أمر النبي عليه الصلاة والسلام بقراءة الفاتحة لتضمنها هذا الباب العظيم, في كل ركعة, فقد جعل النبي عليه الصلاة والسلام صلاة من لم يقرأها خداجاً, كما روى البخاري ومسلم، ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ), وقال عليه الصلاة والسلام: ( كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فيها خداج خداج خداج )؛ وذلك لتضمنها هذا الباب العظيم من أبواب العبادة, وهو سؤال الله عز وجل الهداية, من طريق أهل الإيمان, وأهل الإيمان هم النبيون والملائكة ومن تبع الأنبياء, من أهل الصلاح والتقى والعبادة, فيسأل الله عز وجل طريقهم.
ولذلك سماه صراطاً مستقيماً غير معوج, والمعوج هو السبل التي تجتال الإنسان عن يمين وعن شمال, وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليها, كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام, في حديث عبد الله بن مسعود وغيره.
ما يعنينا الكلام فيه هذا اليوم, هو الكلام على جزء من ذلك الدعاء, وهو سؤال الإنسان الله جل وعلا البعد عن منهج المغضوب عليهم والضالين؛ والسبب من ذلك والحكمة من جعل ذلك الدعاء في كل ركعة, فهذا الدعاء يلهج به الإنسان ويتلفظ به في كل ركعة؛ ولغلبته على حال الإنسان في كل صلاة قَلَّ من يتدبر ذلك المعنى؛ والحكمة من ذلك الدعاء, ولماذا كان في كل ركعة؟ وما الحكمة من تخصيص اليهود والنصارى؟ وما الحكمة من جعل اليهود مغضوباً عليهم, والنصارى ضالين؟ وما الحكمة من التعقيب بعد هذا الدعاء بآمين؟ وليس من المعتاد في حال من الأحوال أن الإنسان إذا دعا لنفسه أن يعقب بعد دعائه بآمين, بخلاف هذا الموضع.
والحكمة من الإكثار من هذا الدعاء في هذه السورة ظاهر جلي؛ وذلك أنه ما من شر ومعصية قد عصي الله عز وجل بها وما من فتنة حلت في الناس إلا وأصلها من المغضوب عليهم والضالين, فإذا كفي الإنسان هذا الطريق كفي الشر كله, وإذا وفق لطريق أهل الإيمان على الصراط المستقيم وفق للخير كله.
ولهذا يظهر ذلك عند من تبصر بصفات أهل الكتاب من اليهود والنصارى, ويعلم الحكمة البالغة من جعل الإنسان يدعو في كل صلاة من غير ملل بهذا الدعاء, إذا علم صفاتهم وأحوالهم وصدهم عن دين الله جل وعلا, يعلم أن ذلك هو سبيل الخير في هذه الأرض, وأن الإنسان كلما أكثر من ذلك الدعاء بقلب مخلص لله جل وعلا تحصل الهداية وأبعده الله عز وجل, عن طريق الغواية والصراط المعوج.
ولهذا ينبغي للإنسان, بل يجب عليه حال قراءته للفاتحة في صلاة أو في غيرها, أن يستحضر التعبد بذلك اللفظ، وأن يستحضر أيضاً الدعاء.
ولذلك الله جل وعلا لما أنزل على عباده: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286], قال الله جل وعلا كما في الصحيح: ( قد فعلت, قد فعلت ), أي: أنه دعاء؛ ولذلك يحرم كثير من الناس بركة هذا الدعاء؛ لأنه ما استحضر ذلك الدعاء عند قراءته له, ويظن أن هذه إنما هي سورة تقرأ فحسب, بل هي سورة وهي دعاء أيضاً, ينبغي للإنسان أن يستحضر ذلك.
وإنما حرم كثير من الناس بركة هذا الدعاء العظيم وبعدوا عن التدبر لمعانيه, وكذلك بعدوا عن توفيق الله عز وجل لهم بإجابة الله جل وعلا لهذا الدعاء؛ لأنهم تلفظوا بذلك الدعاء والسؤال من غير استحضار الدعاء، وإنما استحضروا تلاوة تلك السورة فحسب.
ولذلك الإنسان يقرأ هذا السورة في اليوم والليلة ممن أتى بالفرائض والسنن التي أتت عن النبي عليه الصلاة والسلام, أكثر من أربعين مرة, يدعو هذا الدعاء, وهو أكثر دعاء يلهج به الإنسان بين يدي الله سبحانه وتعالى, فلا يجوز الجهل به, بل يجب التفقه بتلك المعاني والأسرار التي جعلها الله عز وجل في تلك السورة وفي ذلك الدعاء.
وما الحكمة أن تربط صحة الصلاة بتلاوة هذا الدعاء الذي أنزله الله عز وجل وجعله في كتابه العظيم في هذه السورة؟ ولماذا خص من فرق الضلال, والكفر, والأقوام المنحرفة عن سبيل الله تعالى خص اليهود والنصارى؟ وهذا يظهر بيانه بمعرفة ما يأتي من صفاتهم.
المغضوب عليهم والضالون هم اليهود والنصارى بالإجماع, ولا خلاف عند المفسرين في ذلك, روى الإمام أحمد والترمذي في سننه وغيرهما من حديث محمد بن جعفر عن شعبة عن سماك عن عباد عن عدي بن حاتم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اليهود مغضوب عليهم, والنصارى ضالون ), وجاء هذا عن عبد الله بن عباس من حديث الضحاك وابن جريج عن عبد الله بن عباس، وجاء هذا من طرق عدة عن مجاهد بن جبر وعكرمة وزيد بن أسلم وعبد الرحمن بن زيد وغيرهم من أئمة التفسير, قال: ابن أبي حاتم في تفسيره, قال: ولا أعلم خلافاً عند أهل التفسير أن المغضوب عليهم اليهود, والنصارى هم الضالون, فلا خلاف في ذلك عند المفسرين قاطبة, ويكفي في ذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا.
الحكمة من ذلك: أن اليهود والنصارى هم أشد عداء لهذه الأمة, وهم بمجموعهم أكثر أهل الأرض, وهم دعاة الضلال, فما من ذنب عصي الله عز وجل فيه إلا وهو فيهم, وما من عقاب عاقب الله عز وجل فيه أمة من الأمم, إلا ولليهود والنصارى فيه نصيب وافر؛ ولذلك عظم الله عز وجل جانب هذا الدعاء وجعل الإنسان يتلوه في كل ركعة, وجعل تأكيد ذلك أن الإنسان بعده يدعو الله عز وجل الاستجابة, فيقول: آمين, كما روى أهل السنن وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث وائل بن حجر أن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إذا قال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7], قال: آمين, يمد بها صوته ), وجاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إذا قال الإمام: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7], فقولوا: آمين, فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ), الملائكة تؤمن, والمصلون يؤمنون, ويرفع بذلك الصوت, وهذا يخرج عن الأصل؛ فإن الإنسان حينما يدعو الله جل وعلا بدعاء لا يعقب لنفسه بدعائه أن يقول: آمين, إلا في أضيق الأحوال وهذا منها, ويدل على التأكيد والعناية بهذا الدعاء, ولم يأت دعاء يدعو الإنسان به, ثم يعقب بدعائه بآمين أظهر وأجلى من هذا الدعاء على وجه الإطلاق لا في الكتاب ولا في السنة.
وذلك أن الإنسان يسأل الله عز وجل أبواب الخير كلها بسؤاله الصراط المستقيم, ويستعيذ من أبواب الشر كلها بالاستعاذة من طريق المغضوب عليهم والضالين وهم اليهود والنصارى.
ولذلك أكد الله عز وجل أهمية هذا الدعاء بمؤكدات عدة, وجعل جميع السبل التي تجعل الدعاء مستجاباً عند الله سبحانه وتعالى, وله الحظوة والمكانة جعلها في هذا الدعاء, من التقديم بين يدي الله عز وجل, والتقرب بالعبادة التي يتقرب بها الإنسان لله سبحانه وتعالى ويتوسل بها قبل دعائه, وكذلك أن يعقب بعد هذا الدعاء بآمين وهو الاستجابة؛ ولذلك الإنسان يدعو لكنه لا يقول: آمين؛ ولذلك موسى عليه الصلاة والسلام, كان يدعو ربه بلسان واحد وأخوه هارون يقول: آمين, فقال الله عز وجل لموسى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89], فالمؤمن والداعي كلاهما يدعو, فآمين هي الدعاء, فيجوز أن يقال: آمين بالمد, ويجوز أن يقال: أمين, بالقصر.
ولذلك يقول: مجنون ليلى:
يا رب لا تسلبنّي حبها أبداً ويرحم الله عبداً قال آمينا
ويقول الشاعر في قصر كلمة آمين إذا يقال: أمين:
تباعد مني فطحل إذ سألته أَمِين فزاد الله ما بيننا بعداً
فيجوز للإنسان في حال الدعاء أن يؤمن على دعائه, فيما جاء فيه الدليل, ويجوز في غيره, لكن الأصل لا يؤمن على دعائه؛ لأنه دعا بلفظ الدعاء وباللفظ آكد, ومن خلفه لكي لا يتلفظ مع الداعي ولا يكون الدعاء جماعة, قال: آمين, أي: استجب, ولكنه في هذا الموضع يدعو مع قراءته تلك أن الله عز وجل يستجيب له بقوله: آمين؛ ولذلك يعتبر المؤمن داعياً لله سبحانه وتعالى.
من أعظم الصفات التي وصف فيها أهل الكتاب -ويتضح فيها الحكمة البالغة من الحذر, من طريق المغضوب عليهم والضالين, وهم اليهود والنصارى, ويسمون بأهل الكتاب, وببني إسرائيل, واليهود والنصارى- من أظهر صفاتهم: عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولذلك يقول الله جل وعلا: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79], كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه, وهذا جعلهم يستحقون اللعن والطرد والإبعاد عن رحمة الله سبحانه وتعالى.
وعليه يعلم أن الإنسان إنما استعاذ من ذلك الطريق لأجل هذه الصفات, ومن أبرزها: تجنب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى صراط الذين أنعم عليهم أصحاب الخيرية الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر, يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران:110], وهذا هو الذي سأل الإنسان الله جل وعلا إياه بقوله, اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6], أي: صراط أهل الخيرية من هذه الأمة, وهم أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وما يقابلهم الذين استعاذ منهم, كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة:79]؛ ولذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد جعله غير واحد من السلف ركناً من أركان الإسلام, كما جاء عن حذيفة بن اليمان كما رواه محمد بن نصر عن حذيفة بن اليمان قال: ( الإسلام أسهم, الإسلام سهم, والصلاة سهم, والزكاة سهم, والصيام سهم, والحج سهم, والجهاد في سبيل الله سهم, والأمر بالمعروف سهم, والنهي عن المنكر سهم ).
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ما من خير يوجد في هذه الأرض إلا وأصله هذا الباب؛ وما من شر ينتشر في الناس إلا بسبب التفريط في هذا الباب؛ ولذلك وجد عند اليهود والنصارى جميع أنواع الذنوب والمعاصي والموبقات؛ وذلك أنهم لا يتناهون عن منكر فعلوه؛ ولذلك استحقوا المقت واللعن والطرد والإبعاد عن رحمة الله سبحانه وتعالى.
وبهذا تظهر أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح بين الناس؛ وذلك أن فيه حماية للأمة من انتشار الفساد في الأرض, ويكفي في ذلك أن فيه بعداً عن التشبه باليهود والنصارى, وذلك أنهم لا يقولون لمن أخطأ: إنك أخطأت, ولمن أصاب: إنك أصبت, وهذا هو طريق أهل الإيمان, بخلاف طريق اليهود والنصارى, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الوقاية للأمة من انتشار الفساد وانتشار الشر. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه دفع لنزول البلاء على الأمم والشعوب المجتمعات؛ ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117], (( مُصْلِحُونَ )), أي: آمرون بالمعروف وناهون عن المنكر؛ ولذلك كما في الصحيح من حديث أم سلمة قالت: ( قام النبي عليه الصلاة والسلام في ليلة من الليالي فقال: ويل للعرب من شر قد اقترب, اليوم فتح من ردم يأجوج ومأجوج هكذا, وحلق بأصبعيه: السبابة والإبهام, فقالت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم, إذا كثر الخبث ), ولذلك الصالحون في الأمة لا يكفون الأمة البلاء ودفع الشر, وإنما الذي يكفيها المصلحون الذين يقومون بأمر الله سبحانه وتعالى, الذي انصرفوا عن طريق اليهود والنصارى وسلكوا طريق أهل الإيمان, فتحققت للأمة بهم مصالح؛ من أعظمها: دفع الشر عن ذلك المجتمع من أن ينزل به عقاب الله سبحانه وتعالى والفتنة والفرقة؛ ولذلك يجهل كثير من الناس سنن الله سبحانه وتعالى في عباده حينما ينزل عليهم العذاب والعقاب في هذه الدنيا, يجهلون ما هي الحكمة من ذلك, فلينظروا لأنفسهم، فما أصابهم الله عز وجل من عقاب وعذاب فهو بسبب تقصيرهم بجانب من الجوانب الشرعية, وعلى رأسها: التفريط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى [هود:117], والهلاك يأتي بجميع أنواع العقاب: بالموت, وبالوباء, وبالغرق, وبالزلازل, والمحن, والفتنة, والقتال, وإذهاب المال, والبركة في الأعمار, وغير ذلك, لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117].
فأهل الإصلاح هم مدفعة للشر, ومدفعة للبلاء عن الأمم والشعوب.
يفهم كثير من الناس أن عقاب الله عز وجل للأمم إنما يكون بالزلازل, وأن يسقط الله عز وجل عليهم السماء كسفاً, أو يحل بهم الغرق, أو يسلط الله عز وجل عليهم الجراد والقمل والضفادع والدم وغير ذلك, ويجهل أن لله عز وجل أنواعاً من البلاء عديدة, فلا يعلم جنود الله عز وجل إلا هو, فمن عقاب الله عز وجل: الفتنة, والفرقة, بل سوء خلق الإنسان مع أهله وزوجته هو من هذا البلاء الذي ينزله الله عز وجل عليه, وربما وجد الإنسان بلاء في داره, وفي من حوله في رفقته, وربما لحقت به الضراء في ماله وفي نفسه وفي مجتمعه, وربما خُص بذلك, بحسب تفريطه في هذا الباب.
فلذلك أنواع البلاء والفتنة متعددة فليس لها باب معين, وأبواب الشر التي يدفعها الله عز وجل بالإصلاح كثيرة جداً, يدفعها الله عز وجل بإقامة شعيرة واحدة, وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وهو الإصلاح؛ ولذلك لا ينبغي للإنسان أن يفرح بوجود صالحين من غير إصلاح, بل إن الصالحين إذا وجدوا في الأمة من غير إصلاح فذلك علامة وبال وفتنة على الأمة, ويُفهم ذلك بإدراك أنه إذا وجد أهل الصلاح في الأمة وسكتوا عن قول الحق وبيان الشر والتحذير منه ركن العامة إلى قولهم، وظنوا أنهم سكتوا على بصيرة وبينة, فيعم الشر وتعم الفتنة حتى يدرس الحق, ويضمحل ويذوب في الأرض حتى لا يكون له رافع, إلا من رحم الله.
وإنما يفرح الإنسان في وجود المصلحين، وإن كان لديهم تقصير؛ ولذلك المصلحون الذين يوجد لديهم أصل الإيمان أفضل عند الله من العباد الزهاد الذين تفرغوا للعبادة والزهادة, لكنهم لا يرفعون لأمر الله رأساً في باب الإصلاح, ولا الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر؛ وذلك للتلازم بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين الدعوة إلى الله عز وجل وطريق الأنبياء, فدعوة النبي عليه الصلاة والسلام ومنهجه هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فكل دعوة محمد صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها هي دعوة إلى الخير, أمر بمعروف أو نهي عن منكر, لا يخرج شيء عن ذلك على الإطلاق؛ ولذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الدعوة إلى الله, وهو التعليم, وهو الإصلاح، وهو إرشاد الناس وهدايتهم, والتحذير من طريق الغواية, كل هذه العبارات جاءت في الوحي من الكتاب والسنة.
ومن صفات أهل الكتاب: علمهم بوحي الله عز وجل, لكنهم لا يعملون بما علموا من كلام الله؛ ولذلك استحقوا اللعنة والمقت, وقد افترق النصارى عن اليهود في هذا الباب, فكان اليهود أصحاب علم بكلام الله سبحانه وتعالى, بما أنزله الله عز وجل عليهم, فخالفوا ما علموا من كلام الله, فكان النصارى أصحاب جهل بكلام الله, فعبدوا الله عز وجل على غير بينة, فأصبح هؤلاء ضالين, وهؤلاء مغضوباً عليهم, وأصحاب الغضب أشد من أصحاب الضلال؛ وذلك أنهم قد علموا من دين الله سبحانه وتعالى ما خالفوه بفعلهم وهؤلاء لم يعلموا شيئاً, وعبدوا الله عز وجل على جهالة؛ ولذلك لا زال العلماء يحذرون من العالم الذي لا يعمل بعلمه، ولا يقول شيئاً مما علمه الله جل وعلا؛ لأن فيه شبهاً باليهود، ويحذرون من العابد الجاهل؛ لأن فيه شبهاً بالنصارى, يقول الفضيل بن عياض: سمعت سفيان الثوري يقول: كانوا يتعوذون من فتنة العالم الفاجر, ومن فتنة العابد الجاهل؛ فإن فتنتهما فتنة لكل مفتنون؛ وذلك أن العالم الفاجر فيه شبه من اليهود, والعابد الجاهل فيه شبه من النصارى؛ ولذلك يقول العلماء من السلف وغيرهم: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود, ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى؛ ولذلك شبه الله عز وجل اليهود بأنهم كالحمار يحمل أسفاراً, لديهم علم من علم الله سبحانه وتعالى لكنهم ما عملوا بذلك العلم؛ ولذلك حذر الله عز وجل من طريقهم ذلك.
ولذلك الشر اجتمع في أهل الكتاب بوجود الجهل في فرقة منهم وهم النصارى, ووجود العلم فيهم من غير عمل وهم اليهود, فاستحقوا اللعن والمقت, وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله سبحانه وتعالى.
وعليه يُعلم أن الله سبحانه وتعالى ما أمر الإنسان بالاستعاذة من طريق اليهود والنصارى إلا لهذه الصفات التي هي فيهم.
ومن شابه اليهود والنصارى استحق ما استحقوه من العقاب والعذاب الذي أنزله الله عز وجل عليهم كما يأتي ذكره, فإن الإنسان لا يلعن ولا يطرد لذاته, فلا فرق عند الله عز وجل بين أبيض وأحمر وبين عربي وعجمي إلا بتقوى الله سبحانه وتعالى, فمن تحققت فيه هذه الصفات, استحق من الاستعاذة من طريقه, وكذلك استحق عقاب الله عز وجل بأوضح حجة وأبين برهان؛ وذلك لأنه شابههم بتلك الصفات, فاستحق ما استحقوه بأظهر الحجج والبينات.
وعلى هذا يعلم الإنسان خطر كتمان العلم وعدم بيانه للناس, وكذلك يعلم الإنسان خطر الابتداع في دين الله سبحانه وتعالى, وإن عبد الإنسان الله جل وعلا وأكثر من العبادة والزهادة فإن هذا هو أعظم الحرمان إذا كان على غير علم من الله جل وعلا؛ ولذلك يروى عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى: أنه مر على صومعة نصراني وهو يتعبد فيها فبكى, فناداه فخرج إليه, فقال: ما يبكيك؟ فقال: عمر بن الخطاب عليه رضوان تعالى, تذكرت قول الله تعالى, عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:3], أي: عاملة في الدنيا, ناصبة في النار يوم القيامة, قد تجردت من لذائذ الدنيا وانقطعت إلى العبادة بالكلية, ونزلت في الهاوية في نار جهنم, فحرمت الدنيا والآخرة؛ ولذلك يعلم الإنسان خطر الابتداع في دين الله سبحانه وتعالى.
ولذلك كان الأصل في البدعة أنها أحب وأعظم إلى إبليس من المعصية؛ وذلك أن المعصية يفعلها الإنسان وهو يعلم أنها معصية ويدعو الله عز وجل أن يجنبه إياها, ويستغفر ويتوب منها, أما المعصية فيفعلها الإنسان وهو يظن أنها عبادة لله عز وجل وقربة, وينتظر من الله عز وجل ثواباً عليها.
ولذلك روي عن النبي عليه الصلاة السلام من طرق متعددة أنه عليه الصلاة والسلام قال: ( لا يقبل الله من صاحب بدعة توبة ), قال الإمام أحمد عليه رحمة الله: المراد بذلك أنه لا يوفق للتوبة, ولماذا لا يوفق للتوبة؟ لأنه قد أُشرب في قلبه ذلك العمل؛ لأنه يفعله عن عبادة وتدين, وما يفعله الإنسان من أفعال عن طريق العبادة والتدين لا ينتزع من قلبه إلا بعبادة وتدين آخر, بخلاف ما يفعله الإنسان من باب المعصية, فينتزع عنه بحسب هواه وبحسب ثباته على دين الله سبحانه وتعالى واستقامة على أمر الله.
ولذلك كان أبعد الناس عن التوبة أهل البدع والضلال, وأقربهم إلى التوبة أهل الحق وأهل المعصية, الذين عصوا الله عز وجل مع علمهم أنهم عصوا الله عز وجل, فهم أقرب إلى التوبة؛ لأنهم يعلمون أن الله عز وجل قد أعد لهم عقاباً. وهذا الباب يستثنى منه اليهود؛ إذ هو في الأمم كلها إلا في اليهود, أي: في باب المعصية وفي باب البدعة, فالنصارى أقرب إلى التوبة من اليهود؛ ولذلك فاليهود لديهم علم بوحي الله عز وجل, أن هذا هو الحق؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء:197], من هو؟ محمد صلى الله عليه وسلم, يعلمونه في كتابهم أنه نبي الله سبحانه وتعالى حق, لكنهم خالفوه استكباراً, والمراد بعلماء بني إسرائيل هنا هم اليهود والنصارى, والنص ينصرف هنا إلى اليهود على الأولى؛ لأنهم أعلم بكتابهم من النصارى؛ ولذلك وقع التحريف في كتب النصارى أكثر مما وقع في كتب اليهود.
ومن صفات اليهود والنصارى: تحريفهم لكلام الله جل وعلا, والتحريف على ضربين:
إما تحريف للرسم واللفظ, وإما تحريف للمعنى, وكلها قد وقعت في اليهود والنصارى؛ ولذلك لعنهم الله عز وجل وطردهم وأبعدهم من رحمته.
والمعنى الثاني: صرف اللفظ عن ظاهره, قد وقع فيمن له شبه باليهود والنصارى, ممن ينتسب للعلم من أهل الإسلام, فصرفوا معاني الألفاظ إلى غيرها؛ ليصدوا عن سبيل الله؛ ولذلك خالفوا ميثاق الله عز وجل الذي أمر به, وهو البيان للناس, فلما خالفوه استحقوا اللعن والطرد والإبعاد, فاشتركوا مع اليهود والنصارى باللعن؛ ولذلك يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159], قيل في اللاعنين: إنهم الملائكة, وقيل فيهم: إن الدواب كلها تلعنهم؛ لأنه قد ... الناس من مخالفة أمر الله عز وجل وما تبع ذلك من سخط الله عز وجل ونزول البلاء بسبب تحريف كلام الله سبحانه وتعالى, عن مواضعه؛ ولذلك حذر الله عز وجل من تحريف المعنيين.
ومن صفات اليهود والنصارى: ادعاؤهم أنهم أولياء الله جل وعلا وأحب الناس إليه, مع ظهور انحرافهم وضلالهم؛ ولذلك يجب على الإنسان أن لا يغتر بدعوة داع يقول: إنه أقرب الناس إلى الصواب, وأقرب الناس إلى الحق ما لم يكن لديه شيء من الكتاب والسنة يعتمد عليه, فكلٌ يدعي وصلاً بالكتاب والسنة وتمسكاً بهما, إلا من أزاغ الله جل وعلا قلبه فانحرف على بينة من أمره, فاستحق العقاب بالحجة الظاهرة البينة؛ ولذلك كان اليهود والنصارى أصحاب تدليس وتلبيس.
ومن صفاتهم: نقض المواثيق والعهود ومخالفة القول الذي قالوه ووعدوا به, كما قال الله جل وعلا: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ [المائدة:13], فهم نقضة للعهود والمواثيق, وما يحدث في نقض العهود والمواثيق بين الناس, من حدوث شر وفتنة وإراقة الدماء, واستباحة الأعراض والأموال وسلبها, يُعلم أن أصل ذلك هو نقض العهود والمواثيق التي بين الناس.
وقد جعل الله عز وجل العهود والمواثيق على ضربين:
الضرب الأول: ما أخذه الله عز وجل, على الناس من عهود ومواثيق فيما بينهم, فبين الحلال وبين الحرام, فمن اعتدى من ذلك فقد نقض ذلك الميثاق الذي قد أتمن عليه؛ ولذلك عظم الله عز وجل بعض المحرمات على بعض، وإن كانت من جنسها كلما قوي العهد والميثاق من أمر الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك عظم الله عز وجل الزنا من شخص لآخر, والربا من شخص لآخر, والقتل من شخص لآخر, والغيبة من شخص لآخر؛ ولذلك ( سئُل النبي عليه الصلاة والسلام: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تشرك بالله وقد خلقك, قيل: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك )؛ وذلك لوجود العهد والميثاق, وكذلك بغلبة حال الناس فيما تعارفوا عليه, ومن ذلك: أن الإنسان يأمن من حوله, وكلما قرب الإنسان من إنسان دل على ثقته به, فإن خانه دل على أن ذلك خبيث الطوية والسريرة, فكان به شبه من طريق اليهود والنصارى, فاستحق اللعن والمقت.
الضرب الثاني: ما أخذه بعض الناس من بعض على الوفاء، من لزوم طريقة صادقة في القول والفعل, أو في البيع والشراء, أو حقن الدماء وغيرها, فإذا نقض كان ذلك طريق اليهود والنصارى؛ ولذلك من سلك هذا السبيل كان به شبه من اليهود والنصارى.
ومن صفاتهم: الكذب على الله سبحانه وتعالى, والقول على الله جل وعلا بلا علم؛ ولذلك قال اليهود: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُه [المائدة:18], وقالوا افتراء على الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا [آل عمران:183], بماذا؟ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ [آل عمران:183], قالوه لعيسى عليه الصلاة والسلام, وهذا ادعاء وكذب على الله جل وعلا, فمن أفتى بغير ما علم لأجل مطمع من الدنيا فقد كذب على الله عز وجل, وكان فيه شبه من اليهود والنصارى.
وهذا من أعظم المخاطر التي لعن لأجلها بنو إسرائيل؛ وذلك أنهم لبسوا على الناس دينهم, ولبسوا الحلال بالحرام, فاستحقوا العقاب في الدنيا والآخرة.
وقد رتب الله جل وعلا على ذلك عقاباً لمن خالف أمره من اليهود والنصارى, فذكر الله سبحانه وتعالى أنواعاً من العقاب أنزله الله جل علا عليهم بسبب صفاتهم تلك.
أولها: اللعن والطرد والإبعاد عن رحمة الله سبحانه وتعالى, وهذا متعلق بجميع صفاتهم, نقض العهد والكذب على الله, وادعاء أنهم أولياء الله وأحباؤه, وأنهم أبناء الله جل وعلا, وكذلك تحريف كلام الله سبحانه وتعالى, وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, كلها كانت سبباً للعنهم, فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ [المائدة:13], فنقضوا المواثيق والعهود فلعنهم الله جل وعلا: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [المائدة:78], لماذا؟ بسبب تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وكذلك بسبب تحريفهم لكلام الله سبحانه وتعالى التحريف على وجهيه: بتحريف اللفظ, وتحريف المعنى.
ومن العقاب الذي أنزله الله عز وجل: أن جعل قلوبهم قاسية, فلا يرتدعون لكلام الله سبحانه وتعالى إذا تلي عليهم؛ ولذلك من كان به شبه من اليهود لا يرتدع لكلام الله جل وعلا, فقلبه شبيه بالحجارة, كما قال الله سبحانه وتعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [البقرة:74], أي: من بعد تلك الأفعال التي فعلوها قست قلوبهم, فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74]؛ ولذلك من شكا قسوة في قلبه فلينظر إلى صفاته, فسيجد فيها شبهاً ولو يسيراً من صفات اليهود والنصارى؛ ولهذا يعلم الإنسان عظيم الدعاء من الاستعاذة من طريق اليهود والنصارى.
ومن عقاب الله سبحانه وتعالى لهم: أن صرفهم الله عز وجل إلى الدنيا فجعل الدنيا همهم, من مال وبنين ومتاع, فكانوا أهل جبن, فأصبح الجبن وحب الدنيا ملازماً لهم؛ ولذلك قال الله عز وجل واصفاً جبنهم: لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96], وقال الله جل وعلا عنهم: لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ [الحشر:14], والقرى المحصنة هي التي عليها أسورة, وهذا من شدة الخوف والرعب من أهل الإيمان؛ لماذا؟ لكراهية الموت؛ ولذلك كلما كان الإنسان محباً للدنيا خشي الموت؛ لأن في الموت تفويتاً لتلك المصالح, وكلما تعلق قلبه بأمر الله جل وعلا هان عنده الموت, وأقبل إلى الله عز وجل, وهانت عنده في المقابل الحياة.
ولذلك كان من صفات أهل الإيمان المتعلقين بأمر الله سبحانه وتعالى: حب لقاء الله جل وعلا, فمن أحب لقاء الله جل وعلا أحب الله لقاءه, ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه, ولذلك كان من صفات اليهود والنصارى: أنهم كانوا عبدة للدينار والدرهم, ففتنوا بها عن عبادة الله سبحانه وتعالى. ومن نظر إلى أحوالهم في عصرنا وجد ذلك بيناً ظاهراً, وجد أنهم أجبن الخلق على الإطلاق, وأحب الناس للحياة والركون إليها, فأحدهم يود أن يعمر ألف سنة؛ ولذلك وجد فيهم من يضع نفسه في أماكن مبردة بدرجات برودة عالية؛ طمعاً في أن يتطور العلم وأن تعاد له الحياة, وهذا من شدة حب الحياة, وهذا موجود في اليهود والنصارى في عصرنا هذا, وهذا كله من حب الحياة؛ ولذلك انصرفوا إليها انصرافاً تاماً, وتركوا الآخرة, والله عز وجل قد بين على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام أن أعمار أمته من الستين إلى السبعين, وقليل من يجاوز ذلك, فمهما فعلوا وصنعوا فأمر الله عز وجل باقٍ وأعمار الناس على ما هي عليه, لا يزيد حرصهم على الحياة وبحثهم عن طول البقاء زيادة في أعمارهم, وإن كان الله عز وجل قد أمر بالأخذ بالأسباب, وأمر بالتداوي, لكن لا يعني ذلك انصرافاً عن أمر الله سبحانه وتعالى وتجنباً له.
ومن عقاب الله عز وجل الذي أنزله عليهم: الفرقة فيما بينهم, والصراعات التي تحل بين اليهود والنصارى, فما من أصحاب شريعة, وما من فرقة تنوعت المذاهب والمشارب فيها كما عند اليهود والنصارى, وهذا من عقاب الله عز وجل؛ ولذلك قال الله عز وجل واصفاً حالهم: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14], أي: متفرقين, وإن رأيتهم في الظاهر متكاتفين، إلا إنهم يلعن بعضهم بعضاً, وإذا حلت في الأمة فرقة وفتنة فيها فبسبب لحوق شيء من صفات اليهود والنصارى بهذه الأمة, وكلما بعد الناس عن تلك الصفات ألف الله عز وجل فيما بينهم وجمع كلمتهم على الحق.
ومن صور عقاب الله عز وجل لهم: أن يسلط عليهم من يحرم عليهم الحلال؛ ويحلل عليهم الحرام؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى عن اليهود: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160], فحرم الله عز وجل عليهم الطيبات عقاباً, والتحريم هنا يحمل على وجهين:
الوجه الأول وهو الأصل: ما أنزله الله عز وجل عليهم في التوراة والإنجيل من تحريم الطيبات؛ عقاباً وردعاً.
والأمر الثاني: فيتعلق بالقدر, لا بالأمر الشرعي, وهو أن يسلط الله عز وجل عليهم من الأحبار والرهبان من يحرم عليهم الطيبات, بتحريف كلام الله سبحانه وتعالى, فتتفرق كلمتهم، ويقع فيهم الفرقة, ويحرم كثير منهم اللذات.
وهذا هو الغلو في دين الله عز وجل الذي وقع فيه اليهود والنصارى؛ ولذلك إن وقعت ... أمة من الأمم تحريم الحلال وتحليل الحرام وخاصة تحريم الطيبات التي أباحها الله عز وجل في كتابه العظيم؛ فهذا دليل على مشابهة تلك الأمة لليهود والنصارى بشيء من الصفات التي عاقبهم الله عز وجل عليها, فما يظهر في أمة من غلو ومجانبة للحق وتحريم الطيبات فيكون من هذا الباب, وهذا ظاهر جلي.
ولذلك ظهرت الأمة الحرورية, وهم الخوارج الذين حرموا ما أحل الله عز وجل, وأحلوا ما حرمه الله سبحانه وتعالى, وجانب التحريم لهم أشد, ولذلك أمروا الحائض أن تصلي, فتقضي ما فاتها من الصلوات حال حيضها؛ ولذلك لما ( سئلت عائشة عليها رضوان الله تعالى عن قضاء الحائض للصلاة, قالت: أحرورية أنت؟ ), هؤلاء فيهم شبه من اليهود؛ وذلك أن الله عز وجل سلط عليهم بمشابهتهم تلك الصفات من يحرم عليهم الطيبات, وهذا من عقاب الله سبحانه وتعالى لهم.
ومن عقاب الله جل وعلا لهم: أن يسلط الله سبحانه وتعالى عليهم من يسومهم سوء العذاب؛ كما سلط على اليهود والنصارى في أول أمرهم فيسلط الله جل وعلا عليهم في آخر أمرهم.
وأمر الله عز وجل آت لا محالة, فإذا سلط على الأمة عدو من أعدائها فهذا بسبب تفريطها بأمر الله سبحانه وتعالى, ومجانبة الصواب, ومشابهة اليهود والنصارى فيما لديهم من صفات؛ ولذلك يعلم الإنسان لماذا يدعو في كل ركعة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7], وهذا يظهر للإنسان جلياً إذا علم صفات اليهود والنصارى, وأن الإنسان بذاته لا يُطرد, فاليهود ما طردوا ولا لعنوا من رحمة الله سبحانه وتعالى لذواتهم, أو أنهم من سلالة معينة, فمن اليهود عرب, ومنهم عجم, ومنهم بنو الأصفر وغيرهم, ولكن بسبب ما فعلوه استحقوا ذلك العقاب من الله سبحانه وتعالى, بحسب ما أتوا من صفات وتعدٍ على الله جل وعلا؛ ولذلك أنزل الله عز وجل عليهم أنواع العقاب كله.
ومن نظر لحال الأمة في وقتنا وجد كثيراً من صفات اليهود عند كثير ممن ينتسب للإسلام, من الركون إلى الدنيا وحبها, وإهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وتحريف كلام الله عز وجل عن مقاصده, ونقض العهد والمواثيق, فاستحقوا قسوة القلب, ودب بينهم الفرقة والاختلاف والشقاق والنفاق, وركنوا إلى الدنيا, وبث الله عز وجل في قلوبهم حب الدنيا وكراهية الموت كراهية مفرطة, وجعل الله عز وجل عدوهم يتسلط عليهم فيستبيح بيضتهم, وعليه يعلم أن كل شر حل بهذه الأمة فبسبب تلك الصفات, وكل خير نزل فيها فبسبب نقصان تلك الصفات فيها, حتى يكون المرء من اليهود من بني إسرائيل خالصاً, فيستحق ما استحقوه بالكمال والتمام؛ ولذلك حذر الله عز وجل من الركون إلى اليهود والنصارى؛ لأن الإنسان مجبول على المشاكلة والمشابهة في الخلق الظاهر والباطن؛ ولذلك حذر الله عز وجل من موالاة أعداء الله عز وجل من اليهود والنصارى, فقال الله جل وعلا: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51], أي: منهم في الظاهر والباطن, ويستحق ما استحقوه من عقاب؛ لأنه قد تلبس بتلك الصفات, فاستحق عقاب الله سبحانه وتعالى.
ولذلك من أجل الواجبات وأعظمها: أن يستحضر الإنسان ما يتلوه من دعاء في كل ركعة, فكلما تبصر بذلك الدعاء استحق الإجابة, وكلما تلفظ به من غير تدبر بعد عن الإجابة؛ لأن الله عز وجل لا يقبل دعاء الإنسان وقلبه ساه لاه, فإذا علم الإنسان أنه يدعو الله عز وجل بهذا الدعاء في كل يوم أكثر من أربعين مرة, فلو استحضر هذا الدعاء في أيامه, وهو يؤديها على وجه الوجوب والفرض فإنه قطعاً سيجد رباً سميعاً مجيباً يجيبه إذا دعاه, ولذلك يقول الله جل وعلا: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186], فالإنسان يدعو, ومأمور بذلك, بل لا تصح عبادته أي: الصلاة إلا بذلك, فما بقي عليه إلا استحضار الدعاء أنه دعاء وتلاوة لكلام الله جل وعلا أيضاً, وكذلك استحضار لمعنى كلمة آمين, أي: استجب لنا ذلك الدعاء.
نسأل الله تعالى أن يبعدنا عن تلك الصفات كلها، ويسلك بنا الطريق المستقيم, فإذا استحضر الإنسان ذلك رزق خيراً عظيماً وكفي شراً عظيماً ووبالاً عليه وعلى أمته.
السؤال: هل الخوف من تبعات قول الحق والصدع به يعد عذراً شرعياً يعذر به المرء؟
الجواب: الخوف أصالةً ليس بعذر في ترك بيان الحق وبيان الخطأ, والتمييز بينهما حال الالتباس, ولو كان الإنسان يعذر بالخوف لعذر الأنبياء, وما أرسل الله عز وجل الأنبياء, قد تحصل للأنبياء من الخوف والأذية ما تحصل, مع ذلك أمر الله عز وجل بالإبلاغ؛ ولذلك يقول الله عز وجل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67].
السؤال: هل الصدع بالحق فرض كفاية, يسقط إذا قام به من يكفي أم يلزم من كل أحد؟
الجواب: إذا قام به من يكفي وظهر ذلك للناس, وكان بذلك البيان كفاية فإنه فرض كفاية.
السؤال: هل قول: حسبي الله ونعم الوكيل دعاء أم إخبار؟
الجواب: هو دعاء, قاله الخليل إبراهيم, وقاله موسى, وقاله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
السؤال: إذا أراد الله أن ينزل هلاكه بأهل بلد وكان فيهم مصلحون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ فهل يدفع الله عن أهل البلد الهلاك بسببهم أم أنه ينزل بهم الهلاك فقط؟
الجواب: إذا قام المصلحون بذلك لا ينزل عليهم الهلاك؛ لأن الله عز وجل أخذ على نفسه ذلك, إذا قام المصلحون بالواجب الكامل ببيان الحق والإصلاح يحمي الله عز وجل الأمم من الهلاك؛ لذلك يقول الله عز وجل في كتابه العظيم: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117].
السؤال: ما صحة حديث ... والربا أشد من كذا وكذا, يعني: ست وثلاثين ...؟
الجواب: الحديث روي من أكثر من خمس طرق لا يصح منها شيء, وهي واهية كلها ولا يصح، وهو ضعيف.
السؤال: هناك من يقول: إن اليهود والنصارى ليسوا مشركين بل كفار؟
الجواب: هذا خلاف عند أهل السنة, مع اتفاقهم على كفرهم, يقول ابن حزم الأندلسي في كتابه الإحكام, قال: اليهود والنصارى كفار باتفاق المسلمين, واختلفوا بتسميتهم مشركين, وهم من جهة اللغة يسمون مشركين.
السؤال: هل يجوز لعن اليهود والنصارى أو على سبيل العموم؟
الجواب: يلعن اليهود والنصارى بطبيعة الحال ولا خلاف في ذلك, لكن هل يلعن بعينه؟ يلعن بعينه إذا عُلم أنه باق على يهوديته.
السؤال: هل من توضيح للقول في أن كثرة الطرق لا تزيد الحديث إلا وهناً؟
الجواب: نعم؛ وذلك أن الراوي كلما قل ضبطه اضطرب بالرواية, فيروي الحديث من طرق عدة, فيحدث به تارة هكذا، وتارة هكذا، وتارة هكذا؛ لعدم وضوح الإسناد لديه, فيظن أو يتوهم البعض أن هذا من تعدد الطرق وهو من الوهم والخلط وعدم الحفظ.
السؤال: أرى كثرة المعاصي والمنكرات حينما أذهب إلى السوق، كيف آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر, فتجد هذا مسبلاً وهذا كذا, وهذه متبرجة ونحو ذلك؟
الجواب: يأمر الإنسان بالمعروف, وينهى عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة, وبقدر استطاعته, ولا يقال: إن على الإنسان أن يتفرغ لكل معصية يراها, وإنما يبين بقدر استطاعته, من غير إحداث معصية أعظم.
السؤال: ما صحة حديث ( سيأتي على الناس زمان يقول فيه ... ليس هذا الزمان زمان جهاد, فمن أدرك ذلك الزمان )؟
الجواب: هذا الحديث قد رواه أبو عمرو الداني في كتاب الفتن, ورواه كذلك ابن عساكر في تاريخ دمشق من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه مرسلاً, والحديث في إسناده ضعف؛ لإرساله, ولضعف عبد الرحمن بن زيد.
السؤال: هل يجوز ... مشاركة اليهود والنصارى في التجارة؟
الجواب: جائز بالاتفاق, النبي عليه الصلاة والسلام تعامل مع اليهود والنصارى, بل ( مات ودرعه مرهونة عند يهودي ), والرهن نوع من أنواع التجارة, فيتعامل الإنسان مع اليهود والنصارى بالتجارة والبيع والشراء, والله عز وجل قد أباح نكاح نسائهم, وهذا عند عامة العلماء, ولم يخالف في ذلك معتبر في قوله في هذه المسألة, نعم يروى عن عبد الله بن عمرو شيء يخالف في هذا, لكن العلماء عامة على الجواز, سواء في النكاح أو في البيع والشراء, وهذا ما لم يكونوا محاربين.
السؤال: هل قراءة سورة الفاتحة واجبة حتى في الصلاة الجهرية إذا كان الإمام يقرأ, هذا بالنسبة للمأموم؟
الجواب: أولاً قراءة سورة الفاتحة في الصلاة أياً كانت جهرية أو سرية, هي فرض في كل ركعة, وهذا مروي عن جماعة من السلف كـعبد الله بن مسعود وأبي ذر وأبي الدرداء وسعيد بن جبير وعلقمة و... الأسود وغيرهم, وقد قال به غير واحد من الأئمة؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره, هذا عند جمهور العلماء, خلافاً لـأبي حنيفة عليه رحمة الله, فإنه قال بعدم وجوب قراءة الفاتحة بعينها, وإنما يقرأ ما يتيسر له من القرآن.
أما المأموم في الصلاة الجهرية فإنه لا يقرأ على الصحيح.
السؤال: كيف يُرد على من يقول: إننا لا نحب الرسول صلى الله عليه سلم؛ وذلك أننا نقول: إنه لا يجوز التبرك بحجرته, ونقول: إن أباه في النار؟
الجواب: نقول: نحن أمة متعبدة بكتاب وسنة, ولا تعلق لهذا الأمر بجانب العقل, ولا تحكيم عاطفي, النبي عليه الصلاة والسلام هو نبي هذا الأمة, وعبد الله جل وعلا ورسوله, فهو الذي قال: ( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ), وقال عليه الصلاة والسلام: ( اللهم لا تجعل قبري عيداً ), وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ), فالنبي عليه الصلاة والسلام حذر من ذلك كله, ومن تبرك بالنبي عليه الصلاة والسلام, أو بقبره فقد خالف أمره وخالف ما كان عليه الصحابة عليهم رضوان الله تعالى, فالصحابة حين نزلت بهم نوازل, وحدث المرتدون وحدثت فرقة ما لجأوا إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام, بل إن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى, لما كان عام الرمادة وجفت الأرض قدم العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ليدعو لهم وهم يؤمنون, فقال: اللهم إنا كنا نستسقي برسول الله صلى الله عليه وسلم, فتسقينا، والآن نستسقي بعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقنا, فيسقون, أي: أن النبي عليه الصلاة والسلام قد انقطع عنه الوحي وانقطع أمر الله عز وجل له بوفاته, ونحن متعبدون بالكتاب والسنة, ولسنا متعبدين بعواطف, أو متعبدين بعقول ونحو ذلك, فيقال: إن النبي عليه الصلاة والسلام قد قال: ( ورحم الله امرئ انتهى إلى ما سمع ).
السؤال: هناك من يقول بعدم جواز الدعاء على اليهود والنصارى جملة؛ وذلك بحجة أنه من التعدي في الدعاء وأن بقاءهم فيه حكمة؟
الجواب: الإنسان بين أمرين؛ حينما يدعو على وجه العموم جائز من وجهين: في باب الخير وفي باب الشر, ومن قال بالمنع, أنه لا يجوز الدعاء على اليهود والنصارى بالجملة فيلزمه أن يحرم الدعاء بهداية الناس بالجملة, أو المغفرة للناس جملة, فهو يدعو للمؤمنين والمؤمنات, اللهم ارحم المؤمنين والمؤمنات, ومنهم من لا يُرحم, أخبر الله عز وجل أن هناك من يعذبه في النار, ثم يخرجون إلى الجنة, فهو لم يستحق الرحمة وأنت تدعو على وجه العموم.
كذلك أن نوحاً عليه الصلاة والسلام قد دعا على الكفرة على وجه العموم, كذلك الله عز وجل قد لعن اليهود والنصارى على وجه العموم, لكن أن يخاطب الإنسان أنه يستحضر بقلبه ألا يلعن إلا فئة معينة, لا يعم كلهم؛ هذا فيه تكلف, والبحث عن مثل هذه المسائل فيه ما فيه, بل يدعى عليهم على وجه العموم جملة وتفصيلاً, وحكمة الله عز وجل وقدره ماضيان ولا يخالف دعاء الإنسان ذلك.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر