الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فنكمل بإذن الله عز وجل تفسير آيات الأحكام بعد توقف لبضعة أشهر، ونسأل الله عز وجل أن ييسر لنا السبيل، وأن يهيئ لنا الأسباب في إتمام الكلام على آيات الأحكام من كتاب الله جل وعلا.
وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا أهل تدبر وتأمل وتفكر وروية وتأنٍ فيما نأتي ونذر ونتدبر، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ثم إننا توقفنا عند قول الله جل وعلا: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة:225]، وتقدم الكلام معنا على الآية التي قبلها: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا [البقرة:224].
وفي قول الله سبحانه وتعالى: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة:225]، بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى ما سبق هذه الآية ألا يجعل الإنسان الله عز وجل عرضة، أي: يكون حاجباً له عن الوصول إلى البر والتقوى، وذلك بإطلاق بعض الألفاظ التي تحول بين الإنسان وبين عمل البر، وذلك بأن يقسم أو يحلف يميناً ألا يفعل شيئاً من أعمال البر، فيتخذ تلك اليمين وسيلة لعدم العمل، وكذلك ألا يجعل الإنسان الله عز وجل دارجاً على لسانه في كل قول يقرنه بيمين، حتى يستسهل لفظ الجلالة أو اسم الله سبحانه وتعالى، وغير ذلك من ألفاظ اليمين، وذلك تعظيماً وتهييباً لليمين وتهييباً وتعظيماً لله سبحانه وتعالى وهو المحلوف به جل وعلا.
ثم بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك ذكر أنه لا يؤاخذ الإنسان باللغو في يمينه، ومؤاخذة الله سبحانه وتعالى هذه في حدها وقدرها وابتدائها وانتهائها هي محل خلاف عند العلماء، فالمؤاخذة تشمل ما يعقد الإنسان عليه اليمين فيما يستقدم، أو تشمل ما قبل ذلك، وذلك من إخبار الإنسان عن أمور ماضية بما يخبر به الإنسان من أمور الكذب بأنه فعل وهو لم يفعل، أو لم يفعل وهو فعل، أو ما يسميه العلماء باليمين الغموس، هذا يأتي الكلام عليه بإذن الله تعالى.
وأصل المؤاخذة هي الثواب والعقاب على ذلك، وظاهر السياق هنا أن الله عز وجل أراد ألا يؤاخذ، يعني: لا يعاقب عباده بعقاب بما يجري على ألسنتهم من غير قصد، وإنما غلبنا جانب العقاب هنا باعتبار أن الله سبحانه وتعالى رفع الحرج عن عباده؛ لأن مثل هذا الأمر من جهة الترك أن الإنسان يغلب عليه الإثم، فالمؤاخذة إنما استعملت هنا لرفع الحرج والتكليف والإثم، وما يتبع ذلك من حساب وعقاب عنده سبحانه وتعالى، وإلا فالمؤاخذة هي شاملة لما هو أوسع من ذلك، يؤاخذ الله عز وجل عبده على كذا إما في العقاب وإما في الثواب، وتستعمل غالباً في جانب الحساب والعقاب.
لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة:225]، الله سبحانه وتعالى لطف بعباده ورحمهم وحلم عليهم في عدم مؤاخذته لهم، بما يجري على ألسنتهم من غير قصد.
واللغو في لغة العرب هو ما يجري على اللسان من قول من غير قصد لمعناه، وجل استعمالات القرآن على هذا المعنى، ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان:72]، والمراد باللغو هو القول الذي لا يراد معناه بذاته، ولكنه ساقط، وأقل أحواله أن الإنسان إذا أطلق قولاً وهو لا يريد معناه، يعني: أنه يهرف بما لا يعرف أو ما لا يريد، وهذه إما أن تكون جهالات، وإما أن تكون من جملة المحرمات، ولهذا سميت لغواً، فأمر الله سبحانه وتعالى بتجنب تلك المجالس لعدم قصد الناس لتلك الألفاظ؛ لأن الناس إذا لم يقصدوا الألفاظ تجوزوا فيها، سواء كان ذلك من أمور الغلو في باب الذم، أو الغلو في باب المدح، ولهذا مدح الله عز وجل أهل الإيمان بتركهم مجالس اللغو في هذا: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:3]، يعني: أنهم لا ينصتون بمسامعهم، ولا يختلطون بأصحاب اللغو الذين لا يقيمون وزناً لأقوالهم، سواء كان ذلك من أقوال الخير أو من أقوال الشر.
واللغو من جهة الأصل لا في المصطلح الشرعي ينصرف ويطلق على الكلام مطلقاً، سواءً كان ذلك من كلام الخير أو كلام الشر، ولهذا اصطلح على أصوات الكائنات باللغات، فيقال: لغة الإنسان، أو لغة الحيوان، لغة الطير، أو غير ذلك فهي من هذا الاشتقاق، ولكن غلب الاصطلاح في كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على اللغو والساقط من القول الذي لا يقصد الإنسان معناه، أو الساقط من القول الذي يقصد الإنسان معناه، ولكن الله سبحانه وتعالى إنما ذكره هنا في سياق اليمين، يعني: ما يجري على ألسنة الناس من ألفاظ الأيمان ولا يقصدون بذلك عقداً لليمين.
وبالنسبة لاستعمالات العرب، فإنهم يطلقون اللغو على هذه المعاني، ولكن الأغلب هو ساقط القول، يقولون: لغو، ويقولون: لغى فلان بقوله بإطلاقه شيء من الألفاظ التي لا يدرك معناها من ألفاظ السوء، ولهذا يقول الشاعر:
ورب أسرى بالحجيج الكُّظ عن اللغى
يعني: عن رفث القول، وذلك أن الله سبحانه وتعالى نهى الحاج أن يطلق لسانه فيما لا خير فيه: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ [البقرة:197]، فيفسر اللغو بالرفث في ظاهر الآية، في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قال: صه يوم الجمعة فقد لغى )، يعني: تكلم، يعني: فهذه العبارة من الكلام، ولهذا تقول العرب في حال استنطاق الإنسان لغيره، يقولون: استلغ فلاناً، أو استلغوا الأعراب ليتكلموا، يعني: استنطقوهم ليخرجوا الكلام، ولكن غلب في اصطلاح القرآن والسنة إطلاق هذا اللفظ على ساقط القول أو ما لا قيمة له من غير قصد أو بقصد.
وفي قول الله جل وعلا: بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة:225]، تقدمت الإشارة في المجلس السابق إلى أن المراد بالأيمان: ما يؤكد الإنسان بها قوله من الإقسام باسم من أسماء الله سبحانه وتعالى أو غيرها، فتسمى يميناً، ولكن الله عز وجل نهى أن يُقسم إلا به.
والمراد باللغو في هذه الآية التي لا يؤاخذ الله عز وجل فيها من تلفظ بظاهر لفظٍ يشابه اليمين، هذا موضع خلاف عند العلماء.
من العلماء من قال: إن اللغو المراد بذلك هو ما نسيه الإنسان وجرى على لسانه ليظنه كذلك وليس كذلك، والنسيان في ذلك على صور، أن يقول الإنسان: والله إني رأيت فلاناً، وفي الحقيقة هو لم يره، ولكنه نسي، هو قد رأى أخاه، أو رأى صاحبه، فلا يؤاخذه الله عز وجل بذلك.
وكذلك الذي يقسم على شيء ثم ينساه، كالذي يقسم أن يدخل دار فلان ويذكر اليمين، ولكنه لا يذكر أي أحدٍ أقسم أن يدخل داره، أو حلف يميناً أن يأكل طعاماً بعينه ولكنه لا يدري أي طعامٍ حلف عليه، وكذلك كحال الإنسان الذي حلف أن يدخل بلدة ولكنه لا يذكر تلك البلدة، وهو يذكر اليمين يقول: أنا حلفت على شيء معين، على بلدة أو على سفر أو على زيارة أحدٍ لكنني نسيت هذا الأحد الذي أزوره، فحينئذٍ يقول: إن هذا من اللغو الذي لا يؤاخذ الله عز وجل عبده به.
جاء هذا المعنى عن غير واحد من المفسرين، جاء هذا عن أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى أن الإنسان إذا قال بشيء أو أقسم على شيء يظنه كذلك فبان أنه ليس كذلك، فهذا ضرب من ضروب النسيان الذي لا يؤاخذ الله عز وجل به عبده، وكحال الإنسان الذي يخبر بشيء وهو على خلافه، لكن في داخله أنه عازم أنه كذلك، فهذا ليس عليه شيء، وقال بهذا جماعة من المفسرين، جاء عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى، وجاء عن عامر بن شراحيل الشعبي ، و مجاهد بن جبر و إبراهيم النخعي ، وقال به أبو حنيفة ، والإمام مالك رحمه الله، بل قال الإمام مالك رحمه الله في الموطأ: هذا أحسن شيء بلغني. يعني: في تأويل هذه الآية، وهو أن الإنسان يخبر بشيء يظنه كذلك ثم بان خلاف ذلك ويقسم عليه، أو يقسم الإنسان على شيء مستقبلي أنه سيلتقي بفلان ويظن أن الذي قدم هو فلان بينما هو ليس هو، فيمينه ارتبطت بخبرٍ بلغه أن فلاناً سيقدم فحلف على ذلك، فهو إنما حلف اليمين على شيء هي اتكأت على أصل خلاف ما يريد، فيدخل هذا في لغو اليمين، ومن العلماء من قال: هي ألفاظ اليمين التي تجري على الإنسان من غير عقدٍ، كقول الإنسان: لا والله، وبلى والله، وغير ذلك من الألفاظ التي تجري في كلام الناس، وهذه ليست أيماناً، وإنما الله سبحانه وتعالى لا يؤاخذ عباده بذلك لانتفاء القصد على ما يجري عادة في كلام الناس من غير روية ولا فتنة، وذلك أن الكلام الجاري غالباً ما يسبق القصد.
ثمة مسابقة بين قصد القلب والكلام، الكلام يسبق، ولهذا يأتي القصد بعده، فما يأتي من القول الذي لا يسبقه قصد لا يؤاخذ عليه الإنسان حتى يصاحبه القصد أو يسبق القصد اللفظ، فإذا سبق القصد اللفظ حينئذٍ يقال: إن الإنسان من المكلفين في قوله.
وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده، أن ما يشابه صورة اليمين في قول الإنسان: لا والله لا أذهب إلى كذا، أو لا والله لا آكل، أو نحو ذلك، هذا من العبارات التي تجري على ألسنة الناس ولا يقصد بها يميناً، وإنما ما يجري على ألسنة الناس الدارجة؛ لأن اللفظ هنا سبق القصد، ومن العلماء من حمل مسألة تقييم اليمين التي تجري عليها المؤاخذة، منهم من قال: هي ما عقدها القلب ثم أطلقها اللسان، وهذا جاء ذلك عن عائشة عليها رضوان الله تعالى، قالت: في قول الله جل وعلا: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة:225] ، وكذلك في قول الله عز وجل في سورة المائدة: بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ [المائدة:89] يعني: من عقد في القلب ثم تلفظ به اللسان، فلا بد في المؤاخذة باليمين من أمرين، وهذا محل اتفاق عند العلماء.
الأمر الأول: قصد القلب.
الأمر الثاني: التلفظ باليمين.
أما قصد القلب من غير تلفظٍ فلا يؤاخذ به الإنسان، كالذي ينوي بقلبه أن يطلق ولم يتلفظ بالطلاق، أو ينوي بقلبه يميناً ولم يتلفظ باليمين، فهذا لا يؤاخذ عليه، ومن العلماء من يدخل في نفي المؤاخذة في هذا المعنى، أن تكون اليمين على شيء مباح أو مشروع، وهذا من العلماء من يدخله في بعض أجزاء المؤاخذة، ولا يدخله في الأجزاء الأخرى، ويأتي الكلام على ذلك بإذن الله تعالى.
ولكن نقول: إن ما انعقد عليه القلب ثم أطلقه اللسان، فإن الإنسان يؤاخذ على ذلك، وقد جاء عن عائشة عليها رضوان الله تعالى كما جاء في صحيح البخاري من حديث عروة عن عائشة أنها قالت: اللغو هو لا والله وبلى والله، وجاء ذلك عن جماعة من الصحابة، عن عبد الله بن عباس ، وعن عبد الله بن عمر و عامر بن شراحيل الشعبي و مجاهد بن جبر و إبراهيم النخعي ، وكذلك جاء عن مسروق بن الأجدع وغيرهم من المفسرين من السلف، أن المراد بهذه الألفاظ هي التي يطلقها الإنسان وتجري على لسانه وتكون سابقة للقصد، فلا يؤاخذ عليها.
ومن العلماء من قال: إنه يدخل في باب اللغو ما يخبر الإنسان به كاذباً فيما سبق، يقسم أنه فعل كذا وهو لم يفعل، أو يقسم أنه لم يفعل وهو فعل، وهي اليمين الغموس، قالوا: والمؤاخذة هنا في الكفارة لا بالإثم، فهو لا يؤاخذ بعدم تكفيره، ولكن يؤاخذ بالإثم، فهي يمين غموس تغمس صاحبها في النار لشدة الوعيد فيها، للاستهانة بالمقسم به سبحانه وتعالى، وهذا مما يؤاخذ عليه الإنسان من جهة العقاب، فيجب عليه أن يتوب.
وقد اختلف العلماء في اليمين الغموس هل تكفر أو لا تكفر على قولين، وهل تدخل في أبواب اللغو في هذا الحديث أم لا؟
ذهب جمهور العلماء إلى عدم المؤاخذة بالكفارة، وأن المراد بالمؤاخذة بها إنما هو بالإثم، وهذا ذهب إليه جمهور العلماء، قال به الإمام مالك وأبو حنيفة وأحمد، وذهب إليه الأوزاعي وجماعة من العلماء، وهذا هو القول الصحيح خلافاً للإمام الشافعي وهو القول الثاني في هذه المسألة قال رحمه الله: أن اليمين الغموس تنعقد فيها اليمين ويجب فيها الكفارة.
وظواهر الأدلة في مسائل الكفارة أن الكفارات إنما تطرأ على شيء مستقبلي، وهو ما يطرأ عليه انعقاد الباطن مع الظاهر؛ لأن الانعقاد هو العزم على شيء، أما ما يخبر الإنسان به سابقاً فهو يخبر بشيء ينافي قلبه، فكيف يتم انعقاد الباطن على الظاهر؟ ولهذا الله عز وجل يقول في هذه الآية: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة:225]، وهذا كسب القلب في ذلك، وهو منافٍ لأمر الظاهر، فما وافق الظاهر فيه الباطن فإن الإنسان يؤاخذ بذلك.
والشافعي في قوله: لا أعلم له دليلاً من ظواهر الأدلة ولا من الكتاب، يقول ابن المنذر رحمه الله في قول الشافعي رحمه الله، قال: ولا أعلم خبراً يدل على هذا، يعني: على ما قال به الإمام الشافعي رحمه الله في أن اليمين الغموس يكون فيها كفارة، لأن الأدلة إنما هي فيما يستقبله الإنسان، وهذا هو القول الراجح، وهو الذي عليه عامة السلف وجماهير الفقهاء.
ومن العلماء من أدخل في باب اللغو اليمين الحرام، إذا حلف الإنسان على حرام، قالوا: لا يؤاخذه الله عز وجل بترك الوفاء بها؛ لأن الله حرم الحرام قبل اليمين، واليمين لا ترفع الحرام، ولكن الله عز وجل يؤاخذه بتركه للكفارة، وإنما جاء بنفي المؤاخذة هنا على قول من قال بدخول اليمين الحرام بأن يحرم الإنسان على نفسه حلالاً، أو يحل الإنسان على نفسه حراماً، فيقسم أن يشرب الخمر، أو ألا يأكل الطعام، فهذا أحل لنفسه الحرام بشرب الخمر، والثاني حرم على نفسه الحلال، فنقول: إن الله عز وجل لا يؤاخذ الإنسان بتركه لليمين باعتبار أن اليمين تفرض على الإنسان شيئاً، وهذا مما يدخل على قول بعض العلماء في باب اللغو، جاء عن غير واحد من العلماء هذا المعنى، فقد روي هذا عن عامر بن شراحيل الشعبي ومسروق بن الأجدع ، ويروى عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله، ولكن في خلاف العلماء عليهم رحمة الله في إقسام الإنسان على شيء حرام، وهل تجب عليه في ذلك الكفارة؟
نقول: إن الخلاف في ذلك عند الفقهاء لتعارض الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم جملة من الأحاديث، منها ما يدل على نذر المعصية، ومنها ما يدل على أن الإنسان إذا أقسم على شيء فتركه إلى ما هو أخير منه، فإنه يجب عليه أن يكفر، قالوا: وهل يشمل ذلك إقسام الإنسان على أمر محرم أن يفعله أو على أمر واجب متأكد أن يدعه على الدوام، أو ترك المباح على سبيل الدوام الذي لا يقوم عمر الإنسان إلا به؟ هذا من مواضع الخلاف عند العلماء.
ونقول: إنما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في أن الإنسان إذا أقسم على شيء فرأى غيره خيرا ًمنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكفر، ويأمر من فعل ذلك بالكفارة، وقد جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام مسلم في كتابه الصحيح من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا حلف أحدكم على شيء فرأى غيره خيراً منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه )، وجاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم من حديث عدي بن حاتم عليه رضوان الله تعالى، وجاء من حديث عبد الله بن عمر عند الإمام أحمد ، وجاء من حديث أم سلمة عند الطبراني ما يؤيد هذا الحديث عن أبي هريرة عليه رضوان الله، والذين يقولون بعدم التكفير يستدلون بأن الترك في ذاته جاء في بعض الروايات أنه تكفير وبر للقسم، جاء ذلك عند الإمام أحمد في كتابه المسند، وعند ابن ماجه في كتابه السنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإن تركها كفارة )، وهذا الحديث منكر أنكره غير واحد من الأئمة كـأبي داود رحمه الله، فإنه قال في كتابه السنن: كل الأحاديث الواردة في هذا الباب فيها: (فليكفر عن يمينه)، وهذا قد أخرجه النسائي رحمه الله في كتابه السنن، وظاهره أنه يعل كفارتها، قال: ( فإن ترك كفارتها ) أنه جاء من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فليكفر عن يمينه )، وما قال: تركها كفارتها، وهذا دليل على نكارة الحديث.
وقد جاء من الأحاديث الضعيفة ما يستدل به البعض على عدم الكفارة في اليمين الحرام، وهي التي يقسم الإنسان بها على فعل أو ترك شيء يخالف شرع الله سبحانه وتعالى، جاء في ذلك عن أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى وهو منكر، وجاء عن عائشة عليها رضوان الله تعالى، كما جاء من حديث حارثة بن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة ، وهو خبر منكر بنحو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
إذاً: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث مرفوع في عدم الكفارة في اليمين الحرام، والأصل في ذلك ما جاء في حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى قال: ( فليأتِ الذي هو خير ).
من العلماء من قال: إن هذا قاصر في الدلالة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالتكفير لتنازع الأمرين في الخيرية بين فاضل ومفضول، يعني: كلها داخلة في دائرة الخير، ولكن الإنسان إذا أقسم على أمر حرام، فهذا أمر خارج عن ظاهر الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فرأى غيره خيراً منه )، يعني: أنه ترك لوجود ما هو أفضل، كالذي يقسم أن يسافر إلى بلدة كذا لمصلحة من الأمور المباحة أو الفاضلة في شهر ذي الحجة، ثم رأى أن الحج قد وجب عليه، ورأى أن ذهابه في سفر الحج أفضل له من ذهابه إلى بلدة كذا، فيكون ذهابه إلى الحج هو خير وهو تنافس وتنازع بين أمرين يدوران في الخيرية، بخلاف الإقسام على أمر محرم؛ لأن هذا هو الذي رآه الشارع، ويعضد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فرأى غيره )، يعني: أن الأمر يرجع إلى استحسانه، لا إلى استحسان الشارع، وأما الأمور المحرمة فظواهر الأدلة أن الاستحسان يرجع إلى استحسان الشارع لا إلى استحسان الإنسان.
فنقول: إن هذه الأحاديث التي يذكرها العلماء الاستدلال بها قصور عن ذات المسألة، وهذه المسألة من مسائل الخلاف في مسألة الكفارة على اليمين الحرام، فقد ذهب عبد الله بن عباس ومسروق بن الأجدع إلى عدم الكفارة وأن في ذلك الكفارة هو الترك، جاء عند ابن جرير من حديث شعبة عن عاصم عن عكرمة أن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى لما سئل عن اليمين التي يعصي الإنسان بها ربه أيفي بها أو يكفر عنها، قال: أيكفر عن خطوات الشيطان؟ يعني: أن الأمور الحرام هي من اللغو.
وجاء عن مسروق بن الأجدع كما رواه عامر الشعبي عند ابن جرير أن مسروق بن الأجدع عليه رحمة الله قال: كل يمين فيها معصية الله لا كفارة فيها.
وهذا يخالفهم في ذلك جماعة من العلماء بوجوب الكفارة في ذلك، وجماعة من فقهاء المدينة يقولون: إن الإنسان إذا أقسم على أمر من الأمور ويرى غيره خيراً منه، وفي الأمر الحرام أنه لا يكفر، يروى عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير و أبي بكر بن الحارث عليهم رحمة الله.
ومن المسائل المتعلقة في باب اللغو: أن بعض العلماء أدخل في دائرة اللغو الغضب عن الإنسان إذا أقسم على شيء وهو غضبان، أن يفعل أو لا يفعل، جاء هذا عن علي بن أبي طالب ، وعن عبد الله بن عباس ، و طاوس بن كيسان .
ولكن نقول: إن الغضب في ذلك على مراتب: أما الغضب الذي لا يكون معه انعقاد القلب بإغلاق الإنسان عن استيعاب وإدراك، فهذا يدخل في هذا الباب؛ لأنه ليس مما كسبه القلب.
وأما إدخال كل غضب في ذلك فهذا فيه نظر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو غضبان كما جاء في الصحيح ألا يحمل الأشعريين، وأقسم على ذلك، ثم حملهم وكفَّر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه، وهذا ضرب من اليمين في حال الغضب، فليس كل غضب يدخل في هذا الباب، ولكن الغضب الذي ينتفي معه طلاق وهو الإغلاق في هذا.
وأما بالنسبة لمقدار المؤاخذة في قوله جل وعلا: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة:225]، ما المراد بالمؤاخذة؟ هل المؤاخذة في هذا هي ما سبق من حال الإنسان حتى لو أقسم على شيء ماض أنه فعل أو لم يفعل ثم كان خلاف ذلك؟ أو المراد في ذلك هو الأمر المستقبلي؟ هذا تقدم الإشارة إليه.
والأمر الثاني في أمر المؤاخذة: هل المقصود بالمؤاخذة هنا هي الإثم في الآخرة، بالحساب على قوله ذلك، فلا يؤاخذه الله عز وجل بذلك، أم المراد بذلك المؤاخذة في الكفارة؟
هذا موضع خلاف عند العلماء.
من قال: إن المراد بذلك هو المؤاخذة يوم القيامة قال: لا علاقة للكفارة في هذه الآية.
إذاً: تكون هذه الآية متعلقة بأمر الآخرة من جهة العقاب على ما يطلقه الإنسان من ألفاظ يقسم عليها بالله سبحانه وتعالى ثم يخالف ما أقسم عليه، قالوا: لا يؤاخذه الله عز وجل بذلك.
ومن العلماء من قال: إن المراد بذلك جميع أنواع المؤاخذة: المؤاخذة الأخروية والمؤاخذة الدنيوية، فلا يلزم عليه شيء من الأحكام التكليفية بوجوب الكفارة، ولا يؤاخذه الله عز وجل أيضاً في الآخرة، وقد ظهر خلافهم في تفسير سورة المائدة في قول الله عز وجل: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ [المائدة:89]، فمن العلماء من قال: إن الكفارة إنما هي راجعة إلى اللغو، ومن العلماء من قال: ليست راجعة إلى اللغو، وإنما هي راجعة إلى (ما) في قوله: بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ [المائدة:89]، وهذه في قوله سبحانه وتعالى فيما يقع على الإنسان فيما يطلقه من إقسامه بالله سبحانه وتعالى، فإذا عقد الإنسان في قلبه أمراً ونطق بلسانه، فأقسم أن يفعل، إما أن يقرأ أو يأكل أو يسافر أو يدع أي شيء من المتروكات من السفر أو الأكل أو الدخول أو الخروج، فما عقده بقلبه، فهذا محل اتفاق على ورود الكفارة فيه.
ولكن المفسرين من السلف في قوله جل وعلا: فَكَفَّارَتُهُ [المائدة:89] يدخل في ذلك لغو اليمين مطلقاً، فهذا هو الأمر الدنيوي، أما الأمر الأخروي فهو المؤاخذة، ومن العلماء من قال: إنه ما عقدتم، يعني: ما انعقد في قلوبكم وما كسبته قلوبكم كما في هذه، فكسب القلب وعقده هو الذي يكون عليه الكفارة.
إذاً: لدينا معنيان في معنى المؤاخذة: معنى متسع، ومعنى ضيق.
المعنى المتسع: هو الذي يقول به العلماء، وهو أن عدم مؤاخذة الله عز وجل لا في الأمر الأخروي ولا في الدنيوي، فالمعنى متسع: هو المعنى الأخروي والدنيوي.
أما الضيق قالوا: هو المؤاخذة الأخروية فقط بخلاف التكفير، فمن قال بالمعنى المتسع بعدم المؤاخذة لا في الدنيا ولا في الآخرة هذا قول جمهور العلماء، أن لغو اليمين ليس فيها كفارة، ولا مؤاخذة في الآخرة، وقد جاء هذا عن جماعة من السلف، وروي عن عائشة عليها رضوان الله تعالى، وروي عن الشعبي و مجاهد بن جبر و النخعي و الحسن ، وغيرهم من المفسرين.
المعنى الضيق في المؤاخذة قالوا: هو المؤاخذة الأخروية فقط، أما في الدنيا فيؤاخذ، وهذا جاء عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله، كما رواه عنه علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس ، وقال بهذا الضحاك ، و إبراهيم النخعي وهو إسناده صحيح عن عبد الله بن عباس و إبراهيم النخعي ، ورواه جويبر عن الضحاك ، وهذه سلسلة فيها ضعف في رواتها.
والأرجح في هذا: أن الله سبحانه وتعالى لا يؤاخذ عبده بلغو اليمين، وأن المراد بالمؤاخذة هنا هي بمعناها المتسع الدنيوي والأخروي، وهذا الذي عليه جماهير السلف من المفسرين والفقهاء.
وأما قول الله سبحانه وتعالى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة:89]، أن المراد بذلك بما انعقد في القلب، وليس المراد بذلك تخصيص المؤاخذة وتقييدها بأمر الدنيا، وإبقاؤها على أمر الآخرة، ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليها في سورة المائدة في مسألة الكفارة ومراتبها، ويأتي الكلام في مسألة اليمين الغموس في سورة النحل بإذن الله عز وجل، كما في قول الله سبحانه وتعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا [النحل:92]، من العلماء من جعل اتخاذ الأيمان دخلاً هي اليمين الغموس، وهذا جاء عن جماعة من المفسرين، نتكلم عليه هناك في ذلك الموضع، ونتكلم في سورة المائدة على توكيد اليمين في تكرارها، هل اليمين تغلظ أو تغلظ إذا كانت على شيء واحد، ما كسب قلب الإنسان في ذلك، هل كسب القلب في هذا يتضاعف على الإنسان، وذلك ما يسمى بالتكرار.
من العلماء من قال: إن تكرار اليمين على شيء واحد أن هذا تغليظ لها، وهذا جاء عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله، قال: إنه يأخذ بالأعلى ويتأكد عليه وهو عتق رقبة، جاء عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال: كان عبد الله بن عمر إذا حلف على شيء مرة أطعم عشرة مساكين، وإذا حلف على شيء وكرره أعتق رقبة، كالذي يقول: والله لأفعلن كذا، والله لأفعلن كذا، والله لأفعلن كذا، فهذا هو التكرار، فحمل التأكيد على أعلى المواضع في مسألة الكفارة في عتق الرقبة، أن الإنسان يجب عليه في ذلك أعلاها وهو عتق رقبة، وإذا لم يتأكد الإنسان أو يؤكد يمينه بالتكرار فإنه يجب عليه في ذلك إطعام عشرة مساكين، وهذا يأتي عليه الكلام في سورة المائدة.
وأما اليمين التي يطلقها الإنسان من غير قصد في باب الإكرام، فيقول: والله لتشربن، أو لتأكلن، ذهب بعض العلماء وهو قول إبراهيم النخعي ، وقد صح عنه من حديث المغيرة عن إبراهيم قال: لغو اليمين هو قول الرجل: لتأكلن والله، أو والله لتأكلن والله لتشربن، أن هذا لا يدخل في هذا الباب، وذهب إلى هذا بعض الأئمة كـابن تيمية رحمه الله، لأن هذا ليس مما ينعقد في القلب، وأما ما يتعلق بمسألة معرفة ما ينعقد في القلب ويكسبه القلب، فالمراد بذلك هو ما يقصد الإنسان به يميناً قبل لفظه، يعني: يطلق أنه أراد بذلك يميناً بخلاف العبارة التي يطلقها الإنسان من غير قصد ثم يلتزم بها بأثر رجعي، وهذا خطأ، فلا بد أن يسبق في ذلك القصد، ولهذا فإن اللغو الذي يجري على ألسنة الناس ويسبق القصد لا اعتبار به، ولهذا إنما لا يؤاخذ الله عز وجل عباده بذلك أن الإنسان يجري على لسانه من الأقوال بقوله: والله.. لا والله، أو غير ذلك، أو بلى والله، وغير ذلك من الألفاظ التي يطلقها الإنسان، وهو لا يريد بذلك يميناً، ولكن تجري على لسانه.
وقد جاء عن بعض السلف أنه فسر كسب القلب وما انعقد عليه أنه المراد بذلك هو أن يقوم الإنسان ويصمد ويقول: والذي نفسي بيده، وغير ذلك من الألفاظ، يعني: يتهيأ الإنسان ويستحضر العبارة، جاء تفسير ذلك عن عطاء كما رواه عنه عبد الملك عن عطاء قال: ما كسب القلب، وما انعقد عليه، هو أن يصمد الإنسان ويقوم ويقول: والذي نفسي بيده لأفعلن كذا، فهذا من الأمور التي قصدها الإنسان، وكثير من الناس يلزم نفسه ببعض الأيمان وليست بلازمة عليها؛ لأنها جرت مجرى اللغو.
والمسألة من جهة الأصل خلافية في أصل هذه الألفاظ: لا والله، وبلى والله، هل هي لغو؟ وإذا كانت لغواً من العلماء من يوجب الكفارة باعتبار أن معنى المؤاخذة هو بالمعنى الضيق، المعنى الأخروي لا المعنى الدنيوي، والصواب في ذلك هو المعنى المتسع، وهو الذي عليه جمهور المفسرين من السلف والخلف.
وفي قول الله سبحانه وتعالى: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة:225]، الله سبحانه وتعالى جعل المؤاخذة في ذلك بما كسب القلب ثم تلاه بعد ذلك العمل، ولهذا تقدمت الإشارة أن الأمر الذي ينعقد عليه شيء هو أن يصاحبه أو يسبقه قصد.
الأمر الثاني: أن يتلفظ الإنسان مع قصده، لا ينعقد القلب على شيء بدون لفظ فيؤاخذ بذلك، ولا يطلق الإنسان لفظاً من غير انعقاد القلب فيؤاخذ بذلك، وهذا ما بيّن الله سبحانه وتعالى حكمته في عدم مؤاخذة الإنسان بقوله جل وعلا: غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة:225]، يعني: غفور على الإنسان فيما يجري عليه، والأصل في ذلك المؤاخذة على الإنسان؛ لأنه يطلق شيئاً لا يدرك معناه، وعلى ما تقدم فإن الله سبحانه وتعالى قد نهى أن يجعل عرضة مما يطلقه الإنسان على لسانه، فيقسم على أدنى شيء من التافه، ويجري على لسانه في كل قيام وقعود وذهاب ومجيء، وعلى الحقير والعظيم وغير ذلك، فهذا نوع من الاستهانة بذلك، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن ذلك فينبغي للإنسان أن يحتاط، ولكن ما يجري على ألسنة الناس من غير قصد مع عدم تعمدٍ فهذا مما لا يؤاخذ الله عز وجل به عباده، وإذا قلنا بمؤاخذة الإنسان باللغو وأن المؤاخذة على هذا المعنى، فبهذا نختصر كثيراً من المسائل عند العلماء في مسألة الكفارة، ويستثنى من ذلك ما يتعلق بمسألتين:
المسألة الأولى: اليمين الغموس وهو الأمر الماضي.
المسألة الثانية: الإقسام على شيء حرام، أن يشرب الإنسان خمراً، أو أن يدع واجباً كصلاة ونحو ذلك، فهذا من الإقسام على أمرٍ حرام، فهذا لا يدخل في دائرة الكفارة، ولهذا نجد عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى تنوع عنه القول في معنى اللغو، وفي مسألة لا يؤاخذ العبد حتى في لغو اليمين، فإنه يوجب عليه كفارة، ولكنه لا يوجب عليه في هذين، في مسألة اليمين الحرام، فيقول: يكفر عن خطوات الشيطان، وكذلك عن اليمين الغموس.
ومن الأمور المهمة في هذه الآية أن تفسير السلف عليهم رحمة الله لمعاني اللغو ينبغي أن نفهم أنه لا صلة له بالكفارة، فأمر الكفارة شيء، وأمر اللغو شيء آخر، فليس كل لغو عند العلماء ليس عليه كفارة، وليس كل هذه المعاني متضادة، وإنما هو من خلاف التنوع، ففي قول الله جل وعلا: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة:225]، ما جاء عن السلف عليهم رحمة الله تعالى من تفسير اللغو مما يجري على لسان الإنسان، وهو المعنى الأول في قول الإنسان: لا والله، وبلى والله، ومن ذلك ما جاء عنه في مسألة الغضب يعني: إذا أغلق على الإنسان فأطلق لفظ يمين، وكذلك ما يخبر به الإنسان وهو ليس بقاصد له، وإما أن يخبر عن شيء واقع، أو عن شيء مستقبلي، أو عن شيء ماض، فهذا ربما يطرأ على الإنسان شيء من النسيان، أو ينسى الإنسان ما أقسم عليه، فهذا داخل في معاني اللغو، كذلك ما جاء في كلام العلماء في مسألة لغو الإنسان في إقسامه على الأمر الحرام، أنه داخل في دائرة اللغو، وهذه المعاني يجتمع عليها معنى وهو: عدم انعقاد القلب، فإن الإنسان إذا أقسم على شيء وهو ناس فهذا قلبه لم ينعقد على هذا الشيء بعينه، إذاً: لم يجتمع الظاهر مع الباطن.
الأمر الثاني: إخبار الإنسان عن شيء سابق يخالف الحقيقة، فهذا إذا كان يعلم بذلك فهي اليمين الغموس.
إذاً: قلبه لم يوافق ظاهره، فلا يؤاخذ على هذا، كذلك في مسألة الغضب إذا أقسم الإنسان على شيء وهو غضبان، وغضبه في ذلك لا يستحضر معه نية؛ حينئذٍ لم يكسب قلبه من ذلك شيئاً.
إذاً: جامع هذا هو انتفاء قصد القلب، وهذا هو الظاهر في قوله جل وعلا: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة:225]، وكذلك في آية المائدة بِمَا عَقَّدْتُمُ [المائدة:89]، وهذا ما انعقد عليه القلب.
ولهذا نقول: إن الإنسان إنما يؤاخذ عند الله سبحانه وتعالى بما انعقد عليه ظاهراً وباطناً في العقود، وأما الأعمال فالله عز وجل يؤاخذ كل شيء بقدره في قدر المخالفة ظاهراً وباطناً، وإنما كلامنا هنا على أمور العقود الظاهرة والباطنة، كعقود الأيمان، وأمور الطلاق، وأمور النكاح، فلا بد من رجوع ذلك إلى نية الإنسان، كتزويج الإنسان أو تطليق أحد زوجاته، فهذا يرجع فيه إلى نية الإنسان أيهما يقصد، ولو كان متوجهاً إلى غيرها أو أشار إلى غيرها ما دام أنه قصد واحدة، إما أن يشير بالخطأ ونحو ذلك، فيقال: إنه يٌرجع في ذلك إلى نيته، فلا بد من توافق الظاهر مع الباطن، ويخف في ذلك الاعتبار بالأمر الظاهر ويخف الاعتبار بالأمر بالباطن، إذا كان الأمر متعدياً، ومثال ذلك: إذا تعاقد الإنسان مع شخص على مبايعة، فباعه أرضاً، أو باعه بيتاً، أو باعه سيارة أو سلعة أو نحو ذلك، ثم قال: إني لم أنو هذا، يعني: بعد تمام العقد، فإذا اجتمع الوصف الظاهر على هذا وتم الأمر فإنه لا عبرة بالنية، لأن إرجاع ذلك إلى نية الإنسان يفسد على الناس مصالحهم، فكل أحد يبيع شيئاً أو يشتري شيئاً ثم يقول: إني لم أنو فيرجع في ذلك فتنقض العقود ويلعب بأموال الناس، فنقول: ما وقع عليه الأمر الظاهر فلا يلتفت للأمر الباطن إذا كان ذلك من العقود المشتركة التي تكون بين الإنسان وبين غيره، كمسائل البيع، والشراء، وأمور الإجارة، وأمور الجعالة وغير ذلك التي فيها مصالح بين الناس، فإنه يؤخذ بالأمر الظاهر بخلاف الأمر اللازم الذي يكون للإنسان ومنفعته عليه وضرره عليه، فإن ذلك يرجع إلى أمر باطنه في ذلك.
والله سبحانه وتعالى إنما ذكر اسم المغفرة واسم الغفور والحليم بعد ذلك، أن الله سبحانه وتعالى قادر جل وعلا على مؤاخذة عباده فيما يوجب المؤاخذة، وذلك بأنهم يطلقون اسمه جل وعلا العظيم على ما لا يريدون توكيده، والله سبحانه وتعالى غفر لهم ذلك ولم يؤاخذهم عليه، كذلك الحليم حلمه سبحانه وتعالى على عباده بعدم عقابهم ولا أذيتهم، ولا إنزال السخط عليهم.
كذلك فيه إشارة أن الله سبحانه وتعالى إذا غفر لعبده لغو اليمين فيجب عليه ألا يتساهل في ذلك حتى يخرج إلى حمى الله جل وعلا في الأمور المحرمة فيقع في الحرام، فيؤاخذه الله سبحانه وتعالى على ذلك، فإن أول مراتب الحرام هي المكروهات، فإن تساهل الإنسان بالأيمان ويجعل الله عز وجل عرضة في أقواله وأفعاله، فهذا مما يؤاخذ عليه الإنسان بتساهله فيعاقبه الله عز وجل وتنتفي المؤاخذة.
وهنا مسألة تتعلق بمسألة الكتابة والإشارة مما يطرأ عليه اللغو، فهل ما يكتبه الإنسان يجري عليه اللغو من قوله: والله، أو شيء من هذا؟
نقول: إن ما توجه ذلك إلى اللسان باعتبار أن اللسان يسبق القصد، ولا يصاحبه تروٍ غالباً مما يجري في الكلام إلى الناس، عند شراء السلع: والله لا أشتريها، أو والله لا تناسبني أو شيء من هذا، وهي تناسبه، لكن أطلقها من غير قصد، فهل يجري في ذلك المكاتبة أم لا؟
نقول: إنما جعل الله عز وجل القول لغواً والأصل في اللغو أنه يربط بالأقوال؛ لأنه لسرعته يسبق القصد، فلم يؤاخذ الله عز وجل بذلك، وأما بالنسبة للكتابة فإنه يصاحبها غالباً تروٍ وتفكر؛ فإن المؤاخذة في ذلك ظاهرة إلا ما ندر مما يكتبه الإنسان على عجل أو نحو ذلك فيشبه في مسألة الكتابة، كذلك في أمور الإشارة لمن كان لا يتكلم وأراد بذلك يميناً بإشارة أو نحو ذلك.
إذاً: إشارة اليد كعبارة اللسان، فهي من جهة ترويه هل يصاحبها تروٍ أو تفكر أو قصد؟ فتكون كل حالة بحسبها.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني وإياكم إلى هداه وتقاه ورضاه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد...
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر