الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالحديث الأول في هذا المجلس هو حديث عقبة بن عامر عليه رضوان الله تعالى عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من توضأ فأحسن الوضوء، ثم رفع بصره إلى السماء وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ).
هذا الحديث رواه الإمام أحمد و أبو داود و النسائي وغيرهم، من حديث حيوة بن شريح عن أبي عقيل عن ابن عمه، عن عقبة بن عامر ، عن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث أعل بابن عم أبي عقيل ، وابن عمه هو الذي يروي عن عقبة تفرد بهذه اللفظة في هذا الخبر وهي: ( فرفع بصره إلى السماء )، وتقدم معنا حديث التشهد بعد الوضوء، وهنا لدينا زيادة وهي رفع البصر إلى السماء، فتفرد بها في هذا الحديث ابن عم أبي عقيل عن عقبة بن عامر عن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل هذه اللفظة معلولة إذا قلنا: إن ابن عمه مجهول لا تعرف حاله، وهو الذي يروي عن عقبة هذا الحديث؟
أولاً ومما ينبغي أن ينتبه له: أن الألفاظ التي تكون في بعض الأحاديث لا تخلو من نوعين:
النوع الأول: لفظ يحتاج إليه في الباب في سياق المتن ضرورة لتعلقه بالمعنى العام.
النوع الثاني: لا يحتاج إلى إيراده، فيغفله بعض الرواة، والحديث ثبت عندنا كما تقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتشهد بعد وضوئه وهذا في الصحيح، ولدينا زيادات في هذا الخبر منها الدعاء: (اللهم اجعلني من التوابين)، وكذلك رفع البصر إلى السماء كما ورد هنا.
فالنوع الأول: هو الذي تعل به المتون، حتى يتضح ذلك في أمور نقد المتون أن بعض المتون في بعض المرويات يسقطها الرواة للعلم بها، مثال ذلك: أن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى قد يقولون مثلاً: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوماً، ولا يذكرون موضع الصلاة، وغالباً أنها في مسجده عليه الصلاة والسلام، ولا يذكرون استقبال القبلة ولا يقولون: استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة بنا فصلى؛ لأن أمثال هذه الألفاظ ألفاظ معلومة، وعدم ورودها في بعض المتون لا تعل المتون؛ لأن المتن والسياق ليس بحاجة إليها، باعتبار تقرر العلم بها، فيذكرها بعضهم ولا يذكرها آخرون.
وهناك من الألفاظ ما هو دون ذلك التصاقاً بالمعنى، ومنها ما هو بعيد عن المعنى، وإذا كان بعيداً عن المعنى فلا بد من ذكره إذا حدث ووقع؛ لأنه منفك ومنفصل عنه، أما ما كان ملتصقاً به ومعلوماً ضرورة كاستقبال القبلة والوضوء فلا يحتاج إلى ذكره في كل حديث للعلم به، وما كان منفصلاً منفكاً عنه لا يعلم ضرورة وجوده في مثل هذه الحال فلا بد من إيراده في مثل هذا الموضع، كأن يقول الراوي مثلاً: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ثم ذكر حادثة بعد الصلاة، ولكن جاء بعض الرواة وذكر سهو النبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة وما فعل فيها، فهذا أمر منفك، وطارئ ليس بمعروف اطراداً أنه يتبع لكل صلاة تأتي، فلا بد من ذكره لو حدث.
هنا لدينا رفع البصر إلى السماء في هذا الحديث، كيف ننقده ونعل هذه الزيادة؟
الزيادة من جهة الصناعة الإسنادية معلولة في هذا الخبر، ولكن رفع البصر إلى السماء ليس له ارتباط بالوضوء، إذاً ارتباطه بالذكر والدعاء، والذكر والدعاء هل له ارتباط بالوضوء؟ الأصل العام أن الذكر والدعاء منفصل، فيستطيع الإنسان أن يذكر الله في كل موضع، وما يكون في الدعاء في كل موضع وغلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يفعله في موضع فيفعله في الموضع الآخر، لهذا نستطيع أن نصحح الحديث هذا أو نضعفه بالنظر إلى المتون الأخرى، فننظر إلى رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره إلى السماء، كيف كان يرفع؟ فقد ثبت في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي موسى الأشعري: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليهم في المسجد فقال: ما زلتم مكانكم؟ قالوا: نعم ننتظرك يا رسول الله، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره إلى السماء وكان كثيراً ما ينظر إليها )، ثم قال حديثه المشهور.
ولدينا حديث آخر وهو حديث عبد الله بن عباس وهو في صحيح البخاري من حديث كريب مولى عبد الله بن عباس أن عبد الله بن عباس قال: ( بت عند خالتي ميمونة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل ثم رفع بصره إلى السماء، ثم تلا قول الله جل وعلا: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [البقرة:164]، الآية ).
ولدينا أحاديث أخر منها ما جاء في السنن أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه كان إذا ذكر الله ودع نظره إلى السماء )، ومنها ما يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام من عادته أنه إذا أراد أن يدعو أو يذكر الله عز وجل نظر إلى السماء، يعضد هذا حديث المقداد كما في الصحيح حيث قال: ( استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نظر إلى السماء -استسقى يعني: طلب أن يسقيه أحد- قال المقداد: فخشيت أن يدعو علي، ولم يدع بعد )، لكن ظن أن هذا النظر يتبعه دعاء، فإنه تهيأ للدعاء، كحال الإنسان الذي يرفع يديه فلا شك أنه يريد أن يدعو، وهذا دليل على ارتباط الدعاء بالنظر إلى السماء، وهذا من السنن التي يغفل عنها كثير من الناس، يقول المقداد: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أطعم الله من أطعمني، وسقى الله من سقاني )، قال هذا الكلام وهو ينظر إلى السماء.
إذاً: رفع البصر إلى السماء عند الذكر والدعاء ليس مرتبطاً بهذه الحادثة؛ ففصلناه بالسبر، وهذا السبر هو بمجموع حال رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره إلى السماء، وأن رفع بصره كان مرتبطاً بالدعاء كثيراً، وكان ينظر أيضاً في غير دعاء، ولكنه كثيراً ما ينظر إليها حتى أن المقداد حينما رفع النبي صلى الله عليه وسلم بصره إلى السماء انتظر منه دعاءً.
وعلى هذا فنقول: إن هذا الحديث مع جهالة الراوي عن عقبة ليس بمنكر المتن، ومن فعل به وتعبد فقد أحسن؛ لأن هذه الزيادة في هذا الحديث لا صلة لها بالوضوء، وإنما صلتها بالدعاء على سبيل العموم، وكذلك الذكر، وابن عم أبي عقيل في هذا الحديث وإن كان لا يعرف إلا أنه لم يأت بشيء جديد، وروايته أيضاً عن عقبة بن عامر في هذا الحديث هي رواية عن صحابي جليل، والراوي عنه في ذلك ابن عمه، وأمر القرابة في المرويات له أثر في مسألة التحري، وذلك أن العلماء في أمور العلل ينظرون إلى سماع التلميذ من شيخه، وإلى صلة التلميذ بالشيخ، فربما كان سماعه معترضاً، ولم يكن عارفاً بحاله، والقرابة دليل على المخالطة، فابن العم يخالط ابن عمه، وكذلك الأخ مع أخيه يختلطون دائماً فيعرف مواضع الصدق والكذب، والصواب والخطأ، فهو أعلم به؛ لأنه من قرابته، بخلاف إذا روى الثقة عن مجهول، فإذا روى الثقة أو المتوسط عن مجهول وهذا المجهول ليس بينه وبينه صلة قرابة فإنه ربما رآه في طريق فسمع منه ثم مضى، فلم يره إلا تلك المرة، وأما بالنسبة للذي يحدث عن قرابة فإن ذلك أمارة على معرفته بحاله، وعلى هذا نقول: هذه زيادة صحيحة فهو من حيث الصناعة الحديثية نقول: الحديث ليس بمعلول، فمن رفع بصره إلى السماء بعد وضوئه استئناساً بهذا الحديث فعمله صحيح واحتجاجه بمثل هذا الحديث صحيح؛ لأن رفع البصر إلى السماء منفك ليس مما لا يأتي إلا في مثل هذا الموضع، فلو لم ترد لدينا الأحاديث المتكاثرة في رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره في مواضع أخرى منفصلة لما صح الاحتجاج، ولهذا أنبه كثيراً أن طالب العلم في أمور العلل تخدمه أحاديث كثيرة في غير الباب، وهذا مرده إلى وفرة محفوظه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان لديه معرفة بالأحاديث المروية عن النبي عليه الصلاة والسلام في الباب فتخدمه أحاديث في الجهاد، وفي البيوع، وفي السير، وفي المغازي، وفي الصلاة، وفي غير ذلك من الأحوال تخدمه في موضع آخر، ولهذا الذي رفع العلة عن هذا الحديث هي أحاديث منثورة دلت على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع بصره إلى السماء كثيراً، حتى ظن الرائي أنه إذا رفع بصره إلى السماء أنه يتحرى دعاءً وذكراً، ولهذا من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهو ينظر إلى السماء بعد وضوئه فهو متبع، حتى لو لم يرد هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا من السنة المهجورة التي يهجرها كثير من الناس، حيث يدعو بعضهم وهو ينظر إلى كفيه، لكن لدينا استثناء وهو مسألة الصلاة، فلا يرفع بصره إلى السماء، وإن ورد هذا عن بعض السلف أنه كان يرفع بصره إلى السماء وهو في الصلاة كـالحسن البصري ، لكن لا عبرة بالخلاف مع ورود النص الصريح، فالنهي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رفع البصر إلى السماء في الصلاة صريحاً، ولا إشكال في ذلك.
أما بالنسبة للدعاء خارج الصلاة فيستحب للإنسان أن يرفع بصره حال دعائه، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، بل يستحب للإنسان أن يكثر من النظر إلى السماء ولو في غير الدعاء؛ لأن النظر إلى الأفلاك يحيي الإيمان في القلب ويقويه؛ لأن أعظم ما يصد الإنسان عن الإيمان ويضعف يقينه بالله عز وجل هو عظمته عند نفسه وقدرته، فإن نظر في هذا الكون العظيم وهذه الأبراج وهذه الأفلاك التي تدور في الأرض بانتظام واتساق منذ أن خلقها الله عز وجل من قرون طويلة الأمد لا يعلمها ولا يحصيها إلا الله سبحانه وتعالى عن انتظام، فإن الإنسان يعلم أنه ضعيف عند نفسه، وليس بشيء عند الله سبحانه وتعالى، فعليه أن ينقاد فعند ذلك تهون نفسه عنده، ويتعلق بالله سبحانه وتعالى، ويزداد يقينه وإيمانه بالله إذا ضعف يقينه بنفسه، ولهذا من الألفاظ الخاطئة التي تطلق عند المتأخرين هي الثقة بالنفس، وقولهم: كن واثقاً من نفسك، وتقام دورات تدريبية في الثقة بالنفس، وهذا أعظم ما يفسد الناس، وأكثر الناس الذين يدخلون المصحات هم خريجو هذه الدورات، يدخل الدورات يريد أن يثق بالنفس فلا يخرج إلا إلى المصحات النفسية، فالثقة بالله هي التي ينبغي أن تعقد عليها الدورات، كيف يثق الإنسان بالله؟
والمراد بذلك: ألا يكون الإنسان درويشاً لا يفهم، أن يكون الإنسان عالماً بنفسه عالماً بمواضيع المادة، ولكن مع ذلك يكون واثقاً بالله وأن الله هو الذي يصيرها، وليست الأمور التي يحرص الإنسان على الإتيان والوصول إليه، وكلما بعد الإنسان عن الله سبحانه وتعالى ضعف يقينه بالله وانشغل بنفسه، وهذا الاضطراب الذي يقع في النفوس والأمراض والعلل النفسية كما تقدم هي من الثقة بالنفس؛ لأن النفس إذا وثقت بذاتها تحيرت؛ لأنها تفعل أسباباً ولا يتحصل المراد، أين الثقة بالنفس؟!
إذاً: النفس لا تحسن الوصول إلى النتائج، والذي يحسن الوصول إلى النتائج بدقة هو الله سبحانه وتعالى، ولهذا ينبغي للإنسان أن يفرق بين أخذه بالأسباب وإيمانه بها ومداخلها وأحوالها، ويقينه بالله سبحانه وتعالى أنه يصير الأمور ويدبرها، ولو اجتمع أهل الأرض كلهم على أن يدفعوا وصول الإنسان إلى النتائج، أو أن يضعوا شيئاً أراد الله سبحانه وتعالى رفعه، أو أن يرفعوا أحداً أراد الله وضعه لما استطاعوا، وأعظم العبر الرئيس المصري فقبل أسابيع اجتمعت دول العالم كلها في أول أمره على أن يبقى هذا الرجل، وقبلها بيوم يقول: إنه باق ويتحدى العهد، لكن الله عز وجل قضى أمره أنه يسقط فسقط في ساعات، وهذا من أعظم العبر، ومن الآيات العظيمة في ذلك أن الله سبحانه وتعالى أراد استهانة به فإن الإنسان كلما كان حقيراً في الأرض عند الناس كان موته ليس له أثر على غيره، أما العظيم فلا يموت إلا بأثر، فالذباب والبعوض يموت ولا يعلم به أحد، وكل له نسق، وكذلك البشر، والسلاطين، لا يمكن أن تزول السلاطين من الأرض، خاصة الذين لم يزولوا إلا بزوال ملايين البشر قبلهم، وأعظم عبرة الرئيس العراقي قبل بضع سنين ما زال إلا بموت مليونين من البشر، ولكن هذا أكثر تمكيناً منه وزال بأفراد معدودين، بل قال بعضهم: إن من مات من الشعب المصري في تلك الأيام التي سقط فيها الرئيس هم أقل ممن يموت في الأيام العادية؛ لأن الناس كانوا في بيوتهم لا يخرجون، فكانت الوفيات في تلك الحادثة أقل بكثير من غيرها، إشارة إلى هذا الرفيع الذي وضعه الله عز وجل وجعل موته أحقر من موت غيره، فأزاله الله سبحانه وتعالى وسلم الأمة من بعده، فلهذا الثقة بالله والتعلق به سبحانه وتعالى من أعظم ما يعين الإنسان على راحة النفس، وسعة البال، وانشراح الصدر في عدم فوات الشيء المكتوب له، فإن فاته شيء يعلم أن المسير هو إلى الله سبحانه وتعالى، وقرأت جملة من مصنفات بعض المفكرين الذين يكتبون في مسألة الثقة بالنفس ونحو ذلك والأخذ بالأسباب، فيعلمون الناس منافذ الحياة ولا يربطونها بمسبب الأسباب، والطرق والوسائل وهي طرق حسنة بالوصول إليها، ولكنها تزيد الإنسان اضطراباً؛ لأن الإنسان سيفعل هذه الأسباب ويتفاجأ بنتائج عكسية، فيصاب بمرض وإحباط، لماذا يكون هذا الأمر؟ فيقع في حيرة من أمره ويمرض، وربما انتحر، وما أفادته هذه الدورات وهذه الكتب إلا انتحاراً.
فلهذا اليقين الذي يغرس في نفس الإنسان هو الذي يثبته، فالإنسان قد يبتلى، وتنزل به الضراء، فيوسف عليه السلام سجن بضع سنين، وخرج كما هو أو أفضل؛ لأن معه الله سبحانه وتعالى هو الذي يعينه ويثبته، فيكون قوام روحه وجسده كذلك بالتعلق بالله سبحانه وتعالى والنظر في آياته، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن معي ربي يطعمني ويسقيني )، والمراد بذلك: أن الله عز وجل يقوي لي النفس والروح كما تقوي الأطعمة والأشربة الأبدان، ولهذا من أعظم ما ينمي الإنسان بها نفسه هو النظر إلى السماء، حتى في هذه المناسبة أي في مسألة رفع البصر إلى السماء عند الوضوء، وهذا من السنن المهجورة التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة جداً، ويندرج معها ولو لم يصح الإسناد في حديث عقبة عن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والجهالة في التابعين لا تغتفر دائماً، ولكن يتسامح فيها في بعض الأحيان، لوجوه: أنه تابعي يروي عن عقبة وعقبة صحابي، فقد يكون التابعي متأخراً فيشدد فيه، وقد يكون متوسطاً، فالتابعون طبقات، وابن عم أبي عقبة أولاً: الذي يروي عنه ابن عمه وهو معروف، وابن عمه يرويه عن صحابي أيضاً فهي حلقة تدل على ضبطه لهذا الخبر، وكذلك أيضاً المتن مقوّى بمتون أخرى، فلا مجال إلى إنكاره، وإن كنت أرى جل من تكلم على هذا الحديث يطرحه لكنه عندي ليس بمطروح، فمن الممكن أنه يرفع بصره إلى السماء إذا كان في سقف حتى يتفكر في ذهنه فإن النظر إلى الفوقية أيضاً حتى من الأعمى، فقد يكون الإنسان كفيفاً، ولكن إذا رفع بصره إلى السماء يسرح خياله ولو لم يبصر في الأفلاك ونحو ذلك، بخلاف ما لو كان البصر ينصرف مثلاً إلى الأرض أو ينصرف إلى الكفين، فيرفع بصره إلى السماء حتى في المساجد المسقوفة أو في البيوت في الحجر ونحو ذلك، ويتأمل ويتفكر في السموات والأرض، وغيرها من مخلوقات الله جل وعلا، كحال الأعمى.
الحديث الثاني: حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ وقال: ( سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ).
هذا الحديث رواه الإمام أحمد و النسائي وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري ، وجاء عن أبي سعيد من حديث شعبة بن الحجاج عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث قد اختلف في وقفه ورفعه، فرواه مرفوعاً يحيى بن كثير أبو غسان عن شعبة بن الحجاج به، وخالفه في ذلك جماعة، فرواه سفيان الثوري عن أبي هاشم ، عن أبي مجلز ، عن قيس بن عباد عن أبي سعيد الخدري وجعله موقوفاً على أبي سعيد ولم يجعله مرفوعاً، وإسناده في ذلك صحيح، وأكثر الرواة الذين يروونه عن سفيان الثوري يجعلونه موقوفاً، فقد رواه عنه عبد الرحمن بن مهدي ، وعبد الله بن المبارك عن سفيان الثوري به وجعلوه موقوفاً، ورواه بعضهم كـيوسف بن أسباط ، عن سفيان الثوري ، وجعله مرفوعاً وهو من الغلط، وقال النسائي عليه رحمة الله في كتابه السنن بعد إيراده المرفوع قال: غير محفوظ، والصواب فيه الوقف، وجاء هذا الحديث من حديث سعيد بن منصور ومحمد بن زياد عن أبي هاشم وجعلوه مرفوعاً، وفي ذلك نظر، وخولف في رواية الرفع يحيى بن كثير كما تقدم في روايته عن شعبة ، خالفه في ذلك محمد بن جعفر غندر و معاذ كلهم يروونه عن شعبة بن الحجاج ، عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي سعيد الخدري فجعلوه موقوفاً وهو الصواب، ومال إلى ترجيح الوقف جماعة، كـالنسائي و الدارقطني ، وغيرهما، وهو موقوف صحيح.
ولكن بالنسبة للرفع ينبغي أن ينبه على مسألة وهي في أمور العلل: أن بعض الأحاديث التي يختلف فيها رفعاً ووقفاً ينبغي أن ينظر فيها إلى أوسع الرواة فقهاً، وذلك أن هذا الحديث في قول أبي سعيد الخدري يقول: ( سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك )، جاء في تكملته قال: ( طبع في طابع لا يكسر إلى يوم القيامة )، فهذا الحديث إذا أراد الإنسان أن ينظر إليه أنه متفق مع الأصول، دل على معناه الأحاديث الكثيرة، وهي أن العمل من الإنسان بطبع في طابع، يعني: كتب، ولا يكسر إلى يوم القيامة أي: ينشر يوم القيامة ليراه الإنسان في صحيفته، فهذا دلت عليه الأصول، ومثل هذا إذا نظر إليه من أبواب الفضائل يظن أنه لا يقال من قبيل الرأي وهو متكئ على هذا المعنى والأصول دالة عليه فيميل الإنسان إلى تقريره وروايته مرفوعاً خاصة عند الاشتباه، فإذا سمعه قديماً ثم أراد أن يحدث به يقع في نفسه الوهم في رفعه، وهذه من المتون التي يقع فيها الوهم في الرفع كثيراً.
ولكن العلة هنا إذا نظرنا إليها في أمور الأحكام أن هذا الحديث مرتبط بطهارة، والطهارة من الأحكام، وهذا الذكر إذا جاء بعدها فينبغي ألا يعامل كالأذكار المطلقة، وإنما يعامل كالأذكار المقيدة، كالأذكار التي تكون دبر الصلاة وغيرها، فإنه لا بد أن ننظر إليها كنظرنا في أحاديث الأحكام.
وهذا الحديث رفعه وهم، وذلك أن أكثر الرواة الثقات على وقفه، وإنما قلنا بترجيح الموقوف على المرفوع مع أنه روي من أكثر من وجه مرفوعاً؛ لأن من يرويه مرفوعاً عضده في رفعه توهم أن هذا الحديث لا يقال من قبيل الرأي وهو كذلك في بعضه، ثم أيضاً إن هذا الحديث يتضمن قولاً يفعله الإنسان وهذا القول ليس من الأقوال المطلقة، بل هي من الأقوال التي يفعلها الإنسان كل يوم، وهو الوضوء، وإذا فعل الإنسان ذلك كل يوم فيجب أن ينقل، ولو سبرنا الأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدنا أن أحاديث جاءت عن النبي عليه الصلاة والسلام في اليوم والليلة رويت بأوثق من ذلك وهي أقل وروداً على الإنسان، بل أحاديث أسبوعية وشهرية بل حولية، ومع ذلك جاءت بأسانيد مستفيضة من الذكر، بخلاف هذا الحديث فلم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه، بل أذكار يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم في حال استخفاء كالسحر، فأذكار سحره عليه الصلاة والسلام، ودعاؤه في سجوده وهو مظنة عدم السماع ومع ذلك نقل، وهذا ينبغي أن ينقل أكثر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ علانية غالباً؛ لأن الوضوء ليس في الدور كحال الناس اليوم، فإنهم كانوا لا يتوضئون في دورهم وإنما يخرجون ويتوضئون، وغالباً أن الناس في ذلك الزمن يعاونون على الوضوء؛ لأنهم يتوضئون من أوان، ولهذا جاءت أحاديث كثيرة في صب الوضوء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام يشاهد ويتابع، ولو ثبت أنه قال ذلك واستدامه لوجب أن ينقل، فلهذا نستطيع أن نقول: إن هذا الحديث رفعه منكر، ولو جاء بمثل هذا الإسناد في عمل بعيد، إما أن يكون حولياً، أو نحو ذلك، أو في عمل عارض يأتي للإنسان لأمكن قبوله، لكن أن يكون بمثل هذا فإن هذا لا يقبل.
لكن نقول: ما ثبت عن الصحابة يفعل ولا يستدام، يعني: يفعل في بعض الأحيان ولا يستدام عليه، والاستدامة عليه خلاف السنة؛ لأنه ربما اجتهد، أو رأى النبي صلى الله عليه وسلم فعله في موضع واحدٍ، ففعله اقتداءً، ونقل أنه على الدوام، ولهذا أحياناً بعض الرواة والنقلة وبعض أهل العلم يصيغ معاني بإيصالها إلى الناس بألفاظ جديدة ومعناها صحيح، ويستطيع أن ينسبها للشارع، كأن يقول الإنسان: سبحوا كذا، وهللوا، وأكثروا من الاستغفار، فإن الاستغفار يدون في صحائف، وهذه الصحائف يجدها الإنسان منشورة بيده يوم القيامة، ويراها علانية، ويستبشر بها، فهذه معان صحيحة، لكن لا تخلق للإنسان هذه الأقوال عملاً مستديماً ينضبط عليه، ولكن عملاً مشاعاً فيفعل الإنسان هذا لكن ليس على سبيل الدوام فيتقيد بعدد معين أو بزمن معين نقول: هذا خلاف السنة ويفتقر إلى دليل، وهذا الفرق بين الأمرين.
الحديث الثالث: حديث أبي الجنوب وهو عقبة بن علقمة قال: ( رأيت علياً عليه رضوان الله تعالى يلتمس ماءً ليتوضأ، فأردت أن أناوله إياه، فقال: مه، إني رأيت عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى يريد ذلك فأردت أن أعينه عليه فقال: مه يا أبا الحسن ! إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يفعل ذلك فأردت أن أعينه فقال: إني لا أحب أن يشاركني في وضوئي أحد )، وجاء في لفظ: ( أن يعينني على وضوئي أحد ).
وهذا الحديث حديث منكر، رواه الدارمي و أبو يعلى ، و ابن حبان في المجروحين، و الدارقطني في الأفراد، من حديث النضر بن منصور عن أبي الجنوب عقبة بن علقمة عن علي بن أبي طالب ، وهذا إسناد منكر ومتن أنكر، وذلك أن الإسناد تفرد به من هذا الوجه النضر بن منصور عن أبي الجنوب ، و النضر بن منصور ضعيف، ضعفه جماعة، كـأحمد و ابن معين ، و البخاري ، وغيرهم، و أبو الجنوب مثله أيضاً.
وهنا علة أخرى أيضاً: أن النضر بن منصور و أبا الجنوب من أهل البصرة، وهذا الحديث ينبغي ألا ينفرد به مثل أبي الجنوب عن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله فهو خليفة راشد، وإنما فعل ذلك كما في ظاهر النص بعد عمر ، يعني: في زمن خلافته أو على الأقل في خلافة عثمان بعد أن كان له قول، وهذا ينبغي ألا ينقله مثل أبي الجنوب عن علي بن أبي طالب ؛ لأن النقل عن علي بن أبي طالب كان في زمن سيادته، ومثل هؤلاء ينبغي ألا ينقل عنه هذا.
وأيضاً فإن الذي يرويه عنه النضر وهو بصري عن أبي الجنوب وهو بصري ، عن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى ، وعلي بن أبي طالب لم يكن من أهل البصرة، وهذا دليل على نكارته، ولهذا روى ابن عدي في كتابه الكامل عن عثمان بن سعيد الدارمي أنه قال: قلت لـيحيى بن معين : النضر بن منصور الذي يروي عنه ابن أبي معشر عن أبي الجنوب عن علي بن أبي طالب ما قولك فيه؟ قال: هؤلاء حمالة الحطب، وهذا دليل على أن هذا الحديث حديث منكر.
ومما يدل على نكارته أيضاً نكارة المتن أن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى الذي روى عنه علي أنه أبى أن يعينه علي على وضوئه وقد ثبت أنه أعين على طهارته، وهذا الحديث في الصحيح في حديث عبد الله بن عباس، يقول عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى: كنت أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى فيمن اختصم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجتيه قال: فلم أجد ذلك حتى سافر عمر إلى مكة قال: فلما كان في الطريق بمر الظهران ذهب إلى الخلاء ثم رجع، كان يتهيب عمر، قال: ثم أتيته بماءٍ فصببته عليه ثم سألته عنه فقال: هي حفصة و عائشة ، وهذا يدل على أن ابن عباس خدم عمر بن الخطاب .
ويدل أيضاً على أن هذا الحديث منكر نسبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن عمر نقله عن النبي عليه الصلاة والسلام مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه أعين على وضوئه وصب غيره عليه، كما جاء في حديث أسامة وهو في الصحيح، حينما نفر النبي صلى الله عليه وسلم من حجه، قال: ( فأتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصببت عليه وضوءه ثم قلت: الصلاة، قال: الصلاة أمامك )، وجاء أيضاً هذا في حديث أنس وحديث جابر بن عبد الله ، وحديث المغيرة بن شعبة وحديثه أيضاً في الصحيحين، وجاء من حديث الربيع بنت معوذ أنها صبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث في المسند والسنن، وهذا كله يدل على نكارة هذا الحديث، وهذا منكر أيضاً لمن عرف الحال ولو لم ترد الأحاديث في النهي في الباب لاستحق هذا الحديث النكارة؛ لأن الأصل الإعانة في الطهارة، خاصة في زمانهم، الأصل أن الإنسان يعان، فتعينه زوجته، أو يعينه صاحبه، أو خادمه، أو مرافقه في السفر، لكن الناس في زمننا هذا في الغالب أنهم لا يعانون فيفتح الإنسان الصنبور ثم يتوضأ دون أن يعينه أحد، لكن في الزمن السابق لم يكن الحال كذلك، فقد كانت آلة الوضوء أواني: كقدر، أو دلو، وهذا يحتاج الإنسان إلى من يعينه عليه، ولم ينقل فدل على عدم وجوده، ولو نقله لوجب أن يكون هذا الأمر مستفيضاً.
الحديث الرابع في هذا هو حديث جابر بن عبد الله: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ وأدار الماء على مرفقيه ).
هذا الحديث رواه الدارقطني و البيهقي من حديث القاسم بن محمد بن عبد الله بن عقيل عن جده عبد الله بن عقيل ، عن جابر بن عبد الله ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث تفرد به العباس بن محمد بن عقيل وهو متروك الحديث، و عبد الله بن عقيل فيه كلام، وهذا الحديث يستدل به من قال من العلماء بأن المرفقين يجب على الإنسان أن يستوعبهما بالغسل، فهذا من الأحاديث التي هي محك في هذا الباب.
أيضاً الحديث الخامس وهو أيضاً في هذه المسألة، وهو ما رواه الدارقطني و البيهقي أيضاً، من حديث عثمان بن عفان: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ وغسل مرفقيه حتى شرع في العضدين ).
هذا الحديث رواه الدارقطني من حديث عبيد الله بن سعد بن إبراهيم عن عمه عن أبيه إبراهيم عن محمد بن إسحاق ، عن إبراهيم بن محمد ، عن معاذ بن عبد الرحمن عن حمران مولى عثمان عن عثمان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث تفرد فيه بذكر: (حتى شرع في العضدين) محمد بن إسحاق ، وهو ممن لا يقبل فيما يتفرد به، فكيف إذا خالفه غيره من الثقات، وحديث عثمان بن عفان قد جاء في الصحيح من حديث يحيى بن أبي كثير، عن إبراهيم بن محمد، فـيحيى خالف محمداً ولم يذكر العضدين.
و محمد بن إسحاق وإن كان صدوقاً في السير إلا أنه في الأحكام مردود الحديث فيما يتفرد فيه، وإذا خالفه فإن أشد نكارة، ويعضد هذا أن الدارقطني أخرج هذا الحديث من حديث عبيد الله بن سعد بن إبراهيم عن عمه عن أبيه، وعمه يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، وهذه السلسلة في البخاري من حديث عبيد الله عن عمه عن أبيه، ولكن عن غير محمد بن إسحاق ، ومع كثرة الأحاديث التي يرويها محمد بن إسحاق بالنسبة لأحاديث الأحكام من هذا الطريق لم يورد البخاري حديثاً له عن محمد بن إسحاق بهذه السلسلة، فهذا دليل على نكارة أحاديث محمد بن إسحاق .
ويدل على أن الغلط والوهم من محمد بن إسحاق أن هذا الحديث رواه الإمام أحمد في كتابه المسند من حديث يعقوب به، يعني: يعقوب عن أبيه عن محمد بن إسحاق ولم يذكر العضدين، مع أن الإمام أحمد في مسنده يورد المتن كاملاً، مما يدل على أن محمد بن إسحاق تارة يرويه بهذه اللفظة وتارة لا يرويه، فيتوهى، وهذا نهج يسلكه البخاري و مسلم ، أن الألفاظ التي ينفرد فيها الرواة من طبقة محمد بن إسحاق وأمثاله أنه لا يورد في الأصول منها شيئاً ويغلق الباب ولو كان المتن في ظاهره مستقيماً؛ لأن هؤلاء ينقصهم الفقه في الأحكام، والفقه في الأحكام أي لفظة تؤثر فيه، فبعض المتعلمين أو ربما بعض الحفاظ يمر اللفظ ولا يرى فيه لفظاً منكراً، كعبارة شرع في العضدين فيرى أن المقصود بذلك المرفقان، ولا يرى أنها ربما يستدل بها على غسل العضدين أيضاً، وهناك فعلاً من يستدل بهذا، أو ربما يضعف من جهة عدم إحاطته بأقوال أهل البلدان، وأن هناك قولاً لكن ليس له مستند، فإذا روينا هذا الحديث وتجوزنا بلفظه اعتمدوا عليه، فيحجم عليه، فلهذا البخاري و مسلم يغلقان هذا الباب، ولا يرويان عن مثل محمد بن إسحاق في أمور الأحكام ما يتفرد به وغيره ككثير من الرواة من هذه الطبقة.
ومسألة سبر مرويات الراوي تكلمنا عليه في محاضرات كانت في الدراسات في علم العلل، وتكلمنا في شرح علل الترمذي أيضاً على هذا، والسبر باب عريض جداً، منه سبر للمتون، ومنه سبر للإسناد كاملاً بهذا التسلسل، ومنه سبر لذات الراوي، ومنه سبر لأحاديث الراوي عن شيخ بعينه، ومنه سبر لأحاديث الراوي عن شيخ وتلميذه، ومنها سبر لهذا الراوي عن تلميذ معين من تلاميذه الذي يرد في الإسناد، أو بعض الناس ينظر إلى راو من الرواة فقط ثم يقوم بالنظر في كلام العلماء ويهمل جانب السبر، والسبر يعطيك نتائج دقيقة، والعلماء في أحكامهم يعطونك نتائج أغلبية، ويكلون الباقي إلى سبرك، مثال: محمد يروي عن زيد وزيد يروي عن عمرو، هؤلاء ثلاثة، لدينا زيد فيه ضعف، زيد له مائة حديث، خمسة وتسعون منها منكرة تخالف أحاديث الثقات، فيحكم العلماء على زيد في كتب الرجال فيقولون: زيد ضعيف، ويرويه عنه فلان وفلان، لكن حينما تسبر هذه المائة ستجد خمسة، لكن محمد الذي يروي عن زيد الخمسة والتسعين غير موجود في الخمسة، فهذا يعطيك مؤشراً أن المشكلة ليست في زيد، المشكلة في محمد مع زيد في اقتران الاثنين، والعلماء يحكمون على الأغلب.
أعطيك مثالاً لهذا: داود بن الحصين عن عكرمة ، عن عبد الله بن عباس ، هذه السلسلة تجد كلام العلماء إذا أرادوا يتكلمون عليها يقولون: داود بن الحصين عن عكرمة منكر، فيطلقون هذه العبارة، وهناك أحاديث كثيرة لـداود عن عكرمة عن عبد الله بن عباس ، هذه السلسلة ستجد منها قرابة الأربعة ويمكن تصل إلى الستة أحاديث يرويها محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين بهذا الإسناد، والأغلب أكثر من تسعين بالمائة من هذه السلسلة هي من طريق إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي المتروك، والعلماء يحكمون الآن على محمد الأسلمي في حديثه هذا مع أنه ضعيف، أم يلحقون الضعف بـداود ، هو ضعيف، انتهوا منه، لكن هو تسبب بإشكال على داود ؛ لأنه جاء وأخذ حديثه كله، ثم ذهب وأخذ يحدث عنه، فيلحقون الضعف بهذا التركيب، لكن تجد الخمسة مستقيمة وكلها عن طريق غير محمد ، يدل على أن هذا الحكم حكم إجمالي، وينبغي لك أن تسبر، فـالنسائي ربما مر على حديث لـداود بن الحصين عن عكرمة مع أنه يشدد في داود من طريق محمد بن إسحاق عن داود وقام بتصحيحه، فتجد كلام العلماء مستفيضاً في أن داود بن الحصين عن عكرمة منكر، فقد تظن أن كلام العلماء متضاد ولكن جهلك بالسبر هو الذي أدى إلى مثل هذه النتائج المتصادمة في ذهن الإنسان. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر