الحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فتكلمنا في الدرس الماضي عن سؤال المشركين، وسؤال بعض الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهر الحرام، قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:217]، وتكلمنا عن القتال في الشهر الحرام وحكمه، وتكلمنا عن ما يتعلق بهذه المسألة من المقاصد، وسد الذرائع، وما يتعلق بالجهل وأنواعه، وتكلمنا على جملة من المسائل المتعلقة بذلك.
نتكلم في قول الله عز وجل: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219]، هذا السؤال إنما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة عليهم رضوان الله، ولا خلاف في ذلك عند المفسرين، وذلك أن الذي يسأل عن مسائل الفروع المحرمات في أمور المشروبات، وفي أمور المعاملات، إنما هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يسأل عن ذلك المشركون باعتبار أنهم في مفاصلة ومفارقة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليسوا على وفاق معه في الأصول، فكيف يسألونه عن الفروع.
وكذلك فإن الصحابة عليهم رضوان الله إنما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسئلة قليلة، وفي القرآن ذُكر أشهرها، وكما جاء عن عبد الله بن عباس فيما رواه أبو يعلى والبزار من حديث سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس أنه قال: ما رأيت خيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم سألوه ثلاث عشرة مسألة وكلها في القرآن.
وهذا السؤال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم لا يريدون من ذلك إحراج رسول الله صلى الله عليه وسلم برغبته ألا يحرج أمته، ألا ينزل تحريم لسؤال أحد من الصحابة عليهم رضوان الله، فيكونون سبباً لنزول شيء من التحريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كان هنا ذكر السؤال قبل بيان التحريم، لمقاصد جليلة القدر نذكرها بإذن الله تعالى.
فالله عز وجل إنما ذكر جملة من الأحكام ويسبقها ذكر السائل، وهذا ظاهر في قول الله عز وجل: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ [البقرة:217]، وفي قول الله جل وعلا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة:219]، وفي قول الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة:222]، وعن الكلالة وغير ذلك من آي القرآن، إنما قدم الله عز وجل سؤال الصحابة على بيان الحكم لجملة من المقاصد الشرعية، ومن أظهرها: أن المبادرة ببيان سؤال الناس عن ذلك الحكم فيه إشارة إلى أن الفطر بحاجة إلى معرفة حكم الله عز وجل وإيضاحه، فإن الإنسان إذا أراد أن يبين حكماً مبادرةً من غير سؤال أحد فقد يكون في ذلك عند السامعين نوع إثقال، بخلاف ما إذا كانت المبادرة من أحد من الناس فلا حرج على الإنسان أو يفضل أن يكون القائل أو الكاتب أن يبين أن ذلك إنما كان من سؤال الناس لحاجتهم، وأن الفطرة إنما دفعتهم للسؤال، وهو الاستعلام ودفع تلك الجهالة التي طرأت عليهم.
ولهذا ذكر الله عز وجل أن الصحابة عليهم رضوان الله سألوا عن حكم الخمر والميسر، والله عز وجل لو أراد لأجاب عن حكم الخمر والميسر من غير ذكر السؤال، لأن الخمر والميسر قد تشبعت به نفوس الناس من العرب وغيرهم، وذلك أن الناس إذا تلبسوا بشيء من الأفعال المحرمة وداروا فيها قولاً وعملاً، وأشربوا من جهة التعامل، من جهة الوقت، والمال، فإن التحريم في ذلك يكون ثقيلاً عليه، فإذا أراد الإنسان أن يأتي بجواب، فإن النفوس تتوطن إذا علم أن السائل منهم؛ إشارة إلى أن المستنكر لذلك القول إنما هو من أوسطهم، ولم يكونوا على وفاق في هذا الأمر، فجاء التحريم موافقاً لشيء من الفطرة، ولهذا نقول: إن الله عز جل إنما فطر الناس على فطرة مستقيمة: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30]، وفي قول النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ).
فإذا جاء الدليل موافقاً لفطرة الله عز وجل التي فطر الناس عليها كان أدعى إلى قبول الناس، والناس لا يسألون إلا على شيء وجدوا في أنفسهم منه حرج، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس ).
وهذه الآية توطين إلى أن الصحابة عليهم رضوان الله وجدوا في أنفسهم من الخمر والميسر ما جعلهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك الحكم.
إذاً: الله عز وجل إنما قدم السؤال بقوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة:219] إشارة إلى توطين الفطرة التي وجدت في نفوسهم، فلما كانوا يستنكرون الخمر والميسر سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكم ذلك، وأن الحكم الذي أراد الله عز وجل بيانه لم يكن موضع تسليم عند سائر الفطر، ولهذا الله جل وعلا قدم في جملة من المواضع عن الأسئلة الواردة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كل بحسبه، وأظهر الأسباب في ذلك في هذا الموضع أنه لما كان الخمر والميسر محبباً لديهم، وأشربوا من جهة التعامل في ميادينهم ودواوينهم ومجالسهم، وكذلك دخل كثيرٍ منهم إنما هو من الميسر، فأشربوا في ذلك، كما جاء عند ابن جرير الطبري وغيره من حديث علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس أنه قال: ( كان الرجل يقامر صاحبه على ماله وأهله وولده )، يعني: على المال والزوجة والولد، يقوم بالمقامرة، فإذا غلب أحد غيره سار بأهله وماله وولده، وبقوا على هذا الأمر، وهذا التعامل الذي بقوا فيه واستمروا عليه بحاجة إلى بيان حكمه، وبيان ذلك إخراجه منهم استنكاراً هذا أدعى إلى قبولهم وإنصاتهم، وأن الشريعة ما جاءت منفردة بتكليفهم، وإنما هم بادروا باستنكار ذلك.
وهذا من أساليب توطين الناس على أحكام الله عز وجل أن الناس يستنكرون هذا، وأن الفطر الصحيحة تستنكر ذلك، وهذا يظهر في جملة من السياقات التي يأتي الكلام عليها، وذلك في قول الله عز وجل: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219]، يعني: أن هذه الأمور موجودة من جهة الاستنكار لدى الناس، وأن الإقرار بوجود الميزان بالخير والشر موجود في نفوس الناس، ولهذا ذكر الله عز وجل أن الإثم في ذلك أعظم من النفع.
والقمار والخمر هي من كبائر الذنوب، فمنها ما يتعلق بالتعاملات، وهو القمار والميسر، ومنها ما يتعلق بالطعام والشراب وهو الخمر.
والخمر في لغة العرب هو ما غطى العقل وستره، يعني: حجبه عن أن ينتفع منه الإنسان، وكلما يغطى يسمى خمراً، وكذلك خمار المرأة سمي بذلك لأنه يغطيها ويسترها، وكذلك فإن تخمير الإناء يسمى تخميراً لأنه يغطى به ويستره، فلا يرى ما في جوفه.
كذلك عقل الإنسان لا يرى من تصرفه ما يدل على وجود عقله؛ لأنه تناول ذلك الشرب فأسكره، وعلى هذا نأخذ أن العلة الشرعية في تحريم الخمر هو تغطية العقل، فكلما سلب العقل فهو خمر، سواء كان مشروباً أو مطعوماً، أومستنشقاً، أو ما كان يستعمل في غير ذلك مما يستعمل عن طريق الأوردة والأبخرة وغير ذلك، فهو من جملة المحرمات؛ لأنه أدى إلى تلك العلة التي لأجلها حرم الله عز وجل ذلك المشروب وهو الخمر.
ولهذا نقول: إن كل ما يغطي العقل ويستره عن انتفاع الإنسان به فهو خمر يجري عليه في ذلك الحكم، وإنما الخلاف عند الفقهاء عليهم رحمة الله في مسألة إنزال الحدود الشرعية على كل ما غطَّى العقل وخامره، مما يغطي العقل من المخدرات وغير ذلك، فهل كل ما يتناوله الإنسان من المخدرات أو المستنشقات أو ما يستعمله الإنسان عن طريق أوردته، هل ينطبق عليه الحدود الشرعية في الخمر، فيجلد في ذلك حد الخمر؟
هذا موضع خلاف عند الفقهاء، هل يدخل في ذلك القياس أم لا يدخل؟
والعلماء إنما تباين قولهم في ذلك من الفقهاء المتأخرين وغيرهم في مسألة إقامة الحد على متناول غير المشروب من الخمر من المخدرات وغير ذلك، قالوا: لأنها تعد أشد ضرراً على الإنسان، فلا تغطي العقل ثم يزول، وإنما تغطي العقل وتبقي مفسدة في بدن الإنسان، فهي أشد من ذلك.
وعلى هذا يقال: إنه يقام الحد في ذلك كحد الخمر، ثم يزاد على ذلك عقوبة، وأقوال الفقهاء في ذلك على ثلاثة: منهم من قال: إنه يطبق عليه حد شارب الخمر ممن يتناول المخدرات.
والقول الثاني: إنه يعزر تعزيراً، ولا يلتزم بحد الخمر باعتبار أنه نوع منفصل عنه، وإن اشترك معه في بعض الوجوب.
القول الثالث: قالوا: إنه يقام عليه حد الخمر، ولكنه يزاد عليه تعزيراً، فالزيادة لا تنفك عن إقامة الحد، وإنما يؤتى بالحد ويزاد عليه، وإنما فرق بين القول الثاني وبين القول الثالث لأنه إذا قلنا: إن الحكم في ذلك تعزير أن لولي الأمر أن يسقطه إذا رأى المصلحة في ذلك، بخلاف الحدود كشرب الخمر فإنه ليس لولي الأمر أن يسقطها بأي حال من الأحوال، فإنه لا مصلحة إلا بإقامة حد الله عز وجل على العباد.
فإذا قلنا: إنه لا يجب على ولي الأمر أن يقيم حد الخمر على متناول المخدرات، وما زاد عن ذلك فإنه يكون تعزيراً، عليه نعلم أن تناول المخدرات لا يدخل في ذلك الإسقاط ولا النظر في المصلحة، وإنما يقام عليه حد الخمر، وما زاد عن ذلك يكون هو التعزير؛ لأننا إذا أدخلنا المخدرات في دائرة الإسقاط من أمور التعزيرات فهذا إشارة إلى أن الشريعة إنما أنزلت الحكم عيناً على حكمٍ معين، وأجازت إسقاطه على ما هو أشد منه، وهذا لا يدخل في أبواب إحكام الشريعة وضبطها، فإن الشريعة جاءت بالإحكام وضبط ما كان أشد أن يكون أعظم أثراً وزجراً فيمن كان هو دونه، وفيما لا يخفى أن المخدرات أشد أثراً على الإنسان من تناول الخمر.
وقول الله عز وجل: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة:219]، الميسر هو القمار، وهذا باتفاق السلف، ومنهم من يشير إلى بعض عموم وخصوص بين القمار والميسر، والأظهر والذي عليه عامة السلف أن القمار هو الميسر، وهذا جاء عن عبد الله بن عمر ، ومجاهد بن جبر و عطاء و طاوس بن كيسان و السدي و قتادة و الحسن وغيرهم من المفسرين: أن المراد بالميسر هو القمار، والقمار هو الميسر.
والمحرمات من جهة الأمور المالية على نوعين:
النوع الأول: هو الربا.
النوع الثاني: هو الغرر، ويدخل فيه الميسر والقمار.
ومنهم من يجعل الميسر والقمار هو الغرر بجميع أنواعه.
وإنما قسمنا ذلك إلى قسمين أنه الربا، ولأن الربا ليس فيه غرر، وإنما فيه أكل لأموال الناس بالباطل عن علم، وذلك أن الإنسان يأخذ العشرة ويجعلها عليه عشرين، فهو قد أخذها بعلم بمقدار معين، فمعلوم ابتداءً المال الذي يأخذه، ومعلوم من يأخذه، فقد عرفت وجوهه، وحينئذٍ حرمه الله عز وجل؛ لأن فيه هضماً لحق الفقير، وبسطاً ليد الغني وأهل المال على الضعفاء، فحرم الله عز وجل مثل هذا التعامل.
النوع الثاني: وهو ما يتعلق بمسألة الجهالة، وهو الميسر والقمار، من العلماء من قال: إن كل تعاملٍ فيه جهالة وغرر فهو ميسر وقمار، ويدخلون في ذلك ما يتعلق بأبواب المنابذة والمزابنة والملامسة، وبيع الحصاة وغير ذلك مما جاءت السنة بالنهي عنه، قالوا: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك لما يدخله من أمور الجهالة، فهي تشترك في أمر الجهالة، وحرم الله عز وجل الميسر لذات الجهالة الواقعة فيه لا لصفة معينة يتعامل بها الناس وهذا ظاهر، وقد أشار إلى هذا المعنى غير واحد من العلماء كـابن قتيبة، وله مصنف في ذلك في مسألة القمار والميسر، وإدخاله في أبواب الجهالة والغرر، وكذلك ابن القيم رحمه الله في كتابه الصواعق المرسلة، فإنه بين وقسَّم ذلك على قسمين.
ولهذا نقول: إن الله عز وجل إنما حرم الربا في مواضع، وحرم الجهالة والغرر في مواضع ومنها هذا الموضع، فحرم الله عز وجل الميسر لهذه العلة؛ لما فيه من جهالة، والميسر إنما سمي ميسراً لأنه من اليسر وهو الوجوب، يعني: أنه يجب الحق أن يعطى لصاحبه بمجرد ظهور بينة عليه، وتلك البينة إما أن يكون ذلك بالمكعبات أو بالحصى، أو ببعض الخرزات أو الجوز مما يرمي به الناس ونحو ذلك، فإنه إذا كان على صفة معينة أو على عدد معين، فإنه يجب على صاحب المال أن يدفعه له، فيسمونه ميسراً، ولهذا تسمي العرب من يتعامل بالميسر ياسر ويسر، من واجب ووجب، يعني: وجب الحق فيجب أن يعطى الإنسان، أو يعطى صاحب الحق إياه، وهذا على أنواعٍ متباينة، وتختلف صوره من زمن إلى زمن، وله أحوال تتباين، وإنما يستشكل على كثير من الناس؛ لأن الناس يبتكرون الصور.
وأركان القمار والميسر أربعة: وهي وجود المال في ذلك، والمتضارب الأول، والمتضارب الثاني، والحالة أو الصورة التي يكون عليها العمل.
والذي يوجد في كل زمن ويتحد هي ثلاثة أركان: الركن الأول والثاني وهو وجود الطرفين أو أكثر من ذلك، والأمر الثالث: وجود العوض على صورة جهالة، أما الآلة فهي تتباين، وهذا سبب إشكال عند كثير من الناس، ولهذا نقول: إن القمار والميسر إذا اجتمعت أركانه، وإن اختلفت صورة اللعب أو الآلة فيه فهو قمار وميسر، يحرم في ذلك التعامل به، سواءً كان ذلك عن طريق المسابقات الإلكترونية من الأمور المحدثة، أو كان ذلك عن طريق الاتصالات وهي من الأمور المحدثة، أو جمع أرقام وغير ذلك، أو الإتصالات على بعض القنوات الفضائية، يجمع الإنسان حصصاً ثم تكون لواحدٍ معين، أو كان ذلك عن طريق الحصى أو عن طريق بعض الألعاب التي تكون بالحصى أو بالجوز، أو عن طريق الشطرنج أو النرد، أو غير ذلك من الصور التي تكون الغلبة في ذلك مجهولة، ولهذا نقول: هذا من الميسر للجهالة فيه.
ولو علمنا مقدار المال، والفرق بينه وبين الربا: أن الربا علمنا فيه مقدار المال، وعلمنا مستحق المال، أما بالنسبة للقمار والميسر فقد عرفنا فيه مقدار المال، ولكن جهلنا مستحق المال، فوقع حينئذٍ التحريم؛ لأننا لو علمنا مستحق المال فخرج من الإنسان بطيب نفس منه؛ لكان ذلك هدية وعطية، وأصبحت تلك اللعبة ونحو ذلك إنما هي عبث في استحقاق المال؛ ولهذا نقول: إن الإنسان قد يعطي ماله غيره، فيعطيه ديناراً أو مائة دينار أو ألفاً أو غير ذلك، فحينئذٍ عرف المقدار، وعرف الذي أعطاه، المال عيناً، فهذا جائز من جملة الهدايا.
وأما إذا كان الإنسان يجهل مستحق المال، إما هو أو صاحبه، أو صاحبه، أو صاحبه الآخر، فإن ذلك جهالة في مستحق المال وقابضه حينئذٍ يحرم، لأن الجهالة مدعاة للشحناء والبغضاء، كل يتشوف إليه، بخلاف لو عرف الذي يعطى المال لم تتشوف النفوس إليه، وإنما تتشوف إليه نفس واحدة عرفت، ولهذا يجوز للإنسان أن يعطي غيره هدية ألف دينار، ولا يجوز له أن يقامر على درهم واحد، ولهذا من يعلل جواز الميسر والقمار أنه خرج بطيب نفسٍ منه أن يعطيه، نقول: دافع المغالبة والجهل في ذلك هو الذي لأجله حَّرم الله عز وجل الخمر والميسر، ولهذا جعل الله من علل تحريمه وحسمه لأمر الخمر والميسر أن الشيطان يريد أن يجعل بين المسلمين البغضاء في الخمر والميسر، وما هي البغضاء؟
هي النفوس إذا تشوفت إلى حظ، وتغالبت عليه ثم غلب واحد عليه وقع في ذلك في نفس الإنسان على من غلبه، ولهذا جازت الهدية بطيب نفسٍ ولو علت وحرمت الجهالة والغرر، ولو كان أمراً يسيراً.
وأشد أنواع الميسر هو الميسر في زماننا، وهو الميسر الذي يستعمل عن طريق الاتصالات وغير ذلك، لأن الرابح في ذلك معلوم، والخاسر في ذلك هم الكثرة، وذلك كأن تأتي شركة أو قناة فضائية أو قناة اتصالات عن طريق الجوال أو موقع من مواقع الشبكة أو غير ذلك، يقوم بتحديد أمرٍ معين في مسألة جمع المال، فيقول: إن الناس يتصلون ويأخذ من كل متصل مبلغاً معيناً، هذه المبالغ ثمة رابح مؤكد، وهو صاحب الشركة، يعطي بعض ماله لأحد أولئك.
إذاً: ثمة رابح مؤكد أخذ المال بيقين، ويصبح في ذلك ربا وميسر، أما الربوية في ذلك فهي ظاهرة؛ لأنه أخذ المال من الناس قسراً، أما بالنسبة للجهالة والغرر في ذلك فهو ما يتعلق بإعطائه واحداً على سبيل الظن لا على سبيل القطع، فنقول حينئذٍ: إنه وقع فيه صورة في الربا، ووقعت فيه صورة من الميسر، فكان أشد تحريماً وأعظم إثماً عند الله سبحانه وتعالى.
ولهذا نقول: إن الميسر لا حد له من جهة الصور، وكذلك الآلات التي يتعامل بها الناس، ولأجل ذلك حرم الله عز وجل بكلام رسوله صلى الله عليه وسلم النردشير، والنردشير إنما سميت بهذا وهي لفظة فارسية لمن أوجدها أو ابتكرها، وهو رجل من رجال فارس يسمى أردشير بن بابك وسميت على اسمه بهذا المصطلح، وبعضهم يسميها بلعب الدمينو والمكعبات، ومنهم من يطلقها على سائر الأنواع، وهي تختلف من زمن إلى زمن، ولا يرتبط بهذه الصورة بعينها، وإنما فيما عدا ذلك.
وكذلك الشطرنج وهي الأحصنة ووضعها في مكعبات ومربعات ونحو ذلك، ويجري في ذلك جملة من الارتباطات العقدية، ولهذا يقول العلماء: إن الشطرنج تجري مجرى عقيدة أهل القدر، وأن النردشير تجري مجرى الجبرية الذين يرون أن الله عز وجل يجبر العباد، إنما كانت الشطرنج؛ لأن فيها تحريك ذهن، فالإنسان يغالب صاحبه ليخرج بنتيجة، وتحريك الذهن في ذلك يجري غالباً على مجرى أهل القدر الذين ينفون قدر الله عز وجل، وأن الإنسان يخلق فعله ويبتكره وهو يوجد النتائج منفصلاً عن ربه سبحانه وتعالى، وأما بالنسبة للنردشير وهي رمي الجوز أو الألدمينو وغير ذلك التي هي مكعبات ويرميها الإنسان، فإذا خرجت على رقم معين هو ليس لديه قدرة أنه يرمي، ثم بعد ذلك تخرج على صورة معينة، وإنما هي نوع من الخرص.
إذاً: هم يرتبطون في ذلك بحظٍ قدري يلحق ذلك المال على فرد بعينه، فهم يقطعون في ذلك أن الإنسان ليس له صلة اختيار في هذا، وليس فيها تحريك عقلٍ، فربما رماها بيده أو بإصبعه أو بقدمه أو بحصاة أو بعصا أو غير ذلك، والنتيجة في ذلك موكولة إلى الحظ المجرد، وما يأتي الإنسان من نصيب وخير في الدنيا بلا فعل يساويه يسمى حظاً، وهذا معلوم وقد أقره القرآن فيما يأتي الإنسان بتسميته بأنه حظ: إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79]، يعني: ما يأتيه الله عز وجل من نصيب في دينه أو دنياه، وغلب استعمال ذلك في أمر الدنيا.
ولهذا نقول: إن العلماء إنما حرموا جملة من الأفعال؛ لأنه يغلب عليها استعمال المعاوضة، وإنما نص الفقهاء كالإمام أحمد و مالك على أن النردشير هي أعظم وأشد تحريماً من الشطرنج، لأن النردشير يستعمل فيها العوض المالي أكثر من الشطرنج، وأن الشطرنج يفعلها الناس تسلية، لأن أمدها أطول، وهي آنس بخلاف النردشير بأنه يفعلها الإنسان ويقع في ذلك خصومة، ثم يتكرر، وهي أسرع في استنزاف المال، ولهذا يكون أمرها أشد تحريماً من الشطرنج، وجمهور العلماء على تحريم النردشير، وهذا ذهب إليه جماعة من الأئمة كـمالك و أحمد وكذلك الإمام الشافعي ، وأما بالنسبة للشطرنج فثمة خلاف عند العلماء فيه، ذهب جماعة إلى الكراهة، وهو قول الإمام الشافعي رحمه الله، ومن العلماء من ذهب إلى التحريم، ومنهم من قال بجوازها، واستثنى ما يتعلق بدخول العوض فيها، قالوا: فإنها محرمة حينئذٍ، ويستثني من قال بالإباحة إذا أشغلت عن ذكر الله وعن الصلاة.
والغالب من أقوال العلماء النهي عنها لدخولها في دائرة الملهيات على أقل أحوالها، وقد جاء في ذلك النهي كما جاء في الصحيح من حديث بريدة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من لعب بالنرد فكأنما وضع يده على دم خنزير ولحمه )، وجاء أيضاً من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله )، وجاء في ذلك جملة من المنهيات عن النرد والشطرنج، جاء ذلك عن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله كما رواه ابن أبي شيبة في المصنف، قال: لئن أضع جمرة بين أصبعي خير من أن أضع بينها النرد، يعني: هي مكعبات النرد يضعها الإنسان ويرمي بها ليخرج من ذلك حظاً، والغالب في استعمال الناس لها أنهم إذا استعملوها بلا عوض تدرجت فيهم حتى يكون في ذلك على عوض.
ولهذا نختصر مسألة الميسر: أن الآلة والصورة مهما اختلفت وتباينت فلا أثر لها على القمار والميسر، سواءً كانت آلة حديثة اتصالات، أو كانت أرقام يرمي الإنسان رقماً، أو يكتب رقماً في ورقة ثم يثني تلك الورقة ثم يرميها، فإن خرجت لواحدٍ أخذ، أو غير ذلك، أو برمي الحصى، أو برفع الصوت، أو ببعض الأعمال التي يفعلها الإنسان أيهم يقوم أسرع أو يجلس أسرع، أو غير ذلك من الألعاب، الخفة التي يفعلها الناس في ذلك، فهي في ذاتها آلة أوصلت إلى أخذ مالٍ بغير صورة معلومة، وهذا يدخل في أمور الجهالة والغرر، وهذا على ما تقدم حرم الله عز وجل لأجله ما يتعلق بالمزابنة والمنابذة والملامسة وبيع الحصاة وغير ذلك، وذلك أن الإنسان يقول: إني إذا لمست هذا الشيء فهو لي بكذا، أو أرم الحصاة فما يقع عليه من الأقمشة أو السلع فهو لك بكذا، فربما أخذ الغالي بقيمة أدنى، أو أخذ الأدنى بقيمة أغلى، فكان في ذلك نسبة جهالة، والجهالة في ذلك تتباين، وإنما شدد على أمر الميسر؛ لأنه ليس له عوض، وإنما جاء النهي في مسألة الملامسة وبيع الحصاة أنه ثمة عوض وهي السلعة موجودة، ولكن تخلل نسبة من الجهالة والموافقة للأسعار في ذلك قليلة، كحال الإنسان يأخذ سلعة بأغلى منها بدينار، فأصبح ذلك الدينار ميسراً، فأصبحت البيعة كلها محرمة، فنهى الشارع عن ذلك، وإنما جاء التشديد على الميسر؛ لأنه لا عوض في ذلك.
وينبغي بيان جملة من الأحكام والعلل فيما يتعلق بهذه المسألة، ويأتي شيء منها، وكذلك ما يستثنى في مسألة السبق وغير ذلك بإذن الله عز وجل في موضع آخر.
هنا نشير إلى جملة من المسائل: منها ما يتعلل به بعض الناس من مسألة خروج المال بطيب نفس منه، من الناس من يقول: إن هذا المال بطيب نفس مني خرج ونحو ذلك، نقول: إنك ومالك ملك لله عز وجل، فليس للإنسان أن يتصرف في ذاته بغير ما أمر الله عز وجل به، فإذا كان كذلك فليس له أن يتصرف بأمر منفك عنه أعطاه الله عز وجل إياه، والله عز وجل يحرم على عبده من الأفعال الذاتية أولى من أن يحرم عليه الأفعال الخارجة عنه، فلهذا نقول: إن الله عز وجل يحرم على عبده ما شاء، وماله الذي أعطاه الله عز وجل إياه ليس حقاً للإنسان أن يفعل فيه ما شاء، ولهذا بعض الناس إذا أراد أن يتلف ماله أو يرميه أو يحرقه آثم في ذلك، وإن قال: بطيب نفسٍ مني، فهو آثم في ذلك ومأزور لا مأجور، ولهذا نقول: إن الله عز وجل إنما نهى الإنسان حتى على الإنفاق والاستمتاع بنفسه إذا كان ذلك عن طريق سرف ومخيلة، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل واشرب والبس وتصدق من غير سرف ولا مخيلة )، فنهى الله عز وجل عن السرف حتى في أمر الصدقة، ومعناه: أن الإنسان ينفق إنفاقاً بما يضر بنفسه وذريته، فجعله الله عز وجل سرفاً؛ لأنه اختل ميزان المال، فالله عز وجل أعطاك المال وخلقك وخلق العقل وأمر الإنسان أن يزن المال أخذاً وعطاءً على وفق مراد الله جل وعلا، وجعل له دائرة المباح في ذلك عظيمة، ولهذا نخرج ما يتعلق من مسألة بطيب نفسٍ منه ونحو ذلك.
ثم أيضاً أن الشريعة إنما تحرم كثيراً من الأحكام الشرعية فيما يتعلق ببعض المحرمات كالربا وغير ذلك، قطعاً لما يرد من شر يقيني، ولو لم يرد في كل صورة فإنه يرد في غيرها من الصور، فيقطع الشارع دابر الشر في ذلك، فمن الناس من يقول: أنا أتعامل بالربا بطيب نفس مني، فعلى هذا يجوز الربا أن يأخذ الإنسان قرضاً بمائة، ويريد من ذلك أن يدفعه بمائة وعشرين، هل له إذا رضي في ذلك أن يحلل ما حرم الله؟
نقول: رضا النفس لا علاقة لها في إحلال ما حرم الله عز وجل.
كذلك ما يتعلق بالزنا أن يزني الإنسان بامرأة برضا الطرفين، هذا لا اعتبار له في حكم الله عز وجل، فالله عز وجل جعل الأحكام وأوجب على الإنسان أن يمتثل أمره سبحانه وتعالى.
المسألة الثانية: أن الصحابة عليهم رضوان الله حينما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر والميسر، سألوه عن هذين الأمرين، قد يكون السؤال في سياق واحد، أو في سياق منفصل، فجاء الجواب مجتمعاً، لبعض العلل ومن ذلك والله أعلم: أن التحريم إذا جاء مرة واحدة فهو أقرب إلى التيسير مما إذا جاء مفرقاً، فإنه أيسر على النفس إذا بينت الأحكام مرة واحدة من جهة وقعها على النفس خاصة فيما يتشرب على الإنسان، فالإنسان إذا حرم عليه شيء اليوم ثم حرم عليه بعد ذلك، ثم حرم عليه بعد ذلك، ثم حرم عليه بعد ذلك محرم، فإن هذا أشد على نفسه مما لو حرم عليه مرة واحدة، واجتمع ذلك في أمر واحد، فإن ذلك يزول، وهذا ليس على اطراده، وإنما يأتي في بعض الصور من جهة الأفعال، ويختلف عنه في بعض الصور، ولهذا جاءت الشريعة بالتدرج في كثير من الأحيان، وجاءت في الإجمال في بعض الأحيان.
ومن وجوه الاقتران هنا: أن الشارع إنما أراد أن يبين وجود الشر في هذين لا إقرار التحريم، حتى تنفر النفوس منهما على السواء، وهي النفوس الورعة قوية الإيمان، والناس في ذلك يتباينون، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ذلك جاءه الجواب من ربه، وفي هذا إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو مبلغ عن الله، ولو كان لديه جواب قبل إتيان هذه الآية لأتى به الرسول صلى الله عليه وسلم مستقلاً ونهاهم عن ذلك، وإنما انتظر أن يأتي في ذلك أمر الله جل وعلا.
ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: قُلْ فِيهِمَا [البقرة:219]، يعني: قل يا محمد! فيهما إثم كبير، ومنافع للناس، هذا فيه إشارة إلى مسألة التدرج في بيان الأحكام، وكذلك تطبيقها على المجتمعات البعيدة عن الحق، النفوس إذا تشربت الباطل بجميع أنواعه ينبغي أن توطن على بيان التحريم، وهي في ذلك متباينة، منها ما هي في ظلمات الشرك والجهالة، وموغلة في الشر، ينبغي أن يبين التحريم عليها بالأعلى من جهة تطبيقه.
أما من جهة إقرار الشريعة للناس فإنها تقر كاملة، لا يقال: هذا الأمر مباح، أو مأذون به، وإنما يبلغ ما هو أولى من ذلك من جهة المحرمات، فيوطن الناس على النهي عن الشرك، وتزال معالمه، وكذلك يدعى إلى التوحيد ثم أركان الإسلام، ويسكت عن ما زاد عن ذلك، والسكوت عن ذلك لا يعني: طمساً للإسلام وإنما تدرجاً، وإذا سأل من سأل عن شيء من أحكام الإسلام ولو دقت فإنه يجاب عن ذلك الحكم، والحكمة في أن الله عز وجل ما حرم الخمر والميسر ابتداءً ذلك لجملة من العلل، منها ما تقدم الإشارة إليه، والعلة الأولى: أن الخمر والميسر تشربت فيه نفوس الناس، فأصبح في ميادينهم، ويتناولون ويتداعون إلى الخمر كما يتداعى الناس إلى شرب العصير في أزمنتنا، ومثل ذلك تحريمه ثقيل عليهم، فهو بحاجة إلى بيان نفرة النفوس الطيبة منه وعدم إثم غيرهم، وهذا ظهر في أن السؤال إنما جاء منكم؛ لأن الفطرة موجودة ومستقرة بوجود الضرر في ذلك، ولهذا قال الله عز وجل: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ [البقرة:219]، وكأنه جاء عن جواب، ولم يأت على سبيل الاستقلال، يعني: أنكم احتجتم إلى هذا الجواب، وهذا من الحكمة والسياسة الشرعية في إجابة بعض السائلين، وهذا ظهر في كثير من الأجوبة الربانية لأهل الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كان معه من أمته.
من هذه المصالح في عدم تحريم الخمر والميسر على سبيل القطع وإنما جاء ذلك على سبيل التدرج: هو تكثير سواد أهل الحق وتقليل سواد أهل الباطل، الناس في الإيمان يتباينون، كما أن الصحابة عليهم رضوان الله يتباينون من جهة الصحبة، منهم الكمل، ومنهم دون ذلك، وإن اشتركوا في دائرة الفضل، ولهذا نقول: إنهم ليسوا في مرتبة واحدة، وإن كنا نقر بفضلهم على من جاء بعدهم، فهم بالمنزلة والمرتبة العلية، وفيهم من كان من المنافقين ممن دخل في صفهم وهم قلة، وفيهم من الأعراب الذين هم على بعدٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى قلة بمخالطة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونالهم شيء من ذلك العمل، وهذه الآية ترفع قوي الإيمان منهم عن الإقلاع، وذلك تكثيراً لسواد أهل الحق، فيقلعون ويبقى قلة، حتى إذا جاء التحريم لم يجد من كان ضعيفاً في ذلك من يؤازره ممن هو أقوى منه فيعتضد به، وهذا فيه من السياسة الشرعية أنه ينبغي للإنسان في حال التشريع والتعامل مع الناس أن يحرص على جلب العلية وأهل الإيمان إليه ليؤازروه عند الأمر الشديد، ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيّن لهم أمر الله عز وجل ابتداءً بأن الخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وأن هذه المنافع تتباين من جهة مقدارها مع تلك المفاسد والآثام التي جعلها الله عز وجل في هذين الأمرين.
كذلك من المسائل المهمة في هذا: أنه ينبغي في حال إنكار المنكر الذي يستوطن عليه الناس ويتشربوه ألا ينفي الإنسان المصالح أو المنافع فيه جملة، قد يقول قائل: في بعض الدول الربا ينتشر، وتوطن الناس عليه من جهة التعامل، أو غيب عنهم ذلك أو نحو ذلك، ويقولون: إن المعاملات الاقتصادية والدولية لا تكون ولا تستقر إلا على التعامل بالربا ولو بشيء يسير.
ونفي ذلك كله يعني: أن من يقابل ذلك الدليل يجب أن يغيب عن تلك المنفعة التي يراها بعينه، وهذا يدفعه إلى تسفيه الحجة التي تأتي بها؛ لأنك تغلق شيئاً يراه، بيّن له أن ما تراه صحيحاً، ولكن ما خفي عليك أعظم، وهو تحريم الله عز وجل لذلك، وهذا يظهر كثيراً فيما يتعلق بتعاملات الناس في الأمور المحرمة، ولهذا مع كون الخمر هي أم الخبائث إلا أن الله سبحانه وتعالى قال فيها: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219]، يعني: أن المنافع موجودة في أسواقكم، موجودة في أموالكم من جهة المضاربة، فإنهم يضاربون في ذلك، فيستعملون التمر ويخمرونه، وكذلك العنب ويخمرونه، والدباء وغير ذلك من الأطعمة، ويتاجرون في ذلك، فهذا فيه شيء من المنافع، أقر بوجودها الشارع، ولهذا نجد أنه بعد توطين الشريعة وظهور الأدلة لا وجود لذكر هذه المنافع على الإطلاق؛ لأنه يجب أن تلغى، ولهذا ينبغي لنا أن نفرق بين المجتمعات، والمجتمعات على نوعين: مجتمعات توطنت وتشربت شراً من الشرور حتى أشربت في قلوبها من جهة العمل والتعلم، فهذه تختلف عن غيرها، هذه تؤتى من جهة الخطاب على سبيل التوطين، ويبين أن ما يقرون به من مصالح صحيح، ولكن من المفاسد ما خفي عليكم ينبغي أن تعلموه فتبين تلك المفاسد، ومجتمعات إسلامية ظهر فيها حكم الله عز وجل، ووجد من ينازع في أمر الشر وهم قلة، وهؤلاء لا يبين معهم منافع الخمر ولا منافع الربا ولا منافع الميسر وغير ذلك، ولهذا نجد أن النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إنزال هذه الآية ما جاءت في ذلك إلا ببيان حرمة الخمر قطعاً والتشديد في ذلك، وجعلها من الموبقات كما جاء في حديث أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اجتنبوا السبع الموبقات )، يعني: المهلكات، فيه خطاب وتشديد، وهذا يختلف من حال إلى حال، ولهذا نقول: إنه ينبغي للداعي إلى الله، وينبغي للمعلم أن يفرق بين مواضع المتلقين بحسب حالهم، ويوجه إليهم الخطاب بما لا يعطل حكم الله سبحانه وتعالى.
مسألة إنزال الخطاب في ذلك إذا كان لا يعطل حكم الله عز وجل من جهة ظهور التحريم، الإنسان في مجتمع من المجتمعات إذا كان يخاطب قوماً قد دلس عليهم وغيب عليهم حكم الله سبحانه وتعالى، ليس لهم أن يقول: إن فيهما إثم كبير ومنافع للناس، إشارة إلى الترخيص، بل ينبغي له أن يبين أن الله سبحانه وتعالى حرم ذلك، يوجد منافع ومفاسد في ذلك، لكن المفاسد في ذلك أعظم، ولأجلها حرم حينئذٍ يأتي بما سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه أولاً، ثم بعد ذلك التحريم على سبيل القطع، فلا يغير حكم الله عز وجل بعد استقراره، فالله سبحانه وتعالى قد جعل الدين كاملاً، وهذا يظهر في قول الله عز وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3]، فلهذا جاء البلاغ في زمن الخلفاء الراشدين كـأبي بكر و عمر و عثمان و علي بن أبي طالب ، ومن جاء بعدهم من أمة الإسلام، لم يفتحوا بلداً من البلدان، ثم يخبروا من دخل في الإسلام أن الأمر في ذلك على التخيير، فما تدرجوا معهم كما تدرج ابتداءً؛ لأن الشريعة كملت، وإنما من جهة الخطاب، يكون فيه لين وشدة، وأما المؤدى من جهة التحريم في ذلك فهو واحد.
وكذلك من المسائل في هذا: مسألة الموازنة، وهذا ظاهر في قول الله جل وعلا: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا [البقرة:219]، يعني: أن الإثم في هذين الأمرين، وهما الخمر والميسر أكبر من نفعهما، يعني: أن النفع موجود، ولكن الضرر في ذلك والإثم الذي يلحق الإنسان في ذلك عظيم، وهنا استعمل في مسألة النفع لفظ: (النفع)، وأما بجهة الضر ما أتى بالضر في ذلك، وإنما جاء بالتأثيم؛ إشارة إلى معنى أن النفع في ذلك إنما هو نفع مادي محض، وأما ما حرم لأجله فعلل غيبية ربما لا يدرك كثيراً منها الناس، ولهذا الله عز وجل إنما نهى عن الخمر والميسر، فأقر بوجود النفع الدنيوي، وبيّن أن ثمة حكماً شرعياً حرمه الله عز وجل، منه ما يغيب عن الإنسان وهو الأغلب، ومنه ما يظهر للناس، ولهذا استعمل ما كان من مقاصد التحريم الإثم في ذلك: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219]، والمنافع المقصود بذلك هي الدنيوية، ولهذا نقول: إن العلل التي تحل لها أحكام الشريعة القطعية الثابتة في التحريم إنما هي علل قاصرة ينبغي للإنسان أن يكل الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، وهو ما يتعلق بجانب التأثيم، كذلك فيه إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان عند بيان أحكام الله عز وجل أن يظهر جانب الترهيب والوعظ والتخويف من عقاب الله سبحانه وتعالى، وألا يغلب على الإنسان الأسلوب المادي المصلحي النفعي الدنيوي، مما يتعلق بتحريم الربا، ثم يتسلسل في مضار الناس في الاقتصاد، ومضار الناس في هضم المال، ثم يغيب جانب عقوبة الله سبحانه وتعالى في ذلك، ولهذا الله سبحانه وتعالى حينما حرم الخمر ذكر الإثم المتعلق به سبحانه وتعالى في مؤاخذته لعباده، وأما المنافع فهي معجلة في أمر الدنيا، وهذا هو الأسلوب الشرعي في ذلك بخلاف ما يجري عليه بعض الدعاة والمثقفين والكتاب والمفكرين الذين يسلكون الأسلوب النظري المجرد النفعي، الجمع بين النفع والضر والأسلوب المادي النسبي المئوي ونحو ذلك، يأتون بنسب المتضررين وغير ذلك، ويجردونها من الأدلة كنوع من الإقناع، هذا من الأساليب الخاطئة التي تحاول أن تجعل العقل حكماً مجرداً على نصوص الشريعة، وهذا من الخطأ.
الشريعة ما عطلت العقل ولكن جعلت له نظراً، وهذا النظر قد يقصر عن فهم مراد الله سبحانه وتعالى، ولهذا نقول: إن الله جل وعلا قد جعل علم الإنسان وإدراكه قريباً من جهة حجمه من جهة الكون، فلا يستطيع الإنسان أن يبسط يده على الكون، كذلك لا يستطيع أن يبسط عقله على الكون، فربما غاب عنه كثير من أحكام الله سبحانه وتعالى، فيجب عليه أن يسلم، ولهذا ينبغي في حال الخطاب في بيان أحكام الله عز وجل أن تورد الأدلة ويورد حكم الله سبحانه وتعالى، والتحذير من مخالفته باعتباره رباً خالقاً يقدر الأحكام ويقضي بها كما أراد، ويجب على العباد ببيان قيمتهم أنهم مخلوقون لله أن يمتثلوا أمر الله عز وجل، ثم يشار إلى شيء من المقادير أو العلل أو النسب أو الأمور المادية أو غير ذلك، فهذا من الأمور التي جعل الله عز وجل أمرها إلى السعة، والأمر في ذلك حده غير منضبط، وأمره إلى الإنسان من جهة إدراكه وسعة علمه، وهذا تختلف فيه أحوال الناس بحسب البلدان، وبحسب أنواع المخاطبين، وللأسف الشديد اضطرب فيه كثير من الناس، والخطاب المادي وتطويع الماديات في الشريعة، الخطاب المادي ليتوافق مع الشريعة والمبالغة في ذلك، وهذا يعطي إيحاء للعقول أنكم لا تؤمنوا إلا بما وجدت فيه العلة، العقول تقيس، فإذا جاء حكم وأشبع أن الشريعة لا تحرم شيئاً إلا ما اقتنعت به تاماً، فهذا يجعلك تتسلسل أن كل ما لا تقتنع به عليك أن تتراجع عنه، قد يعجز الإنسان عن إثبات علة، لقصور عمر الإنسان عن سبر أحوال الكون وأضرارها وغير ذلك، ولهذا تجد الأطباء وأهل الماديات يسبرون لسنوات حتى يخرجوا ضرر نبتة واحدة أنها ضارة، وضعوا تجارب على الفئران وعلى البشر وعشرين ومائة من الناس ونحو ذلك، ثم خرجوا بأن هذا المشروب يضر الإنسان، فمثل هذه الأمور تحتاج إلى سبر قبل أن تصل إلى النتيجة الذين ماتوا قبل وصولك إلى هذه النتيجة في عدم إدراك الضرر من ذلك ما حكمهم؟
هل الإنسان لديه قدرة أن يسبر كل ما في الكون إلى قيام الساعة من تسلسل الأضرار، وتركيب بعضها على بعض حتى يؤمن بالنتيجة؟ ثم إذا أدرك قبل ذلك بعد عشر سنوات وعشرين سنة ما حكم عمله قبل ذلك، هل يدخل في دائرة التأثيم أو لا يدخل؟ والضر الذي لحق الناس بذلك؟
ولهذا قضى الله عز وجل على الناس أن يؤمنوا بما أحل الله وما حرم الله، ما أحله أنه لا يكون إلا خيراً، وما حرمه لا يكون إلا شراً، ولكن الإنسان عاجز عن سبر أحواله وقرائنه أن يخرج بنتيجة تؤدي إليه إلى ما أمر الله سبحانه وتعالى، ولهذا القصور إنما هو في عقل الإنسان.
وهذا ظاهر ما ينبغي للإنسان بمعرفة ميزان عقله وإدراكه وما جعله الله عز وجل له، الله عز وجل لم يعطل العقل بالكلية، ولكن جعل له حداً، للإنسان بصر، ولهذا البصر حد ليس له أن ينفي ما كان خارجاً عنه، وله سمع ليس له أن ينفي الأصوات التي لا تصل إليه، كذلك من جهة حسه وعقله ليس له ألا يؤمن بما لا يستوعبه عقله، وإذا نفى جدوى ونفع وضر ما لا يؤمن به العقل ولو أمر الله عز وجل به فهذا يناقض الفطرة البشرية، فإن الناس يسمعون شيئاً لا تسمعه، ويرون شيئاً لا تراه، فعلى هذا يكون الحقيقة تتجزأ، تنتفي في موضع وتوجد في موضع آخر، وهذا لا يجري لا على المنطق ولا على العقل.
ولهذا نقول: إن الإنسان إذا أذعن بعلم غيره، إذا أخبره بما لا يدركه من مسموع أو مبصر أو محسوس أو مدركٍ بالعقل، فعليه أن يؤمن أن الله عز وجل إذا أخبره بأمر فهو على علمٍ تام كامل لا يخالجه في ذلك نقص أو قصور، فيجب عليه أن يذعن وأن يسلم لأمر الله سبحانه وتعالى.
والله جل وعلا في قوله: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219]، أراد الله سبحانه وتعالى أن يبين علمه جل وعلا أن هذه المنافع هي موجودة للناس، وأنها ليست لفرد بعينه، ولكنها للناس كافة، ولكن الله عز وجل إنما نقض ذلك؛ لأن الإثم في ذلك أكبر من نفعهما.
وهذا فيه مسألة تقدم الإشارة إليها على سبيل الاقتضاب، وهي مسألة التدرج في مسألة البلاغ، جاء عن عمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله أنه قال: إنك لا تبلغ الناس الإسلام جملة إلا وتركوه جملة، وهذا في مسألة البلاغ لا في مسألة التبديل، ليس لك أن تجزأ الشريعة فتأتي بصلاة أو صلاتين أو ثلاث من جهة تعليم الناس، هذا من جهة التعليم ينبغي للإنسان أن يعلم، ولكن من جهة العمل والتطبيق فإنه يتباين الأمر في ذلك، وهذا ما ينبغي للناس أن يفرقوا بينه.
في مسألة التشريع ليس للإنسان أن يبدل في شريعة الله، في مسألة عمل الناس له أن يرفع وأن يخفف عن أقوام حدثاء عهد، وهذا يتباين فيه الناس كحال الإنسان إذا وجد بلداً من البلدان قد أكثروا من الخمر فإنه يحرم عليهم الخمر، وييسر لهم في مسألة النبيذ إذا كان يرى شدة كراهيتها ونحو ذلك، ييسر لهم في ذلك، ثم بعد ذلك يحرم عليهم ذلك الأمر، وهذا ظاهر في هذا.
وأما مسألة تحريم الخمر والميسر والعلة في ذلك، ومسألة أنواع المنافع وتحريم الله عز وجل بعد ذلك، فهذا يأتي في غير هذا الموضع بإذن الله تعالى، كذلك نشير إلى شيء من معاني السبق الذي تكلم عليه العلماء والترخيص في ذلك، ونتكلم على ما تكلم عليه الفقهاء في مسألة التعامل بالرهان وكذلك بالربا مع الكافر هل يجوز أو لا يجوز؟ وكلام الفقهاء في هذه المسألة، وإجماعهم على مسألة أهل الإسلام وحرمة ذلك فيما بينهم، وأما ما عدا ذلك في مسألة الربا هل يجوز أن يتعامل به المسلم فيما هو منفعته له إذا كان ذلك من كافر أم لا؟ وخلاف العلماء في ذلك، كذلك الرهان بأنواعه فيما يتعلق بالرهان في مسائل العلم، وكذلك الرهان في المسابقة وكذلك الخف، وكذلك في الرمي، وغير ذلك مما تكلم عليه العلماء، وما يدخل في دائرة هذا الجواز وصوره، هذا يأتي معنا في قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90]، نتكلم في ذلك على التفصيل بحوله وقوته.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر