الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
تقدم معنا الكلام على عدة المتوفى عنها زوجها, وتقدم الكلام على بعض أحكام الحداد, وشيء مما يتعلق بهذه المسائل, وما نتكلم عنه في هذا المجلس له ارتباط فيما مضى, وذلك في قول الله عز وجل: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ [البقرة:235].
تقدم معنا الكلام على عدة المتوفى عنها زوجها, وأن الله عز وجل قد ضرب لها أجلاً وجعل ذلك الأجل هو أربعة أشهر وعشراً, وأنه يجب على المرأة أن تتربص في هذه العدة.
وتقدم معنا الإشارة إلى أن عدة المفارقة التي تكون بين الزوجين أن منها ما هو ألبتة, ومنها ما هو الرجعي, وذلك أن ألبتة التي يبتها زوجها بطلاق بائن بحيث لا ترجع إليه, والبينونة على نوعين.
بينونة صغرى, وبينونة كبرى, أما بالنسبة للبينونة الكبرى فهو أن يطلق الرجل امرأته طلاقاً ثلاثاً, فلا ترجع الزوجة إلى زوجها حتى تنكح زوجاً غيره.
وأما بالنسبة للبينونة الصغرى وهي أن يطلق الرجل امرأته طلاقاً رجعياً, بالطلقة والطلقتين, ويدخل في هذا المختلعة على من جعلها طلقة.
وبالنسبة لعدة المرأة المتوفى عنها زوجها, فهي شبيهة بالبائن بينونة كبرى في بعض الوجوه, لأن رجوع المرأة إلى زوجها محال, وهو أشد بينونة من المبتوتة ثلاثاً؛ لأن المبتوتة ثلاثاً ترجع إلى زوجها إذا نكحت زوجاً غيره, فإنها ترجع إلى زوجها الأول, وأما بالنسبة للمتوفى عنها زوجها, فإنه يحال قدراً أن ترجع إلى زوجها.
وهنا فيما يتعلق بالأحكام في المرأة التي تكون في عدتها, يتعلق بها جملة من الأحكام, منها ضرب الله عز وجل للآجال من جهة عدة المرأة المطلقة, والمتوفى عنها زوجها, وكذلك استبراء الأرحام بالنسبة للأمة, وكذلك بالنسبة للمختلعة, وكذلك في مسألة المطلقة التي لم يدخل بها زوجها, جعل الله سبحانه وتعالى لكل نوع حكماً.
وهنا فيما يتعلق بالمرأة المتوفى عنها زوجها؛ لأنها لن ترجع إلى زوجها باعتبار أن زوجها قد أدبر عنها بوفاة يحال معه الرجعة, كان ثمة أحكام تتعلق بهذه المسألة.
منها: مسألة الخطبة أن يتزوجها رجل بعد زوجها, فهي قطعاً لن ترجع إلى زوجها؛ ولهذا يسر الله عز وجل في مثل هذا الأمر ما لم يكن في غيرها من جهة المرأة التي يطلقها زوجها ولها رجعة إلى زوجها ولو بعد زوج غيره, على كلام عند الفقهاء في هذه المسألة.
يقول الله جل وعلا: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ [البقرة:235], الله عز وجل يوجه الخطاب هنا إلى سائر الرجال.
(ما عرضتم به من خطبة النساء), المراد بهذه الآية هن النساء اللاتي توفي عنهن أزواجهن, وهي مرتبطة بالآية السابقة, وليس المراد بذلك جميع النساء, وإنما المراد بذلك المرأة إذا توفي عنها زوجها, وأما المرأة التي لم تكن ذات زوج, فإن خطبتها سواء كان ذلك تعريضاً أو ليس بتعريض فإن هذا داخل في دائرة الإباحة, والمرأة المتزوجة لا يجوز للإنسان أن يخطبها, سواء كان ذلك تعريضاً أو تصريحاً؛ لكونها في عصمة زوج.
وكذلك المرأة إذا كانت رجعية, يعني: ترجع إلى زوجها فطلقها طلقة أو طلقها طلقتين, فليس لأحد أن يخطبها ما دامت في العدة, والخلاف في المرأة المبتوتة, التي يطلقها زوجها ألبتة ولا رجعة إليه إلا أن تنكح زوجاً غيره, إلا أن هذه الآية باتفاق المفسرين أن المراد بالنساء هنا هن النساء اللاتي ذكر الله عز وجل في الآية السابقة, اللاتي توفي عنهن أزواجهن, وهي في قول الله عز وجل: وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234], فذكر الله عز وجل تبعاً لذلك مما يتعلق بأحكام عدة المرأة في وفاة زوجها, ألا حرج على الرجال أن يعرضوا بخطبة النساء, والمراد بالتعريض هو ضد التصريح, ولكن اختلف العلماء في نوعه, وهذه الآية فيها دلالة مفهوم, وهي دلالة الخطاب عند الأصوليين, على أن الترخيص بالتعريض دليل على النهي عن التصريح؛ ولأن الرجل لا يجوز له أن يصرح بخطبة امرأة إذا كانت في عدة وفاة, ولكن رخص الله عز وجل بالتعريض.
والتعريض هو أنه ضد التصريح, وما لم يكن تصريحاً من العبارات التي يفهم منها المقصود ليس باليقين, وإنما بالظن أو بغلبة الظن, وهذا يختلف بحسب عرف الناس, وبحسب أحوالهم ولغاتهم, فهم يختلفون ويتباينون في ذلك, فكل كلام يفهم منه -ظناً أو غلبة ظن- رغبة الرجل بامرأة, ولم يكن ذلك تصريحاً فهو تعريض؛ ولهذا جاء في كلام المفسرين عليهم رحمة الله في تفسير التعريض هنا أنواع من الأقوال, منهم من يقول: أني أرغب بامرأة على صفة كذا وكذا, وهذه المرأة تحمل تلك الصفات, فهذا من التعريض, أو يذكر الرجل رغبته بأن يتزوج امرأة, وأنه يبحث عن ذات خلق ونسب, أو ذات شرف أو نحو ذلك, وهي تحمل أمثال هذه الأوصاف, أو أن يعرض عليها عرضاً ليس بصريح, يقول: إن خرجت من العدة فآذنيني, يعني: فأخبريني, فهذا يحتمل أن يكون هو الذي يريد أن يتزوج, أو يريد أن يبحث لها عن زوج, فهذا نوع من التعريض وليس بالتصريح.
وهذه الآية دليل على منع التصريح بخطبة النساء في المرأة المتوفى عنها زوجها, فهي تدل بدلالة المفهوم على معنيين: النهي عن التصريح في المتوفى عنها زوجها, أن يخطبها لإنسان.
الدلالة الثانية: النهي عن التعريض والتصريح في المرأة المعتدة بالطلاق الرجعي, ولهذا خص الله جل وعلا الترخيص هنا في مسألة الوفاة؛ لأن ذلك مختص بها ولا يدخل فيها غيرها, وقد تقدم معنا أن الله جل وعلا ذكر عدة المرأة المطلقة, وتربصها ثلاثة قروء, وما ذكر الله عز وجل الترخيص في هذه العدة, أنه يجوز للرجل أن يعرض بخطبة المرأة, وإنما خصها هنا لما ذكر الله جل وعلا أمر المرأة في عدة وفاة زوجها, فرخص الله جل وعلا للرجل أن يعرض بخطبتها من غير تصريح.
إذاً: هذه الآية تضمنت الدلالتين بمفهومها: بمفهومها بالنهي عن التصريح في خطبة المرأة المتوفى عنها زوجها في عدة وفاتها, والتصريح والتعريض ينهى عنه في المرأة المعتدة بطلاق رجعي.
والله سبحانه وتعالى إنما نهى عن التصريح بخطبة المرأة, وجوز التعريض؛ لأن التصريح يتحقق فيه جملة من المفاسد، منها: أن تخرج المرأة من العلة التي لأجلها شرع الله عز وجل تربصها أربعة أشهر وعشراً, وذلك من تعظيم حق الزوج والحداد عليه, فإذا خطبت في مثل هذه الحال, فإن الله عز وجل حرم عليها ومنعها من التزين, ومنعها من أن تتحلى وأن تتطيب, وكذلك من أن تكتحل, كما جاء في جملة من الأحاديث, وهذا يخرجها عن ذلك ويدفعها إذا رخص بخطبتها تصريحاً, في عدة وفاة زوجها، يدفعها إلى شيء من الترخص بالتجمل وطلب الرجال, ولكن إذا كانت من يأس من أن يترخص أحد بخطبتها في مثل هذه الحال, فإنها تبتعد عن مثل ذلك.
كذلك أيضاً ربما دفعها إلى مفسدة الكذب بانقضاء الأجل, وهذا منهي عنه.
وأما بالنسبة لما نهى الله سبحانه وتعالى عنه بدلالة المفهوم عن خطبة المرأة في عدة غير الوفاة, كالطلاق الرجعي على ما تقدم, فالله عز وجل نهى عن ذلك؛ لأن المرأة لا تزال في عصمة زوجها, فهي كحال المرأة التي لم تطلق, فله حق أن يرجعها, فهذا الأجل للزوجة أن تستبرئ في رحمها, وللزوجين أن يتراجعا وأن يتأملا, وخطبة المرأة في عدة طلاق رجعي تخبيب لها على زوجها, وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك, كما جاء في المسند والسنن من حديث يحيى بن يعمر أن أبا هريرة عليه رضوان الله تعالى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من خبب امرأة على زوجها أو عبداً على سيده فليس منا ), وجاء في بعض الروايات اللعن, ويدل هذا على أنه كبيرة, فإذا خطبها في عدة طلاق رجعي, فربما تريد الرجعة, فأفسد رجوعها على زوجها, وكذلك ربما يريد زوجها أن يرجعها, وتأباه؛ لأنها طمعت بغيره, فنهى الله عز وجل عن ذلك, سواء كان بالتعريض أو كان بالتصريح.
قول الله جل وعلا: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ [البقرة:235], هنا ذكر الله عز وجل ما تكنه النفوس وهي ما تخفيه ما لم تبح به, وما يكن في النفوس من رغبة الرجل بامرأة, ولو كانت في عصمة زوج في طلاق رجعي, ما يقع في النفس ما لم تطلبه النفس أو يتبع الإنسان نفسه بذلك, فإن الأصل في ذلك أن الإنسان لا يكلف ولا يأثم بذلك إلا إذا أتبع نفسه هواها, فإن هذا مما يفسد النفوس, وكذلك يفسد النساء, فالله عز وجل عذر الإنسان الذي يعرض لامرأة بخطبتها في عدة وفاة زوجها, وكذلك ما تكنه النفس.
وفي هذا دلالة على مفهوم أنه لا يجوز للإنسان أن يكن في نفسه زواجاً من امرأة هي في عصمة زوج, ولهذا ذكر الله عز وجل هنا ما تكنه النفوس, وذكر التعريض.
فكأن الله سبحانه وتعالى ينهى عن غير هذه الحال؛ لأن هذا يدفع الإنسان ربما إلى شر أو يدفع الإنسان إلى الإغواء, فإذا وجد الإنسان خاطرة في مثل ذلك فإنه يدفعها, وأما الذي يجوز له أن يبقيها وأن يسترسل فيها, هي في مثل هذه الحال إذا كانت المرأة قد توفي زوجها, باعتبار أنه لا أمل برجوع زوجها إليها, فلا حرج على الإنسان أن يوقع شيئاً في نفسه, فيتربص خروجها من عدتها ليقوم بخطبتها, وكذلك التعريض بذلك.
وهذا على ما تقدم في مسألة التعريض على خلاف عند الفقهاء عليهم رحمة الله تعالى في معانيه: من الفقهاء من جعل التعريض بالقول, ومنهم من جعله بالفعل, كأن يبعث هدية للمرأة, نص في ذلك بعض الفقهاء, كـإبراهيم النخعي قال: لا حرج عليه أن يبعث إليها هدية, قال: وهذا من التعريض, يعني هذه هدايا العدة, وما بعد العدة يكون أفضل, ورواه عن إبراهيم النخعي حماد بن أبي سليمان , وذهب إلى هذا جماعة من الفقهاء من المتأخرين, وهذا مما لا حرج فيه ما لم يكن فيه تصريح, أن تتضمن الهدية على كتاب أو نحو ذلك, فهذا ينهى عنه.
يقول: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا [البقرة:235], هنا ذكر الله عز وجل علمه بما تكنه النفوس وما تنطوي عليه, وهذا تذكير للإنسان بسعة علم الله عز وجل, وأن الله سبحانه وتعالى يعلم بواطن الأمور, فيجب على الإنسان أن يراقب ربه, فيما تكنه النفس وفيما تظهره, سواء كان ذلك تعريضاً أو تصريحاً.
قال: أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا [البقرة:235].
ذكر الله سبحانه وتعالى التعريض وما في النفس, وذكر الله عز وجل أيضاً المواعدة سراً, فما المراد بهذا في قول الله جل وعلا: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا [البقرة:235], اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في المراد بالإسرار بالمواعدة على معان:
جمهور المفسرين من فقهاء السلف والخلف, على أن المراد بذلك هو أخذ الميثاق سراً, سواء كان تصريحاً أو تعريضاً, كأن يقول الرجل للمرأة: إني أريد أن أتزوجك بعد انقضاء العدة, فهذا تصريح, أو يأخذ عليها ميثاقاً ويميناً ألا تتزوج غيره, هذا الميثاق ينهى عنه, للمفسدة التي تكون بين المرأة والرجل, فربما خطبها من هو خير منه بعد ذلك، وقد أعطت ميثاقاً أو يميناً, فماذا تفعل؟
وهذا ينهى عنه؛ لأن الله عز وجل قد ضرب أجلاً, والأصل أن الناس لا تتقدم إلى النساء عرفاً, ولو لم يكن في ذلك حد في حال حزن أهل البيت على وفاة الرجل، ولهذا ينهى عن المواعدة سراً, فذكر الله عز وجل أمر الإسرار؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يتقدم في خطبة علانية في مثل هذا, فنهى الله عز وجل عن ذلك.
ولهذا نقول: إن أمر الميثاق سراً منهي عنه, والعلة في هذا: لورود المفسدة بينهما, ومن هذه المفاسد: أن المرأة ربما يأتيها خاطب أمثل, وهذا يفسد عليها الميثاق الذي أخذه عليها ذلك الرجل, وهذا شبيه بمسألة فقهية, وهي مسألة: تلقي الجلب, نفس العلة, وتلقي الركبان, وجملة من المسائل التي ينهى عنها حتى يُمكن الإنسان من حقه, ولهذا نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن تلقي الجلب, حتى يصل الإنسان إلى السوق ثم يرى, ولهذا فإن الأجل أربعة أشهر وعشراً إذا تلقاها في أول وفاة زوجها, وأخذ عليها ميثاقاً؛ لأنه لا يحل له أن يقوم بخطبة المرأة وعقد النكاح معها وهي في العدة, فينتظر بعد ذلك, فيخطبها الناس, فترى من هو أمثل منه, وهذا يقع فيه مفسدة: إما مفسدة في نفس الرجل الذي خطبها, فيقع في نفسه شر, أو في نفسها أيضاً والحرج الذي يكون في أمر الميثاق.
إذاً: الذي عليه جمهور المفسرين حمله على هذا المعنى, ومن العلماء من حمله على كل أمر محرم يسر به, كالزنا أو خلوة الرجل بالمرأة, أو مسها, أو غير ذلك, فنهى الله عز وجل عن ذلك كله.
جاء هذا المعنى عن جماعة من الفقهاء من المفسرين من السلف, قال به قتادة و الحسن البصري , وذهب إلى هذا جماعة من الفقهاء, كـعامر بن شراحيل الشعبي .
المعنى الأول الذي ذهب إليه الجمهور هو قول جماهير المفسرين من أهل المدينة, وهذا جاء عن عبد الله بن عباس و سعيد بن جبير و عكرمة مولى عبد الله بن عباس , وقال به الإمام مالك وغيرهم من العلماء, وهذا هو الأقرب للصواب, والتفرد هنا مثل العراقيين بمثل هذا التأويل, وحمل المواعدة سراً هنا على الزنا وما في حكمه من أمور الحرام فيه نظر, وأولى التفسير في هذا هو التفسير الذي يروى عن المدنيين, فهو أقرب إلى الرجحان.
لأن المعنى الأول وهو الذي ذهب إليه الجمهور إذا حملناه عليه, يدخل في حكمه ما كان من باب أولى, فإذا نهى الله عز وجل عن أخذ الميثاق وغلظ عليه هنا: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا [البقرة:235], فإنه يدخل ما هو أولى منه من باب أولى, من الخلوة والمسيس والزنا, ولكن إذا ذكر الله عز وجل أمر المواعدة سراً وقصد بذلك الزنا, فإنه لا يدخل تحته غيره من المسائل, من أخذ الميثاق وشبهه.
ولهذا نقول: المعنى الأول أولى بالأخذ والاعتبار؛ لأنه يدخل فيه ما هو أولى منه من ذلك, وذلك من مسائل الزنا وما في حكمه.
وفي قوله جل وعلا: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا [البقرة:235], وهذا من المواضع التي يراد بها المعنى بالتفسير بالزنا في قوله: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا [البقرة:235], هنا استثنى الله سبحانه وتعالى القول المعروف المبين, فكأنه استثنى معروفاً من معروف, وذلك الأمر المحرم من الزنا وغيره لا يستثنى منه شيء حلال, ولكن الله سبحانه وتعالى أراد بذلك أن الإنسان يكون بينه وبين المرأة أمر سرٍ, فنهى الله عز وجل عن ذلك من المواعدة وأخذ الميثاق, فنهى الله عز وجل عن ذلك.
إذا قلنا: إن الله سبحانه وتعالى نهى الرجال أن يواعدوا النساء سراً بأخذ الميثاق عليهن بالزواج بعد انقضاء العدة, فنهى الله عز وجل عن ذلك سراً, هل يعني جوازه علانية؟ نقول: دلالة المفهوم لا تقدم على دلالة المنطوق؛ لأن دلالة المنطوق ظاهرة في أول الآية: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ [البقرة:235].
فنهى الله عز وجل هنا ضمناً عن التصريح, ورخص بالتعريف.
ونقول: إن النهي عن التصريح ظاهر في أصل الآية, ولا يقال بدلالة المفهوم في ذلك؛ لأنه لا معنى للترخيص بالتعريض إذا أجاز الله عز وجل التصريح, إذا كان التصريح بخطبة المرأة جائز, فلماذا يرخص الله عز وجل بالتعريض؟
لأن النهي عن التعريض يلزم منه النهي عن التصريح, وجواز التصريح يلزم منه جواز التعريض من باب أولى, ولو كان التصريح جائزاً, لذكره الله عز وجل في أول الآية فيدخل من باب أولى التعريض, ولكن الله سبحانه وتعالى نهى عن التعريض؛ ليدل بمفهوم ذلك على النهي عن التصريح.
وفي قوله سبحانه وتعالى: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا [البقرة:235]، بعض العلماء قال: إن الاستثناء هنا هو استثناء منفصل, وبعضهم قال: إنه استثناء متصل, والأظهر أنه استثناء متصل, وهذا الذي يذهب إليه جمهور الفقهاء.
وفي قول الله سبحانه وتعالى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة:235] نهى الله سبحانه وتعالى عن عقد النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله؛ لأن الرجل إذا عرَّض على امرأة, أنه ليس له أن يعقد ولو فهمت منه الرغبة بالنكاح أن يعقد عليها حتى ينقضي الأجل, وهنا نهي الله سبحانه وتعالى عن عقد النكاح, هل يفهم بمدلوله جواز التصريح أم لا؟
بهذا المفهوم والمفهوم السابق من نهي الله عز وجل عن الإسرار, قال بجواز التصريح بخطبة النكاح داود الظاهري , وقوله في ذلك شاذ, وقد خالف فيه الأمة, بل حتى ابن حزم الأندلسي عليه رحمة الله, خالف داود الظاهري في هذا التأويل, وقال بمنع التصريح مطلقاً, سواء كان ذلك علانية أو كان سراً, ولكن الله سبحانه وتعالى هنا نهى عن عقد النكاح, حتى لا يُظن أن الإنسان إذا أجيز له التعريض أنه يجوز له أن يعقد على المرأة, فذلك ليس بلازم.
وفي قول الله جل وعلا: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ [البقرة:235].
المراد بالأجل هو أربعة أشهر وعشراً, والكتاب الذي كتبه الله عز وجل هو الذي فرضه, فالمراد بالكتاب هنا هو الجمع, أي: مما فرضه الله عز وجل, كما في قول الله سبحانه وتعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183]، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ [البقرة:216]، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ [البقرة:178].
يعني: الذي فرضه الله سبحانه وتعالى على الناس من تشريعه, والمراد بالكتب هو الجمع والتوثيق.
وإذا عقد الرجل على المرأة وهي في عدة وفاة زوجها, ثم دخل بها بعد ذلك, فما الحكم؟
نقول: إن هذا فرع عن القاعدة وهي هل النهي يقتضي الفساد أم لا؟ الله عز وجل نهى عن ذلك صراحة, فهل يعني من ذلك فساد العقد؟ هو آثم ولا خلاف عند العلماء, في تأثيمه, ولكن في صحة عقده هل يفرق بينهما ثم يطلب من ذلك العقد الجديد؟
نقول: قد اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال:
ذهب جماعة من العلماء إلى أن العقد في ذلك فاسد, ويجب عليهما أن يعقدا عقداً جديداً؛ لأن النهي يقتضي الفساد, وإذا كان الرجل مع زوجته فإنه يفرق بينهما حتى يعقدا عقداً جديداً.
والقول الثاني: إنه آثم ولكن العقد صحيح فلا يفرق بينهما, ولا يعاد العقد؛ لأن العقد الأول ماض.
والقول الثالث قالوا: بأنه يفرق بينهما ولا يعقد بينهما, فتكون البينونة بينونة تامة, إذا واقع المرأة قبل خروجها من العدة, يكون هذا زنا, وإذا زنا الرجل بامرأة على قول جماعة من السلف وقضى به عمر بن الخطاب عليه رضوان الله, أنهما لا يتجامعا بنكاح, وقد اجتمعا بسفاح, ذهب إلى هذا عمر بن الخطاب , وقضى به مالك بن أنس , وهو رواية عن الإمام أحمد عليه رحمة الله.
وجمهور العلماء على أن الرجل إذا واقع المرأة وزنا بها ثم تاب بعد ذلك, فإنه يجوز له أن يتزوجها, فالزاني لا يجوز له أن ينكح زانية, وكذلك المحصن لا يجوز له أن ينكح زانية, إلا بشروط:
أول هذه الشروط: التوبة من الزانيين, إذا كان الزوج هو الزاني بها, فلا بد أن يتوبا, وإذا كان المحصن يريد أن يتزوج امرأة زانية فلا يجوز أن يتزوجها حتى تتوب, ويظهر صلاحها بعد ذلك, فإذا تابت جاز له أن يتزوجها؛ لأن الأصل أن الزانية لا ينكحها إلا زان مثلها أو مشرك.
الثاني: إذا كان ثمة حمل حتى تضع الحمل, فإذا وضعت الحمل جاز له أن يتزوجها بعد ذلك, أما أن يتزوجها وهي حامل منه أو من غيره, فلا يجوز عقد النكاح, ولا يجوز الزواج أصلاً, ولو عقد عليها فالعقد في ذلك باطل, لأنه لو كان الحمل منه فهذا حمل غير منسوب إليه, وهو لغيره, ومن هو؟ لزنا, فينسب إلى أمه, فهل يجوز للرجل أن يتزوج امرأة حاملاً؟
لا يجوز أن يتزوج امرأة حاملاً, فهو أراد أن يعقد عليها باعتبار وطئه المحرم لها, ووطؤه المحرم لها منفك عن ذاته؛ لأن هذا نكاح وذاك سفاح, وكأن الذي وطأها رجل آخر, حتى تضع حملها فلا تنسب إليه, ثم بعد ذلك يتزوجها الرجل بعقد جديد, ولا صلة له بذلك.
وهذا القول هو اتفاق الأئمة الأربعة, ذهب بعض الأئمة إلى جواز زواج الرجل الزاني من المرأة الزانية إذا تابا, ولو حملت منه قبل وضع حملها, شريطة أن يكون الحمل منه لا من رجل آخر, ومن قال بهذا القول جوَّز أن ينتسب الولد إليه, وهذا قال به ابن تيمية رحمه الله, فاشترط في ذلك التوبة فقط ولم يشترط وضع الحمل منه, أما إذا كان من غيره فهذا محمل اتفاق عند العلماء من السلف والخلف.
ويعللون ذلك بجملة من العلل, أن هذا فيه درء لمفاسد, ولكنه ربما يجلب مفاسد أخرى؛ وذلك أن الرجل إذا أراد امرأة أن يتزوجها وقع عليها بسفاح ليرغمها على النكاح, وكذلك أيضاً فيه فتح لأبواب الحلول لمن وقع في سفاح وحمل, أن يتزوج فيكون شيء من الحلول لمثل هذه الأمور المحرمة.
وهذه المسألة هي محل نظر, وإذا وقعت المرأة بزنا ثم تابت وظهر توبتها وخطبت, ولو كانت بكراً قبل الزنا بها, فإنها تبقى بكراً, ولا عبرة بالزنا, وإذا تابت فتزُوج على حالها, ولا تزوج على ما مضى منها, وقد جاء رجل إلى عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى، فقال له: إن ابنتي زنت, ثم تابت, ثم لزمت القرآن والصلاة ثم خطبت, فهل أزوجها على أنها زانية, أم على أنها صالحة؟
قال: زوجها على أنها صالحة, فأعاد عليه؛ لأنه يريد أن يبرئ ذمته, قال: زوجها على أنها صالحة وإلا أوجعت ظهرك؛ لأن العبرة بالحال, ولا يجوز للإنسان أن يقول: إنها وقعت في حرام, فلا بد أن أبين لا, لا يجوز للولي أن يفعل ذلك, ولا يجوز لمن علم من حال زوج أو من حال امرأة أمر حرام ثم تاب منه أن يبديه بعد التوبة إذا سئل عنه, فذاك من الأمور التي قضاها الله عز وجل على الإنسان فتاب منها, فمحلها حينئذٍ الستر والغفران, فما تاب الإنسان منه فوجوده حينئذٍ كعدمه, فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وقول الله جل وعلا: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة:235], ذكر الله سبحانه وتعالى علمه بما تكنه النفوس, وهذا يظهر في كثير من الأحكام التي يتعلق بها الأمور والأعمال القلبية, على ما تقدم معنا في قول الله عز وجل: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:234]، أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231]، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
إرجاع الله سبحانه وتعالى الإنسان إلى ما يعلمه مما في قلبه؛ إشارة إلى أن مواضع الأحكام, هي دواخل للنفوس بتبطين السوء, فأراد الله جل وعلا أن يذكر الإنسان بعلم الله عز وجل بدقائق أمر نفسه, فإذا ذكر الله عز وجل عبده بذلك, فإن هذا يجعل الإنسان أحوط من أمر الظاهر؛ لأنه يعلم أن الله جل وعلا أبصر بباطنه, فيحتاط للظاهر أكثر من احتياطه.
كذلك فيه داع إلى مراجعة الباطن, ولهذا الله سبحانه وتعالى في علمه بالنفوس وتخطيها, وتدرجها في أمر الباطن؛ لأن شر الظواهر ينبع من الباطن, لأن الباطن كالقلب يملؤه بشيء من الشر, يملؤه حتى يفيض, فإذا فاض ظهر على الجوارح, فذكر الله عز وجل الإنسان بعلمه سبحانه وتعالى بما يقع في نفوس العباد من أمر السوء, حتى لا يتنامى ويفيض, وإلا فخطرات النفس وما يقع في نفس الإنسان, الله عز وجل يعفو عن عباده بذلك.
وقول الله جل وعلا: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة:235].
ذكر الله عز وجل الحذر هنا وكل الحذر في القرآن بالأمر, والخوف بالنهي, لا تخف, لا تخاف, أما الحذر فاحذر, لأن الخوف يدفع إلى عدم العمل, والحذر يدفع إلى التوقي, لا إلى عدم العمل, وكذلك فإن نقاوة العمل وصفائه يكون بالحذر لا بالخوف؛ لأن الخوف يفضي إلى العجز والتهيب من المبادرة, فالله سبحانه وتعالى ينهى عنه, وأما بالنسبة للحذر فهو إقدام مع توقٍ, ولهذا الله عز وجل يأمر به.
وأمر الله سبحانه وتعالى بالحذر حتى لا يقع في العمل والقول شيء من الشائبة؛ لأن الإنسان يؤتى من عدم حذره, لا من خوفه؛ لأن الخوف يدفع إلى الترك, ولهذا الله عز وجل ينهى عنه ويأمر بالحذر حتى لا يدخل في قول الإنسان وفي عمله شيء من شائبة الشر والباطل, من المجازفة والمخاطرة وغير ذلك, فحذر الله عز وجل الإنسان من ذلك.
وقال سبحانه وتعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة:235] ذكر الله سبحانه وتعالى هذين الاسمين, وهو الغفور والحليم, أي: أن الله سبحانه وتعالى لو بدر من الإنسان شيء, فإن الله سبحانه وتعالى يرجيه بالغفران, ويرجيه بشيء وهو أن الإنسان إذا وقع في أمر حرام ثم لم يقع عليه شيء من الشر أو العقوبة العاجلة, ذكَّره بحلمه سبحانه وتعالى, أن الله عز وجل غفور, وأيضاً حليم ولو وقع منك أمر محرم فلا تنتظر عقوبة عاجلة, فإن عقوبة الله عز وجل الآجلة أشد إذا لم تتب, ولهذا جعل الله سبحانه وتعالى الإنسان بين رجاء وخوف, وترجيه في ذلك من جهة الغفران أن يبادر بالمغفرة, وتخويفه أنه ينتظر عقاب الله سبحانه وتعالى في الآخرة, فالله جل وعلا إذا أجل العقاب عليك وكنت في بلاء ولم يعاقبك الله في الدنيا, فإن الله أراد بك شراً ليعاقبك به في الآخرة.
ولو أراد الله بعبده خيراً لعجل البلاء له في الدنيا, ولهذا نقول: إن الإنسان الذي يسلم من البلاء أمارة على عدم حب الله له, وإذا قرب من الله سبحانه وتعالى من جهة الطاعة, فإن الأولى بذلك أن يزداد بلاءً, وإذا ابتعد عن الله وابتعد عنه البلاء, فإن الله عز وجل أراد به مزيد بعد، لأن الله عز وجل سلمه من البلاء, ولم يكن من أهل الطاعة, سلمه من البلاء؛ لأن البلاء يعيد الإنسان إلى الله, فإذا كان غنياً ثم مسه بفقر أو بمرض, التفت إلى الله, ولكن الله عز وجل نعمه وأبقاه على ما هو فيه من خير ولم ينزل عليه بلاء, ليصده حتى يقبض على مثل هذه الحال, فلا يلتفت إلى الله.
ولهذا ينبغي للإنسان إذا سلمه الله عز وجل من عقوبة وابتلاء وهو يقع في محرمات ولا يتوب منها, ثم لا ينزل عليه شيء من البلاء؛ لأن البلاء يكفر, فليعلم أنه يمكر به, فعليه أن يئوب ويتضرع إلى الله سبحانه وتعالى بالرجوع والإنابة.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم من أهل الغفران والتوبة, ومن أهل الاستحقاق لرحمته ومغفرته ورضوانه.
وأسأله جل وعلا العفو والعافية في دينه ودنياه, وأن يمن علينا بالهدى والتقى والعفاف والغنى, إنه ولي ذلك والقادر عليه, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر