الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد تكلمنا فيما سبق على جملة من أعلام الساعة وأشراطها، ونكمل شيئاً من ذلك أيضاً.
ومن أشراط الساعة: ظهور الدجل والكذب، وعلى الأخص على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء ذلك عن رسول الله في جملة من الأحاديث، منها ما جاء في الصحيح من حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تقوم الساعة حتى يظهر دجالون كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي )، وهؤلاء قد ظهروا.
وقد ظهر جملة منهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستفاد من هذا أنه إذا تجرأ الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه من باب أولى يتجرأ على من هو دونه، وبهذا يعلم أن انتشار الكذب في الناس من الخديعة، وشهادة الزور، وكتمان الحق، ورمي الناس بالباطل، والقذف، وغير ذلك، داخل من جهة الأصل تحت هذا العموم.
وتقدم معنا أن ما دل الدليل عليه أنه من أشراط الساعة وكان من المغلظات فإنه يدخل فيه ما كان دونه، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة من أشراط الساعة التي ربما تندرج حكماً تحت هذا، منها ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من ظهور شهادة الزور، وكتمان شهادة الحق، وذهاب الأمانة، وهذا لا يمكن أن يظهر في الناس من يفتري على النبي عليه الصلاة والسلام أنه بعده، أو مجدد لما اندثر من ملته عليه الصلاة والسلام، ولا يمكن أن يقبل أو يظهر في الناس إلا وقد تفشى فيهم ما هو دون ذلك من الكذب بين الناس والخديعة، وشهادة الزور، وكتمان الحق وغير ذلك.
ويتبع هذا جملة من المسائل أيضاً التي ربما لا تتعلق ببابنا هذا، ولكن الأصل المتقرر والذي ينبغي أن يشار إليه هو أنه إذا دل الدليل على أمر معظم فيندرج تحته من أشراط الساعة من جهة المعنى ما هو دونه، كما تقدم الإشارة إلى مسألة استحلال الحر والحرير والخمر والمعازف؛ وذلك أنه يدخل تحتها إباحة ما دونها مما ليس من القطعيات من مواضع الخلاف كما تقدم الإشارة إليه في جملة من المواضع.
ومن علامات الساعة وأشراطها: حرب الجهاد والمجاهدين وصدهم عن سبيل الله، وقد دل الدليل كما في صحيح الإمام مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يزال قوم يقاتلون في سبيل الله ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة )، وهذا قد جاء من حديث ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحديث السابق متضمن لمعنى مهم جداً، وهو: أن الجهاد باقٍ إلى قيام الساعة، ولا يمكن أن يخلو عصر من العصور، ويظهر هذا في قوله: (ما يزال) أو (لا يزال) كما جاء في بعض الروايات، وهذا يفيد الديمومة على كل حال، وهل هو في كل بلد؟ يقال: إن النص ظاهر في الدوام في كل عصر، بخلاف البلدان، فقد يندثر ولا يوجد في بلد، وإنما يوجد في بلد آخر بحسب الداعي، وهذا يظهر من قوله عليه الصلاة والسلام: ( ما يزال الجهاد قائماً ).
وجاء في رواية: ( حلواً خضراً )، فقد روى ابن عساكر في كتابه تاريخ دمشق من حديث عباد بن كثير عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يزال الجهاد حلواً خضراً ما نزل القطر من السماء، ونبت النبات من الأرض، ويظهر أقوام من المشرق يقولون: لا جهاد، وإن الجهاد قائم إلى قيام الساعة، أولئك شرار الخلق، فرباط يوم في سبيل الله خير من إعتاق ألف رقبة من ولد إسماعيل )، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعضد هذا الخبر، وإن كان في إسناد الأول ضعف، فإنه قد تفرد به من هذا الوجه عباد بن كثير عن يزيد الرقاشي ، وكلاهما مضعف، لكن قد روى أبو عمرو الداني في كتابه الفتن من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يزال الجهاد حلواً خضراً ما نزل القطر من السماء، وإنه يأتي زمان يقول قراء فيه: لا جهاد. وثمة جهاد، قال: فقلنا: يا رسول الله! وهل ثمة من يقول ذلك؟ قال: نعم، من عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ).
وفي هذا جملة من الفوائد:
الفائدة الأولى: ما يتعلق بديمومة الجهاد وبقائه إلى قيام الساعة، وأنه لا يمكن أن يندثر من الأزمنة، وأنه قد يندثر من بلد بحسب داعي الحاجة، وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فائدة تتعلق بهذا، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قد جاء عنه النص عاماً كما في الصحيح في غير هذا السياق، قال: ( لا يضرهم من خذلهم )، إشارة إلى وجود من يخذل ومن يقوم بأمر الله سبحانه وتعالى في مثل هذا.
الفائدة الثانية: أن من قام بأمر الله جل وعلا فإن ذلك لا يضره وجود الخذلان مع وجوده، وهذا دليل على النص السابق الذي تقدم أنه ( ما يزال قوم يقاتلون في سبيل الله حتى تقوم الساعة )، فوجود الخذلان لا يضر ولكنه قد ينقص، ولكن ديمومة الجهاد باقية إلى قيام الساعة.
ومن الفوائد المتعلقة بهذا الخبر أن مسألة صد الجهاد وعدوان أعداء الله سبحانه وتعالى لازمة لعدة مسائل:
المسألة الأولى: الركون إلى رغد العيش، وهذا قد تقدم الإشارة إليه، وهو من لوازم حرب الجهاد بأنواعه، سواء كان جهاد اللسان أو جهاد السنان، ولازم ذلك تمكن رغد العيش في الناس، وقد جاءت جملة من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستقلال ما يشير إلى هذه اللوازم، فإذا تمكن الأمر من الناس كالشح المطاع، والهوى المتبع، والمال واستفاضته في الناس، فإنه حينئذٍ يقوم الناس في رد هذه الأمور طبعاً باستدامة رغد العيش.
وقد تقدم الإشارة إلى هذا فيما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في البخاري من حديث عوف بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً )، وهذا فيه إشارة إلى استفاضة المال في الناس، وفيه إشارة أيضاً إلى ما تقدم الإشارة إليه أن الإنسان يأخذ المال حتى لا يشعر من أي باب أخذ من حلال أو من حرام، وقد جاء النص في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: ( ليأتين على الناس زمان لا يأبه الرجل أخذ المال من حلال أو من حرام )، ويأتي الكلام عليه، فإذا استحكم في المجتمع حب المال، والأثرة، وكراهية الموت، وحب الدنيا، فإنه يلزم من ذلك الطمع في الحياة، والعيش والاستقرار فيها، ولازم هذا كراهة القتال في سبيل الله، وخذلان من يجاهد في سبيل الله عن ماله وعرضه ودينه، وهذا قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: ( حب الدنيا وكراهية الموت )، ويأتي الإشارة إليه.
واستفاضة المال قد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام كما تقدم الإشارة إليه، وأخذ المال قد يكون من ثمار ذلك، وهو أن الإنسان إذا أخذ المال من أي باب من أبوابه سواء كان حلالاً أو حراماً ففيه إشارة إلى ضعف الإيمان في قلب الإنسان، وأما إذا كان يتحرى الحلال فإنه في الأغلب لا يطمع في صد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو جهاد السنان الذي جعل الله عز وجل فيه البركة في هذه الأرض.
وقد أشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى علة لطيفة في ديمومة الجهاد بقوله: ( ما يزال الجهاد حلواً خضراً ما نزل القطر من السماء، وظهر النبات من الأرض )، فربط ذلك بهذا الوصف، في إشارة إلى أن الناس يرزقون الخير بهذا، ويغدق عليهم النعيم بمثل هذا السبب، والامتثال لأمر الله سبحانه وتعالى.
وثمة أمران يرزق الله جل وعلا بسببهما الخير والرزق، وينزل القطر من السماء والنبات من الأرض:
أولهما: على سبيل الاستدراج، فإن الله عز وجل يستدرج من بغى وتعدى حتى إذا أخذه لم يفلته، وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك الخبر: ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته).
ثانيهما: بسبب الخير والجهاد، ومجالدة أعداء الله سبحانه وتعالى سواء من الكفرة أو من المنافقين، فإن من ثمار ذلك التمكين في الأرض، وأن يجعل الله عز وجل للأمة المكنة، ومن أثر تلك المكنة أن يرزق الله الأمة ثمار تلك التمكين، وهو خيرات هذه الأرض وجبايتها، وكذلك حكم الناس وإشاعة العدل فيهم، فإذا ظهر هذا الأمر في الناس فإنه حينئذٍ دليل على وجود مسبب ذلك، وهو إقامة حدود الله سبحانه وتعالى في هذه الأرض.
المسألة الثانية: أن الناس إذا صدوا كلمة الحق، وإظهار الجهاد في سبيل الله، وخذلوا خير الأرض في زمانهم، سلط الله عز وجل عليهم عدواً، سواء كان من بينهم أو من غيرهم، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا تبايعتم بالعينة, وأخذتم أذناب البقر, ورضيتم بالزرع, وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم عدواً ).
وقوله عليه الصلاة والسلام: ( سلط الله عليكم عدواً ) إشارة إلى سبب التسليط، وهو الدعة، وأخذ المال من حيث يأتي من غير تمييز لحلال ولا حرام.
وقوله: ( ورضيتم بالزرع ) إشارة إلى رغد العيش، وإشارة أيضاً إلى الخيرات التي يفتحها الله عز وجل على الأمة في الأزمنة المتأخرة التي لم تكن في السالف، وهذا من أشراط الساعة أيضاً.
وقوله: ( وتركتم الجهاد في سبيل الله ) معنى الترك أن يترك على سبيل العموم مع وجوده على سبيل الأفراد، فسلط الله عليكم من الذل ما لا ينزعه الله عز وجل عنكم حتى تعودوا إلى دينكم، وفيه إشارة إلى نزع الإيمان من قلوب كثير من الناس بسبب هذا الأمر.
وقد يكون من ثمار ذلك شرط من أشراط الساعة وهو: شيوع الخير ورغد العيش في الأرض، وهذا قد أخبر عنه عليه الصلاة والسلام كما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تقوم الساعة حتى تعود جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً كما كانت )، وقوله عليه الصلاة والسلام: (تعود) إشارة إلى كونها في السابق على هذه الحال، وقد نص على تأكيد ذلك في بعض الروايات حيث قال: (كما كانت).
وهنا إشارة إلى مسألة مهمة، وهي أن الله عز وجل يفعل ذلك على سبيل الاستدراج للأمة، أو على سبيل التذكير بزوال الدنيا، والعاقل يتذكر من أمثال تقلب الأحوال، وتغير الزمان، وتقلب المواسم بزواله من هذه الدنيا، وكذلك أحوال الأمم السالفة.
وأما الذي علق قلبه بالدنيا فإنه ينصرف إلى إشغال قلبه بلذائذ الدنيا ومتعها، ومن ذلك الميل إلى رغد العيش، وقد أشار إلى هذا المعنى النبي عليه الصلاة والسلام في خبر آخر قد رواه البخاري و مسلم من حديث سعد الطائي عن محل بن خليفة عن عدي بن حاتم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لئن عشتَ ) ، وجاء في رواية: ( لترين الظعينة تسير من الحيرة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله )، ومعنى الظعينة: هي المرأة التي تركب الراحلة، فتسير من الشام إلى مكة لا تخاف إلا الله.
وقال بعض العلماء: إن المراد بهذا هو ما يكون في آخر الزمان في زمن المهدي، وقد يكون قبل ذلك.
والأظهر والله أعلم أنه قبل ذلك، وهذا مشاهد في الأزمنة المتأخرة أن المرأة تستطيع أن تسير لوحدها حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله، وفي هذا إشارة إلى شيوع الأمن ومنة الله سبحانه وتعالى على خلقه، وفيه إشارة إلى مسألة رغد العيش، فإن تعدي الناس على حرمات الآخرين بالسطو والسلب إشارة إلى وجود الجوع والفقر والحاجة والفاقة والمسكنة، وهذا انتفى مع شدة الخير في الناس، مما يدل على أن انتشار المال ورغد العيش مع الأمن متلازمة في زمن واحد، وإلا فإن كثيراً من الناس يسطون على قوافل الحجيج وعلى المسافرين، فيكونون من جملة قطاع الطريق إذا كان هناك خوف من الفقر والمسكنة والجوع ونحو ذلك، وينتشر حينئذٍ في الناس الخوف ولوازم ذلك كله.
ومن نظر إلى علامات الساعة استطاع أن يجمع جملة منها من العشر والعشرين تحت شرط واحد، فيكون بينها تلازم، وقد تقدم الإشارة إلى هذه المسألة.
ومن الإشارات في هذا أن ما يرد في كلام النبي عليه الصلاة والسلام من اختلاف الحال ليس من التضاد، وإنما لتقلب الزمن وسرعة تغير الحال.
وتغير الحال هي من الحكم اللطيفة التي يجعلها الله سبحانه وتعالى في الأرض حتى يتذكر الإنسان انقلاب حاله، ويتذكر مآله، وأن مرده إلى الله سبحانه وتعالى، فالله جل وعلا جعل تغير الإنسان في ساعته وفي يومه، فيتقلب الإنسان في الساعة الواحدة من فرح إلى ترح، ومن صحة إلى مرض، وفي يومه من نهار إلى ليل، ومن صحة إلى سقم، ويتقلب أيضاً في أيامه بتغير أسمائها، وكذلك في فصوله لأمور وحكم عديدة، من أظهرها أن يتذكر الإنسان حاله كما تقدم الإشارة إليه، وفيها إشارة إلى ضعف الإنسان وملله من ديمومة الحال، فإن الإنسان لو كان الليل سرمداً عليه إلى قيام الساعة تضجر وربما تمنى الموت، ولو كان الشتاء عليه سرمداً لتمنى زواله؛ ولهذا قلب الله حاله من حال إلى حال، وفي هذا يقول الشاعر مشيراً إلى هذا المعنى:
يحب المرء في الصيف الشتاء وإذا جاء الشتاء أنكره
لا بذا يرضى ولا يرضى بذا قتل الإنسان ما أكفره
لا يرضى الإنسان بغنى يحب الحاجة؛ ولهذا كم من أصحاب الغنى يتقشف في بعض أوقاته، وإذا جاءه شتاء تمنى الصيف، وإذا جاءه صيف تمنى الشتاء؛ ولهذا قلب الله سبحانه وتعالى تلك الأحوال إشارة إلى فطرة الإنسان وضعفه.
ومن أشراط الساعة المتعلقة والتي قد يكون لها صلة في هذا الباب: نزع الأمانة من قلوب الناس.
ونزع الأمانة من قلوب الناس فيه إشارة إلى الشح المطاع، والهوى المتبع، والطمع والجشع.
ومن ثمار ذلك ما سلف من قطيعة الأرحام، وتسليم الخاصة، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارة إلى تقلب الإنسان في يومه وليلته من أمين إلى خائن، ومن مؤمن إلى كافر في يوم وليلة.
وتقدم معنا مسألة التقلب بين الإيمان والكفر، فإن الرجل يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، أو يصبح مؤمناً ويمسي كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا، وقد جاء عند البخاري من حديث زيد بن وهب عن حذيفة بن اليمان قال: ( حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمرين: أما الأمر الأول: فهو الأمانة أنزلها الله في جذر قلوب رجال، وأما الآخر فحدثنا أن الرجل ينام فتزول الأمانة من قلبه )، وهذا فيه إشارة إلى أن الإنسان تزول الأمانة من قلبه لا بسبب يدركه، وإنما بسبب لو تفحصه وتأمله وجد أنه له علاقة بحرمات الله كمعاصي السر وغير ذلك، فإن الله عز وجل يجعلها من أسباب تقلب الإنسان وردته وانتكاسه.
وتقدم الإشارة معنا أن الإنسان إذا كان صاحب إيمان وصاحب علم عصمه الله جل وعلا من الردة والانتكاسة، وأما إذا كان من أصحاب العلم وليس من أصحاب الديانة والإيمان والعبادة فإنه يتقلب من حال إلى حال، من أمين إلى خائن بحسب مطامع الدنيا.
وأشار في الحديث إلى الأمانة، ولها لوازم متعددة؛ لأنها أصل العدل في الناس، فالسلطان إن لم يكن أميناً جار وبغى وظلم، والعالم إذا لم يكن أميناً شاع في فتاوى الجهالة والزور ونشر الجهالات في الناس، وأواسط الناس وعامتهم ودهمائهم إذا نزعت الأمانة من قلوبهم كتموا الشهادة، وأظهروا شهادة الزور، وكذبوا وخانوا، وعقوا وقطعوا الأرحام، وسعوا في الأرض فساداً.
وفي الإشارة إلى نزع الأمانة لازم لكثير من أشراط الساعة؛ لأن الأمانة إذا نزعت من قلوب الناس انتشر ما عداها من أنواع الخيانة، وأظهر ذلك ما جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من علامات النفاق وهو الكذب، والغدر، والمبالغة في الفجور عند الخصومة، فإن هذا يشتهر عند من نزع الله جل وعلا منه الأمانة.
ومن أشراط الساعة وعلاماتها: فشو القتل بين أهل الإسلام، والدليل على ذلك ما رواه البخاري وغيره من حديث أبي هريرة قال: قال عليه الصلاة والسلام: ( والله لا تقوم الساعة حتى لا يدري القاتل فيما قَتل، والمقتول فيم قُتل، قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: الهرج، والقاتل والمقتول في النار ). وفي هذا جملة من الفوائد واللطائف:
كثير ممن يتكلم عن أشراط الساعة يشير إلى كثرة القتل وفشوه في الناس، ثم يستنبط جملة من المسائل منها ما يحدث في الأزمنة المتأخرة من الحرب العالمية الثانية وكثرة القتل، والحرب العالمية الأولى وما حدث من ملايين من القتل، وليس المراد ذلك، والمراد من هذا هو القتل بين أهل الإسلام، والدليل على ذلك في نفس الخبر؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( القاتل والمقتول في النار )، والكفرة الأصل فيهم أنهم في النار، والإشارة هنا إلى قتل أهل الإسلام بعضهم لبعض؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار )، وهذا هو المراد هنا؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا يدري القاتل فيما قتل، ولا المقتول فيما قتل )، أي: لأي سبب قتل وسفك دمه.
وفي ذلك إشارة إلى تسلط قادة على الناس يقودونهم لسفك دماء إخوانهم، وهذا ظاهر؛ لأن القاتل لا يدري لماذا يذهب؟ والمقتول لا يدري، والعلة في ذلك إما أنه مأجور، وقد جاء في ذلك أن يكون الغزو أجراً، وفيه علة ولا نورده؛ لأنه ليس على شرطنا، وهذا يظهر من كلام النبي عليه الصلاة والسلام هنا: ( لا يدري القاتل فيما قتل، ولا المقتول فيم قتل )، وفيه إشارة إلى أنهم يقاتلون من أجل مطامع بلا أهداف ولا غايات، أو أنهم يجبرون على ذلك.
وقد حدث جملة من هذه المقاتل التي حدثت في كثير من الأزمنة القريبة بين المسلمين، فقتل من ذلك مئات الآلاف المسلمين، ولا يدري القاتل لماذا قتل؟ ولا المقتول لماذا يقتل؟ لأن الحروب هي حروب مطامع أسياد وقادة، أو ثروات ونحو ذلك، والذين يُقتلون ويقتلون لهم المال.
والذي يظهر أن مثل هذا الخبر الذي أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الموضع، وجاء مجملاً في جملة من المواضع أنه يظهر الهرج في آخر الزمان، والمراد بذلك القتل، وجاء على سبيل الإجمال المراد به هرج أهل الإسلام.
ومن القرائن التي تؤكد أيضاً على أن المراد به هو قتل أهل الإسلام لبعضهم وليس المراد الكفار: أن كثيراً من أشراط الساعة وجل أشراط الساعة وقائعها في بلاد الإسلام.
ولا يكاد يوجد شيء في بلاد الكفر متمحض ليس للمسلمين فيه صلة، وإما أن يكون مشتركاً بين المسلمين والكفار، كمسألة الغزو والقتل وهدم الكعبة من الجيش الذي يريد الكعبة، والقتال بين المسلمين واليهود، أو ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا تقوم الساعة حتى يكون الروم أكثر الناس ) يعني: أكثرهم عدداً، وهذا ظاهر.
والتعليل الذي أظنه وأفهمه من هذا الحديث في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( حتى يكون الروم أكثر الناس ) لا أعلم من أشار إليه، ولكن هو اجتهاد إن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي، هو انتشار اللسان الأعجمي، فالعربي هو من تكلم العربية ولو أكان أعجمياً؛ ولهذا العرب تقول: الأعرابي من سكن البادية ولو كان أعجمياً، والأعجمي من تكلم الأعجمية ولو كان عربياً؛ في إشارة إلى تعلم الانجليزية وفشوها في الناس، وبه نعلم أن ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام: ( الروم أكثر الناس ) هم ليسوا أكثر الناس عدداً، وأقل الناس محاربة لسنن الله الكونية من سنة التكاثر الفطري يحاربون ذلك، ولكن فشت لغتهم، فأخذها سلوكاً كثير من العرب والعجم، فتكلم بها بسبب الاستعمار، أو الغزو الفكري كثير من الناس، وأصبحوا روماً، وإن كان أصلهم لا يرجع إلى ذلك العرق؛ ولهذا المتأصل عند العرب أنه يكون الرجل عربياً إذا تكلم وانغمس معهم وتكلم العربية، ويكون الرجل أعجمياً إذا انغمس مع العجم وتكلم الأعجمية، وهذا ظاهر، ومن يتكلم في أشراط الساعة يشير إلى مسألة العدد، وليس هذا بظاهر.
ومن المسائل المتعلقة بأشراط الساعة: ظهور أمراء ظلمة، وهذا قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه الإمام مسلم من حديث أم سلمة قال: ( لا تقوم الساعة حتى يظهر أمراء تعرف منهم وتنكر، فمن عرف فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم يا رسول الله؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة )، وفي هذا جملة من المسائل:
المسألة الأولى: أن ظهور البغي وجور السلطان يكثر في الأزمنة المتأخرة أكثر من الأزمنة المتقدمة، وهذا جاء تفسيره في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك حينما أتوا إليه وشكوا إليه ظلم الحجاج ، فقال أنس بن مالك قال: (اصبروا فإني سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم ).
وثمة تلازم بين هذه المسألة ومسألة أخرى قد تقدم الإشارة إليها، وهي مسألة اختفاء العلماء والقائمين بالحق، فإذا اختفى العلماء والقائمون بالحق ظهر جور السلطان وطغى، وتفسير ذلك جاء عند ابن وضاح في كتاب البدع والنهي عنها من حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى يقول: (لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه، لا أقول: عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهابكم ذهاب علمائكم).
وقول عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى هنا: (لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه، لا أقول: عام أمطر من عام)، يعني: أن المقياس بالشر وانتشاره، وليس بجور السلطان، ولا بنزول القطر من السماء، ولا بالقحط، (ولا عام أخصب من عام) أي: بظهور الربيع في الأرض، (ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهابكم ذهاب علمائكم)، وهذا فيه إشارة إلى أن خيرية السلاطين لا تدل على خيرية الشعوب، فقد يكون ثمة سلطان باغٍ، والشعب فيه خير عظيم، لكن ما وجد العلماء؛ لأنهم يقومون بالحق، وقد يوجد في شعب ويتولى أمره سلطان عادل، ويكون حينئذٍ العلماء لا يظهرون الحق لشهوات ومطامع في أنفسهم، وينتشر الجهل في الناس، والأولى هي أكثر من الثانية، والثانية أندر، وهذا من شاهده وقرأ التاريخ وجد له أمثلة كثيرة، هذا فيما يتعلق بمسألة المقياس.
وأما صفة هذا الخبر الذي جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام: ( تعرف منهم وتنكر ) أي: أنهم يقولون من الخير ويقولون من الشر، والواجب على من كان تحت ولايتهم أن يقوم بأمرين:
الأمر الأول: المعروف أن يأتي بالمعروف، وهذا فيه أدنى درجات السلامة، وهو أن يقوم الإنسان بالمعروف.
الأمر الثاني: ألا يظهر المنكر؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام ( فمن عرِف )، وجاء في بعض الألفاظ ( فمن عرّف) يعني: عرف المعروف ولم ينكر المنكر خشية من السطوة ( فقد برئ ) يعني: أبرأ ذمته، ( ومن أنكر فقد سلم ) أي: من أنكر على السلطان شره فقد سلم من عقاب الله سبحانه وتعالى، وهذه هي المرتبة العليا.
قالوا: ( أفلا نقاتلهم؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة )، وهذا فيه مسألة مهمة: وهو أنه لا يجوز الخروج على أئمة الجور ما أقاموا الصلاة، وإقامة الصلاة أشار إلى إقامتها، واستثني من ذلك أمر وهو الزمن، فإذا أقيمت على الهيئة التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ولو في غير زمانها؛ وجب طاعتهم من غير خروج، وأداؤها معهم، وأداؤها في الدور.
وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام تفسير ذلك كما في صحيح مسلم من حديث أبي ذر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( يأتي أمراء يصلون أو يؤدون الصلاة على غير وقتها )، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالصلاة معهم، وأداء الصلاة في وقتها. ومع أن هذا الأمر من الجور والظلم وكأن الإنسان لم يصل إلا أن إظهار هذه الشعيرة من المطالب التي يطلب من السلطان أداؤها.
وقوله هنا: ( ما أقاموا فيكم الصلاة ) فيه إشارة إلى أهمية تقدم السلطان في إمامة المصلين، وهذا من الأمور والمسائل المهجورة في كثير من الأزمنة المتأخرة، ومن مهمات السلطان: الإمامة في الصلاة، وخطبة الجمعة، وصلاة العيدين، والاستسقاء، كما كان على ذلك الخلفاء والأمراء على مر العصور إلى أزمنة متأخرة، بل حتى إلى أيام الدولة العثمانية، ثم بعد ذلك ظهر الانشقاق البين بين شقي ولاة الأمر، وولاة الأمر على صنفين في ظاهر الكتاب والسنة: أمراء وعلماء، وهم عند الإطلاق يشملون العالم الذي يقتضى أن يكون أميراً، فلما وقع انشقاق بين هذين المعنيين استشكل كثير من الناس الإطلاقات الواردة في كلام الله سبحانه وتعالى؛ لأن الأصل في السلطان أن يكون عالماً، والأصل فيه أن يكون قائداً في العبادات كما أنه من القواد في شئون الدنيا، وهذا ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأتباعه من الخلفاء والأمراء.
ومن جملة أشراط الساعة التي قد تندرج تحت هذا المعنى: تولية من لا يستحق الولاية من الولايات الصغيرة والمسئوليات، وهي تبع لظلم وجور السلطان، وهذا من أشراط الساعة، ويظهر هذا في قول النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة )، وهذا بين أن الأمر إذا أسند من لا يستحق ذلك فانتظر الساعة، ومعنى عدم الاستحقاق يكون بالتعيين في الولايات للقرابة، لمصالح المال، للجاه، وغير ذلك، وليس للأحقية علماً وسياسة وعقلاً، وبهذا يعلم أن هذا داخل تحت ذلك الأصل، وربما يتبع ذلك وضع الأخيار ورفع الأشرار، وقد جاء في ذلك جملة من الأخبار عن النبي عليه الصلاة والسلام عند الطبراني وغيره، ووضع الأخيار معناه أنهم لا يرفعون ويهمشون، ويرفع الأشرار ويبرزون في الناس، وهو تابع وهو من ثمار جور السلطان.
ومما يدخل في هذا ما أخبر فيه النبي عليه الصلاة والسلام من تعدي السلطان على حرمات الناس بالضرب والسطو والعدوان، وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك بعض الروايات المتعلقة بالأعيان، وجاء فيها على وجه العموم.
ومن أمور الأعيان ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح من حديث ابن الزبير عن أمه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( يكون في قريش كذاب ومبير. فأما الكذاب فهو المختار ، وأما المبير -وهو الذي يسفك الدماء- فهو الحجاج )، وجاء إطلاق من غير تقييد فيما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في صحيح الإمام مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا تقوم الساعة حتى يقوم أمراء معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس )، وهذا فيه إشارة إلى التسلط على عامة الناس بالضرب والتعدي عليهم. وفي هذا جملة من المعاني: منها غياب العدل في الناس.
ومن ثمارها أيضاً ظهور عدم تحكيم شريعة الله في كثير من المجتمعات، وإلا فأمثال هذه الظاهرة لو وجدت لاقتص للضعيف من القوي، وانتفاء القداسة عن ذلك المجتمع بنص الخبر كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام عند الطبراني قال: ( لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف حقه من القوي غير متعتع )، يعني: غير متلكئ، فإذا وجد ذلك دل على أن انتزاع القداسة من ذلك المجتمع وتلك الأمة بعدم تطبيقها لشرع الله، وهذا ظاهر في كثير من الدول التي تنتسب للإسلام، وتجعل دستورها الإسلام، ويظهر فيها العدوان والتسلط: تسلط على الدماء، تسلط على الأموال، انتشار الفواحش والبغي علانية، شرب الخمر في الشوارع وبيعها، وغير ذلك من إباحة المحرمات القطعية، وهذا فيه تسليط لما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا من علامات الساعة التي ظهرت.
وفيه أيضاً أن الإنسان في مثل هذه الحال يصبر وهو مأجور، وحينما ساق النبي عليه الصلاة والسلام ذلك، وسكت عن حق الانتقام فهذا دليل على أن الصبر في مثل هذا أفضل؛ لأن عدم الصبر ربما يورث انتقاماً وسفك دماء، وهو أشد وأخطر من ذلك.
ومن علامات الساعة وأشراطها: ظهور الزنا والتعري في المجتمعات، وتفسخ النساء، وهذا قد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في صحيح الإمام مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( صنفان من أمتي لم أرهما: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا ).
وفي هذا إشارة إلى جملة من المعاني:
أولها: أن ظهور التعري في الأجساد دليل على ظهور التعري في الأخلاق، وهذا لازم، وقد جاء النص فيه في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع آخر كما عند الترمذي وغيره من حديث عبد الله بن عمرو قال: ( لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش وقطيعة الأرحام )، وفي قوله عليه الصلاة والسلام: (الفحش) بذاءة اللسان من القذف، وغير ذلك، والكلام البذيء السافل وهو تبع لذلك.
ويجعل كثير من العلماء ظهور الفحش أمراً مستقلاً عن مسألة التعري، وهي لازمة له، فلا يمكن لامرأة أن تتعرى في مجتمع إلا وقد انتشر الفحش علانية أمام البصر، وإلا لو كان المجتمع قد أمسك لسانه عن الفحش والكلام الساقط لما وجد ذلك، فيعلم أن هذا من لوازمه، وبه يعلم أن انتشار الفحش سابق للتعري وهو سبيل إليه.
ثانياً: فيه إشارة إلى أن التعري وظهور السفور في الناس ليس المراد به ظهوراً فقط، وإنما المراد به الاستحلال، وهذا يلزم منه نفي الحجاب، وإباحة السفور، وأنه ليس من الدين، ودليل ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها )، وهذا الفعل ليس من المكفرات إلا إذا استحله الإنسان؛ لأنه من المحرمات القطعية، وإذا أحل الإنسان شيئاً قطعياً معلوماً من الدين بالضرورة كفر، ومن ذلك إذا أنكر الحجاب بمفهومه العام بعيداً عن فروعه المختلف فيها فهذا كافر، وبه يعلم أن من قال: إن لباس المرأة على الإطلاق من حريتها، ولا علاقة له بالدين، تلبس ما شاءت، وتتعرى متى شاءت، أن هذا ردة وخروج عن دين الإسلام باتفاق العلماء؛ لأن ذلك إنكار لنص معلوم من دين الإسلام بالضرورة.
وبه يعلم أن كثيراً من الدعوات التي يدعو إليها كثير ممن ينتسب إلى الفكر الإسلامي في زمننا، أو بعض الكتاب الجهلة المأجورين الذين يقولون: إن الحجاب من اللباس والزي والعادات والتقاليد، فهذه عبارة كفرية، والواجب أن يبين الحق لصاحبها وتقام عليه الحجة، فإن أبى كفر وارتد والعياذ بالله، ووجب على ولي أمر المسلمين أن يقيم عليه حد الردة؛ حتى لا ينتشر الفساد في الناس، وهذا قد يكون من لوازم ظهور الزنا، وقد تقدم الكلام عليه، وقد يكون بين هذا وذاك من التلازم، وهذا كما تقدم الإشارة هو مما يتعلق ببلاد الإسلام وليس في بلاد الكفر.
وكثير من الناس حينما ترد لديه هذه النصوص يقول: إنها وجدت في بلاد الغرب، وليس هذا المراد، لا التعري، ولا ظهور الزنا، ولا الخمر، ولا سائر أشراط الساعة، لا يقصد به الغرب إلا ما دل عليه الدليل أن المراد به الغرب، فيقال حينئذٍ: إنه على هذا التقييد، وإلا فالأصل فيه أن الأمر معلق بقيام الساعة، وقيام الساعة يهتم بها أهل الإيمان، وأما أهل الكفر فعليهم تقوم الساعة وهم شرار الخلق.
ومن علامات الساعة وأشراطها: طلب العلم على الأصاغر، وهذا قد رواه ابن المبارك في كتابه الزهد من حديث عبد الله بن المبارك عن عبد الله بن لهيعة عن بكر بن سوادة عن أبي أمية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أمارات الساعة طلب العلم على الأصاغر ). وقد سئل ابن المبارك عن الأصاغر؟ فقال: هم أهل البدع، وجاء في تفسير: ما الأصاغر؟ قال: الأصاغر هم الذين يقولون برأيهم، أما صغير يروي عن كبير فليس بصغير.
وهذا فيه جملة من المسائل:
أولها: الإشارة إلى وجود البدع وانتشارها في المتأخرين، حتى يلتبس على الطالب الحق، أو يلتبس على طالب العلم الطلب عند أهل الحق والعدل، أو عند أهل الابتداع، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما ذكر الأمارات، والأصل في الأمارات أن تكون ظاهرة، فلا تكون قضية عين، يعني: طالب العلم يطلب العلم على مبتدع، لا، ليس المراد هذا، وإنما المراد هو تفشي هذا الأمر، وهذا من لوازمه ظهور الابتداع في الدين بسائر صنوفه وأنواعه، سواء ما يتعلق بالأصول أو ما يتعلق بالفروع.
ثانياً: انسياق كثير من طلاب العلم إلى طلب العلم عند المبتدعة والضلال، أو الذين يفتون بالرأي من غير نظر إلى دليل.
ثالثاً: أن الإنسان ينبغي وإن تقادم الزمن أن يعتني بالدليل؛ ولهذا قال ابن المبارك : (أما صغير يروي عن كبير فليس بصغير). يروي عن كبير، ما المراد بالكبير؟ المراد بالكبير هم خير القرون الصحابة، وقبل ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فالتابعين، فأتباع التابعين، فالأئمة المهديين من أئمة الإسلام وأعلامهم، وهكذا بحسب المسألة.
وأما مسألة: الأخذ عن المبتدع فهل يسوغ لطالب العلم أن يأخذ عن مبتدع أم لا؟
هذه المسألة هي من مواضع الخلاف عند العلماء، وتحريرها يحتاج إلى بيان، وخلاصة ذلك أن النصوص عند النظر فيها في كلام العلماء في كتب علوم الحديث ومصطلحه وقواعده نجد أن العلماء يحذرون من الرواية عن المبتدع وحضور مجلسه، ونجد أن العلماء عند الحديث عن المبتدع يقولون: لا تجالسوهم ولا تخالطوهم ولا تآكلوهم، وإذا جمعنا ذلك إلى عمل الأئمة نجد أن الأئمة الكبار الذي يحذرون لهم شيء من المرويات عن بعض المبتدعة، ولازم ذلك أن نقول: إما أن هؤلاء الأئمة قصدوا أمراً غير المتبادر من التحذير المطلق، وإما أن يكون الأئمة قد تناقضوا في ظاهر قولهم، وإما أن يكون أحد قولهم ناسخ والآخر منسوخ، وهذا لا قائل به.
وأما النهي عن الأخذ عن المبتدعة بالإطلاق في كلام الأئمة عليهم رحمة الله فإن مرادهم بذلك حتى لا يرتفع المبتدع فيكثر سواده، هذا أمر، فإنه إذا كثر وارتفع عند الناس أخذ منه العامة الفتاوى في الدين، وإن كان طلاب العلم يأتون إليه لأخذ الأسانيد والمرويات، فالعامة يتأثرون بثقة من أخذ عنه، فيأخذون عنه الدين، ولا يعلمون أن طلاب العلم يأخذون منه الإسناد فيرتفع أمره، فيختلط حينئذٍ الحق بالباطل؛ ولهذا حذروا من ذلك.
ومن التعليلات أيضاً حتى لا يقرب طالب العلم من المبتدع فيشرب من بدعته من حيث لا يشعر، وذلك أن طالب العلم إذا قرب من مبتدع وأنس به وجلس إليه، وخاصة إذا اقترن ذلك بظهور عبادة من المبتدع والإكثار من الطاعة تأثر ببعض أقواله، وإن لم يتأثر وكان صاحب حجة التمس له العذر، أو جعل قوله من مسائل الخلاف، وهو محض خطأ دخل عليه في دينه، وكل ذلك من المواضع التي ينبغي أن يحترز فيها.
وخلاصة هذا الجمع بين كلام الأئمة عليهم رحمة الله تعالى في التحذير من الرواية عن المبتدع وبين مروياتهم عنهم، وذلك أنه إن تمكن إنسان من الأخذ عن المبتدع من غير رفعه، ومن غير التأثر ببدعته، ولا تكثير سواده عند الناس، ولا خدع العامة في ذلك أن ذلك سائغ؛ ولهذا وجد عند الإمام أحمد عليه رحمة الله، وهو ممن حذر في الرواية عن المبتدعة، جملة من الشيوخ من المرجئة، وله من رجاله أيضاً ممن يوصف بالقدر، وبشيء من الاعتزال، وبشيء من النصب، ووجد هذا في صحيحي البخاري و مسلم في بعض صنوف الابتداع كالتشيع، وبعض عقائد الخوارج ونحو ذلك، فدل على أن الأئمة عليهم رحمة الله لا يريدون ذلك بالإطلاق، وإنما يريدون ذلك بنحو هذه التقييدات.
وعليه يعلم أن إبراز المبتدعة في المجالس، وإظهارهم في وسائل الإعلام مظهر القدوة أن هذا من لوازم أشراط الساعة، وهذا من لوازم ما جاء هنا في هذا الخبر في قوله: (أن يطلب العلم عند الأصاغر)، وهم أهل البدع أو أهل الرأي، وهذا دليل على شيوعه.
ومن أسباب الشيوع إظهار هؤلاء في موضع القدوة الحسنة ونحو ذلك، وهذا مما ينبغي أن يحذر منه؛ لأن الابتداع في الدين هو أعظم وأشد عند الله سبحانه وتعالى من المعاصي والذنوب؛ وذلك أن المعاصي يفعلها الإنسان من الوقوع في الفواحش، وأكل مال الغير، وهذه يدفعها شهوات، ويقر الإنسان بنفسه أنه فعل ذلك لشهوة، ويستغفر ويتوب، أو يطمع في إعادة الحقوق إلى أهلها، ولا يستطيع أن يقرر ذلك عند الناس، بخلاف الأمور التي هي لها صله في الدين، وبالأخص العقائد ممن يطوف على القبور، أو يجوز التوسل بالموتى، وسؤالهم من دون الله سبحانه وتعالى، وهذا لا شك أنه أمر خطير إن لم يكن من الشرك المحض في بعض الصور فهو من وسائله المفضية إلى الكفر والخروج من الملة.
ومن أشراط الساعة: تمني الرجل الموت، وجواز ذلك، لشدة ما ينزل في الأفراد من فتنة أو ضراء؛ وقد جاء في الصحيح من حديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بالقبر فيتمنى أن يكون مكانه )، وفي هذا إشارة إلى أن تمني الموت في بعض الأحيان جائز عند استحكام الشر واستغلاقه، وعند شدة الفتن والتباس الأمر، يعني: أن يدعو الإنسان أن يقبضه الله غير مفتون، وأن يكون مكان صاحب القبر.
وفيه أن هذا لا يناقض ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به )، ومعنى هذا أن الإنسان مهما نزل به من ضر ينبغي ألا يدعو، ولكن قد يحمل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة هنا إلى الاستثناء لشدة الفتن واستحكام الشر، فإن الإنسان إذا كان لا يأمن على نفسه من الوقوع في الفتنة لا حرج عليه أن يتمنى الموت، وهذا من لوازم ظهور الفتن والشر في الناس والمجتمعات واستحكام ذلك، حيث لا يجد الإنسان حيلة في دفع الشر، ودفع البغي، ودفع العدوان عن الدين أو عن نفسه ونحو ذلك، حتى يتمنى مع ذلك الموت.
وفيه إشارة إلى استحكام الفتن ليس على المجتمعات فيبتلى الإنسان إن أراد، ولكنه يبتلى رغماً عنه؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( حتى يمر الرجل بالقبر )، يعني: الواحد من الناس، أي: أنه يتتبع بالفتنة والأذية والشر حتى يتمنى الأفراد الموت، وأن يكونوا كذلك.
وفيه أيضاً أن الإنسان مهما بلغ من ضر فإنه يحرم عليه الانتحار؛ ولهذا أشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى زمن يستحكم فيه بالشر، وتظهر فيه الفتنة ظهوراً جلياً قد يستثنى مما نهى النبي عليه الصلاة والسلام منه في قوله: ( لا يتمنى أحدكم الموت )، مع ذلك أشار إلى هذا، وأن غاية ما يريد المؤمن أن يتمنى الموت، وهذا فيه إشارة إلى أن قتل النفس من المحرمات في أي حال كان، وأن الإنسان ينبغي عليه أن يصبر حتى يتوفاه الله عز وجل، ويقرن ذلك بالدعاء من أن يحميه الله سبحانه وتعالى.
ومن أشراط الساعة: منع الزكاة، ومنع الزكاة من المسائل الجلية التي ربما يتهاون فيها كثير من أهل الخير والصلاح، والزكاة بابها وفروعها كثيرة، ولكن الكلام هنا عن التفريط فيها وبعض صور التفريط.
وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام عند الترمذي من حديث الفرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن عمرو عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كان الفيء دولاً، والأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً، وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه، وقرب صديقه، وأقصى أباه، وتباهى الناس بالمساجد، ودعي الإنسان اتقاء شره، فذاك من علامة الساعة وأمارتها )، وهذا الحديث قد تكلم فيه بعض العلماء في حال الفرج بن فضالة .
ومن نظر إلى حال كثير من العقود المتأخرة وجد أن هذا من الظاهر الجلي في الناس؛ وذلك أن الزكاة إذا كانت مغرماً، أي: أن الإنسان يراها خسارة، ولا يراها نماء، وهذا يظهر في كثير من الأغنياء يسألون أن الزكاة كثيرة، ويحاول أن يتهرب منها، وهذا ممن فيه من هذا الوصف، فهو يرى الزكاة مغرماً، أي: أنها غرامة عليه وجباية يتبعها السلطان لأخذها.
وفيه إشارة إلى وجود الخير في بعض السلاطين الذين يأخذون المال من الناس، ويهرب الأفراد من ذلك؛ لأنهم يرون أن هذا من المغرم الذي يؤخذ منهم، ولا يرون أن ذلك من نماء المال وزيادته.
وفيه أيضاً الإشارة إلى محق البركة من المال بسبب ترك الزكاة.
وثمة مسألة مهمة وهي أن بعض الناس يظن أن إذا حال عليه الحول كأن يكون حوله هذا اليوم؛ أنه يسوغ له أن يؤجل الزكاة إلى غد أو بعد غد ونحو ذلك، وهذا من الجهل العريض، فقد روى البخاري عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( ما خالطت الزكاة مالاً إلا أهلكته )، وفي رواية أخرى بذكر (الصدقة)، والمعنى أن الإنسان إذا وجبت عليه الزكاة حرم عليها أن يتأخر فيها ولو خالطتها يوماً، فإن ذلك من أسباب محق البركة، ويخرج من هذا إذا أخرج الإنسان تلك الزكاة من ماله ولم تكن خليطة له، وأشهد على ذلك أنها زكاة، وانتظر القادم المستحق ليدفعها إليه، وقد روى البخاري عن النبي عليه الصلاة والسلام ( أنه صلى بأصحابه مرة صلاة العشاء، ثم قام يجر رداءه إلى داره، ثم رجع إلى أصحابه، فقال: لعلكم نظرتم إلي ما الذي أعجل بي؟ فقالوا: نعم يا رسول الله، قال: إني تذكرت تبراً من ذهب من الصدقة، فخشيت أن يبيت إلا عند أهلي )، والمراد من ذلك هم الفقراء والمساكين؛ لأنه إذا وجبت الزكاة في هذا اليوم حرم على الإنسان أن يبقيه؛ لماذا؟ لأن المال ليس له، بل للفقراء من هذا اليوم، إلا إذا أعطاه الإنسان وكيلاً للفقير يوصله إليه.
وبه يعلم أن الإنسان إذا أعطى زكاته إلى وكيل له، وليس من وكيل مشترك بين الفقير والغني أن هذا من محق بركة المال، ويخرج من هذا الوكيل النائب عن الغني والفقير؛ ولهذا الوكلاء ثلاثة في هذا الباب: وكيل عن الغني، وهو كحال الغني، وجد المال عنده أو عند وكيله، فإن هذا حكمه واحد، ووكيل للغني والفقير فهذا يأخذ الحكمين، فإذا دفعه الغني إلى وكيله ووكيل الفقير بنية أنه وكيل الفقير جاز وصح، كحال المؤسسات والجمعيات الخيرية، أو الوكلاء الذين يقومون بتوزيع الصدقات على الفقراء، وأما وكيل الفقير فهو أولى بالدفع وأبرأ للإنسان من أن يدفعه إلى غيره ممن يشترك في باب الوكالة؛ لأن هذا أقرب إلى قبض اليد ودفع الزكاة.
ويعلم أن هذا من ثمار جملة من أشراط الساعة التي تقدم الإشارة إليها، ومنها: الجشع والطمع، ومنها استفاضة المال، وذلك أنه مع استفاضة المال يقترن الشح؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( لو أوتي ابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً )، في إشارة إلى شدة الطمع، فإن المال إذا استفاض شح الناس بدفع الزكاة.
وفي ادعاء أن الزكاة مغرم ليس بدليل على أن قلة المال عند الإنسان، بل إن المال مستفيض، وهذا مشاهد عند كثير من أرباب الأموال الذين لو حسبت زكواتهم لم يوجد فقير في بلاد المسلمين، أو على وجه الأرض على وجه العموم.
ومن ثمار هذا أيضاً: ذهاب الأمانة، وتقلب الإنسان في حاله من فقر وغنى، وفي هذا إشارة إلى محق البركة والفتنة التي تكون بين الإنسان وأهله وزوجه، وتكثر في آخر الزمان لعدم البركة في ماله ونحو ذلك، وغير هذا مما يعلم في مسألة تبعة حب المال والشح المطاع.
ومن هذا الخبر يذكر من جملة أشراط الساعة إذا كانت الأمانة مغنماً أي: يتكسب بها الإنسان، كحال بذل الشهادات، والوفاء بالوعد يأخذ عليه، وكذلك النيابة فيما لا يستحق الإنسان عليه أجراً، وغير ذلك في الأغلب من حال الناس مما يكون فيه الأمانة، كذلك الودائع، وهذا يظهر أيضاً في حال كثير ممن يأخذ الودائع في زمن، ويظهر هذا في البنوك الذين يستأمنون على أموال الناس، ويأخذون من ذلك أجراً على تلك الودائع، وهذا من أشراط الساعة وعلاماتها، أن تكون الأمانة مغنماً، أي: يغنمون لأجل كون الرجل أميناً، فالناس تأتمن البنوك، وتأخذ منهم جراء هذه الأمانة، وكذلك من فروعها أفراد الناس وأعيانهم الذين تكون لديهم الودائع، ويأخذون على ذلك أجراً.
وفيه إشارة إلى عدم اشتهار المعروف والتفاني، وإشارة إلى الشح وحب خصوصية الإنسان، وكذلك ما يشار إليه لعدم الإخلاص، وقد جاء في بعض ألفاظ هذا الخبر: ( وأن يطلب العلم للدنيا )، ومن ذلك اشتهار العقوق، وطاعة الزوجة على طاعة الأم.
ومن أشراطها أيضاً ما جاء في هذا الخبر من تقريب الصديق على الوالد، وإظهار عقوقه ونحو ذلك، وكذلك تسلط بعض الناس حتى يُكرم اتقاء فحشه وسطوته وبغيه.
ومن أشراط الساعة ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام من التباهي بالمساجد.
والمراد بالتباهي بالمساجد بتشييدها وعمرانها على مبانٍ مختلفة حتى يتباهى الأغنياء كما يتباهون في بيوتهم: ذاك مسجد فلان، وذاك مسجد فلان، وشيد فلان مسجداً على هيئة كذا، وشيد فلان مسجداً على هيئة كذا، أو ما يقال أن مسجد فلان أكبر من مسجد فلان، أو مسجد فلان أجمل وأفضل، أو أكثر تحسيناً من مسجد فلان.
وقد جاء ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام كما عند أبي داود من حديث حماد عن أيوب عن قتادة و أبي قلابة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد ).
ومعنى (يتباهى) أي: أنه وجد وكثر واستفحل، وتباهوا فيما بينهم.
وقوله هنا: (الناس) إشارة إلى الذين يعمرون المساجد، وإشارة أيضاً إلى الذين لا يعمرونها ممن لا يعنيهم هذا الأمر ممن يقول: مسجد حينا أفضل من مسجد حيكم، أو مسجد بلدنا أفضل من مسجد بلدكم، وهذا من أشراط وأماراتها، وهذا ظاهر جلي.
ويظهر أيضاً في تباهي كثير من الناس بإمامة مسجد معين على غيره ونحو ذلك.
وبه يعلم أن حقيقة فضل المساجد الذي دل عليه الدليل ما يلي:
أولها: المساجد الثلاثة التي دل الدليل على تضعيف العبادة فيها، وهذه هي التي يشرع أن يخصها الإنسان بخصيصة من العبادة والذهاب ما لا يكون لغيرها؛ للدليل الوارد فيها.
ثانياً: ما تكثر فيه الجماعة، فإن الأجر فيه أفضل مما قل فيه؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاة الرجل مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل )، وهكذا.
ثالثاً: المسجد القديم أفضل من المسجد الحديث، وقد جاء هذا عند أبي نعيم في كتابه الصلاة من حديث ابن سيرين قال: (كنت أذهب مع أنس بن مالك فنمر على مسجد فيقول: أقديم أم حديث؟ فإذا كان حديثاً تجاوزه إلى غيره، وإذا كان قديماً صلى فيه). وأما ما عدا ذلك فلا يشرع قصده لذاته إلا لعلة خارجة شرعية عنه كقصد طلب العلم، أو عمارة ذلك المسجد وخصوصيته عن غيره بتعلم القرآن، ونحو ذلك، فإن هذا مما هو جائز ومندوب إليه.
وفي هذا كفاية، وبالله جل وعلا الإعانة، وبه التسديد والتوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر