الله، و النسائي وغيرهم، وهذا ظاهر صنيع البخاري ومسلم إذ تركا هذه الزيادة في كتابيهما، وقد توبع على ذلك هشام بن سعد تابعه صالح بن أبي الأخضر وأبو أويس ، وأيضاً متابعتهم في ذلك ليست معتبرة وذلك لنكارتها.
فمن قال بعدم القضاء قال: لا يوجد دليل صريح عن النبي عليه الصلاة والسلام بوجوب القضاء على المجامع، وأما من قال بوجوب القضاء على المجامع وظهور الفطر في ذلك قالوا: لأن الشارع نهى عن ذلك وغلظه، ونهى عنه ابتداء، والنهي في ذلك مغلظ كالنهي عن الأكل والشرب.
ومن قال بعدم القضاء قالوا: إن الجماع يختلف عن الأكل والشرب، وذلك أن الله عز وجل في أول التشريع نهي عن الجماع في ليله ونهاره من جهة التشديد في ذلك, وهو تشديد لا يوازي الأكل والشرب, وإنما هو خاص خصه الله عز وجل بحكم اختباراً وامتحاناً؛ وذلك إظهاراً للتمسك والتعبد والتزام أمر لله سبحانه وتعالى.
والقول بعدم القضاء قال به جماعة كــــابن حزم الأندلسي ، و ابن خزيمة ، و ابن تيمية ، وكذلك ظاهر قول ابن رجب رحمه الله على هذا. وعلى ما تقدم فإنهم يختلفون بينهم في الفطر، منهم من يقول: إنه متعمد, ولكن لا نقول بالقضاء لأننا نجري على قاعدة المتعمد لا يقضي، ومنهم من يقول: إنه لم يفطر أصلاً وإنما فعل فعلاً محرماً.
وقوله هنا: (ويلزمان المكره والناسي)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل المواقع عن حاله.
واختلف العلماء في المجامع نسياناً هل يلحق بالآكل والشارب نسياناً أم لا؟
اختلفوا في هذه المسألة على قولين: فذهب جمهور العلماء إلى أنه يلحق بالآكل والشراب نسياناً، قال بذلك الإمام مالك و الشافعي و أبو حنيفة ، وهي رواية عن الإمام أحمد عليه رحمة الله.
والرواية الأخرى -وهو ظاهر مذهب المالكية- أن المجامع نسياناً يجب عليه في ذلك القضاء، واختلفوا في أمر الكفارة، وذلك أنهم يطردون، فهم يقولون في الآكل والشارب نسياناً أنه يجب عليه القضاء، ولكنه معذور ومرتفع عنه الإثم، ويلحقون في ذلك المجامع.
والصواب: أن المجامع يلحق الآكل والشارب نسياناً في نهار رمضان على ما تقدم معنا، والآكل والشارب على قول جمهور العلماء نسياناً لا يلزمه القضاء فضلاً عن الكفارة؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( فإنما أطعمه الله عز وجل وسقاه ) .
وظاهر ذلك أن هذا الحديث جاء في المتعمد, ففي الحديث: ( أن الرجل لما جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: هلكت يا رسول الله؟ ) ؛ لأن الهلاك في فعله إنما يقع من المتعمد بخلاف الناسي، فهو يسأل وظاهر سؤاله أنه كان متعمداً، فأنزل النبي صلى الله عليه وسلم حكمه عليه.
وإذا أدخلنا الناسي والمكره, فهل يدخل في ذلك الجاهل؟ نعم يدخل الجاهل من باب أولى؛ وذلك لأن عذره قائم دائم بخلاف العارض وهو الناسي، فالناسي يسبقه علم ويلحقه علم، فعرض عليه النسيان ثم فعل ذلك.
وأما بالنسبة للجاهل فلا يسبقه قبل ذلك علم، فلم يكن عالماً ثم علم بعد ذلك، فهو أقرب إلى عذره وعدم تكليفه، ويستدل لذلك بقول الله عز وجل: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، وكذلك ما جاء في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ).
قال المصنف رحمه الله: [ (وكذا من جومع إن طاوع) في وجوب القضاء والكفارة لهتك صوم رمضان بالجماع طوعاً، فأشبهت الرجل؛ ولأن تمكينها منه كفعل الرجل في حد الزنا وهو يدرأ بالشبهة، ففي الكفارة أولى ].
وهذا يلحق المرأة كما يلحق الرجل في باب المطاوعة، وذلك لأن الحكم في ذلك واحد والتكليف واحد، والله عز وجل حرم الجماع على الرجل والمرأة, وإنما يتوجه الحكم في ذلك على الرجل في الحديث؛ لأنه هو الذي سأل فأجيب على سؤاله، ولو سألت المرأة لكان الجواب أيضاً على سؤالها، ولهذا نقول: إن حكم المرأة كحكم الرجل، وهذا على قول جمهور العلماء.
وأما في باب الإكراه فكما عذر الرجل في باب الإكراه كذلك أيضاً تعذر المرأة، ولا يلحقها في ذلك فطر ولا كفارة.
قال رحمه الله: [ وعنه لا تلزمها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر امرأة المواقع بكفارة، قال المصنف: غير جاهل ].
يقول: (وعنه لا تلزمها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر امرأة المواقع بكفارة)، تقدم التعليل أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما وجه الخطاب للسائل, والسائل في ذلك رجل، ثم أيضاً إن عدم ذكر الراوي لأمر النبي عليه الصلاة والسلام للمرأة لا يدل على العدم.
قال المصنف رحمه الله: [ (غير جاهل وناسي) فلا كفارة عليهما رواية واحدة، قاله في الكافي لحديث: ( عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان )، رواه النسائي .
قال المصنف: والكفارة عتق رقبة مؤمنة, فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين, فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً, فإن لم يجد سقطت عنه ].
يقول هنا: (والكفارة عتق رقبة مؤمنة)، وكفارة المجامع في نهار رمضان إنما هي على الترتيب لا على التخيير؛ لظاهر حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي يذهب إليه عامة السلف إلى أنه ليس للإنسان أن يختار، وإنما هي على الترتيب، وأول هذه الكفارات هي عتق رقبة.
والرقبة هنا اختلف فيها، هل يشترط في ذلك أن تكون مؤمنة، أم يجوز أن يعتق غير المؤمنة؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: ذهب جمهور العلماء إلى وجوب الإيمان في الرقبة عند إعتاقها في الكفارة، وهو قول مالك و الشافعي والإمام أحمد خلافاً لــــأبي حنيفة الذي يرى جواز إعتاق الرقبة، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالعتق, وما حدد نوع الرقبة.
ومعلوم أن الرقاب يكون منها أهل الإيمان، ومنها ما يكون من غير أهل الإيمان، فدل على التخيير في ذلك إلا أنهم يرون إعتاق الرقبة المؤمنة في ذلك أفضل.
وقوله: (فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين)، قوله هنا: (فإن لم يجد) لظاهر قول النبي عليه الصلاة والسلام : ( هل تجد )؛ وذلك لأنه ليس على التخيير وإلا النبي عليه الصلاة والسلام ما سأله عن الجدة، يعني: الطاقة والسعة والقدرة التي يستطيع معها الإنسان أن يكفر، وإذا لم يكفر الإنسان أو لم يجد قدرة بإعتاق الرقبة فإنه يتوجه إلى ما بعد ذلك, وذلك بصيام شهرين متتابعين.
والتتابع شرط في صيام الشهرين، وإذا قطع التتابع في ذلك هل يجب عليه أن يستأنف أم لا؟ اختلف العلماء عليهم رحمة الله في ذلك على قولين: جمهور العلماء قالوا: إذا قطع الإنسان صيام الشهرين المتتابعين من غير عذر فإنه يجب عليه أن يستأنف الستين ولو كان قطعه للصيام في آخر أيامه؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر بالشهرين المتتابعين، فإذا صام من غير تتابع يكون صياماً مفرقاً وليس هو المقصود.
وذهب بعض العلماء إلى أنه إن أفطر متعمداً في أثنائها قالوا: لا يقطع ذلك التتابع وإنما هو آثم ويجب عليه أن يبادر به من الغد ويكمل ما نقص في آخر أيامه.
وهذا يبنى على قول أن التتابع في هذه الأيام الستين هل هو شرط للصحة أم أنه واجب منفصل؟ وعلى هذا يختلف العلماء، وإنما يختلف أمر الصلاة عن أمر الصيام؛ لأن الصلاة كل لا يمكن أن يفصل؛ وذلك أن الله عز وجل يأمر عباده بالصلاة أربعاً للظهر والعصر والعشاء، فيجب عليهم أن يصلوا، فإذا صلوا الركعات كل واحدة منفكة عن الأخرى بسلام، فهذا لا يقبل ولو صلى أكثر من ذلك؛ لأن الاتصال مقصود في ذلك.
قالوا: أما بالنسبة للصيام فالصيام يختلف؛ لأنه منفك في ذاته، ولو كان الصيام واحداً ليلاً ونهاراً فأمسك الإنسان لليومين والثلاثة فلم يطعم في ليل ونهار ثم أطعم في أثناء واحد منها فإنه فصل الأول عن الثاني، قالوا: إن الشارع إذاً قد أوجب على الإنسان أمرين: أوجب عليه صيام الستين، وأوجب عليه التتابع، فإذا أخل بواحد منها أثم ووجب عليه أن يتم ذلك.
وأما بالنسبة للمعذور في فطره في أثناء الأيام, وذلك كحال الإنسان الذي يكون في سفر وهو قد وجب عليه صيام الشهرين المتتابعين, وبدأ به في حال الإقامة ثم سافر، أو المرأة تحيض في أثناء الستين فيجب عليها أن تفطر، والمسافر لا حرج عليه أن يفطر؛ لأن الله عز وجل رخص له بالفطر في نهار رمضان وهو آكد، وصيام رمضان آكد من الكفارة؛ لأن الكفارة إنما جاءت لازمة لعظم شهر رمضان.
ومعلوم أن شهر رمضان في صيامه أعظم من صيام يوم الكفارة؛ لأنه ما غلظ ولو كان يوماً واحداً فجعل ما يقابله الستين إلا لمقام اليوم، ولا عبرة بالعدد وإنما العبرة بالفضل، فإذا جاء في الأصل فإنه يجوز في الفرع وما دونه، ويدخل في هذا سائر أهل الأعذار وذلك فيمن كان به مرض أو نحو ذلك من أهل الأعذار فإنه لا حرج عليه، ويجب عليه أن يتم ما نقص من صيامه بعد ذلك، فإذا أفطر يومين في أثنائه سفراً يأتي باليومين بعد تلك الأيام.
وهنا فرق بين صيام شهرين متتابعين، وبين صيام الستين يوماً، فصيام الشهرين متتابعين يصوم فيه الإنسان من بداية الهلال وإذا انصرم الشهر الثاني وظهر الهلال الذي يليه انقضى ولو كان دون الستين فلا حرج عليه.
وإذا صام بدون الهلال, بأن الذي يصوم من نصف الشهر كالذي يصوم مثلاً من اليوم السابع، أو من اليوم الثامن أو نحو ذلك، فالأحوط له أن يصوم الستين؛ لأنه غاية كمال الشهر.
قال المصنف رحمه الله: [ (فإن لم يجد سقطت عنه بخلاف غيرها من الكفارات) للحديث السابق ].
وهنا في قوله: (فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً)، ظاهر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه ذلك الرجل بالتمر لم يكن ذلك مقدراً، وإنما هو في غلبة الظن أنه يطعم الستين مسكيناً.
فعلى ما تقدم في مسألة الكفارة أن العلماء عليهم رحمة الله إذا ذكروا الكفارة وفسروها في النصوص فإنهم يفسرونها بالإشباع، وهذا ظاهر كلام المفسرين، ولا يستطيع الإنسان أن يجعلها بطعام معين، سواء كان من الأرز أو كان من الدقيق، أو كان من قوت بلد يأكلون ويقتاتون التمر ونحو ذلك، فيقال حينئذ: أن هذا من طعامهم.
وينظر إلى طعام أهل البلد ويخرج منه، وقد يكون في أهل بلد طعام لكنه ليس في البلد الآخر، بل ذاك يستعمل طعاماً وهذا يستعمل طعاماً آخر، ويفرق بينما يستعمل طعاماً وبينما يؤخذ تفكهاً، وربما يختلف ذلك بالزمان، وربما يختلف ذلك بالمكان.
أما بالنسبة للزمان، فكالتمر مثلاً في هذه البلاد في زمن كانوا يجعلونه طعاماً أساسياً يأكلونه في غداء ويأكلونه في عشاء، وأصبح الناس اليوم يتفكهون به، كذلك أيضاً بالنسبة للمكان يوجد اليوم بلدان لا تأكل الأرز وإنما تأكل الخبز وما في حكمه، ولا تتناول الأرز وإنما هو طعام بيئة أخرى، فينظر إلى ذلك البلد وما هو الطعام الذي لديه.
ولهذا نقول: إنه قد يصح إخراج الكفارة من نوع طعام في بلد ولا يصح في البلد الآخر أو في زمن دون زمن آخر، لهذا ذكر ابن تيمية رحمه الله كما نقل في الفتاوى ونقله عنه أيضاً ابن عبد الهادي رحمه الله إلى أن التمر قد لا يكون طعاماً عند أقوام؛ لأنهم يأخذونه تفكهاً.
فيقال حينئذ: إنه ينظر إلى الطعام، فربما كان خبزاً، وربما كان دقيقاً، وربما كان حيساً، وربما كان مرقاً وغير ذلك، فإذا شبع الإنسان من ذلك الطعام كفاه، والفقهاء الذين ينصون على تقدير الطعام بنصف صاع لكل مسكين هذا من باب التقريب والتغليب، وأما القطع في ذلك فإذا وجد مسكين يشبعه المد أو المدين فإنه يجب في ذلك، وإذا كان أكثر من ذلك أيضاً فيجب بحسب الحال وبحسب الفقير المدفوع إليه.
ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام أتي بعرق تمر وما قال النبي عليه الصلاة والسلام بكيله؛ لأن ظاهره أنه لو جلس عليه هذا العدد لكفاهم، ولهذا يقدر بنوع طعام ونحو ذلك في تقدير الأغلب في هذا، ولو جمع الستين على وليمة واحدة أو مائدة واحدة من الفقراء فطعموا وشبعوا كفاهم ذلك.
وهذا في سائر ما يذكره الله سبحانه وتعالى من أمور الكفارات، بخلاف الإطعام الذي يكون فيه حق التملك لا حق الأكل وذلك كزكاة الفطر، فزكاة الفطر هي حق مالي للفقير يملك إياه, لا يلزم من ذلك أن يكون متعلقاً بالشبع، ولهذا يجب عليه صاع يخرجه للفقير والمسكين؛ ولهذا يفرق العلماء بين الطعام الذي يدفع في ذلك لأجل الإطعام، وبين ما يدفع تملكاً وذلك كحال زكاة الفطر وكذلك أيضاً زكاة المال؛ لأن الله عز وجل قدرها فهي للإنسان.
يقول: (فإن لم يجد سقطت عنه)، وذلك أيضاً على ما ظهر لحديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى، ولا تبقى في ذمته، فينظر إلى حاله، إذا لم يجد هذا فإن هذا يسقط عنه، ولو كان الصيام بعد الإطعام ما سقط عنه الصيام، ولكن الذي أسقط الصيام عدم القدرة, وأسقطه كذلك عدم القدرة على الإطعام, وانتهى لأنه آخر ما يجب على الإنسان من أمر الكفارة، وهذا يختلف عن كفارة اليمين، وذلك أن كفارة اليمين يجب عليه أن يعتق رقبة, فإذا لم يجد وجب عليه أن يطعم، وإذا لم يجد وجب عليه أن يصوم، وإذا لم يستطع الصيام حال وجوب الكفارة عليه, هل يسقط عنه الصيام؟
لا يسقط عنه الصيام، بل يقال بأنه باق في ذمته، فإذا استطاع كأن يكون مثلاً فيه مرض عارض أو نحو ذلك صام بخلاف الفقر، فإن الإنسان قد يكون فقيراً اليوم، لكن لا يقال: إنه يبقى في ذمته؛ لأنه سقط عنه في الحال، والذي أسقط الصيام أسقطه الخيار الذي بعده وهو الإطعام, والذي أسقط الإطعام الفقر.
وأما بالنسبة للصيام فإنه آخر الكفارات في أمر كفارة اليمين، فيقال: يبقى في ذمة الإنسان إذا لم يستطع، فإذا صح بعد مرض، أو أقام بعد سفر فيجب عليه أن يصوم.
قال المصنف رحمه الله: [ (ولا كفارة في رمضان بغير الجماع والإنزال بالمساحقة) بمجبوب أو امرأة قياساً لفساد الصوم وهتك حرمة رمضان ].
يقول: (ولا كفارة في رمضان بغير الجماع والإنزال بالمساحقة من مجبوب أو امرأة قياساً على الجماع لفساد الصوم وهتك حرمة رمضان).
اختلف العلماء عليهم رحمة الله في هذا, وقد تقدمت معنا الإشارة إلى مسألة من أنزل بغير جماع, وذكرنا أن ذلك على قسمين: أن يكون ذلك بمباشرة، أو بمماسة من غير جماع.
والحالة الثانية: أن يكون ذلك بالنظر والتفكر، وقد تقدم معنا الخلاف في هذه المسألة، وذكرنا شيئاً من أدلة القولين.
قال رحمه الله: [ فصل: (ومن فاته رمضان قضى عدد أيامه) لقوله تعالى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].
وهنا المصنف رحمه الله بعدما ذكر ما يتعلق بأمر الأداء توجه إلى أمر القضاء، ومعلوم أن العبادة من جهة فعلها لها أحوال:
الحالة الأولى: الأداء, وهو أن يفعلها الإنسان في وقتها، فهو مؤد لها.
الحالة الثانية: القضاء، وذلك أن يؤديها بعد زمانها أو بعد وقتها، فيقال بقضائها, فيقضى الصوم بعد وقته، ويقضى الحج بعد انصرامه في العام الذي يليه، وكذلك أيضاً العمرة إذا أداها الإنسان وهي باطلة فيقضيها بعد ذلك، فيقضي هذه الصلاة أداء وقضاء.
الثالثة: الإعادة، كأن يعيد الإنسان الصلاة لسبب من الأسباب، يعني: قد أداها في قضاء, وقد ذكرنا الأداء والقضاء والإعادة، فالإعادة بمعنى: أن الإنسان أدى الصلاة ولكنها باطلة، بطلت فقام بإعادتها لأي موجب، وإعادتها في ذلك إما أن تكون في وقتها، وإما أن تكون في غير وقتها.
الرابعة: التكرار، يعني: أدى العبادة وهي صحيحة ثم كررها بعد ذلك، وهذا لابد فيه من دليل، فليس لأحد أن يصلي الفجر مرتين، أو أن يصلي الظهر مرتين، أو أن يصوم في العام رمضانين بزعمه ويصوم ستين، أو أن يفعل عبادة مؤقتة بوقت وزمن وصفة معينة ثم يكررها، فلابد في ذلك من دليل.
وحول ذكر المصنف رحمه الله لمسألة القضاء هنا نقول: إن هذه الصفات جميعاً لابد في كل واحدة منها من دليل، فليس للإنسان أن يقضي إلا بدليل كما أنه لا يؤدي إلا بدليل، ولا يكرر إلا بدليل، ولا يعيد إلا بدليل، ولا يقضي إلا بدليل، وهذا ما جعل بعض العلماء عليهم رحمة الله في مسائل ترك العبادة تعمداً, كالذي يتعمد ترك الفريضة وهو جالس ويرى الشمس حتى غابت ولم يصل العصر، قالوا: هذا تركها متعمداً، فهل هي أداء، أم قضاء، أم إعادة، أم تكرار؟ ما هي؟ وما حالها؟
إذا كانت في زمانها فهي أداء يريد أن يؤديها خرج زمانها، هل هي تكرار أو ليست بتكرار؟ وهل هي قضاء؟ القضاء يكون فيمن ترك هذا الشيء معذوراً، هل هو من أهل القضاء، أو من أهل الإعادة، أو من أهل التكرار, أو ليس من أهل ذلك؟
ولهذا بعض العلماء يقول بعدم وجوب أداء الصلاة أو قضائها على من تركها متعمداً، وكذلك أيضاً الصيام قالوا: لأن ذلك توقيفي، ودل الدليل على هذا, وهذه المسألة أيضاً من المسائل الخلافية, وقد شنع على ابن تيمية رحمه الله في قوله في هذه المسألة، وعدها ابن رجب رحمه الله في ذيل طبقات الحنابلة، قال: ومن غرائبه كذا.
والعجيب أن ابن رجب رحمه الله يقول بقول ابن تيمية رحمه الله وهي من المسائل -على ما تقدم- التي شنع على ابن تيمية رحمه الله في اجتهاده فيها، والاجتهاد في هذه المسألة سائغ.
وبعض العلماء يكفر الذي يقول بعدم القضاء كــعبد القاهر البغدادي في كتابه الملل, وذلك أنه يقول بأن الذي يقول بعدم قضاء صلاة الفريضة التي تترك عمداً بعد خروج وقتها قال: فهو كافر بالله سبحانه وتعالى، وهذا مجازفة منه رحمه الله.
وهنا ذكر مسألة قضاء الصوم، والأصل في القضاء أنه يكون في المعذور، قال: (ومن فاته رمضان قضى عدد أيامه لقوله تعالى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184])، وهنا في العدة ذكر الله عز وجل عدد الأيام، وبهذا يستدل بعض العلماء على عدم وجوب التتابع، قالوا: لأن الله عز وجل أوجب على الإنسان العدد قال: فَعِدَّةٌ مِنْ [البقرة:184]، يعني: بعدد ما ترك الإنسان من أيام.
وأما سنية التتابع فهي محل اتفاق عند العلماء، لماذا؟ لأن هذا مقتضى التعجيل بأداء العبادة في أول وقتها، وأداء القضاء في أول وقته يلزم منه المتابعة، فإنك إذا أديت الأول ثم قلنا باستحباب المتابعة ينبغي أن يكون الثاني يليه، والثالث يليه، بأن لا يفصل بينهما، وأما الوجوب فقال به أيضاً بعض الفقهاء من السلف، وكذلك من الخلف، وهو فيما أرى قول مرجوح، فإن التتابع في ذلك ليس بلازم.
وأما بالنسبة لمن يقول: إن القضاء يحكي الأداء، فإذا قضى ما يجب عليه مثلاً: عشراً أو عشرين، فيجب عليه أن يجعلها متتابعة كما كانت في رمضان فهي مسرودة سرداً بالثلاثين، وهذا لا يقال به؛ لأن التتابع في رمضان مقصود للشهر بتمامه لا بانتظام الأيام، وإلا لجعل هذا اليوم الأول والثاني أو الثالث أو الرابع, وإنما أراد الله عز وجل شهراً كاملاً باسمه.
ولو كان عدد الأيام بحالها واجباً بأرقامها للزم من ذلك أن الذي يفطر اليوم ثم يصوم خمسة أيام ويفطر السادس ثم يصوم الباقي ويفطر الحادي عشر يجب في حال القضاء أن يصوم يوماً ثم يفطر الخمسة ثم يصوم السادس، ثم هكذا ويفطر الباقي، لماذا؟ لأنه صامه، ويجعل بينها، وهذا لا يقال به، ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى أوجب العدد في ذلك فقال جل وعلا: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، يعني: بعدد تلك الأيام. ولا حرج على الإنسان أن يؤخر قضاءه إلى ما قبل رمضان كشهر شعبان، ويأتي الكلام عليه بإذن الله.
قال المصنف رحمه الله: [ (ويسن القضاء على الفور) لتتابع النص عليه، قال في الشرح: ولا نعلم في استحباب التتابع خلافا، وحكي وجوبه عن الشعبي و النخعي انتهى، ولا بأس أن يفرق، قاله البخاري عن ابن عباس وعن ابن عمر مرفوعاً ].
وهذا هو الأصح أن التتابع مستحب، وهو الذي عليه عامة السلف.
قال رحمه الله: [ قضاء رمضان إن شاء فرق، وإن شاء تابع، رواه الدارقطني . (إلا إذا بقي من شعبان بقدر ما عليه فيجب) التتابع لضيق الوقت؛ لقول عائشة رضي الله عنها: ( لقد كان يكون علي الصيام من رمضان فما أقضيه حتى يجيء شعبان ) ، متفق عليه، فإن أخره لغير عذر حتى أدركه رمضان آخر فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم، يروى ذلك عن ابن عباس و ابن عمر و أبي هريرة ، ولم يرو عن غيرهم خلافهم].
وهذا في مسألة القضاء نقول: اتفق العلماء عليهم رحمة الله على استحباب التعجيل، ولازم استحباب التعجيل التتابع.
وكذلك أيضاً فإن العلماء عليهم رحمة الله يختلفون في تأخير صيام رمضان قضاء إلى ما بعد رمضان التالي، وخلافهم في هذا مشهور.
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: فذهب جمهور العلماء إلى أن قضاء رمضان قبل شهر رمضان التالي واجب، ذهب إلى هذا الإمام مالك و الشافعي والإمام أحمد ، وجاء عن عبد الله بن عباس ، و عبد الله بن عمر ، و أبي هريرة عليهم رضوان الله.
ومن أخر القضاء إلى ما بعد رمضان التالي فيجب عليه مع ذلك أن يطعم عن كل يوم مسكيناً، وهذا على ما تقدم جاء عن عبد الله بن عمر ، وعن عبد الله بن عباس ، وهو قول جمهور العلماء، لكن ذهب أبو حنيفة عليه رحمة الله إلى أن الإنسان إذا أخر صيامه إلى ما بعد رمضان التالي فهو قد خالف الأولى وخالف السنة، ويجب عليه القضاء مجرداً ولا يجب عليه مع ذلك الكفارة، وهو قول عبد الله بن مسعود ، قد صح عنه أنه يجب عليه القضاء ولم يذكر في ذلك كفارة.
وهذا هو الأرجح والأصوب، وذلك أن الكفارة حكم زائد ويحتاج إلى دليل من جهة العمل والتكليف به؛ وذلك أنه أخذ للمال، فعلى سبيل المثال حين يؤخذ المال من الإنسان كفارة أو مثلاً تعزير أو غير ذلك، هذا لابد فيه من دليل، والدليل في ذلك لا وجود له القطع في الوحي لا من الكتاب ولا من السنة، وإنما هو خلاف لبعض السلف. بعض العلماء يقول: إن في هذه المسألة اتفاق الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، وهذا فيه نظر.
هنا يقول: (يروى ذلك عن ابن عباس و ابن عمر و أبي هريرة ، ولم يرو عن غيرهم خلافهم)، وهذا فيه نظر، بل ثبت عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله أنه كان يقول بالقضاء بلا كفارة، وذهب إلى قوله أبو حنيفة عليه رحمة الله.
والأصل براءة الذمة، وأما من يقول بالإلزام فله ذلك لكن الإيجاب بالكفارة قدر زائد، قد يقال بالتأثيم على قولهم ولكن الإلزام بالكفارة هو شيء يحتاج ويفتقر إلى دليل.
وأما ما جاء عن عبد الله بن عباس و ابن عمر و أبي هريرة فيخالفه في ذلك ما جاء عن عبد الله بن مسعود عليهم رضوان الله، والخلاف إذا جاء عن الصحابة وخاصة من الفقهاء والعلية فإن الأمر في ذلك على السعة.
قال المصنف رحمه الله: [ (ولا يصح ابتداء تطوع من عليه قضاء رمضان) نص عليه ].
وهنا يقول: (ولا يصح ابتداء تطوع من عليه قضاء رمضان نص عليه).
هنا مسألة تطوع من عليه قضاء رمضان وهي من المسائل المشهورة عند الفقهاء، من كان عليه قضاء من رمضان هل يصوم القضاء ابتداء أم يجوز له ويرخص أن يأتي بصيام النافلة قبل رمضان؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: ذهب جمهور العلماء إلى وجوب القضاء قبل النافلة، قالوا: إن القضاء آكد وأعظم أجراً من النافلة مهما كانت؛ لأنه يقضي ما وجب عليه من رمضان، ورمضان في صيام اليوم الواحد منه يفضل سائر أيام النوافل ولو كان يوم عرفة أو كان يوم عاشوراء أو الإثنين أو الخميس، أو غيرها من الأيام الفاضلة؛ وذلك لأنه ركن من أركان الإسلام، فيجب على الإنسان أن يبادر بذلك.
وذهب الإمام أحمد رحمه الله -وهو مروي عن سعيد بن جبير- إلى القول بجواز أن يصوم الإنسان النافلة قبل الفريضة، قالوا: وذلك لأن هذا ظاهر ما جاء عن عائشة عليها رضوان الله تعالى، فإنها كانت تؤخر قضاء رمضان إلى شعبان، وذلك لمقام النبي صلى الله عليه وسلم، ووجه ذلك قالوا: إنها تؤخر القضاء.
ومن البعيد أن عائشة لا تصوم شيئاً من النوافل طوال العام، فلا تصوم في عرفة ولا تصوم عاشوراء ولا غير ذلك من الأيام، وإنما تصوم الواجب عليها في شعبان، وإنما أخرت ما عليها من رمضان؛ لأن ما يكون عليها من رمضان ربما يكون كثيراً، وذلك كعادة بعض النساء قد تكون عادتها سبعة أيام وربما عشرة أيام، فتحتاج مثلاً القول بالتتابع بسردها، وهذا يضيق عليها ويوجد حرجاً لها ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت تؤخر قضاء رمضان إلى شعبان.
وأما بالنسبة لجمع القضاء مع صيام النافلة فهل للإنسان أن يجمع قضاء رمضان مع النافلة أم لا؟ نقول: إن هذا لا يخلو من حالين:
الحالة الأولى: النافلة المعينة، فإنه لا يجمع معها القضاء، والنافلة المعينة بيوم كعرفة وصيام يوم عاشوراء فهي معينة لا تتقدم ولا تتأخر.
وكذلك أيضاً فإنه يترتب عليها أجر معين يختلف عن الأجر الآخر، وهو أجر ما يتعلق بقضاء رمضان.
الحالة الثانية: وهي ما كان من النوافل غير معين، وذلك كالأشهر الفاضلة والأيام الفاضلة كصيام شهر الله المحرم، وصيام شعبان، وكذلك أيضاً عشر ذي الحجة، فإن هذا لا حرج على الإنسان أن يجعل القضاء فيه، وقد ثبت ذلك عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى أنه كان يؤخر قضاء رمضان إلى صيام عشر ذي الحجة، فيصوم فيها وذلك لأنها أيام معظمة فيجعل القضاء فيها، فهو قصد التعظيم لينال أداء ما عليه من القضاء من رمضان، وكذلك يجعلها في هذا الزمن الفاضل لينال هذه الأجور في هذا الزمن، وهل يدخل في هذا الأيام الفاضلة التي دل عليها الدليل ولكنها ليست بمقيدة بيوم معين، وإنما هي مشاعة وذلك كصيام وإفطار يوم، كأن يجعل الإنسان قضاؤه صيام يوم وإفطار يوم ونحو ذلك، هل هو آكد من التتابع أم لا؟ نقول: صيام يوم وإفطار يوم إنما هو لصيام النفل لا لصيام الفرض، فنقول: التتابع أفضل من صيام يوم وإفطار يوم.
وكذلك من يقول بالإثنين والخميس، كمن يجعل عليه القضاء في صيام الإثنين ثم يجعل الباقي عليه في الخميس، ثم في الإثنين الذي يليه، أيها أفضل أن يصوم السبت والأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس أم يتخير أيام الإثنين والخميس؟
نقول: التتابع في ذلك أفضل من تحري مثل هذه الأيام المتفرقة الفاضلة، وذلك أن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى كان يجعل القضاء تاماً في هذه العشر ولا يجعله مفرقاً، لهذا نقول: إن التتابع في ذلك أفضل من تنجيم القضاء، أي: أن يجعله متفرقاً.
وعلى هذا أيها أفضل للإنسان أن يصوم القضاء، أم يصوم ستة أيام من شوال، أيها يقدم؟
نقول: الأفضل أن يقدم ما عليه من القضاء، ثم بعد ذلك يصوم ستة أيام من شوال، وهذا باتفاق العلماء إن استطاع ذلك، وأما إذا أراد أن يؤخر القضاء ويعجل بصيام النافلة، وذلك مثلاً لبعض المشقة أو كون ذلك أيسر عليه كبعض النساء مثلاً تكون عدتها أربعة عشر يوماً أو نحو ذلك فيكون عليها القضاء كثيراً وتضاف أيضاً الستة، ثم يأتيها الحيض في شهر شعبان مرة أخرى بنحو الأيام التي عليها من رمضان، فإنه يشق عليها أن تجمع بين هذا وهذا. أو بعض الناس مثلاً يعتريه شيء من الصعوبة ويحتاج إلى التفريق.
نقول: لا حرج عليه أن يصوم ستة أيام من شوال ثم يجعل القضاء بعد ذلك ، هذا لا حرج فيه على الأرجح.
قال المصنف رحمه الله: [ فإن نوى صوماً واجباً أو قضاء ثم قلبه نفلاً صح كصلاة ].
ولكن بالنسبة للعكس فهذا موضع خلاف، إذا نوى الإنسان صوماً واجباً أو قضاء ثم قلبه نفلاً صح وذلك كالذي صام مثلاً: القضاء، ثم قيل له: إن اليوم يوم عاشوراء، أو إن اليوم يوم عرفة لماذا تصوم القضاء فيه؟ فأراد أن يجعله نفلاً ثم بعد ذلك يؤدي ما كان عليه، هذا مما لا حرج فيه.
وأما بالنسبة للعكس وهو أن يقلب الإنسان النفل فريضة، فإذا صام اليوم على أنه يوم الإثنين أو أي شيء من الأيام النافلة ثم تذكر أن عليه قضاء من النهار، فقال: أريد أن أؤجل النافلة التي أصومها اليوم بأن أجعلها عن القضاء الذي في ذمتي من رمضان.
نقول: هذا أيضاً من مواضع الخلاف، فمن العلماء من قال: إن النية إذا كانت واجبة من الليل فلا يصح إلا أن تكون عقداً من الليل للفرض أو النفل، وهذا قول جماهير العلماء.
ومن لم يشترط النية من الليل ابتداء اختلفوا في هذه المسألة على قولين: منهم من قال بوجوب إتمامها نفلاً؛ لأنه عقدها ابتداء ليلاً فلا ينصرف بخلاف الذي لم يعقدها ليلاً من جهة النفل فعقدها نهاراً، فهو لم يعقد من جهة الليل، قالوا: فله أن يقلبها بعد عقدها نهاراً، وهذا التفريق فيه نظر؛ وذلك أنه لو عقدها نهاراً فإنها انعقدت سواء كانت في الليل أو كانت في النهار، فالعقد في ذلك جاءه ما يطرأ عليه وينقضه من قلبها إلى فريضة.
ولهذا نقول: إن الفريضة تقلب إلى النافلة؛ لأنه قلب للأعلى إلى الأدنى، أما بالنسبة للنافلة إلى الفريضة فإنه لا يكون؛ لأنه قلب للأدنى إلى الأعلى وهو آكد وأغلظ، ويرخص في النافلة ما لا يرخص في الفريضة.
قال المصنف رحمه الله: [ (ويسن صوم التطوع وأفضله يوم ويوم) لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً )، متفق عليه ].
وهنا في قوله: (يسن صوم التطوع وأفضله يوم ويوم)، وصيام التطوع على ما تقدم أنه على نوعين: صيام معين، وصيام غير معين، والصيام المعين: هو المحدد والمقنن، وغير المعين: هو المشاع الذي يصوم فيه الإنسان ما شاء من الأيام، فأيها أفضل؟ نقول: المعين أفضل من المشاع، وهذا آكد، ولهذا الأصل في الشريعة أن ما أكده الشارع أعظم مما لم يؤكد، وعلامات التأكيد أن يغلظ في حكمه، أو يكثر في شروطه وواجباته وأركانه.
وذلك أن المعين يشترط فيه تحديد يوم بعينه، فإذا لم يصمه لا يقضيه بعد ذلك، ولهذا عرفة لا تقضى وليس للإنسان أن يقدمها ولا أن يؤخرها، وكذلك عاشوراء ليس للإنسان أن يؤخرها قبل ذلك ولا أن يجعلها بعد ذلك؛ لأنها يوم معين.
والتحديد يفيد الكلفة والمشقة، فأنت إذا أردت أن تعين شيئاً تكلف أحداً بهذا الأمر ولا تجعل له الاختيار، والنفوس تتشوف إلى الاختيار لا إلى الإلزام، فلما كانت الكلفة على مثل هذا الأمر دل على أنه أفضل عند الله سبحانه وتعالى، فما كان مؤكداً أفضل من غيره، وهذا كما أنه في الصيام كذلك في الصلاة، فالنوافل المعينة أعظم من النوافل المطلقة والسنن الراتبة أعظم من النوافل المطلقة التي يصليها الإنسان من سائر الركعات كصلاة الضحى، الضحى هي من النوافل المطلقة يصليها الإنسان ركعتين، أو يصليها أربعاً، أو يصليها ستاً، أو يصليها ثماناً، أو يصليها عشراً، وهي أيضاً من جهة وقتها موسعة.
وأما بالنسبة للسنن الرواتب للفرائض فهذه محددة بعدد ومحددة بزمن وهي آكد، وكلما زاد التحديد زاد التأكيد، ولو قل العدد فهو أعظم من غيره، ولهذا الوتر وهي ركعة واحدة لاجتماع تحديدها في زمن معين وفي وقت معين كان تأكيدها أعظم من تأكيد غيرها، وكانت أفضل من بقية أصل النوافل ولو كثرت عدداً، ولهذا أفضل النوافل صلاة الوتر ولو كانت ركعة واحدة.
كذلك في صيام النافلة المعينة من الصوم أفضل من النافلة المطلقة منه، ولهذا نقول: إنما عين بيوم أفضل مما عين بيومين، ما عين بيومين أفضل مما عين بثلاثة، وهكذا، هذا من جهة الأصل، لذا كان صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشوراء؛ لأنه يصام يوم قبله ويصام يوم بعده، ويصام هو ويصام قبله، أو يصام هو ويصام بعده، ففيه شيء من السعة بخلاف عرفة فهو يوم معين، ولهذا كان عرفة يكفر السنة الماضية والسنة الباقية بخلاف يوم عاشوراء فإنه يكفر سنة واحدة.
وهنا في قوله: (وأفضله يوم ويوم)، وهذا بالنص أن أفضل الصيام هو صيام داود وذلك لديمومته، وهل هو أفضل من سائر أنواع الصيام أم لا؟ نقول: النص في ذلك قاطع أنه أفضل من سائر أنواع الصيام، وإذا صادفه شيء من الأيام الفاضلة فهل له أن يخللها إياه؟
نقول: ليس له أن يخللها إياه إلا ما كان من الأيام الحولية، بخلاف الأيام الأسبوعية أو الشهرية، وذلك كالذي يصوم يوماً ويفطر يوماً ثم اعترضه الإثنين أو اعترضه الخميس فالسنة في ذلك أن يفطر الإثنين إن اعترضه وتخلل اليومين فإنه يفطر. وهل السنة أن يصومه إذا جاءه حتى يخرم صيام يوم وإفطار يوم؟
نقول: لا، السنة في ذلك أن يصوم يوماً ويفطر يوماً ولو كان الذي أفطره يوم الإثنين أو يوم الخميس، وإذا اعترضته كذلك الأيام البيض الثلاثة من كل شهر -على قول من يجعلها الأيام البيض- فهل له أن يجعلها متتابعة؟ نقول: السنة في ذلك أن يصوم يوماً وأن يفطر يوماً، بخلاف ما كان من أيام الحول كصيام يوم عرفة، وصيام يوم عاشوراء فإنه يخللها الصيام ويصومها عيناً، لماذا؟ لأنها عارض لا يخرم الأصل لقلته وندرته.
أما إذا قلنا بصيام الإثنين والخميس فإن هذا لا يكون صيام يوم وإفطار يوم؛ لأنه يخل بذلك النظام، وكلما تأخر الصيام وتباعد فإنه يرخص بتخلله بصيام شيء من الأيام، ويدخل في هذا الأيام الفاضلة العارضة كعشر ذي الحجة ونحوها.
قال المصنف رحمه الله: [ ويسن صوم أيام البيض وهي ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر لقول أبي هريرة رضي الله عنه: ( أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام ) ، متفق عليه، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا أبا ذر ! إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة )، حسنه الترمذي ].
وجاء في ذلك جملة من الأحاديث كحديث: ( يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة ... ) الحديث، في صيام الأيام البيض، سميت بيضاً؛ لأنها الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وكذلك أيضاً بالنسبة للأحاديث المرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الأحاديث المرفوعة جاءت متعددة، قد رواها النسائي وظاهر صنيعه الإعلال، والأحاديث الواردة مع تعددها منهم من قال بالاحتجاج بها، ومنهم من ردها، وعلى كل فصيام ثلاثة أيام من كل شهر ثابتة وهي في الصحيحين على ما ظهر، ولكن هذه الثلاثة أيام هي الأيام البيض أم لا؟
نقول: إذا جعل الصيام ثلاثة أيام من كل شهر في الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر هي أفضلها، ولو جعلها في غيرها فقد أدرك الفضل، والبخاري رحمه الله في ظاهر صنيعه يجعل حديث الأيام البيض هي ثلاثة أيام من كل شهر، فقد ترجم في كتابه الصحيح قال: باب صيام الأيام البيض، وأورد فيه حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى في صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وكأنه فسر هذه الأيام بثلاثة أيام من كل شهر.
ونقول أيضاً: إن هذا أيضاً جاء عن بعض الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، أما في المرفوع فالأحاديث في ذلك معلولة.
وسميت بيضاً لأنها مقمرة؛ وذلك أن القمر يكتمل في الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وإنما كان التشريع في صيام الثالث عشر والرابع عشر وما جعل الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر مع ما بينها من التقارب؛ لأن ذلك نوع من التعجيل، فكان الليلة المقمرة وأشدها إقماراً هي يوم الخامس عشر، واليوم الرابع عشر والسادس عشر بينها تقارب، واليوم الثالث عشر والسابع عشر بينها تقارب، وإنما ذكر الثالث عشر والرابع عشر وهي ما قبل الخامس عشر لمشروعية التعجيل في ذلك.
قال المصنف رحمه الله: [ (وصوم الخميس والإثنين) لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصومهما فسئل عن ذلك فقال: ( إن الأعمال تعرض يوم الإثنين والخميس )، رواه أبو داود ، وفي لفظ: ( وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم ) ].
وهذا الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام في مسألة فضل صيام يوم الإثنين والخميس فيه كلام، وصيام يوم الإثنين آكد من صيام يوم الخميس وهو أفضل لصحة الدليل وقوته، وهو في الصحيح من حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم الإثنين فقال: ( ذاك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه، وأنزل عليَّ القرآن فيه )، وفضله آكد من فضل يوم الخميس.
والأحاديث في يوم الخميس متعددة, جاءت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنها في المسند والسنن وغيرها، فجاء من حديث أم سلمة و حفصة ، وجاء عن أبي هريرة ، وجاء أيضاً في بعض الطرق من حديث أبي قتادة ، وجاء أيضاً في بعض المراسيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن العمل عليها مع عللها، أي العمل على أحاديث صيام يوم الخميس، لكن صيام يوم الإثنين آكد.
وأما ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في أن الأعمال ترفع إلى الله يوم الإثنين والخميس فإن ذكر الخميس فيه غير محفوظ، وقوله: ( أحب أن يعرض عملي وأنا صائم ) غير محفوظ مع ذكر يوم الخميس.
ويروى عن بعض السلف كراهة صيام يوم الخميس، لكن لا أعلم أنه صح عن أحد من الصحابة كراهة ذلك.
قال المصنف رحمه الله: [ (وستة من شوال) لحديث أبي أيوب مرفوعاً: ( من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر )، رواه مسلم ، و أبو داود ، وقال أحمد : هو من ثلاثة أوجه عن النبي صلى الله عليه وسلم ].
وذلك في حديث أبي أيوب وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وغيره في صيام ستة أيام من شوال، وستة أيام من شوال هي تالية لرمضان، وإنما سماه النبي عليه الصلاة والسلام بصيام الدهر؛ لأن الدهر في لغة العرب يستعمل لاستعمالات عدة من أشهرها: العام، فكل اثني عشر شهراً تسمى دهراً، والله عز وجل يقول في كتابه العظيم: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ [التوبة:36]، فهذه عدة الدهر.
وقد جاء عند ابن ماجه وغيره أن الحسنة بعشر أمثالها، تفسير ذلك صيام شهر رمضان الحسنة بعشر أمثالها، فهذه عشرة أشهر، وستة أيام بعشر أمثالها، فهذه ستين وهما شهران، يعني: قد أكمل الدهر، فمن صام رمضان وصام ستاً من شوال أوتي أجر صيام العام كاملاً، فضلاً من الله سبحانه وتعالى ومنة.
واختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في مشروعيته صيام ستة أيام من شوال من جهة الأصل على قولين: ذهب جمهور العلماء إلى مشروعيته، وهذا ظاهر قول الإمام الشافعي ، وكذلك الإمام أحمد ، وجاء أيضاً عن أبي حنيفة وغيرهم.
وأما ما جاء عن الإمام مالك عليه رحمة الله، فإنه كان يكره صيام يوم في ظاهر قوله، وينفي ثبوت صيام الستة أيام من شوال عن الصحابة أو كون ذلك من العمل، يقول: لم ندرك الناس ولا العلماء يصومونها، يعني: يصومون ستة من شوال.
وهنا توجيه لبعض كلام الإمام مالك رحمه الله، فالذي يظهر أن مراد الإمام مالك أن العمل الذي كان الناس يعملونه ما كانوا يتواطئون على تعمد صيام ستة أيام من شوال، وإنما كانوا يصومون في غيرها، فالحديث في ذلك ثابت، ولو كان العمل مستفيضاً في عمل الصحابة، وكذلك أيضاً التابعين كانوا يصومون ويظهر ذلك منهم ما خفي على الإمام مالك رحمه الله.
وإذاً: ما الموقف من هذا الحديث الصحيح وفي قول الإمام مالك رحمه الله، ونحن نعلم أن الحديث إذا ثبت لا حجة لقول أحد معه، ولكن نفي الإمام مالك بإدراكه الناس على مثل هذا الأمر؟
الذي يظهر والله أعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما قصد بقوله: ( من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال )، تعجيل الست وما قصد بذلك شوال بعينه، فهو قصد العدد وما قصد الشهر، وعلى هذا من صام بعد شوال ستاً من الأيام مثلاً صامها في ذي القعدة أو صامها في ذي الحجة هل أدرك الفضل أم لا؟ نعم أدرك الفضل وفاته سنة التعجيل، وسنته من جهة التعجيل هي ما ظهر من النص عن النبي عليه الصلاة والسلام بذكره شوال قال: ( وصام ستاً من شوال ) .
ولهذا نقول: إن صيام ستة أيام من شوال أفضل من صيام ستة أيام من ذي القعدة، لا في تحقق صيام الدهر ولكن في تحقق التعجيل، ومن أخر ستة أيام من شوال إلى ذي القعدة يكون كمن أخر الصلاة الفريضة عن أول وقتها إلى أوسط وقتها ونحو ذلك، والصلاة في أول الوقت أفضل.
وعلى هذا من فاته شوال لم تفته الستة، ولهذا نقول: إنما جاء في النص من جهة مقصوده ( وأتبعه ستاً من شوال )، أن النبي عليه الصلاة والسلام أراد من ذلك التعجيل، ومن قرائن هذا التعجيل أن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان شهر وهو بعشرة أشهر، وستة أيام تكون بعشرة وهي ستين يوماً وهذا يتحقق في شوال ويتحقق في غيره، وهذا أيضاً من القرائن التي يحمل فيها الخبر.
ونقول: إن نفي الإمام مالك رحمه الله أنهم ما كان يظهر منهم تعمد وقصد شوال بعينه؛ لأنهم يحملونه على معنى التعجيل فيكون الأمر في ذلك على السعة.
ويحتمل أيضاً أنهم لكثرة صيامهم وتعبدهم ما كان يظهر منهم التعبد بالستة لخفائها في باب الطاعات، كالذي يكثر من الصلاة ضحى، أو يكثر من صلاة الليل، أو يكثر من النوافل، لا يدرى ماذا يقصد من صلاة الضحى، أو ماذا يقصد من صلاة النوافل في بقية النهار أو بقية الليل لكثرة تطوعه وتعبده، فربما كانوا من أمر عبادتهم أن نوافلهم في ذلك لا يخلو منها قصد الستة بالعدد بعينها.
قال المصنف رحمه الله: [ (وسن صوم المحرم) لحديث أبي هريرة مرفوعاً: ( أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم )، رواه مسلم ].
وصيام شهر الله المحرم سنة، وهل ذلك يدخل في سائر الأشهر الحرم؟ نقول: إن الله عز وجل جعل أشهراً حرماً، وهي شهر ذي القعدة، وشهر ذي الحجة، وشهر محرم، وشهر رجب، وهذه الشهور المحرمة العمل فيها معظَّم لمقتضى التعظيم.
وأما بالنسبة للإثم فالإثم في ذلك أيضاً يعظم ويغلظ فيها، وهذا ظاهر في قول الله عز وجل: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36]، فالله سبحانه وتعالى نهى عن الظلم مع أن الظلم من جهة الأصل محرم، ولكنه لما كان مغلظاً هنا خص بالنص عليه، والله سبحانه وتعالى ما فضل صيام شهر كامل بعد رمضان إلا شهرين: شهر الله المحرم، وشهر شعبان.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم فضل صيام شهر الله المحرم كما في هذا الحديث وغيره، ففي حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى في الصحيح، وجاء أيضاً عن غيرها: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصوم شعبان ويكثر من صيامه ) ، وجاء في رواية في الصحيح: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصوم شعبان كله ) .
ولهذا نقول: لا يشرع صيام شهر كامل إلا شهر الله المحرم وشهر شعبان، وما عدا ذلك فهو سرد الصوم وهو صيام الدهر، فمن صام من الشهر يوماً وأفطر يوماً فإنه يصوم خمسة عشر يوماً غالباً، وهذا أفضل ممن يصوم الثلاثين كاملة، إلا في هذين الشهرين فصيامهما أفضل من صيام يوم وإفطار يوم، لظاهر الدليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإنما خص شهر الله المحرم بالصيام فيما يظهر من الأشهر الحرم ولم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه حث على صيام رجب أو ذي الحجة أو ذي القعدة إلا فيما جاء من التفضيل العام أو تخصيص يوم بعينه كصيام يوم عرفة، أو تفضيل عشر ذي الحجة.
الذي يظهر والله أعلم لأن رجب يسبقه شعبان، وشعبان شرع النبي عليه الصلاة والسلام صيامه تهيئة لرمضان، وأما بالنسبة لرجب فإن رجب كان يعظم عند أهل الجاهلية فربما خففت العبادة فيه، ولم يرد الدليل عن النبي عليه الصلاة والسلام بشيء من التعظيم فيه بتخصيصه بصيام حتى لا يبقى من بقايا الجاهلية شيء من الإحداث في نفوسهم، فأزيلت العبادة لمصلحة إزالة التعظيم المغلظ الموجود في نفوسهم لشهر رجب.
وكذلك لأن الإنسان ربما إذا صام في رجب، وصام في شعبان، عجز أو فتر أو ضعف عن رمضان فجعل صيام شعبان لقربه من رمضان، لأنه أظهر في التمرس والتعود على مواصلة الصيام حتى يصله برمضان.
وأما بالنسبة لذي القعدة ولذي الحجة لأنهما أشهر الحج، وفي مشروعية ذلك كلفة، فالناس تسافر لأداء النسك والحث على ذلك ربما يكلف الناس ما لا يطيقون، أو ربما تطوعوا وتنفلوا في وقت حجهم، وكذلك فإن الشارع قد جعل في أيام الحج لمن لم يجد متعة الحج أن يصوم عشرة أيام، ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، وذلك يتخلل هذه الأشهر فيكون في شهر ذي القعدة، وشهر ذي الحجة، فأراد الشارع في ذلك تخفيفاً وأن لا يكلف العباد أكثر من ذلك.
وهذه السياسة الشرعية في باب التشريع هي مقتضى إحكام الشريعة ودقتها في نظام العبادات وتقسيمها وتنويعها على قدرة الإنسان وطاقته زمناً ومكاناً.
قال المصنف رحمه الله: [ (وآكده عاشوراء وهو كفارة سنة) لحديث أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في صيام يوم عاشوراء: ( إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده )، رواه مسلم ].
يوم عاشوراء هو أفضل أيام السنة بعد عرفة، وأفضل أيام السنة من جهة الصيام عرفة، ثم يليه صيام يوم عاشوراء، وسمي يوم عاشوراء؛ لأنه العاشر من محرم، وهو اليوم الذي نجى الله سبحانه وتعالى فيه موسى وقومه من فرعون وقومه، فامتن الله سبحانه وتعالى به على موسى فصامه موسى شكراً لله سبحانه وتعالى، وصامه بعد ذلك عيسى، وصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم إظهاراً للمنة، وشكراً للمنعم سبحانه وتعالى.
والسنة في ذلك أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده مخالفة لليهود، وذلك لأن ( النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجدهم يصومون يوم عاشوراء، فسألهم النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك، فقالوا: ذاك يوم نجى الله فيه موسى، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نحن أولى بموسى منهم )؛ لأنهم يتبعون موسى عن ابتداع وتحريف، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على أثر الأنبياء في التوحيد.
وأما بالنسبة للشرائع فهو على التجديد، يعني: أن الله عز وجل أتاه بشرعة جديدة مبدأها التخفيف والتيسير على هذه الأمة، ولو كان موسى في أمة محمد صلى الله عليه وسلم لكان تابعاً لشرعته، فيسمى التاسع تاسوعا، والعاشر عاشوراء، وما قبل ذلك ثامونا وسابوعا، والسنة الواردة عن النبي عليه الصلاة والسلام صيام يوم قبله، وأما صيام يوم بعده فهذا لا يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وصيام ثلاثة أيام يوم قبله ويوم بعده هذا لا يثبت أيضاً؛ لأنه قد تفرد به محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى.
والنبي عليه الصلاة والسلام قدم المدينة وهو لم يصم فبدأ الصوم، لماذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل: إن عشت إلى قابل لأصومن التاسع، ثم قبض النبي عليه الصلاة والسلام! يعني: صام النبي عليه الصلاة والسلام سنوات عديدة وهو يعلم أن اليهود يصومون، فلماذا ما جاءت المخالفة إلا متأخرة؟
لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما أمر بمخالفة المشركين في التشريع الظاهر إلا متأخراً. وبهذا نعلم أنه إذا كان المسلمون في زمن قوة تأكد في حقهم أن يخالفوا المشركين، وإذا كانوا في زمن ضعف فإنهم حتى لا يكونوا مثلاً في حال ضرر أو نحو ذلك فلا حرج عليهم أن يشابهوهم في الظاهر ما لم يقعوا في المحرم عينه.
فإذا كان مسلم في بلد كفري وشركي مثلاً: في تجارة أو لعلاج أو لأمر عارض ونحو ذلك، لا حرج عليه أن يشاكلهم باللباس المباح، لا باللباس المحرم، كلبس الذهب أو لبس الصليب أو غير ذلك؛ لأن هذا محرم لعينه، أما اللباس فهو محرم لوصفه، وهو وصف المشاكلة في ذلك.
ولهذا جعل الله عز وجل مخالفة المشركين شرعة، ما بقي ذلك الأصل حتى تبقى للأمة الشوكة، ويستثنى من ذلك الأحوال اليسيرة كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء كـابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم في المشاكلة الظاهرة عند وجود الضرر في بلدان عند غلبة الضرر والمفسدة في بلدان الشرك.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر