الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ففي هذا المجلس في الثالث عشر من جمادى الآخرة من عام (1435هـ) نكمل ما يتعلق بالأحاديث المعلة في أبواب الجنائز من كتاب الصلاة.
وتقدم معنا في المجالس السابقة شيء منها، وتكلمنا في الدروس القريبة على رش القبر بالماء، ووضع الحصباء عليه، والأدلة الواردة في ذلك وكلام العلماء عليهم رحمة الله تعالى في هذا.
وفي هذا المجلس نتكلم على مسألة مهمة من مسائل الجنائز، وهي ما يتعلق بتلقين الميت بعد موته، وبعد دفنه وقراءة القرآن على قبره، والأدلة الواردة في ذلك، وما مستند من يقول بسنية ذلك وهل المستند في هذا صحيح أو ضعيف؟
نتكلم على شيء من الأحاديث أو الأصول الواردة في هذا الباب:
أولها: هو حديث سعيد بن عبد الله الأودي قال: ( شهدت أبا أمامة وهو في النزع فقال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفنا أخاً لنا وسوينا قبره أن نناديه ونقول: يا فلان بن فلانة، قال: فيسمع إلا أنه لا يجيب، ثم ينادى مرة أخرى: يا فلان بن فلانة! قال: فيقعد ثم يقال: يا فلان بن فلانة، قال: فيسمع، ويقول: أرشدني رحمك الله إلا أنكم لا تسمعون، فيقال له: يا فلان، اذكر ما خرجت عليه من الدنيا أنك تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ورضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ).
هذا الحديث أخرجه الطبراني في كتابه المعجم من حديث أبي عقيل أنس بن سلم الخولاني عن محمد بن إبراهيم بن العلاء الحمصي عن إسماعيل بن عياش عن عبد الله القرشي عن يحيى بن أبي كثير ، و يحيى بن أبي كثير يرويه عن سعيد بن عبد الله الأودي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هذا الحديث حديثٌ منكر، وهو العمدة عند من يقول بتلقين الميت بعد موته، وهو معلول بعلل متعددة:
أول هذه العلل: أن هذا الحديث تفرد به شيخ الطبراني أبو عقيل أنس بن سلم الخولاني ولا تعرف حاله، وإن كان شيوخ الطبراني يحملون على العدالة والثقة من جهة الإجمال، إلا المتن الذي يتفردون به من المعاني الثقيلة التي تحتاج إلى أسانيد عالية، وكذلك إلى ثقات من الرواة الكبار المعروفين بالرواية والحفظ من أهل البلدان.
العلة الثانية في هذا: أنه يرويه عن محمد بن إبراهيم بن العلاء ومحمد بن إبراهيم بن العلاء متهم بالكذب اتهمه بالكذب، الدارقطني رحمه الله، وابن حبان ، والحاكم رحمه الله، فإنه قال: روى أحاديث موضوعة.
تفرد بهذا الحديث عن إسماعيل بن عياش، إسماعيل بن عياش وهذه العلة الثالثة روايته على نوعين:
رواية عن غير الشاميين، ورواية عن الشاميين.
فروايته عن غير الشاميين مضطربة، وتقع فيها النكارة، والنكارة في هذا ظاهرة، فإن إسماعيل بن عياش يروي هذا الحديث عن عبد الله القرشي ، وعبد الله القرشي ليس من أهل الشام، و إسماعيل بن عياش يعرف أحاديث أهل بلده، وإذا روى عن غيرهم وقع في ذلك الخلط والاضطراب.
العلة الأخرى في هذا: أن هذا الحديث يرويه عن أبي أمامة سعيد بن عبد الله الأودي ، و سعيد بن عبد الله الأودي لا تعرف حاله، فتارة يقال: سعيد بن عبد الله الأودي ، وتارة يقال: جابر الأودي ، جاء عند القاضي الخلعي في فوائده قال: جابر الأودي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه العلل الواحدة منها كافية في رد الحديث ، وأغرب بعض الأئمة بتصحيح هذا الخبر، وممن أغرب في هذا ابن الملقن رحمه الله، وكذلك ابن حجر العسقلاني ، والضياء المقدسي صاحب المختارة، فإنهم قووا هذا الحديث وما هو بقوي، فعلة واحدة من هذه العلل كافية في رد هذا الحديث.
وربما بعضهم يقوي هذا الحديث بالشاهد الذي رواه الخلعي في الفوائد، فإنه يروي هذا الحديث من حديث عتبة بن السكن و عتبة بن السكن متهم بالوضع، والحديث إذا كان فيه وضاع -يعني: يكذب- فلا يعتد به، ووجوده كعدمه ولو تعددت الطرق وكان ثمة عشر طرق لحديثٍ واحد فلا تغني شيئاً عن بعضها إذا كان في كل إسناد وضاع، أو في كل إسناد ضعيف الحديث جداً، فإنه يقال: بعدم الاعتداد به.
وهنا المسألة التي تتضمن هذا الحديث: يروى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( ينادى صاحب القبر فيقال: يا فلان بن فلان )، يعني: أنه يسمع.
مسألة سماع الميت في القبر شيء، وهذه قد ثبت فيها الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن الكلام هنا على مسألة التلقين: أن يلقنك حجة تسمعها، ثم تأخذها وتقولها لغيرك من الملكين والفتان، فهل هذا ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام؟
أما سماع أهل القبور فثابت، والأحاديث في هذا كثيرة عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وأما التلقين والتحدث إلى الميت فلا يثبت في ذلك خبرٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الميت يخاطب، ثم يأخذ ذلك الخطاب وينتفع منه، أما سماعه لكلامك فإن هذا قد دل عليه الدليل، والأدلة في هذا ربما تأتي الإشارة إلى شيء منها، فتلقين الميت بعد موته لا دليل عليه، وهذا من مفاريد أهل الشام، فإنهم تفردوا بهذا عن النبي عليه الصلاة والسلام، وننظر في هذا الإسناد، فإن هذا الإسناد يرويه محمد بن إبراهيم بن العلاء، و محمد بن إبراهيم بن العلاء هو من أهل الشام يروي هذا الحديث عن إسماعيل بن عياش وهو كذلك شامي، والإمام أحمد رحمه الله ينكر ذلك يعني تلقين الميت ومناداته: يا فلان بن فلانة، فإن الإمام أحمد رحمه الله سئل عن تلقين الميت فقال: لا أعلم أحداً فعله إلا أهل الشام، فأهل الشام يفعلونه ولما مات أبو المغيرة قام على قبره رجلٌ ففعل ذلك، يعني: فقام بتلقينه، ثم أصبح مشتهراً.
أما عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يثبت في ذلك شيء، وإنما جاء ذلك عن بعض التابعين، وأصح شيء جاء في تلقين الميت هو بعد زمن الصحابة.
فقد أخرج سعيد بن منصور في كتابه السنن من حديث راشد بن سعد عن ضمرة بن حبيب أنه قال: كانوا يستحبون إذا سوي على الميت قبره أن ينادى، ويقال: قل: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله وعليه وسلم نبياً.
وهذا إسناده معضل، وذلك أنه يروي عن تابعي، وهؤلاء يروون عن الصحابة لو كان مسنداً، وربما يكون من قبيل الاحتجاج بالقياس، أو تأليف بعض المسائل والحديث، وذلك أن بعض الفقهاء يقول: إذا كان الميت يسمع في قبره، وأمرنا الشارع بالدعاء له، وربما تألف عند بعض الفقهاء مشروعية تلقين الميت فحملوا بعض المسائل المنفكة فجعلوها مسألة واحدة فقالوا بالتلقين.
ونقول بعدم مشروعية التلقين، لأنه لا دليل في ذلك، ولو ثبت الدليل في هذا لنقل، ثم إن الوفيات في زمن النبي عليه الصلاة والسلام كثيرة، وذلك لكثرة الغزوات والقتل، وقد شهد النبي عليه الصلاة والسلام جنائز كثيرة، وما ذكر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه وقف على قبر أحدٍ ولقنه، أو أمر أحداً من أصحابه أن يلقن الميت، وقد مات من أزواج النبي عليه الصلاة والسلام قبله، ومات جملة من أصحابه فالنبي عليه الصلاة والسلام صلى عليهم، وشهد جنائزهم وغير ذلك من القرائن التي تدل على عدم مشروعية ذلك.
وأما الدعاء لصاحب القبر بعد دفنه فالأدلة على هذا كثيرة: منها ما جاء في حديث عائشة عليها رضوان الله في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أتاني جبريل فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم ).
وهذا من النبي عليه الصلاة والسلام استغفار للميت عند القبر.
وكذلك ما جاء في مسند الإمام أحمد وأبي داود وغيرهم من حديث هانئ مولى عثمان بن عفان أن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دفن ميتٌ: ( استغفروا لأخيكم فإنه الآن يسأل ).
وهذا الاستغفار ليس خطاباً موجهاً إلى صاحب القبر، وإنما هو دعاءٌ لله، فيسأل الله عز وجل الغفران له.
وأما يقظة الميت وسماعه لمن كان حوله، فقد وردت في ذلك أدلة كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
منها: حديث سمع قرع النعال.
ومنها: ما جاء في حديث عمرو بن العاص في صحيح الإمام مسلم أنه قال: إن أنا مت: امكثوا عند قبري بقدر ما تنحر الجزور، ويقطع لحمها، قال: حتى أنظر بما أراجع ربي فآنس بكم.
وهذا أخرجه الإمام مسلم في كتابه الصحيح، والسماع في القبر هو كسماعنا الآن، والحواس كحواسنا والعقل كعقلنا، فقد أخرج الإمام أحمد رحمه الله في المسند من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر فتان القبور فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله، أترجع إلينا عقولنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم كهيئتكم اليوم )، يعني: ترجع للإنسان الحواس: السمع والبصر والإدراك فيرجع الإنسان كهيئته الآن، وهذا يفيد السماع، ولكنه هل يفيد من ذلك الانتفاع، وأن من يقف على القبر يخاطب الميت بخطاب فينتفع فيه عند فتنة القبر؟ نقول: هذا لا دليل عليه، وأما الدعاء عند القبر فثابت، وكذلك إن سماع الميت ثابت، ورجوع عقله إليه وحواسه كاملة كحاله في الحياة ثابت، وأما التلقين وانتفاعه به فإن هذا لا دليل عليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من الصحابة.
لهذا نقول: بأن تلقين الميت لا يصح فيه شيء، وقد نص غير واحدٍ من الأئمة على أنه لا يثبت في تلقين الميت بعد موته شيء.
وأما عند الاحتضار فالأدلة في هذا واردة، وقد تقدم معنا الإشارة إلى تلقينه بـ(لا إله إلا الله)، وتكلمنا على حديث (يس) في حديث معقل بن يسار وغيره.
وأما بالنسبة لهذه المسألة وهي مسألة التلقين فالعلماء نصوا على أنه لا يصح في هذا خبر:
ممن نص على أنه لا يثبت في هذا خبر، بل حكى اتفاق المحدثين على أنه لا يصح في تلقين الميت شيء السيوطي رحمه الله، وهذا ظاهر ما جاء عن الإمام أحمد رحمه الله، فإنه قيل له: أتحفظ في ذلك شيئاً؟ قال: لا، يعني: مما يثبت ويحتج به ويستحق أن يروى.
الحديث الثاني: هو حديث عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه العلاء بن اللجلاج أنه قال لأبنائه: إذا أنا مت فضعوني وقولوا: باسم الله، وعلى ملة رسول الله، واقرءوا عند قبري إذا سويتم التراب عليّ بفاتحة البقرة.
هذا الحديث أخرجه الطبراني في كتابه المعجم من حديث عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه، فذكر القصة، ثم قال: سمعت عبد الله بن عمر أوصى بذلك.
وهذا جاء مرفوعاً وجاء موقوفاً، فجاء مرفوعاً من حديث عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء موقوفاً على عبد الله بن عمر، فوقع في ذلك اختلاف.
وقد أخرجه الطبراني مرفوعاً من حديث محمد بن أبي أسامة ، و علي بن بحر ، و دحيم الدمشقي كلهم يروونه عن مبشر بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه، فذكره مرفوعاً.
وقد جمع الطبراني رحمه الله وجوه الرواية عن مبشر بن إسماعيل من حديث محمد بن أبي أسامة وقرنه بـ علي بن بحر و دحيم الدمشقي كلهم عن مبشر بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن العلاء به، فذكره مرفوعاً.
ولم يميز حديث واحد عن الآخر، والصواب: أن هذا الحديث المرفوع منكر، والراجح في ذلك وقفه على عبد الله بن عمر، وأيضاً بغير هذا اللفظ.
فهنا نجد أن الطبراني قرن هؤلاء الرواة عن مبشر بن إسماعيل .
وقد أخرج ابن عساكر في كتابه تاريخ دمشق هذا الحديث من حديث علي عن مبشر بن إسماعيل، وذكره موقوفاً ولم يجعله مرفوعاً، يعني من الطريق الذي ذكره الطبراني . والحفاظ يروونه عن ابن عمر موقوفاً بهذا اللفظ، وهو أشبه بالصواب، ولكن الراجح في هذا: أن هذا المتن أدرج فيه ما ليس منه من قول عبد الله بن عمر وستأتي الإشارة إليه.
وأخرج هذا الحديث الطبراني والبيهقي ، والخلال في جزء القراءة عند القبور جميعهم من حديث يحيى بن معين عن مبشر بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه عن عبد الله بن عمر موقوفاً عليه.
فرواه يحيى بن معين وخالف من ذكره مرفوعاً، وقول يحيى بن معين هو الصواب، وقد أخرج يحيى بن معين هذا الحديث في كتابه التاريخ.
وتوبع يحيى بن معين على هذا الحديث تابعه محمد بن قدامة الجوهري، رواه الخلال في كتابه جزء القراءة عند القبور، وكذلك تابعه أبو همام كما عند ابن عساكر في تاريخ دمشق كلهم يروونه عن مبشر بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى موقوفاً عليه، وهذا هو الصواب.
ولكن في هذا الإسناد علة سواءً كان مرفوعاً، أو كان موقوفاً، والعلة فيه: عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج، فـعبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج لا تعرف له رواية إلا عن أبيه، ولا يعرف له راوي إلا مبشر بن إسماعيل، وهؤلاء رووا الحديث كلهم عن مبشر بن إسماعيل، ووقع في ذلك الخلاف بين الرفع والوقف، فـعبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج فيه جهالة مستور لا تعرف حاله، تفرد بهذا الحديث مرفوعاً وموقوفاً.
لنتأمل هذا المتن، وننظر في علته.
يقول عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه أنه قال: إذا وضعتموني في القبر فقولوا: باسم الله وعلى ملة رسول الله، فإذا سويتم عليّ القبر فاقرءوا عليّ فاتحة البقرة.
ثم قال: سمعت عبد الله بن عمر أوصى بذلك، الذي يبدو لي -والله أعلم- أن هذا الحديث فيه إدراج، وهو على قسمين: قسم أوصى به ابن عمر ، وقسم من كلام العلاء بن اللجلاج، فالذي رواه عبد الرحمن بن العلاء عن أبيه عن عبد الله بن عمر هو: باسم الله وعلى ملة رسول الله؛ لأن هذا الحديث جاء عن عبد الله بن عمر من وجه آخر من حديث نافع و أبي عبد الله الصنابحي عن عبد الله بن عمر ، وهذا إذا قلنا: بأن الجزء هو باسم الله وعلى ملة رسول الله جاء عن عبد الله بن عمر موقوفاً من وجه آخر، وجاء مرفوعاً والصواب فيه الوقف كما رجح ذلك النسائي وغيره: أن الصواب في هذا: أنه قول عبد الله بن عمر ، هو الجزء الأول.
وأما الجزء الثاني وهو: أوصى بقراءة فاتحة البقرة عليه، فهذا من الخلط الذي خلطه عبد الرحمن بن العلاء عن أبيه، فخلط وصية ابن عمر بوصية أبيه.
فنقول: إن وضع الميت في القبر وقول: باسم الله وعلى ملة رسول الله، هذا عن عبد الله بن عمر موقوفاً، وأما القراءة على القبر فهذا من وصية العلاء بن اللجلاج، فجمع بينهما عبد الرحمن بن العلاء وقلنا: إن هذا الحديث جاء عن عبد الله بن عمر من وجه آخر وفيه باسم الله وعلى ملة رسول الله، لأنه رواه عنه أصحابه، وما ذكروا قراءة الفاتحة، هذا أمر.
الأمر الثاني: أن هذا الإسناد ليس قوياً بحيث يتهيب فيرويه عبد الرحمن بن العلاء وهو مستور الحال ومجهول، ولكن يروي عن أبيه قد يختبر بعض.
الأمر الثالث وهو مهم أيضاً: أن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله إمام أهل المدينة، وهذا الإسناد إسناد شامي إذا تفرد أهل الشام عن عبد الله بن عمر إمام أهل الفقه في المدينة وله أصحاب ويروون عنه في شيء من السنن، ولا يوجد عند أهل المدينة من أصحابه فهذا قرينة على الإعلال والنكارة، ولهذا نقول: إن هذا الحديث مرفوعاً منكر لمخالفته رواية الثقات.
الأمر الثاني: أن ذكر قراءة الفاتحة فيه نكارة؛ لأنه تفرد به أهل الشام عن عبد الله بن عمر، والأولى بمثل هذا: أن يتفرد به أهل المدينة عن عبد الله بن عمر ، هذا أمر.
الأمر الثاني: أن عبد الله بن عمر له أصحاب في المدينة، لا يحفظ عن واحد منهم أنه قال بالقراءة على القبر، وأولى الناس بفقه عبد الله بن عمر أصحابه، فدل على أن هذه الزيادة زيادة شامية أدرجت في خبر عبد الله بن عمر .
روى الخلال في جزء القراءة عند القبر من حديث علي بن موسى الحداء قال: دخلت مقبرة في جنازة مع أحمد بن حنبل و محمد بن قدامة الجوهري فرأى الإمام أحمد رجلاً ضريراً يقرأ عند القبر، فقال الإمام أحمد : لا تفعل هذا بدعة، فقال محمد بن قدامة الجوهري للإمام أحمد : ما تقول في مبشر بن إسماعيل ؟ قال: ثقة كتبنا عنه، قال: حدثنا مبشر بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن العلاء عن أبيه العلاء بن اللجلاج عن عبد الله بن عمر أنه أوصى بأن تقرأ فواتح البقرة عند قبره، فقال الإمام أحمد رحمه الله: ارجعوا إليه فليقرأ.
فجاء عن الإمام أحمد في هذا قولان:
القول الأول: ما ذكره الخلال.
والقول الثاني: ما ذكره أبو داود في سؤالاته. قيل للإمام أحمد رحمه الله: أيقرأ عند القبر أم لا؟ قال: لا يقرأ عند القبر.
والجمع بين قول الخلال عن الإمام أحمد رحمه الله والقول الذي ذكره أبو داود عنه أنه لا يقرأ عند القبر كيف يوجه؟
الذي يظهر -والله أعلم- أن هذه المسألة له وجهان:
الوجه الأول: أصل السنية وأثرها الحث عليها، ولهذا لما سأل أبو داود الإمام أحمد أتفعل؟ قال: لا.
الوجه الثاني: النهي عنها، وما جاء عن صحابي وقيل بصحته لا ينهى صاحبه عنه، فتحمل رواية الخلال على أن الإمام أحمد لا ينهى، فرأى الرجل فأبقاه على ما كان عليه وما حضه، وسؤال أبي داود للإمام أحمد رحمه الله هو أن هذا ليس سنة، وجمهور العلماء على عدم مشروعية القراءة عند القبر، وهنا مسألتين ينبغي أن يفرق بينهما:
المسألة الأولى: هي مسألة القراءة عند القبر لصاحب القبر.
المسألة الثانية: قراءة القرآن وإهداء الثواب للميت، وهذه مسألة أخرى لا علاقة لها بالمسألة الأولى، فقراءة القرآن وإهداء ثوابه للميت هذه لا تعني القرب من القبر فقد يقرأ الإنسان في بيته، وهذه أيضاً من مسائل الخلاف، والمقصود هنا القراءة عند القبر.
وقد صنف الخلال رحمه الله جزءاً في القراءة عند القبر وما أورد خبراً مرفوعاً عن النبي عليه الصلاة والسلام صحيحاً، وما أورد كذلك موقوفاً.
وأمثل شيء أورده حديث عبد الله بن عمر وأورد عن بعض الصحابة وبعض التابعين ما يصح:
أخرج عن منصور عن إبراهيم النخعي أنه قال: لا بأس بقراءة القرآن عند القبر للميت، وأخرج أيضاً من حديث حفص عن مجالد بن سعيد عن عامر بن شراحيل الشعبي، أنه قال: كانت الأنصار تختلف بعد الدفن إلى القبر للقراءة على الميت.
وهذا أيضاً إسناده ضعيف، فإن في إسناده مجالد بن سعيد، والإمام الشافعي رحمه الله يقول بسنية القراءة على القبر، ولكن من تأمل النصوص وتضافرها، وما جاء أيضاً من الآثار عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى من الخلفاء الراشدين من أعلى طبقة الصحابة كـأبي بكر ومن جاء بعده من أصاغر الصحابة، وكذلك التابعين من الطبقة الأولى: كـقيس بن أبي حازم ، ومن جاء بعده كـأبي عثمان النهدي ، ومن جاء بعده كـسعيد بن المسيب ، ومن جاء بعده وقارنه كـسليمان بن يسار وأضراب هؤلاء لا يثبت عن أحد منهم أنهم قالوا بجواز أو استحباب القراءة عند القبر، ونجد أن القول باستحباب القراءة عند القبر يكثر في قول فقهاء الشام وفقهاء العراق، وليس هذا معروفاً عند فقهاء الحجاز، وذكرنا مراراً أن من قرائن الإعلال والترجيح في مسائل الفقه أن ينظر في مواضع نزول الوحي، والوحي نزل في المدينة ومكة، والنبي عليه الصلاة والسلام بقي في ذلك مدداً طويلة بين أصحابه يدفن أصحابه، ويصلي عليهم، وكذلك أصحابه من بعده يدفنون ويصلون، بل منهم من يأتي إلى القبر فتفوته الصلاة، وقد جاء ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام وجاء عن بعض الصحابة من تفوته الصلاة على الميت قبل دفنه، ثم يقصد القبر فيصلي عليه، وما ذكر عن أحد من الصحابة ولا من التابعين أنه قرأ على الميت القرآن بعد دفنه.
ولهذا نقول: إن قراءة القرآن على الميت ليست من السنة، ولا يثبت في ذلك شيء، وإنما هي أقوال لبعض الفقهاء.
الحديث الأخير في هذا: هو حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا مات الميت منكم فلا تجلسوا فأسرعوا به إلى قبره، فإذا سويتم عليه التراب فاقرءوا فاتحة البقرة عند رأسه وخاتمتها عند قدميه ).
هذا الحديث أخرجه الطبراني في كتابه المعجم الكبير من حديث يحيى بن عبد الله الضحاك البابلتي عن أيوب بن نهيك الزهري مولى سعد بن أبي وقاص عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث حديث منكر أيضاً، وهو معلول بعدة علل:
أول هذه العلل: أن هذا الحديث تفرد به يحيى بن عبد الله الضحاك البابلتي وهو ضعيف الحديث.
وقال أبو زرعة : لا أحدث عنه.
ويروي هذا الحديث أيضاً عن أيوب بن نهيك وقد ضعفه أبو حاتم، وقال أبو زرعة : منكر الحديث.
ومن وجوه الإعلال في هذا الحديث: أن هذا الحديث يرويه عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، و عطاء بن أبي رباح من أئمة الفقه والرواية في الحجاز، ومثل حديثه هذا الأصل أن يرويه عنه الكبار من أصحابه، وتفرد أيوب بن نهيك الزهري مولى سعد بن أبي وقاص عن عطاء بن أبي رباح منكر، ولو كان أيوب بن نهيك أحسن حالاً من حاله هذه من جهة الرواية، ولما تفرد بهذا دل على نكارة هذا الحديث.
ومن وجوه الإعلال في هذا الحديث: أنه تفرد بإخراجه الطبراني عن أصحاب الأصول، ومعلوم أن الطبراني إنما يورد المفاريد والغرائب في كتبه، فلما روى مثل هذا الحديث وليس معروفاً في الأصول، ولا يدور في الحجاز دل على نكارته وعدم صحته.
ومنها أيضاً وقد تقدمت الإشارة إليه: أن هذا الحديث يرويه عن النبي عليه الصلاة والسلام عبد الله بن عمر، و عبد الله بن عمر له أصحاب يهتمون بفقهه.
ومن الأئمة الذين يقولون بقول عبد الله بن عمر : الإمام مالك وهو لا يقول بهذا الحديث ولا يعمل به، وهذا قرينة على عدم ثبوته عنده، وعدم اشتهار هذا الحديث في المدينة، وخاصة هذه المسألة لأنها مما تتشوف النفوس إلى معرفتها، والعمل بها.
ومن المسائل المهمة أو التي لها أثر في العلل التي ينبغي أن ينتبه لها: أن الراوي في كل طبقة من الطبقات إذا روى حديثاً فتفرد بالرواية عنه أحدٌ من غير أهل بلده، وقد أطال المكث في تلك البلد التي هو فيه، وله أصحاب كُثر فهذا علامة على النكارة.
ولكن ليس مطرداً أن كل راو يروى عنه حديث ويتفرد به أحد الرواة من غير أصحاب بلده أنه يرد الحديث ويصبح منكراً، ولكنه قرينة قد تقوى وقد تضعف، فتقوى هذه القرينة وربما تصل إلى درجة القطع إذا كان هذا الإمام طويل المكث في بلده وقليل الخروج منها، وأصحابه في بلده يتشوفون ويتسابقون إلى حديثه، لا يدعون منه شيئاً بل يتلقفون ما يخرج منه، ثم تفرد عنه آفاقي قليل الرواية وقليل العناية، فهذا شبيه بالقطع على أن التفرد في هذا منكر، وإذا تفرد عنه أحدٌ من غير أهل بلده، وهذا المتفرد إمام، وأصحاب ذلك الراوي ليسوا ممن يتلقفون الرواية ويهتمون بحديثه فتصبح القرينة حينئذٍ ضعيفة، أو كان ذلك الراوي في بلد، وتلك البلد يرد إليها الناس لا يختص بها أهل بلدها كمثل مكة فإن الناس تردها في المواسم، فيرد في ذلك الكوفي، والبصري، والبغدادي، والشامي، والحمصي، والحلبي، وغير ذلك.. كلهم يردون إلى مكة، فإذا تفرد أحدٌ من الرواة عن أحدٍ من الفقهاء المكيين في مسألة من المسائل فهل نقول: بأن التفرد في ذلك محتمل باعتبار أن مكة يردها الجميع؟ نقول: هذا أيضاً وقف على قرائن أخرى، هل هذا الحديث الذي رواه يجتهد عادة، وهل أصحابه يأخذون بهذا القول، ولو لم يرووا عنه فيعتمدون العمل بهذا؟ فإذا كانوا يعتمدون العمل بهذا فإن هذا يعضد صحة ذلك القول.
ومما يؤيد أن هذا الحديث منكر في تفرد أهل الشام عن عبد الله بن عمر في حديثه هذا أن العمل لا يعرف عند أصحاب عبد الله بن عمر في المدينة لا في طبقة أصحابه الأولى، ولا فيما يليها، بل لا يعرف هذا العمل في المدينة ولا في مكة وهو القراءة على القبر، ولو صح ذلك عن عبد الله بن عمر موقوفاً لكان أحرى الناس بنقله هم أهل المدينة ومكة، فانفراد أهل الشام بذلك أمارة على النكارة، ولهذا الإمام أحمد رحمه الله قال: لا أعلم أحداً يفعل ذلك إلا أهل الشام، وسئل عن ذلك قال: أهل الشام يفعلونه.
والذي يظهر -والله أعلم- أن هذه السنة إنما بدأت عند أهل الشام تلفيقاً من عدة أحاديث:
منها: أن الميت يسمع عند القبر.
ومنها: حديث عمرو بن العاص : أقيموا عند قبري، أو عند رأسي قدر ما يذبح الجزور وتقطع لحمه، فإني آنس بكم حتى أنظر ماذا أراجع ربي.
وكذلك سماع خشخشة النعال.
وحديث: ( استغفروا لأخيكم فإنه الآن يسأل ).
وفي قصد النبي صلى الله عليه وسلم للقبور بالسؤال فأخذوا ذلك وولدوا مسألة، ثم عملوا بها، ويظهر أن هذا بدأ من طبقة التابعين في الحمصيين، ثم انتشر في الشام فأصبح سنة مطروقة، ثم تولد وأصبح عملاً سائداً، وهذا هو الأصل.
والخلاصة في هذا الأمر: أنه لا يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام ولا عن الصحابة القراءة عند القبر، ولا تلقين الميت، يعني: الخطاب معه والتحدث معه بتذكيره بشيء مما يفيده في فتنة القبر بذكر الشهادتين، أو بقراءة سور القرآن، أو قول: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، فإن الأدلة في ذلك ضعيفة.
ونكتفي بهذا.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر