الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى قد فرض فرائض، وشرع شرائع، وأمر بلزومها، ومن أعظم هذه الشرائع هي أركان الإسلام الخمسة التي أمر الله عز وجل بها، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بركنيتها للإسلام كما جاء في حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين وغيرهما في قوله عليه الصلاة والسلام: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً )، وكذلك ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة في قصة إتيان جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رواه الإمام مسلم عليه رحمة الله تعالى من حديث عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانفرد به عن الإمام البخاري .
وأعظم هذه الأركان هو توحيد الله سبحانه وتعالى، ثم يليها الصلاة وهي الفاصل والفارق بين المؤمن والكافر؛ كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في عدة أخبار.
والكلام عن أهمية الصلاة وفضلها يطول جداً، والنصوص في هذا في كلام الله سبحانه وتعالى وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهر وأكثر من أن تذكر، والكلام عن الصلاة وأحكامها وواجباتها وأركانها وسننها وآدابها وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك يطول جداً.
وقد ذكر العلماء عليهم رحمة الله تعالى أنه قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك من الشرائع والآداب والسنن ما يزيد عن ستمائة سنة، وقد نص على هذا ابن حبان عليه رحمة الله تعالى في صحيحه حيث قال: (أربع ركعات يصليها الإنسان فيها ستمائة سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد فصلناها في كتاب الصلاة بما يغني عن ذكرها هنا في هذا الكتاب)، يعني: في كتابه الصحيح. و ابن حبان عليه رحمة الله من الأئمة الكبار الحفاظ المتقنين المكثرين بالرواية والأخذ عن الشيوخ، وكذلك الترحال، ولا غرابة أن يكون عنده مثل هذا العدد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (ستمائة سنة) لعله أراد بذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوجه الضعيفة والصحيحة، ولعله أراد ما هو مكرر وعلى الوجوه في كل ركعة.
ومعلوم أن ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله في بعض الركعات أو في بعض الأحوال لا يدل على أنه يفعله في بعضها إلا إذا كان ثمة قرينة، فما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه في حال، لا يعني أنه يرفعها في موضع آخر يكون فيما يليها من الركعات حتى يأتي دليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
ولعل مراد ابن حبان عليه رحمة الله تعالى من هذا: ما هو مكرر في كل ركعة، وكذلك على الوجوه التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان كذلك فإن هذا وارد جداً، وإن كان غيره ففيه نظر.
وقد قال ابن القيم عليه رحمة الله تعالى في كتابه مدارج السالكين: (وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفعال وآداب في صلاته هي مائة سنة بين مستحب وواجب، وهذا هو المشهور مما هو ليس بمكرر).
وقد ذكر عبد الحي الكتاني في كتابه فهرس الفهارس عن عبد الرحمن العيدروس حينما ترجم له وهو شيخ الزبيدي و عطية الأجهوري ، أنه عد للصلاة ستمائة سنة مما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا نظير ما جاء عن ابن حبان عليه رحمة الله تعالى، وهذا على ما تقدم تخريجه.
وإذا أردنا إحصاء ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحكام الصلاة وآدابها وسننها فإنه يطول جداً، والأحاديث في هذا قد جمعها جماعة من العلماء, ولا يمكن استيفاؤها، وقد صنف في هذا الباب جماعة من العلماء كالإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى في رسالته الصلاة، و أبو نعيم الفضل بن دكين في كتابه الصلاة، و محمد بن نصر المروزي في كتابه تعظيم قدر الصلاة وغيرهم، وقد جمعها بعض المتأخرين في أجزاء عديدة، وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا يربو عن ألف خبر مما هو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإحصاؤها والكلام عن معانيها، وكلام العلماء عليهم رحمة الله تعالى واختلافهم فيها مما يطول جداً، ولا يمكن حصره.
ولكننا نتكلم بإذن الله عز وجل على ما اشتهر ويحتاج إليه كثير من الناس من المسائل، وربما يخفى على بعض طلبة العلم مما قرره بعض العلماء عليهم رحمة الله تعالى، ويعضده الدليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة عليهم رضوان الله تعالى.
ونبين بالجملة عند كل مسألة دليلها من كلام الله سبحانه وتعالى أو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام، أو ببعضها مما لم يدل عليه دليل من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مما هو دونه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو التابعين أو من جاء بعدهم.
والعمدة في هذا هو الوحي؛ أي: كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عدا ذلك فلا حجة فيه، وإنما هو بحاجة لأن يحتج له، لا أن يحتج به.
والله سبحانه وتعالى إنما تعبد الناس بكلامه وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عدا ذلك فإنه ليس بحجة، وما بعد ذلك عمل الصحابة وإجماعهم، ويقول الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى: (الإجماع إجماع الصحابة، ومن بعدهم تبع لهم)، فإن ثبت إجماع الصحابة على مسألة من المسائل فحينئذٍ لا قول لأحد بعدهم وإن كان من أجلة التابعين أو من أئمة الإسلام، ولهذا ينبغي أن يعتنى بأقوال الصحابة عليهم رضوان الله تعالى فيما يتعلق بالعبادات فضلاً عن غيرها، لأنهم أقرب إلى فهم مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرب إلى التنزيل، فإذا اختلفوا فحينئذٍ هو السعة كما نص على هذا غير واحد من الأئمة كـعمر بن عبد العزيز و إسماعيل القاضي المكي و ابن عبد البر عليه رحمة الله تعالى في كتابه التمهيد والاستذكار وغيرهم في مواضع عدة.
الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وهي عمود الدين، وقد فرضها الله سبحانه وتعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حينما أسري به عليه الصلاة والسلام، وقد اختلف العلماء من المؤرخين وغيرهم في سنة الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي عليه الاتفاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة صلاة لا يعرف من السنن والآداب منها إلا ما ندر، ولكن ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يؤدي صلاة ذات ركوع واحد وسجدتين.
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي ركعتين، وقد جاء في هذا أخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة.
والصلاة في كلام الله سبحانه وتعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي لغة العرب على ثلاثة معانٍ, كما نص على ذلك غير واحد من أئمة العرب كـأبي بكر الأنباري وغيره:
المعنى الأول: أن المراد بذلك هي الصلاة المعروفة بلسان الشارع، وهي الصلاة المفتتحة بالتكبير، والمختتمة بالتسليم، كما في قول الله سبحانه وتعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]، وهذا عليه يحمل قول الشاعر:
يراوح من صلوات المليـ ك طوراً سجوداً وطوراً جؤارا
المعنى الثاني: أن المراد بذلك الترحم من الله على عباده، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم صل على آل أبي أوفى )، أي: اللهم ارحمهم، ومن ذلك قول كعب بن مالك فيمن مات في غزوة مؤتة:
وصلى الإله عليهم من فتية وسقى عظامهم الغمام المسبل
أي: نزلت عليهم رحمة الله سبحانه وتعالى, وذلك حينما توجد عليهم حينما فقدهم عليهم رضوان الله تعالى.
المعنى الثالث: المراد بها الدعاء, كقول الله عز وجل: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، أي: الدعاء، وقول الله سبحانه وتعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ [الإسراء:110]، قالوا: والمراد بذلك الدعاء، ومن هذا قول الشاعر:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثلما صليت فاغتمضي نوماً فإن لجنب المرء مضطجعاً
أي: عليك مثلما دعيت لي، وهذا هو الأصل.
ومعلوم أنه في حال ورود شيء من الألفاظ الشرعية بهذا اللفظ فإنه ينصرف أصلاً إلى المراد الشرعي، وهو العبادة المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم على هيئة معروفة.
ويعرف الفقهاء الصلاة بأنها عبادة ذات أفعال وأقوال مخصوصة, مفتتحة بالتكبير، ومختتمة بالتسليم، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عرف ذلك كما جاء في المسند وبعض السنن من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم ).
والمراد بتحريمها أنه يحرم على الإنسان ما كان يباح له قبل ذلك التكبير، (وتحليلها التسليم) أي: أنه يحل له ما كان قد حرم عليه قبل ذلك، وهذا الحديث قد جاء من طرق عدة، ولا يخلو مجملها من ضعف.
وهذه الصلاة هي الفيصل بين المؤمن والكافر، وقد توعد الله سبحانه وتعالى تاركها بالنار، بل توعد الله عز وجل الساهي والمؤخر لها عن وقتها بالوعيد والعذاب الأليم.
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبار كثيرة تدل على أن من ترك الصلاة قد كفر، وخرج من الملة:
من ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة )، وجاء أيضاً عند الإمام مسلم عليه رحمة الله تعالى من حديث أبي الزبير عن جابر ، وقد جاء عند الترمذي عليه رحمة الله تعالى قال: ( بين الكفر والإيمان ترك الصلاة ).
وقد جاء من حديث جابر بن عبد الله عند محمد بن نصر المروزي في كتابه تعظيم قدر الصلاة من حديث جابر قال: ( بين الرجل وبين تركه الإيمان ترك الصلاة )، وقد جاء أيضاً ما قيده جابر بن عبد الله عليه رضوان الله تعالى بترك الصلاة الواحدة كما عند المروزي أنه قال: ( بينه وبين الكفر أن يترك صلاة مكتوبة )، أي: قيدها بترك صلاة واحدة، وجاء هذا أيضاً عن مجاهد بن جبر فيما رواه عن جابر بن عبد الله عليه رضوان الله تعالى عند محمد بن نصر المروزي .
ويكفي في الوعيد فيمن تركها أنه يحشر مع فرعون و هامان و قارون و أبي بن خلف ، فقد روى الإمام أحمد و الطبراني و ابن حبان وغيرهم من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من حافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بها كن له نوراً ونجاة وبرهاناً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليهن لم تكن له نوراً ولا نجاة ولا برهاناً يوم القيامة، وحشر مع فرعون و هامان و قارون و أبي بن خلف )، ومن حشر مع هؤلاء فلا أفلح.
وقد ذهب الصحابة عليهم رضوان الله تعالى بالاتفاق، وكذلك التابعون إلى أن من ترك الصلاة سواء كان جاحداً لوجوبها أو تاركاً لها على الكسل والتهاون أنه كافر خارج من الملة، وهذا محل اتفاق عندهم، والخلاف إنما طرأ بعد ذلك.
وقد روى الترمذي و محمد بن نصر من حديث بشر بن المفضل عن الجريري عن عبد الله بن شقيق أنه قال: (ما كان أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة)، وهذا حكاية إجماع، وقد نص على الإجماع أيضاً التابعون, وعلى رأسهم أيوب بن أبي تميمة السختياني, كما روى ذلك محمد بن نصر المروزي من حديث حماد بن زيد عن أيوب بن أبي تميمة السختياني أنه قال: (ترك الصلاة كفر لا نختلف فيه)، ومراده بهذا رد حكاية الخلاف.
ولا أعلم نصاً عن أحد من الصحابة ولا عن التابعين أنه قال بعدم كفر تارك الصلاة إلا ما روي عن ابن شهاب الزهري ، وهو أول من صرح -وإن كان ليس بظاهر- بكفر تارك الصلاة، كما رواه عنه محمد بن نصر المروزي من حديث عبد العزيز بن عبد الله عن إبراهيم عن ابن شهاب أنه سئل فيمن يؤخر الصلاة حتى يخرج وقتها، قال: (إن كان تاركاً لها مبدلاً ومبتغياً ديناً غير الإسلام قتل، وإن كان تاركاً لها تهاوناً فإنما يضرب ضرباً مبرحاً ويسجن)، قالوا: وفي هذا دليل على أنه لا يرى كفر تارك الصلاة، وفي هذا نظر.
فقول محمد بن شهاب الزهري في هذا الرجل أنه يقتل لأنه إن بدل فالمراد به الردة، وقوله: (يسجن) أي: أنه إن ترك هذه الصلاة الواحدة، وأما فيمن ترك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها فهذا محل الخلاف.
أما ترك الصلاة بالكلية فلا أعلم نصاً يعضده لا من الكتاب ولا من قول الصحابة، ولا من قول التابعين، وإنما الخلاف نشأ بعد ذلك.
والذي عليه إجماع الصحابة، وكما قال الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى: الإجماع إجماع الصحابة ومن بعدهم تبع لهم، أن من ترك الصلاة فقد كفر.
وما جاء عن محمد بن شهاب الزهري محتمل وليس بصريح، وقد نص غير واحد من الأئمة كـابن رجب عليه رحمة الله تعالى أن من ذهب إلى عدم كفر تارك الصلاة من السلف محمد بن شهاب الزهري و حماد بن زيد ، وهؤلاء من الأوائل. ثم جاء بعد ذلك من الأئمة من قال بعدم الكفر كـأبي حنيفة وغيره، ويأتي الكلام على هذا.
والمشهور عن الأئمة عليهم رحمة الله عدم كفر من ترك شيئاً من أركان الإسلام إلا الركن الأول والركن الثاني وهي الصلاة، وذهب بعض العلماء وهو مروي عن الحسن ، وقال به نافع و الحكم و ابن حبيب من المالكية، وقال به إسحاق بن راهويه ، وهو رواية عن الإمام أحمد إلى أن من ترك شيئاً من أركان الإسلام وإن كان زكاة أو صياماً أو حجاً متعمداً كسلاً أو تهاوناً أو جحوداً فإنه كافر، والجمهور على عدم الكفر.
ولهذا يقال: إن من حكم بكفر من ترك شيئاً من أركان الإسلام فهو قول معروف لأئمة السلف, لكنه قول مرجوح لا تعضده الأدلة، والتكفير إنما دل الدليل عليه في الصلاة، ولا يعضده دليل فيما عدا ذلك، وأظهر ما جاء فيه في الحج صراحة بعد الصلاة كما في قول الله سبحانه وتعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ [آل عمران:97]، وما جاء عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى فيما رواه البيهقي و أبو بكر الإسماعيلي قال: (لقد هممت أن أبعث إلى الآفاق، فينظر من كان عنده جدة فلم يحج أن يضرب عليهم الجزية، ما هم بمسلمين)، وهو متأول، وإسناده صحيح عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى.
وما جاء من النصوص عن الأئمة عليهم رحمة الله تعالى بعدم كفر تارك الصلاة إنما هو قول المتأخرين، ولا يعلم هذا القول لأحد من الصحابة ولا لأحد من التابعين، وقد حكى غير واحد من الأئمة الإجماع على كفر تارك الصلاة بأي حال كان تركها، وحكى الإجماع إسحاق بن راهويه و محمد بن نصر المروزي .
وقد ذهب إسحاق بن راهويه إلى أن من لم يكفر تارك الصلاة فإنه مرجئ, ومال إلى هذا أبو داود عليه رحمة الله تعالى في كتابه السنن حينما ترجم فقال: (باب في رد الإرجاء)، ثم أورد حديث كفر تارك الصلاة، أي: أنه من لم يذهب إلى كفر تارك الصلاة فقد قال بقول المرجئة، وعليه يعلم تساؤل كثير من المتأخرين بعدم تكفير تارك الصلاة مع ثبوت النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما الأئمة الأربعة كـأبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد ، فالنصوص عنهم في هذا متفاوتة.
فالمشهور عن الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى القول بالتكفير، ونص عليه جماهير أصحابه بل عامتهم، وحكاه عنه من أصحابه ابن هانئ والخلال والميموني وأبو بكر المروزي والشالنجي وابنه عبد الله بن أحمد وحنبل بن إسحاق ، والأصطخري في رسالته للإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى كما ذكرها بإسنادها القاضي ابن أبي يعلى في كتابه طبقات الحنابلة، و أبو داود في مسائله، وأبو طالب ، فكلهم حكوا عن الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى النص بكفر تارك الصلاة.
ولا يعلم عنه نص بعدم التكفير إلا ما يفهمه بعض الأصحاب من رواية ابنه صالح حينما سأله عن زيادة الإيمان ونقصانه: (كيف يزيد وينقص؟ قال: بترك الفرائض كالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها من الفرائض)، فقالوا: في هذا دليل على أنه يرى أن من ترك الصلاة فإن إيمانه ينقص، وفي هذا نظر:
أولاً: أن قول الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى أن نقصان الإيمان يكون بترك الصلاة، لعله أراد ترك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها, فإنه لا يقول بالكفر فيمن هذه حاله، وقد أخرج في كتابه المسند من حديث قتادة عن نصر قال: ( جاء رجل منا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يبايعه على ألا يصلي إلا صلاتين، فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك )، ومعلوم عند أصحاب الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى أن ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث، ولا يعلم فيه قول، أو كان له في هذا القول روايتان، فإن هذا الحديث الذي أخرجه في مسنده يكون كالنص عنه، وقد حكى الخلاف في هذه المسألة ابن مفلح عليه رحمة الله تعالى في كتابه الفروع، ورجح أن الأولى أن يكون فيه كالنص، وهذا كما أنه عند الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى كذلك عن الإمام مالك عليه رحمة الله تعالى في كتابه الموطأ.
وعليه فإخراج الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى لهذا الخبر أن النبي عليه الصلاة والسلام بايع رجلاً على ألا يصلي إلا صلاتين دليل على أن بقاءه على هذه الحال لا يصلي إلا صلاتين أهون من بقائه على كفره الأصلي.
وحينئذٍ يقال: إن من ترك صلاة واحدة أو صلاتين في اليوم والليلة فإنه لا يكفر حتى يخرج وقتها.
ثانياً: قد ثبت عن غير واحد من السلف القول بالكفر، وهذا مروي عن الحسن البصري ، ونص عليه إسحاق بن راهويه ، وهو رواية عن الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى على خلاف المشهور، وعليه تحمل الرواية التي جاءت في رواية ابنه صالح حينما سأله عن زيادة الإيمان ونقصانه، وأشار إلى نقصان الصلاة، فإنه لا يعني أنه أراد ترك الصلاة بالكلية.
وكذلك قال بعض الأصحاب بأن الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى لا يرى كفر تارك الصلاة برواية ابنه عبد الله حينما سأله فيمن ترك الصلاة شهراً ثم تاب أيعيد؟ قال: نعم، ويقال: إن هذا ليس بصريح، فإن الإنسان قد يترك الصلاة جاهلاً كالمرأة التي يخرج منها الدم ولا تستفتي تفريطاً منها، وتظن أنه حيض، وهو دم فساد، هل يجب عليها أن تعيد تلك الصلاة؟ وعليه يحمل قول الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى وهو ليس بصريح، ولا يحمل المتشابه من قوله على الصريح مما نقله عنه جماهير أصحابه.
إذاً يقال: إن النص عن الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى صريح بكفر تارك الصلاة.
وأما الإمام مالك فلا يحفظ عنه نص، ولا يحفظ عنه قول بكفر تارك الصلاة أو عدم كفر تارك الصلاة، وإنما هي حكايات ونقول تنسب إلى الإمام مالك عليه رحمة الله تعالى، والمشهور عنه عند أصحابه: أن تارك الصلاة ليس بكافر, وهذا الذي ينقله عنه جماهير أصحابه، كما نقله عنه ابن عبد البر و ابن رشد وغيرهم من أئمة المالكية.
وقد ذهب بعض المالكية ونقل عن الإمام مالك عليه رحمة الله تعالى إلى كفر تارك الصلاة، كما نقله ابن رشد عليه رحمة الله تعالى في كتابه المقدمات، وفي حاشيته على المدونة، على أن من ترك الصلاة كافر، ونسبه إلى الإمام مالك ، وقيده بالإصرار، وكأنه يذهب إلى ما ذهب إليه الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى من أن من ترك صلاة وصلاتين أنه لا يكفر بإخراجه لحديث نصر وقد تقدم الإشارة إليه.
وأما الشافعي عليه رحمة الله فلم يحفظ عنه نص صريح أيضاً بعدم كفر تارك الصلاة، وإن كان أصحابه ينقلون عنه عدم كفر تارك الصلاة، وقد نص على هذا القول وحكاه عن الإمام الشافعي عليه رحمة الله تعالى جماهير أصحابه كالإمام النووي عليه رحمة الله تعالى في المجموع والروضة، و الصابوني في عقيدة أهل الحديث.
ونقل بعض الأئمة عن الإمام الشافعي عليه رحمة الله تعالى أنه يرى كفر تارك الصلاة، كما حكاه عنه الإمام الطحاوي عليه رحمة الله تعالى في مشكل الآثار، وكذلك في اختصار اختلاف العلماء، أي: أن الشافعي عليه رحمة الله تعالى يرى كفر تارك الصلاة.
وما جاء عنه عليه رحمة الله تعالى في هذا ما جاء في كتابه الأم أنه قال: (الرجل إذا ترك صلاة مكتوبة حتى يخرج وقتها فقد ركب شراً إلا أن يعفو الله عنه)، قالوا: فإن الإمام الشافعي عليه رحمة الله تعالى بهذا القول يرى عدم كفر تارك الصلاة.
فيقال: إن الإمام الشافعي عليه رحمة الله تعالى لم يذهب إلى هذا القول بدليل أنه قيدها بترك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها، وهذا قد دل الدليل على عدم كفره كما تقدم فيما رواه الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى في مسنده.
وأما نص صريح عن الإمام الشافعي عليه رحمة الله تعالى فلا يوجد في هذه المسألة، وإن كان جماهير أصحابه يحكون عنه عدم التكفير.
وأما أبو حنيفة فالمشهور عنه عدم التكفير، ولا يكاد ينقل عنه القول بكفر تارك الصلاة، ونقله عنه جماهير أصحابه، ومن الأئمة في هذا الإمام الطحاوي عليه رحمة الله تعالى في مشكل الآثار واختصار اختلاف العلماء، وله في ذلك نصوص، وإلى هذا ذهب شيوخه عليه رحمة الله تعالى كـحماد بن أبي سليمان وغيره، وهو مروي عن إبراهيم النخعي عليهم رحمة الله.
وقد ذهب جماعة من الأئمة عليهم رحمة الله تعالى إلى عدم كفر تارك الصلاة، وممن ذهب من الأئمة إلى هذا القول: ابن قدامة المقدسي في كتابه المغني، وابن عبد الهادي في كتابه مغني ذوي الأفهام، و ابن حبان و السخاوي والعراقي وغيرهم.
وترك الصلاة ليس من خصال أهل الإيمان بحال، وقد قال ولي الدين العراقي عليه رحمة الله تعالى في أوائل كتابه طرح التثريب: (وأخبرني بعض أصحابنا وهو أبو الطيب المغربي أن أحد علماء المغرب حينما تكلم على ترك الصلاة قال: وترك الصلاة هذه مسألة يفترضها العلماء وليست بواقعة)، وقال: (وهذا العالم الذي حكى هذا القول كان في عزلة، وكان في حلقة أبيه حتى خرج إلى مجالس العلم والتدريس، وحكى هذا القول).
وعلى كل فهذا القول وغيره يدل على أن ترك الصلاة ليس من خصال أهل الإسلام بحال، ويكفي التشديد من النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم وحكايات التكفير عن الأئمة عليهم رحمة الله تعالى وهي كثيرة وأشهر من أن تذكر، وقد تقدم جملة منها.
وهذه الصلاة والتي فيها الكلام هي الفرائض الخمس التي فرضها الله سبحانه وتعالى على عباده على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونتكلم بإذن الله تعالى على ابتدائها إلى الانتهاء منها بالتسليم، والكلام على ما بعدها وما قبلها من شروط ونحو ذلك يطول ذكره، ولهذا نتنكبه ونأخذ ما ظهر، وما أهم مسائلها وما يحتاج إليه الكثير.
الصلاة يشرع الإتيان إليها في المساجد؛ ولأجل ذلك بنيت، وقد فرض الله سبحانه وتعالى الإتيان إليها جماعة كما قال الله سبحانه وتعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، وقد جاء في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصوص عدة.
ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإتيان إلى الصلاة دعاء معلوم.
وأما ما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن عبد الله بن عباس في قصة بيتوتة عبد الله بن عباس عند خالته ميمونة (أن النبي عليه الصلاة والسلام خرج إلى الصلاة ثم قال: اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً )، فهذا الحديث غلط ووهم، وأورده الإمام مسلم عليه رحمة الله تعالى في الصحيح معلاً له بعد رواية حديث كريب مولى عبد الله بن عباس عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى (أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ذلك في صلاته)، فهذا الدعاء في السجود وفي الليل، وليس في الذهاب إلى المسجد، ومال إلى هذا الإمام البخاري عليه رحمة الله حينما ترجم لهذا الحديث فقال: (باب الدعاء إذا انتبه من الليل)، وترجم لهذا الإمام النسائي عليه رحمة الله تعالى في سننه فقال: (باب الدعاء في السجود).
والصواب أن هذا الدعاء: ( اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعني نوراً، وفي بصري نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً )، إلى آخر الخبر، إنما هو في السجود، وليس في الذهاب إلى المسجد، وقد وهم فيه محمد بن علي في روايته عن أبيه عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى، وإيراد الإمام مسلم عليه رحمة الله تعالى له بعد أن أورده من حديث كريب مولى عبد الله بن عباس معلاً له، لا محتجاً به.
ويشرع كذلك أن يخرج الإنسان متوضئاً، وقد استحب العلماء أن يتوضأ الإنسان لكل صلاة، وإن جمع بين الصلاة بوضوء واحد فلا حرج عليه.
ويشرع له أن يأتي إلى الصلاة بسكينة ووقار، فإنه يشرع للصلاة من الإتيان بالسكينة كما يشرع فيها كما نص على هذا غير واحد من الأئمة عليهم رحمة الله.
ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر في خروج الإنسان من منزله إلى المسجد بدعاء معين، وما جاء في هذا من حديث أم سلمة عليها رضوان الله تعالى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( اللهم إني أعوذ بك أن أزل أو أزل )، إلى آخر الخبر، فإنه لا يثبت؛ فإن في إسناده الشعبي ولم يسمع من أم سلمة ، كما نص على ذلك علي بن المديني عليه رحمة الله تعالى، وإن كان قد قال الحاكم عليه رحمة الله تعالى في مستدركه على هذا الخبر: (هذا الحديث على شرط الشيخين، ولا يتوهم متوهم أن عامر بن شراحيل الشعبي لم يسمع من أم سلمة فإنه قد دخل عليها وعلى عائشة ثم روى عنهما كثيراً بعد ذلك)، وهذا قد خالفه الحاكم بنفسه في كتابه علوم الحديث فقال: إنه لم يسمع من عائشة عليها رضوان الله تعالى، فهذا الخبر منقطع.
وأما ما رواه الترمذي وغيره من حديث ابن جريج عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا خرج من بيته قال: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله )، فإنه حديث غريب منكر، تفرد به ابن جريج عن إسحاق عن أنس ، ولم يسمعه ابن جريج من إسحاق كما نص على ذلك الإمام البخاري عليه رحمة الله تعالى فإنه قال: (لا أعلم له سماع لـابن جريج من إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة )، وكذلك نص عليه الدارقطني عليه رحمة الله تعالى كما في كتابه العلل.
وعليه يقال: لا يشرع دعاء بعينه في الذهاب إلى المسجد, وإنما يقول الإنسان من الأدعية والأذكار ما شاء.
ويشرع له المقاربة بين الخطا حتى تكتب له الأجور وتكثر حسناته، وينبغي للمرء أن يستحضر النية في كل حين، وفي كل عمل حتى مما هو من العادات، حتى يعظم له الأجر، ويقول غير واحد من العلماء: (النية تجارة العلماء) أي: أنهم يتاجرون في ذلك، وربما كان العالم في عمل من الأعمال فيستحضر عدة من النيات، فيكتب الله عز وجل له نيات عدة، فإذا استحضر الإنسان كتابة الخطا، واستحضر الإنسان المرابطة في المسجد، واستحضر الإنسان التبكير إلى الصلاة، واستحضر مشروعية السكينة والوقار والامتثال بعدم تشبيك الأصابع وغير ذلك فإنه يؤجر على ذلك بإذن الله تعالى.
ويأتي مقارب الخطا، وقد جاء هذا عن النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح يقول النبي عليه الصلاة والسلام لـأبي سلمة : ( دياركم تكتب آثاركم )، وهذا فيه دليل على أنه يكتب أثر الإنسان إلى البيوت، وإن تعمد تقصير الخطا أجر على ذلك، وهذا ما روي عن أنس بن مالك كما رواه عبد الرزاق في مصنفه من حديث جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس بن مالك قال: (أقيمت الصلاة، فذهب أنس بن مالك ووضع يده على كتفي، فتهيبت أن أزيل يده من كتفي وهو يقارب بين الخطا، حتى فاتتنا ركعة، ثم قضيناها مع الإمام، ثم التفت إلي أنس بن مالك فقال: يا ثابت ! اصنع كما صنعت، فقد صنع بي زيد بن ثابت كما صنعت بك)، وهذا قد تكلم في إسناده, وإن احتسب الإنسان مقاربة الخطا من غير فوات شيء من الصلاة فإنه يؤجر على ذلك بإذن الله تعالى.
ويجب على الإنسان الإتيان والحضور إلى الصلاة عند سماع الإقامة، وأما قبل ذلك فيستحب له، ولا يجب عليه، وإن بكر فهو الأفضل، وإذا أقيمت الصلاة وجب عليه، وإن تكاسل بعد الإقامة يأثم بقدر تأخره، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا سمعتم الإقامة فأتوا )، وفي رواية: ( فامشوا )، ففيه دليل على أنه يشرع للإنسان أن يأتي بعد سماع الإقامة، وأما إذا كان الإنسان بعيداً وإذا سمع الإقامة فإنه لا يتمكن من إداء الصلاة وجب عليه التبكير بما يدرك فيه الجماعة.
ولا فرق بين المساجد بعضها عن بعض، لكن الأولى للإنسان أن يصلي فيما هو قريب منه، وقد جاء عن بعض السلف استحباب الصلاة بالمسجد القديم عن المسجد الحديث, وهذا ثابت عن أنس بن مالك كما رواه أبو نعيم الفضل بن دكين في كتابه الصلاة من حديث ابن سيرين قال: (كنا نمشي مع أنس بن مالك فيسأل، فإذا مررنا بمسجد فيقول: أقديم هو؟ فإذا قلنا: لا، تجاوزه إلى غيره, فإذا كان قديماً صلى به)، ويعضده قول الله سبحانه وتعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108]، قال بعض العلماء: فيه دليل على مشروعية الصلاة في المسجد القديم.
والسنة للإنسان إذا أتى المسجد أن يقول الدعاء المشروع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد، وهذا ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي حميد أو أبي أسيد كما رواه الإمام مسلم من حديث سليمان بن بلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الملك بن سعيد عن أبي أسيد أو أبي حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا دخل أحدكم المسجد فيقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فيقل: اللهم إني أسألك من فضلك ).
وأما الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام عند دخول المسجد قبل هذا الدعاء فقد جاءت عند أبي داود بوجه غير محفوظ من حديث الدراوردي عن ربيعة ، وقد تفرد به الدراوردي ، وليس بمحفوظ, وقد جاء أيضاً عند الترمذي من حديث فاطمة الصغرى عن فاطمة الكبرى أن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه انقطاع.
إذاً: لا يثبت الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام عند دخول المسجد, وإنما المشروع في ذلك هو هذا الدعاء الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمثل شيء جاء في هذا الباب.
ويشرع له أن يقدم رجله اليمنى، وأمثل شيء جاء في هذا الباب بل هو الوحيد في بابه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه الحاكم في مستدركه و البيهقي عنه في السنن من حديث أبي الوليد الطيالسي عن شداد بن سعيد عن معاوية بن قرة عن أنس بن مالك قال: ( من السنة إذا أتى أحدكم المسجد أن يقدم رجله اليمنى )، وهذا الحديث قد تفرد به شداد بن سعيد ، قال البيهقي عليه رحمة الله تعالى: (تفرد به شداد بن سعيد وليس بالقوي).
والذي يظهر والله أعلم أن هذا الحديث منكر، وتفرد شداد بن سعيد فيه إعلال لا يقبل به، وهذا هو الحديث الفرد المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتيامن عند دخول المسجد، وقد حكي أن العمل عليه.
وقال البخاري عليه رحمة الله تعالى في الصحيح: (باب التيمن في دخول المسجد)، قال: (وكان عبد الله بن عمر إذا دخل المسجد يبتدئ بيمينه، وإذا خرج ابتدئ بشماله). ولم أقف على إسناد ما جاء عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى.
وفي قول البخاري عليه رحمة الله تعالى في هذه الترجمة ما يدل على أنه يميل إلى الاستحباب، وحمل بعضهم الاستحباب هنا إن لم يصح حديث أنس بن مالك على حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، وفي شأنه كله )، فيقال: إن هذا في شأن الإنسان لا في العبادات، أما في العبادات فلا بد فيها من دليل، ولكن يقال: لما ثبت عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى فإنه يقال بذلك، ولعله قد وجد في ذلك دليلاً.
أما الاستدلال بحديث عائشة فالذي يظهر لي والله أعلم أن الاستدلال به بعيد، ويلزم من هذا أن نقول بمشروعية التيامن في كثير من الأعمال في العبادات التي لم يرد فيها دليل، أما في العادات كالأخذ والعطاء والدخول والخروج مما هو من عادات الناس فلا حرج للإنسان أن يتيامن في ذلك، وإن لم يرد فيه دليل، ولذلك قالت عائشة عليها رضوان الله تعالى: (وفي شأنه هو كله)، أما في العبادات فلا بد فيها من دليل عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وقد يقال في هذا: إن العمل عليه هو ثابت عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى بجزم البخاري بإخراجه, وأنه يستحب دخول المسجد باليمين.
وإن كان قد وجد الإمام قد أقام وإلا فيصلي تحية المسجد، وهي سنة حكي الإجماع عليها.
وقال بعضهم بالوجوب، وذهب الأئمة الأربعة إلى الاستحباب، وذهب إلى الوجوب ابن حزم الأندلسي، والصواب أنها سنة، وذهب بعض الفقهاء من الحنفية إلى أنها تؤدى في اليوم مرة، وإذا دخل الإنسان المسجد أكثر من مرة في اليوم فإنه يكفيه أن يؤديها مرة واحدة، وما عدا ذلك فيكفيه أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، وهذا يفتقر إلى دليل، وقول النبي عليه الصلاة والسلام عام سواء دخل مرة أو غيره.
ولا يقطع هذه الصلاة الجلوس، فلا حرج على الإنسان أن يجلس لحاجة كأن يتناول شيئاً أو ليشرب ماء أو يتحدث يسيراً أو ليستريح يسيراً من تعب ونحو ذلك، وإن لم يكن مضطراً؛ لأن المقصود من قوله: ( فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ) الحرص على عمارة المساجد بالصلاة، لكي لا يرتادها الناس لغير الصلاة، فإنما بنيت للعبادة، وما عدا ذلك مما هو من حاجة الناس كالجلوس والحديث ومذاكرة الأشعار والنوم ونحوه مما دل الدليل عليه فإنه يكون تبعاً، والأصل فيها التعبد مما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة واعتكاف وذكر وقراءة قرآن وانتظار الصلاة وغير ذلك مما دل عليه الدليل.
ثم ينتظر إقامة الصلاة، فإذا أقام المؤذن فيقوم إلى الصلاة, وقد اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في الوقت الذي يقوم فيه المصلي للصلاة عند أي لفظ من الإقامة على عدة أقوال:
فذهب الشافعي و داود ، وهو قول سالم بن عبد الله بن عمر و ابن شهاب الزهري و عراك بن مالك و عمر بن عبد العزيز إلى أنه عند أول الإقامة عند قوله: (الله أكبر)، وحكاه ابن شهاب الزهري عمن سبقه، وقال: كانوا يقومون إذا سمعوا المؤذن يقول: الله أكبر.
وذهب الإمام أحمد عليه رحمة الله وهو قول جماعة كـالحسن البصري و ابن سيرين إلى أنهم يقومون عند قول المؤذن: (قد قامت الصلاة), ولا دليل في هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مرفوع في كلا الأقوال، وقد روي هذا عن أنس بن مالك وفيه ضعف، وقد ثبت عن الحسن البصري و أنس بن مالك كما جاء في المصنف عند ابن أبي شيبة و ابن عبد البر من حديث هشام عن الحسن و ابن سيرين أنهما كانا يكرهان القيام إلا عند قول المؤذن: قد قامت الصلاة.
وذهب أبو حنيفة عليه رحمة الله تعالى إلى أنه يقوم عند قول المؤذن: حي على الفلاح.
وعلى كل فإنه لا دليل في هذا، كما قال الإمام مالك عليه رحمة الله تعالى، قال: ولا أعلم في ذلك شيئاً إلا أنه يختلف الناس، فمنهم الثقيل ومنهم الخفيف، وعلى هذا يعلق الأمر بثقل الإنسان وبإدراكه التكبيرة، وهذا هو الأولى؛ أن يعلق الأمر به، أن يقوم الإنسان بما يستطيع معه تسوية الصف والإتيان بالسنة من سواك ومتابعة للإمام واقتداء به حال تسويته للصفوف، وكذلك النظر إليه حال التكبير كما كان الصحابة عليهم رضوان الله تعالى يقتدون برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا يكبر الإمام إلا بعد انتهاء المؤذن عند جماهير العلماء، وإن كبر قبل ذلك فالصلاة صحيحة، ولا حرج في هذا، وهذا مروي عن إبراهيم النخعي ، وقال به سفيان الثوري و زفر و أبو حنيفة ، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف عن المغيرة قال: (إني لأسمع صوت المؤذن بعد أن كبر إبراهيم للصلاة وكان إماماً)، وهذا في وقتهم فإن المؤذن كان يذهب إلى سطح المسجد ليقيم.
ويؤخذ من هذا أنه لا يعرف للمؤذن مكان في المسجد في الصدر الأول، بل أنه يصلي كسائر الناس إن وجد مكاناً يصلي فيه، وإن وجد فرجة له لذهابه وإتيانه فلا حرج عليه، وإن وجد أحداً مكانه فإنه يصلي في أي موضع، وأما حيزه على الدوام سواء للمؤذن أو لغيره فهو خلاف السنة.
ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر بذكر قبل تكبيرة الإحرام، وإنما هو الانشغال بتسوية الصفوف.
وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك هو تسوية الصفوف والسواك، وأما من الألفاظ فلم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء إلا أمره الناس بتسوية الصفوف، وأما ما يذكره بعض الأئمة والفقهاء من ذكر قبل تكبيرة الإحرام فمحدث، ولا أعلمه يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام ولا عن أحد من الصحابة ولا عن أحد من التابعين.
وتسوية الصفوف هي سنة باتفاق العلماء، وحكي الإجماع عليها، وذهب بعضهم إلى الوجوب, وهو قول لا أعلم قائلاً به من السلف صراحة سوى ما ترجم عليه الإمام البخاري عليه رحمة الله تعالى في كتابه الصحيح فقال: (باب إثم من لم يسو الصفوف)، ففيه أنه يرى وجوب تسوية الصفوف، وذهب إلى هذا ابن حزم الأندلسي، بل أغرب وذهب إلى بطلان من لم يسو الصفوف، وتسوية الصفوف سنة مؤكدة.
وذهب ابن حزم الأندلسي عليه رحمة الله تعالى إلى الوجوب، واحتج بضرب عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى من لم يسو الصفوف بالدرة، فقد ضرب أبا عثمان النهدي و بلال سويد . قالوا: وفي هذا دليل على وجوب تسوية الصفوف، ويقال: إن السلف الصالح ومنهم عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى كانوا يعزرون على ترك السنن، ولهذا كم مرة ضرب عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى جماعة من الصحابة لتركهم بعض السنن، أو وقوعهم في بعض المخالفات، أو ترك بعض الآداب، وهذا مجتهد، فهذا ليس بدليل على الوجوب، بل هو دليل على التأكيد.
والواجب على الإنسان الإتيان بالصلوات في وقتها، والسنة أن يأتي بها في أول وقتها بالاتفاق إلا صلاة العشاء عند الجماهير، والعصر على قول بعض الفقهاء.
ومن ترك الصلاة متعمداً حتى يخرج وقتها فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب بالاتفاق، بل ذهب بعض العلماء إلى كفره.
ومن ترك الصلاة متعمداً حتى يخرج وقتها لا يجب عليه الإعادة على الصحيح، بل يجب عليه التوبة والاستغفار.
قال ابن رجب عليه رحمة الله تعالى في كتابه فتح الباري: (ولا أعلم في ذلك) أي: الأمر بالإعادة لمن ترك الصلاة متعمداً حتى يخرج وقتها أن يقضيها، (عن أحد من الصحابة ولا عن أحد من التابعين الأمر بالقضاء إلا ما يروى عن إبراهيم النخعي ).
وذهب إلى عدم الوجوب -أي: وجوب القضاء لمن تركها متعمداً حتى يخرج وقتها- جماعة من الأئمة كـالحميدي في عقيدته في آخر المسند، وابن بنت الشافعي وصاحب الشافعي و ابن حزم الأندلسي، ومن الأئمة من التابعين الحسن البصري كما رواه محمد بن نصر من حديث الأشعث عن الحسن البصري قال: (من ترك صلاة مكتوبة حتى يخرج وقتها لا يقضيها).
وذهب إلى القضاء جماعة من السلف، وهو قول الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى، وكذلك إسحاق بن راهويه ، ونص عليه ابن المبارك كما نقل عنه عبد العزيز قال: (جاء رجل إلى عبد الله بن المبارك فسأله عن رجل ترك الصلاة ثم ندم أيعيد الصلاة؟ قال: نعم، قال: ثم التفت إلي فقال: هذا لا يستقيم على الحديث)، يعني: تلك الفتيا، وذلك للإشكال في هذا الباب أن من ترك الصلاة حتى يخرج وقتها هل يعيد تلك الصلاة؟ فإن قلنا بكفره؛ فكيف يقال: يعيد شيئاً فيمن ترك وهو كافر، فهل يكون حال المرتد كحال الكافر الأصلي؟ وهذا هو المشكل عند العلماء، والعلماء يفرق بعضهم بين الكافر الأصلي والكافر المرتد في بعض المسائل كالميراث، فقالوا: يورث المسلم من الكافر المرتد بخلاف الكافر الأصلي وذلك لورود الاشتباه، وكذلك لورود وارد الحرمان من هذا، وكذلك أنه لا تشابه معه من جميع الوجوه، وهذه فيها تفصيل، ليس هذا محله.
وقد ذكر السبكي في طبقات الشافعية مناظرة بين الإمام أحمد و الشافعي في مسألة كفر تارك الصلاة، حيث قال الشافعي عليه رحمة الله تعالى للإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى: ما ترى في تارك الصلاة؟ قال: كافر، قال: فبماذا يدخل الإسلام؟ قال: بلا إله إلا الله، قال: فإن استمر على لا إله إلا الله؟ قال: حتى يصلي، قال: فإن لم يصل؟ قال: كفر، قال: فكيف تقبل صلاة من كافر؟ أي: أنه إذا كان مستديماً بلا إله إلا الله ولم يصل كان كافراً فإن أدى الصلاة فكيف تقبل من كافر.
وهذه المناظرة قد أنكرها بعض الأئمة، وليس لها إسناد، وقد أوردها السبكي في كتابه طبقات الشافعية بصيغة التمريض، وقد يقال: إن مثل هذه المناظرة فيها من ضعف الاستدلال وضعف الحجة مما لا يليق بهذين الإمامين عليهما رحمة الله.
المشروع قبل الصلاة كما تقدم هو تسوية الصفوف وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من السواك، ولا فرق بين ميمنة الصف وميسرته، والفضل الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خلف الإمام، وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح الإمام مسلم : ( ليليني منكم أولي الأحلام والنهى )، وهي ما يسميها البعض الروضة، وليس اسمها كذلك، فهذا الاسم هو خاص بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في سائر المساجد، وأما فيما عدا ذلك مما يلي الإمام فالسنة أن يكون خلف الإمام.
ولا يخفى أن في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة )، وقد اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في هذا المعنى على قولين، ما المراد بروضة من رياض الجنة؟ هل المراد التعبد فيها والأجر في هذا المكان، أم أنها روضة تنقل إلى الجنة، أم المراد معنى آخر؟
وذكر ابن عبد البر و ابن القيم في الجواب الكافي عليهما رحمة الله تعالى أن المراد بذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعلم أصحابه في هذه البقعة، فكانت روضة من رياض الجنة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر )، قالوا: فحلق الذكر هي في هذا الموضع، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعقد الحلق في هذا الموضع فقال: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة )، أي: هلموا إليها لتتدارسوا وتتفقهوا، وليس المراد بها التعبد.
وذهب بعضهم إلى أن التعبد في هذه أفضل من غيرها، وهو قول مرجوح فيما يظهر لي، والله أعلم.
أما فيما عداه من المساجد فلا يقال بذلك، ولا أعلم من قال بذلك من السلف ولا من الأئمة الأربعة عليهم رحمة الله إلا ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله مما يلي الإمام.
ولا فرق بين ميمنة الصف وميسرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الخبر: ( إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف ) فهو خبر غير محفوظ بل منكر، والصواب فيه والمحفوظ منه: ( إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف ).
وأمثل شيء جاء في هذا ما رواه الإمام مسلم من حديث ابن البراء عن أبيه البراء بن عازب قال: ( كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه )، ويقال: إن هذا تفضيل من بعض الصحابة، والنبي عليه الصلاة والسلام أول ما ينفتل ينفتل إليهم، فأحبوا أن يكون أول ما يراهم النبي عليه الصلاة والسلام، وليس في هذا تشريع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو استحباب وتفضيل من ذات بعض الصحابة، ومثل هذا لا يقال به التشريع، وقد يقال: إن مثل هذا فيه إقرار النبي عليه الصلاة والسلام، فإنه يرى الصحابة يحرصون على الميمنة ولا ينكر عليهم، خاصة البراء يقول: (أحببنا أن نكون عن يمينه) فهو يحكي استحباب الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، وقد يقال بتوجيه مثل هذا الاستنباط، ولكنه ليس بصريح.
ولا حرج أن يكون ميمنة الصف أطول من ميسرته، أو الميسرة أطول من الميمنة. وأما ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة : ( وسطوا الإمام )، ففي إسناده مجهولان، ولكنه لا يبتدئ الصف الثاني إلا وقد اكتمل الأول.
وقد اختلف العلماء في ميمنة الصف الثاني هل أيها أفضل أم ميسرة الصف الأول؟ والصواب: أن الصف الأول أفضل من الثاني؛ لما جاء النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الميمنة فلا يثبت فيها شيء عن رسول الله صراحة كما تقدم.
وقد ذهب إلى تفضيل الميمنة للصف المتأخر عن ميسرة المتقدم بعض الفقهاء من الحنابلة والحنفية وغيرهم، وذهب الإمام مالك عليه رحمة الله تعالى إلى أنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل ميمنة الصف شيء، وأن الأفضل هو الدنو من الإمام، والأفضل من جاء مبكراً على من صلى في الصف الأول، ومن حجز مكانه ولم يبكر أفضل منه من بكر، وقد تكلم على أمثال هذه المسألة السيوطي عليه رحمة الله تعالى في رسالة له سماها: بسط الكف في إتمام الصف، وذكر في مسائل تسوية الصف أقوال الأئمة عليهم رحمة الله تعالى كثيرة يطول ذكرها.
والواجب في مثل هذه الحال استحضار النية, لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إنما الأعمال بالنيات )، كما في حديث عمر في الصحيحين أن يستحضر الإنسان النية, فإنه ليس للإنسان إلا ما نوى كما قال عليه الصلاة والسلام: ( وإنما لكل امرئ ما نوى )، أي: لا يكتب له من عمله إلا ما نواه.
ومحل النية القلب، ولهذا سميت نية، فهي مشتقة من النوى، ومحل النوى جوف الثمرة، ومحل النية القلب وجوف الإنسان، ولا تظهر، فإن ظهرت ما سميت نية، ولا معنى لتسميتها نية، ولا يشرع الجهر بها، والجهر بها بدعة، ولا أعلم من قال بالجهر لا من الصحابة ولا من التابعين ولا من أتباعهم ولا من الأئمة الأربعة إلا ما يروى عن الشافعي .
وقد حمل بعض الفقهاء من الشافعية حينما قال في كتابه الأم: إن الصلاة ليست كالصيام والزكاة يفترض افتتاحها الكلام أو ذكر الله، قالوا: في هذا دليل أنه يرى وجوب التلفظ أو مشروعية التلفظ، قالوا: أراد بذلك النية، وحينما فرق بين الصلاة والزكاة، ومعلوم أن الزكاة والصيام لا يشترط في ابتدائها تلفظ، وحينما فرق بينهما وبين الصلاة دل على أنه أراد النية وما أراد شيئاً غير ذلك.
وقد استنكر هذا القول جماهير الفقهاء من الشافعية، ورده الإمام النووي عليه رحمة الله تعالى وشيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله، وذهب إلى هذا جماهير أصحابه، ولكن يشكل على هذا ما رواه ابن المقري في كتابه المعجم فقال: أخبرنا ابن خزيمة عن الربيع عن الشافعي أنه كان إذا أراد الصلاة قال: بسم الله، موجهاً لبيت الله، مؤدياً لفرض الله: الله أكبر، وهذا إسناد كالشمس عن الشافعي ، وظاهره الجهر بالنية، وهذا أعلى شيء وأمثله في هذا الباب عن الأئمة، وكذلك أورده مسنداً السبكي في طبقات الشافعية من حديث ابن خزيمة عن الربيع عن الشافعي في ترجمة ربيع بن سليمان المصري .
وظاهره أن الشافعي عليه رحمة الله تعالى يرى مشروعية الجهر بالنية لقوله: بسم الله، موجهاً لبيت الله، مؤدياً لفرض الله: الله أكبر، وإسناده صحيح لا مرية فيه.
وقد يقول قائل: إن هذا ليس بجهر بالنية, وأن الجهر بالنية هو أن يقول المؤذن لهذه الصلاة صلاة العصر ونحو ذلك، فيقال: إنه لا يلزم منه هذا القول، ولكن ربما قال الشافعي عليه رحمة الله تعالى مرة واحدة ورجع عن ذلك، وربما لزم ذلك.
وبكل حال العبرة بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بقول أحد أياً كان، فإذا كان قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا ليس وحياً منزلاً يتعبد به، فكيف بقول من جاء بعدهم من التابعين؟ فكيف بقول من بعدهم من الأئمة الأربعة؟ وقول الشافعي عليه رحمة الله تعالى وأمثاله في هذا يقال: أنه اجتهد في هذا، وقوله بحاجة لأن يحتج له، لا أن يحتج به عليه رحمة الله.
ويستقبل الإمام والمأموم والمنفرد القبلة وجوباً في الفريضة والنافلة، ويستثنى من هذا من لا يستطيع استقبالها كمن صلى في طائرة أو في باخرة، وتنحرف عنه فإنه معذور.
ويصلي ابتداء إلى القبلة فإن انحرفت فلا حرج عليه، ويستثنى من ذلك عند عامة العلماء النافلة على الراحلة.
واختلف العلماء في استحباب الابتداء بالتوجه إلى القبلة، وذهب الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى إلى استحباب التوجه إلى القبلة ابتداء، فإن انصرفت بعد ذلك فلا شيء عليه، وعامة العلماء على عدم الوجوب في النافلة في السفر على الراحلة، أما في الحضر فتجب.
وأما الاستقبال بالابتداء في السفر فلم يذهب إلى مشروعيته الجمهور مالك و الشافعي و أبو حنيفة ، وذهب الإمام أحمد إلى مشروعيته, واستدل بحديث الجارود بن أبي سبرة في روايته عن أنس بن مالك : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة، ثم كبر، ثم صلى حيث توجهت به )، وهذا الحديث تفرد به الجارود ، وهذا الحديث لم يرد الاستقبال في أول الأمر لا في حديث عبد الله بن عمر ، ولا في حديث جابر ، ولا في حديث مالك ، وقد جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث، وليس فيها الاستقبال لأول مرة, وإنما تفرد به هنا الجارود ، وقد أعله ابن القيم عليه رحمة الله تعالى في كتابه الزاد, وقال بعدم مشروعية استقبال القبلة في النافلة بالابتداء في السفر على الراحلة, وأنه يصلي كيفما اتفق، ولا يشرع الابتداء, وأن هذا تفرد معلول. وقد عمل به الإمام أحمد عليه رحمة الله، والأخذ به احتياطاً، فإنه فيه أخذ زيادة الاحتياط هو الأولى، إلا أنه عند العلماء عامة لا حرج لمن تركها حتى ابتداء إذا كان على الراحلة في النافلة في السفر، أما الفريضة في السفر والحضر فلا تؤدى على الراحلة.
ولا فرق بين الرجل والمرأة في أدائها على الراحلة النافلة في السفر.
وأما ما جاء عند أبي داود من حديث النعمان بن المنذر عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة عليها رضوان الله تعالى ( أنها سئلت عن النبي عليه الصلاة والسلام: هل رخص للمرأة أن تؤدي الصلاة على الراحلة؟ فقالت: لم يرخص النبي عليه الصلاة والسلام في هذا لا في حضر ولا في سفر )، ولعله محمول على المكتوبة, فإنه قد رواه البيهقي عليه رحمة الله تعالى من حديث محمد بن شعيب عن النعمان عن عطاء عن عائشة , قال محمد : المراد المكتوبة، أي: الصلاة هنا خاصة هي المكتوبة، والأصل أنه لا فرق بين المرأة والرجل في ذلك.
ويستقبل القبلة، ولا حرج عليه أن ينحرف يميناً ويساراً عن القبلة إذا كان لا يراها، كأن يكون بعيداً عنها كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة )، ولا حرج عليه أن ينحرف يميناً ويساراً, ولا يشدد في هذا عند جماهير أهل العلم، ولا يشترط التصويب، فإن انحرف يساراً أو يميناً فلا حرج عليه.
وعليه يعلم أن تكلف بعض الناس في هذا بالتصويب وإعادة الصلاة لأجل انحراف يسير، أو التكلف بهدم المساجد والمحاريب لانحرافها درجة يسيرة ونحو ذلك، والمسجد في أقاصي الدنيا ونحو هذا، أن هذا فيه تكلف لا يأتي به الشرع، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لأهل المدينة: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة )، وهذا يدل على أن الأمر متسع.
أما إذا كان يرى الكعبة، فإنه يجب التصويب بالاتفاق، ولا ينحرف يميناً ولا شمالاً، وذهب بعضهم إلى وجوب التصويب، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ) يدل على عدم الوجوب, وأنه أوسع وأنه يصلي إلى جهتها.
ثم يكبر ويقول: الله أكبر، ويرفع يديه، وهذه التكبيرة هي تكبيرة الإحرام، وتكبيرة الإحرام ركن بالاتفاق.
ولا تنعقد الصلاة إلا بهذه التكبيرة على هذه الصيغة: الله أكبر، فإذا قالها بغير صيغة كأن يقول: الله الأكبر، أو الله الأعظم، أو الله الأجل، فلا تصح عند عامة العلماء خلافاً للحنفية الذين قالوا بانعقادها.
وهذه التكبيرة بها يحرم على المصلي ما كان مباحاً قبل ذلك، وقد جاء في المسند والسنن من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم )، فقوله: (تحريمها) أي: أنه يحرم عليه ما كان حلاً له قبل ذلك، وعليه فلا حاجة أن يبحث الإنسان دليلاً على حرمة أي فعل في الصلاة، فعليه أنه تسكن جوارحه، ولا يفعل إلا ما فيه دليل، ويمسك عما لا دليل عليه فإنه يحرم عليه، ولهذا قال: (تحريمها) أي: يحرم عليه أن يفعل شيئاً غير ذلك.
ولهذا لا يوجد دليل عن النبي عليه الصلاة والسلام بالنص على تحريم الأكل في الصلاة، فهل يقول قائل: إنه يجوز للإنسان أن يأكل في الصلاة؛ لأنه لم يرد دليل عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا دليل عام يعم كل شيء، أكل أو انحراف، أو كلام، أو غير ذلك، فكله محرم إلا ما دل عليه الدليل بالنص في هذه العبادة، أو دل عليه الدليل بالعموم في هذه العبادة بذاتها كقراءة الفاتحة وقراءة سورة والتلفظ بالذكر، وهذه ألفاظ وأفعال دل عليها الدليل.
وما دل عليه الدليل بالعموم من غير خصوص كرد السلام على قول، أو إجابة المؤذن حال سماعه على قول، فقد قال بعض الفقهاء ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله تعالى في الاختيارات: إن المؤذن إذا أذن وكان حوله من يصلي أنه يردد معه ولا حرج عليه، وهذا قول له وجه من النظر، ومن قال بهذا القول كشيخ الإسلام ابن تيمية فإنه أخذ بالعموم، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ) .
وعليه حمل بعضهم الاستحباب برد السلام، ولم يثبت عن رسول الله رد السلام في الصلاة لا لفظاً ولا إشارة، وما جاء في هذا الباب فكله معلول، وقد صححه بعض المتأخرين، ولا يصح منه شيء، ولكنه قد ثبت عن بعض السلف حتى بالغ بعضهم، وروي عن عبد الله بن عباس أنه سلم عليه رجل فمد يده فصافحه وهو يصلي, وإسناده صحيح عنه، ولكن يقال: إن مثل هذا يحتاج إلى خبر مرفوع، والأصل في مثل هذا الوقف في العبادات حتى يثبت الدليل، ومثل هذا يقال: إن من فعله هو خلاف الأولى، ولكنه لا يبدع لوجود السلف سبق في هذا.
ويرفع يديه، ورفع اليدين هنا سنة، وهو آكد مما جاء بعدها من المواضع التي يرفع فيها اليدين، ويأتي الكلام عليها بتفصيلها بإذن الله.
ويرفع يديه حذو منكبيه أو حذو أطراف أذنيه أو حتى يحاذي شحمة أذنيه، وكل هذا ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح، فقد جاء من حديث عبد الله بن عمر ومن حديث مالك وغيرهما، وجاء أيضاً من حديث وائل بن حجر في السنن وغيرها.
واستقبال القبلة باليدين عند التكبير لا يثبت فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما ما رواه الطبراني في الأوسط من حديث عبد الله بن عمر مرفوعاً: ( إذا كبر أحدكم فليستقبل بيديه القبلة فإن الله أمامه )، فخبر منكر تفرد به عمير بن عمران ، ولا يحتج به, ولكنه قد ثبت عن عبد الله بن عمر أنه كان يستقبل بيديه القبلة، كما رواه ابن سعد في طبقاته من حديث محمد بن يحيى بن حبان عن عمه، عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى أنه كان إذا كبر استحب أن يستقبل بإبهاميه القبلة، وإسناده صحيح عن عبد الله بن عمر ، وهذا أمثل شيء في استقبال اليدين القبلة عند رفعهما في الصلاة، ولا يثبت في هذا شيء عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يرد في هذا شيء عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى.
وأما ما رواه النسائي من حديث وائل بن حجر (أن النبي عليه الصلاة والسلام رفع يديه حتى حاذى بهما أذنيه في الموضع الذي يستقبل بهما القبلة) فهو خبر لا يصح أيضاً، وأمثل شيء في هذا كما تقدم هو الموقوف على عبد الله بن عمر .
وقال به ابن القيم عليه رحمة الله تعالى في الزاد: (ويشرع ويسن أن يستقبل بيديه القبلة)، والقول بالسنية بعيد، وهذا غريب منه عليه رحمة الله فإنه لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام في هذا خبر, وإنما هو موقوف على عبد الله بن عمر ، ولا يقال بمثل ما ثبت عن الصحابة السنية.
وأما من يستدل بالعموم وما يقول به بعض الفقهاء أنه يشرع الاستقبال؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام استقبل بكامل جسده القبلة، واستقبل بأصابعه عند سجوده القبلة أصابع قدميه القبلة، والنبي عليه الصلاة والسلام يروى عنه: ( قبلتكم أحياء وأمواتاً )، وفي قوله كذلك وما جاء في الوحي: ( واجعلوا بيوتكم قبلة، وخير بيوتكم ما استقبلتم به القبلة )، مما يدل على تعظيم القبلة وتشريفها فيما هو ليس بعبادة، والعبادة من باب أولى، لكن يقال: إن قول النبي عليه الصلاة والسلام مما يروى عنه: ( قبلتكم أحياء وأمواتاً ) لا يصح، وقد جاء من طرق لا يصح منها شيء.
وأما ما يستدل به البعض من مشروعية استقبال الجسد القبلة على وجه العموم في الحياة والموت، واستقبال الميت القبلة في حال قبره فيقال: لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام في استقبال المحتضر الميت عند موته القبلة، ولا عند دفنه أن يستقبل القبلة لم يثبت في ذلك شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإنما الثابت عن حذيفة بن اليمان لما قال: (وجهوني إلى القبلة) وفيه كلام, وثبوته ليس ببعيد عن حذيفة عليه رضوان الله تعالى، وجاء عن البراء عليه رضوان الله تعالى وهو ضعيف، وقد جاء من طرق عدة مضطربة لا يثبت منها شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعليه يقال: إن استقبال القبلة بباطن الكفين لا يشرع، ومن فعله لا حرج، وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد .
ثم فقد قال الحنفية بوجوب رفع اليدين في هذا الموضع، والجماهير على أنه سنة، ففعل النبي عليه الصلاة والسلام على السنية، وغاية ما يدل عليه السنية.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، والنبي عليه الصلاة والسلام قد داوم على الرفع، هل يقال بالوجوب؟ لا يقال بالوجوب، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد عف عن أفعال عدة في صلاته ولا نقول بوجوبها مع أنه عليه الصلاة والسلام قد داوم عليها كالتورك والافتراش والإشارة بالإصبع، وجاء فيها أحاديث كثيرة، وكذلك قبض اليدين جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أحاديث ولا نقول بوجوبها، فمن قال بالوجوب فعليه بالاطراد في كل ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا عليه أن يقول بكل مسألة بنظيرها من جهة الحكم فيما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم في نظره أين يضع نظره بعد تكبيره؟
جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يضع بصره في موضع سجوده، وهذا خبر لا يصح، وهذا في صلاة النبي عليه الصلاة والسلام في الكعبة، ولا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر في موضع بصره في الصلاة إلا ما جاء أنه (كان إذا أشار بإصبعه لا يجاوز بصره إشارته)، أي: في التشهد، وهذا أمثل شيء جاء فيه وهو معلول أيضاً, ويأتي الكلام عليه بإذن الله تعالى.
وعليه يقال: إن الصحيح أن المصلي ينظر فيما شاء مما هو أخشع له، إلا أنه يحرم عليه النظر إلى السماء؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك.
ويكره له الالتفات يميناً ويساراً، ويحرم عليه الانحراف، أما اللحظ والنظر إلى الأمام أو موضع القدمين أو موضع السجود فينظر فيما هو أخشع له على السواء، ويتجنب ما نهي عنه.
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يطأطئ رأسه، ولكن هل يلزم من طأطأة الرأس أنه كان يضع بصره موضع سجوده؟ نقول: قد يكون الإنسان يطأطئ رأسه وينظر إلى كفيه، أو ينظر إلى قدميه أصابع قدميه، أو ينظر إلى سجوده أو ينظر إلى أمامه؛ لأن البصر لا يملكه الطأطأة، وإنما الطأطأة تعني الخشوع والسكينة والتأدب بين يدي الله سبحانه وتعالى، وهذا غاية ما تدل عليه، ويأتي الكلام على مسألة البصر ووضعه عند الإشارة في الصلاة بإذن الله تعالى.
ويشرع بعد تكبيرة الإحرام أن يذكر ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدعية الاستفتاح، وأدعية الاستفتاح قبل الاستعاذة، وهي عامة في كل صلاة إلا في صلاة الجنازة على قول الجماهير، وقال بعض الفقهاء من الشافعية والحنفية بمشروعيتها، والصواب عدم المشروعية؛ لأن المشروع في صلاة الجنازة التخفيف، ولا دليل على الإتيان بها.
والإتيان بدعاء الاستفتاح سنة عند جمهور العلماء، وهو قول أبي حنيفة و الشافعي و أحمد ، خلافاً للإمام مالك فإنه قال بعدم مشروعية أدعية الاستفتاح، وقال بعض الفقهاء من المالكية بالبدعية، ويقابل قول بعض المالكية هنا ما حكاه ابن رجب عليه رحمة الله تعالى أو ما حكاه ابن حجر عليه رحمة الله تعالى عن بعض الحنابلة أنهم قالوا ببطلان من لم يدع بدعاء الاستفتاح، وهذا قول بعيد لا يعول عليه وشذوذه ظاهر.
ودعاء الاستفتاح سنة لثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء فيه من أدعية الاستفتاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة، منها: حديث أبي هريرة ، و علي بن أبي طالب ، و أنس بن مالك ، و عبد الله بن عمر وغيرها، وأمثل ما جاء في هذا حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى في دعاء الاستفتاح: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي..) الخبر، وقد رواه البخاري وغيره، وهذا أصح خبر.
وقد جاء صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث علي بن أبي طالب في قول النبي عليه الصلاة والسلام حينما استفتح صلاته: ( وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً، وما أنا من المشركين )، ولكن هذا الدعاء إنما هو استفتاح لصلاة الليل، كما قال البزار حينما أخرج الخبر قال: (وحمله الناس على صلاة الليل، ليس في صلاة الفريضة، ولا في صلاة النافلة من النهار).
وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً ما رواه الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمر : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى بالناس، فجاء رجل فقال: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله العظيم بكرة وأصيلاً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: عجبت لها فتحت لها أبواب السماء )، وهذا ثابت من حديث عبد الله بن عمر عند الإمام مسلم ، وكذلك حديث أنس بن مالك فيما رواه الإمام مسلم : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى بالناس، فجاء رجل قد حبسه النفس، فقال هذا الرجل: الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً فيه، قال النبي عليه الصلاة والسلام: من قال هذا القول؟ فقال: أنا، قال: رأيت اثني عشر من الملائكة يبتدرونها، أيهم يرفعها ).
وجاء في هذا أيضاً كما في السنن من حديث عمرة عن عائشة عليها رضوان الله تعالى: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يستفتح الصلاة بقوله: سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك )، وهذا الخبر لا يصح مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن خزيمة في الصحيح: (وأما ما يقوله العامة من أهل خراسان من الاستفتاح في الصلاة: سبحانك اللهم وبحمدك، فلا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل المعرفة في الحديث)، لكنه ثابت عن عمر بن الخطاب ، وقد أخرجه الإمام مسلم عليه رحمة الله تعالى في صحيحه.
وثبت عن عمر و ابن مسعود ، وروي عن أبي بكر و عثمان .
والسنة في هذا أن يغاير الإنسان بين دعاء ودعاء, ولا يجمع بينها، فإن جمع بينها فيظهر أنه خلاف الأولى؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يسكت هنيهة كما جاء في حديث أبي هريرة في صحيح الإمام مسلم ، وهنيهة يعني: قدراً يسيراً مما لا يكفي لأداء هذه الأذكار جميعاً، وإنما هو يغاير بينها، والمغايرة بينها هي السنة، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يجمع بينها.
والقرينة على هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام لو قرن بينها، فمن سمع هذا لماذا لم يسمع الذي بعده، ولم يروه أحد من الصحابة؟ ومن سمع ذاك لماذا لم يسمع الذي قبله؟ ومن سمع الذي قبله لماذا لم يسمع الذي بعده؟ فلم يثبت أن هذه الأذكار جاءت بخبر واحد، أو روي عن النبي عليه الصلاة والسلام دعاءين في خبر واحد؛ مما يدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يغاير في هذا، وهذا هو الأولى.
وبعد ذلك يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم على الصيغ الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما جاء عنه، وأما ما رواه الإمام أحمد وبعض أهل السنن: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يستعيذ في صلاته: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفثه ونفخه )، فلا يثبت، قال عبد الله بن أحمد : لم يحمد أبي إسناده، فقد جاء من حديث أبي سعيد الخدري ، وفي إسناده علي بن علي الرفاعي ولا يحتج به، وقد جاء أيضاً من حديث جبير بن مطعم أنه قد تفرد به عاصم العنزي، وقد جاء من حديث عائشة ، وأعله أبو داود ، وجاء من حديث أبي أمامة وفي إسناده مجهول، وروي من غير هذا الوجه، ولا يثبت فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واختلف العلماء في أيها أفضل؟ ففي قول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنه السميع العليم، وقول: أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وقال بعضهم وفي ثبوته نظر: أستعين بالله من الشيطان الرجيم، وأشهرها: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وذهب إلى هذا الإمام الشافعي وأكثر القراء على هذا، وهو مروي عن الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى أيضاً.
وذهب الإمام أحمد وغيره إلى قول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وذهب إلى هذا جماعة من القراء كـنافع و ابن عامر و الكسائي .
وذهب محمد بن سيرين و حمزة الزيات إلى قول: أستعين بالله من الشيطان الرجيم، وقالوا في لفظ: أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.
وذهب قلة قليلة وندرة إلى وجوب الاستعاذة استدلالاً بعموم قول الله سبحانه: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98] .
وأما البسملة فذهب بعض العلماء إلى وجوبها، وهو مروي عن الشافعي عليه رحمة الله، وذهب بعضهم إلى المشروعية وعدم الوجوب.
والبسملة فيها أحكام عدة ومسائل متشعبة كثيرة، وقد صنف فيها جماعة من العلماء مصنفات، فصنف فيها ابن خزيمة و ابن عبد البر و ابن عبد الهادي و ابن الصبان له الرسالة الكبرى في أحكام البسملة، وغيرهم من الأئمة لهم مصنفات في البسملة وأحكامها وأبوابها، وما دل الدليل فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ما يعنينا هنا الاستفتاح فيها قبل الفاتحة.
ويقال: إن البسملة في الفاتحة جاءت في بعض القراءات ولم تأت في بعضها، فمن كان يقرأ على قراءة معينة فيها قراءة البسملة قبل الفاتحة فإنه يقرأ بها في الصلاة، ومن كان يقرأ بقراءة ليس فيها الفاتحة فإنه لا يقرأها، وعدم ورودها في بعض القراءات دليل على جواز عدم قراءتها.
ويقال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف, ومن هذه الأحرف ورود لفظ وعدم وروده في بعض الآي، وهذا كما أنه في البسملة كذلك في بعض الحروف في كلام الله سبحانه وتعالى، كما في قول الله سبحانه وتعالى في سورة الحديد: هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الحديد:24]، فقد جاءت في قراءة سبعية، ولم تأت في قراءة أخرى، وكذلك في قول الله سبحانه وتعالى في: لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة:259]، في الهاء، جاء في قراءة سبعية ذكر الهاء، ولم يأت في أخرى بذكر الهاء، وكلها صحيحة بالحذف والإثبات، وكذلك في ذكر بسم الله الرحمن الرحيم في أول الفاتحة، فمن أثبتها على قراءة فإنها قراءة, ومن لم يثبتها على قراءة فإنه لا حرج في ذلك.
ولكن المسألة المشكلة عند كثير من الفقهاء هي مسألة الجهر بها، هل يجهر بالفاتحة أم لا؟
ونرجئ الكلام على الجهر بالفاتحة بإذن الله سبحانه وتعالى. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
السؤال: هل حديث: ( سبحانك اللهم وبحمدك ..) له حكم الرفع؟
الجواب: لا، ليس له حكم الرفع.
السؤال: هل قول: ( اللهم اجعل في قلبي نوراً .. )، إلى آخر الحديث، في الطريق إلى المسجد بدعة؟
الجواب: ليس بدعة، قال به بعض العلماء، ولكنه لا يثبت أن يقول الإنسان في طريقه إلى المسجد، وإنما هو في صلاة الليل، هذا هو الثابت والذي مال إليه البخاري ، وكذلك الإمام مسلم عليه رحمة الله تعالى في رواية محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده.
السؤال: هل يأثم الإنسان بفوات بعض ركعات الصلاة من غير حاجة ولا ضرورة؟
الجواب: لا أعلم في ذلك دليلاً يلحق الإثم في من تعمد تفويت ركعة، لكن من فوت الصلاة بالكلية يأثم متعمداً، وإلحاق الإثم فيمن ترك ركعة أو كان يرى الإمام فلا شك أن هذا تفريط, ويدل على عدم استشعار عظم هذه الشعيرة، أما إلحاق الإثم فهذا يفتقر إلى دليل، وإلحاق الإثم فيه يتضمن وعيداً، وهذا لا يجرئ عليه أحد إلا أنه يقال: لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوب تكبيرة الإحرام مع الإمام شيء، وكذلك في فضلها، والحديث الوارد في هذا ضعيف، وقد رواه الترمذي وغيره.
السؤال: ذكر دعاء دخول المسجد هل هو عند دخول المسجد أم عند دخول السور؟
الجواب: دخول السور؛ لأن السور داخل في المسجد، واختلف العلماء هل الرحبة داخلة في المسجد أم لا؟ على خلاف عندهم، وقد أشار إلى هذا الخلاف الإمام مالك عليه رحمة الله تعالى في موطئه, وفيه خلاف، والصواب أنها من المسجد.
السؤال: من لا يصلي إلا الجمعة فما حكمه؟
الجواب: الذي دل عليه الدليل عن النبي عليه الصلاة والسلام فيمن يترك صلاة وصلاتين ونحو ذلك، كما في الرجل الذي بايع النبي عليه الصلاة والسلام. وأما من يترك الصلوات ويصلي الجمعة فهذا كافر بظاهر النص.
السؤال: إذا أقيمت الصلاة وأنا أؤدي تحية المسجد فماذا يجب علي؟
الجواب: إذا كنت في آخرها فتستعجل بها ثم تؤديها، وقد ثبت عن عبد الله بن عمر كما جاء عند ابن أبي شيبة و البيهقي وغيره أنه يؤدي الصلاة بعد الإقامة, وهذا جاء في ركعتي الفجر أنه كان يؤديها، يعني: يؤديها اختصاراً امتثالاً لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ) .
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر