الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأول حديث هذا اليوم هو حديث جابر عليه رضوان الله تعالى: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً على قدمه مثل اللمعة أو مثل لمعة الظفر لم يصبها الماء، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء ).
وهذا الحديث بهذا اللفظ حديث ضعيف، ولا يصح، وذلك أنه قد رواه الإمام أحمد في كتابه المسند، وأبو داود في سننه من حديث عبد الله بن وهب و زيد بن الحباب كلاهما عن عبد الله بن لهيعة عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث تفرد به من هذا الوجه عبد الله بن لهيعة ، واختلف عليه فيه، فرواه عنه الحسن بن موسى و موسى بن داود كلاهما عن عبد الله بن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله، وقال: ( فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحسن الوضوء )، وهذا اللفظ أصح، واللفظ الآخر: هو ما رواه عبد الله بن وهب و زيد بن حباب كلاهما عن عبد الله بن لهيعة به، فلفظ: (أمره أن يعيد الوضوء) ضعيف، وأما اللفظ: (أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحسن الوضوء) فصحيح، وذلك أن أصل الخبر في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر بن عبد الله، ويرويه عن أبي الزبير معقل بن عبيد الله ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله، قال: ( فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحسن الوضوء )، وهذا في صحيح الإمام مسلم ، ولكن من غير طريق عبد الله بن لهيعة ، وأما اللفظ الذي نتكلم عليه فهو ما يتعلق بالأمر بالإعادة.
وما الفرق بين الإعادة وبين الإحسان؟
أولاً: هذا الحديث هو العمدة عند من أوجب الموالاة في الوضوء، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يأمر من في قدمه لمعة بالإعادة ففيه إشارة إلى وجوب الموالاة؛ لأنه كان ثمة فصل بين هذه اللمعة وبين رؤية النبي صلى الله عليه وسلم له، فأمره بإعادة الوضوء كله، ولكن أمره عليه الصلاة والسلام بإحسان الوضوء إشارة إلى أنه ينبغي أن يضع شيئاً من الماء على هذه البقعة وانتهى الأمر، وهذا هو الإحسان، والإحسان في الشيء إشارة إلى صحة أصله، ولكنه ينقصه حسن، وأما الأمر بالإعادة فهذا يتضمن بطلان الأصل، واعتمد من اعتمد على وجوب الموالاة على لفظ الإعادة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يعيد الوضوء فقال: (ارجع فأعد الوضوء).
وهذه اللفظة لفظة منكرة، ومن علامات نكارتها أمور: منها: أنها جاءت من مفاريد عبد الله بن لهيعة في هذا الوجه عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله، و عبد الله بن لهيعة لم يحفظ الحديث، والدليل على أنه لم يحفظ الحديث: أن الحديث جاء عن عبد الله بن لهيعة من وجهين: الوجه الأول: هو ما يرويه الحسن بن موسى و موسى بن داود كلاهما عن عبد الله بن لهيعة ، فذكر: ( فأحسن الوضوء ).
الوجه الثاني: ما جاء في حديث عبد الله بن وهب و زيد بن الحباب في الأمر بالإعادة، والراوي الضعيف الذي لا يتهم في الحديث إذا روى الحديث على وجهين: وجه وافق فيه الثقات، ووجه لم يوافق فيه الثقات، فهذا إشارة إلى عدم ضبطه للحديث، وهذا هو الذي يغلب على الرواة الضعفاء الذين هم من أهل الثقة في الديانة، فـعبد الله بن لهيعة من الرواة المعروفين بالثقة في الديانة، ومن أهل العلم، فكان قاضياً فقيهاً، ولكن أمثال هذه المسائل الدقائق مما تخفى على بعض الرواة، وربما قدموا وأخروا فيها، فلهذا لم يضبطوا الحديث.
وينبغي لطالب العلم إذا أراد أن ينظر في حديث من الأحاديث في ضبط الراوي له إذا كان خفيف الضبط أن ينظر في الحديث في سائر المصنفات، وأن ينظر في ألفاظه، فإذا وجد هذه الألفاظ فيها تقديم وتأخير فإنه ينبغي له أن يأخذ هذا الضعيف بهذا التقديم والتأخير الذي له تأثير في معنى الحديث، و عبد الله بن لهيعة مع كونه فقيهاً إلا أنه ضعيف الرواية، يعني: من جهة الحفظ لم يؤت حفظاً من جهة الأصل، إضافة إلى اختلاطه، وأما الأحاديث التي يرويها في اختصاصه في مسائل القضاء فإنه أضبط لها، وكثيرٌ ممن يتكلم على عبد الله بن لهيعة ، ويتكلم على مروياته، يتكلمون على أمرين:
الأمر الأول: على ضعفه في ذاته، هل هو ضعيف من جهة الأصل أم الضعف طرأ عليه؟
الأمر الثاني: ما يتعلق برواية القدماء من أصحابه كالعبادلة، ولا يتطرقون إلى اختصاصه، وهو رجل قاض ومكث في القضاء زمناً، وهذه المهنة لها أحاديث تروى فيها ما يتعلق بمسائل الحدود، وما يتعلق بمسائل التعزيرات، وغير ذلك، ولهذا أضبط مرويات عبد الله بن لهيعة هي مروياته في القضاء مع ضعف في مجموعها، لكنها من أضبط مروياته عليه رحمة الله.
كذلك أيضاً ما يتعلق بالمرويات الأكثر في حديثه، فأكثر مرويات عبد الله بن لهيعة هي في غير اختصاصه، فما يرويه في أمور العبادات ونحو ذلك فإنه لا يضبطها، خاصة في المسائل الدقيقة، فمثل هذا اللفظة: ( ارجع فأحسن الوضوء )، أو: ( ارجع فأعد الوضوء )، ونحو ذلك، ويأتي في بعض هذه الألفاظ: ( ارجع فأعد الوضوء والصلاة )، وهذه الزيادة أيضاً في ذلك لا تصح بل هي زيادة منكرة، كذلك أيضاً عمل الصحابة، وهذا مما يشير الى الضعف، فعمل الصحابة عليهم رضوان الله تعالى على عدم وجوب الموالاة، فقد ثبت عن عبد الله بن عمر كما جاء في المصنف أنه توضأ فغسل يديه ووجهه، ومسح رأسه، ثم ذهب إلى المسجد فمسح على خفيه، يعني: أن أول وضوئه في البيت وأكمله في المسجد، وفيه إشارة إلى أن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى لم يستشكل هذه المسألة، ولو ثبت النص في هذا عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند أصحاب رسول الله خاصة في أمثال هذه القضية التي تروى من طرق متعددة لاشتهر هذا الحكم؛ لأنه يتعلق بمسألة من المسائل المهمة التي تمس الحاجة إليها، ولهذا لم يعتد عليه رضوان الله تعالى بأمثال هذا الحكم، وعمل بعدم وجوب الموالاة.
الحديث الثاني في هذا: هو حديث أنس بن مالك : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخل يده من كمه فمسح على ناصيته ولم ينقض العمامة ).
هذا الحديث رواه الإمام أحمد و أبو داود ، و الحاكم في المستدرك، و الضياء المقدسي في المختارة من حديث عبد العزيز بن مسلم الأنصاري عن أبي معقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث ضعيف، و أبو معقل رجل حجازي مجهول، و عبد العزيز بن مسلم الأنصاري مقل الرواية، وفي حفظه لين، وقد تفرد بهذا الحديث عن أبي معقل.
وهذا الحديث متضمن لمسألة وهي: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على ناصيته ولم ينقض العمامة )، إشارة إلى أنه لم يمسح عليها وإنما اكتفى بالناصية، ومعلوم أن لدينا ثلاثة أحوال في المسح على الرأس محتملة، منها: أن ينزع الإنسان العمامة ويمسح على رأسه.
الأمر الثاني: أن يمسح على العمامة من غير مسح على الناصية.
الأمر الثالث: هو أن يمسح الناصية مع العمامة، فيزيح العمامة شيئاً يسيراً، فيسمح على الناصية ثم بعد ذلك يكمل على العمامة، ويتشبث بعض الفقهاء بأمثال هذه المرويات، ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته ولم ينقض العمامة ) قالوا: فما أشار أنه مسح وما أشار أنه نقض قالوا: فاكتفى بالمسح.
وهذه الزيادة (ولم ينقض)، تفرد بها عبد العزيز بن مسلم الأنصاري عن أبي معقل عن أنس بن مالك ، وهنا مسألة من مسائل العلل، وقد تقدمت الإشارة إليها، وهي أن هذا الحديث تفرد به أبو معقل عن أنس بن مالك ، و أبو معقل مجهول، ولكنه رجل حجازي، فهذا الحديث في روايته عن أنس بن مالك لا يحتمل قبوله -مع كون هذا المجهول يروي عن صحابي وهو حجازي أيضاً- وذلك من وجوه:
الوجه الأول: وهذا يتضمن قوة القرائن الدافعة لهذه الرواية، من هذه القرائن: التفرد بالمعنى، والصحابة عليهم رضوان الله تعالى الأصل في لبسهم أنهم يلبسون العمائم، وهذا من الأمور والمسائل المهمة التي يحتاج أن يرويها من هو أوثق وأقوى من أبي معقل ، ولما لم ترد بهذا النحو دل على ضعفها، ولو تفرد بهذا اللفظ ولم يرد ما يخالفه لاستحق النكارة فضلاً أنه جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح على ناصيته والعمامة، كما جاء في حديث المغيرة ، وهذا يدل على نكارته.
الوجه الثاني في هذا: أن أبا معقل وإن كان رجلاً مجهولاً حجازياً إلا أنه روى عنه عبد العزيز بن مسلم الأنصاري ، و عبد العزيز بن مسلم الأنصاري هو مقل الرواية أيضاً، والمجهول إذا روى عنه مقل مجهول مستور مثله فهذا من علامات الضعف، وقد تقدم معنا أن الراوي الضعيف مستور الحال إذا كان من طبقة متقدمة وروى عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرد بحديث بوجه من الوجوه أننا نقبل هذه الرواية إذا كان المتن مستقيماً ومن يروي عنه ثقة، ومن أهل بيت معروف بالعلم، فـأبو معقل مجهول، والذي يروي عنه زاد أمره جهالة وهو عبد العزيز بن مسلم الأنصاري ، وذلك أن مثل هذا الحديث لو جاء عن أنس بن مالك لنقله عنه أصحابه، وهذا من القرائن.
والوجه الثالث: أن أنس بن مالك من المعمرين، فهو يروي عن رسول الله، فالحديث في جعبته عقود طويلة، فلماذا لم يرو عنه إلا أبو معقل؟ ولو توفي قديماً لأمكن؛ لكونه لم يعمر ولم يره الناس، لاحتمل مثل هذا اللفظ أن يقبل ما لم يخالف، فلهذا نقول: إن هذا الحديث هو حديث منكر بهذا اللفظ، وقد جاء معناه عند عبد الرزاق في كتابه المصنف من حديث ابن جريج عن عطاء مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء أيضاً عند الشافعي في كتاب الأم من حديث ابن جريج عن عطاء مرسلاً، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا المرسل لا يعضد هذا الحديث. وفي مثل هذا الحديث أولاً: يظهر الوهم أو الاختصار للفظه وصحة أصله، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام يمسح على ناصيته، أما ذكر عدم نقض العمامة مع الحاجة إلى ما هو أولى من ذلك، واليد بعد مسح الناصية هل استمرت؟ أم أنه لم ينقض ثم رجع؟ ظاهر النص أنه لم ينقضها، ولهذا الحاكم في كتابه المستدرك يقول: وهذه اللفظة غريبة، وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينقض العمامة.
وهذا أيضاً يستدل به من قال: بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسح بعض رأسه ولا يمسحه كله، قالوا: وهذا هو القدر المجزئ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح بالناصية واكتفى بهذا، ولكن نقول: إن هذا الحديث حديث ضعيف، لكن جاء عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى أنه مسح يافوخه قط، وهي أعلى الرأس، واكتفى به، يعني: أنه لم يمر اليد على كامل الرأس من الخلف، وكذلك أيضاً من جانبه، فهذا يقال: هو القدر المجزئ، لو أن إنساناً أتى بيد واحدة ثم مر بها على رأسه من ناحية واحدة يقال: إن ذلك يجزئه في وضوئه، أما في مسألة المسح مع العمامة فإنه يقال: إن الإنسان يمسح الناصية ويمسح العمامة.
الحديث الثالث في هذا، حديث خالد بن معدان عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وغسل وجهه ويديه، وتمضمض واستنشق، ومسح بأذنيه ظاهرهما وباطنهما، ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه )، ورجليه، هذا الحديث حديث خالد بن معدان يرويه الإمام أحمد ، وأبو داود ، وهو خبر ضعيف، وفيه مسح الأذنين ظاهرهما وباطنهما، وقد تقدم معنا حديث في هذا الباب مسح الأذنين في الظاهر والباطن، وذكرنا أنه لا يثبت في مسح الأذنين شيء عن النبي عليه الصلاة والسلام ولكن يقال: إنه يمسح، الصفة التي جاءت عن رسول الله في مسح الظاهر والباطن ضعيفة.
وسند الحديث السابق في هذا المعنى هو عن محمد بن عجلان عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عباس ، وقلنا: العلة في هذا الحديث هو محمد بن عجلان وتقدم معنا الإشارة إلى هذا، فهذه الزيادة في ذكر صفة مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم لأذنيه هي زيادة منكرة، ولا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها أيضاً في وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبعيه في صماخي أذنيه وقد تقدم معنا أيضاً في صفة من صفات مسح الأذنين، وهي أيضاً زيادة منكرة لا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث جاء من حديث خالد بن معدان عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث جاء من حديث بقية بن الوليد ، و بقية بن الوليد وإن كان ثقة في ذاته إلا أنه يدلس، وقد أعل الأئمة هذا الحديث بـبقية بن الوليد ، وتدليس بقية بن الوليد هو تدليس الشيوخ، وهو من أعقد أنواع التدليس أنه يشترط للراوي أن يصرح بالسماع من شيخه وشيخه من شيخ شيخه، فلهذا يقال: إنه ينبغي أن تنظر ألفاظ السماع في مثل هذه الروايات، فينظر في تصريح بقية من شيخه، وكذلك شيخ شيخه وهكذا، وإذا لم يصرح في كل الطبقات فإنه يساء الظن بأمثال هذا الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحديث الرابع في هذا هو حديث عبد الرحمن بن ميسرة عن المقدام بن معدي كرب: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح برأسه ورجليه ).
في هذا الحديث ذكر مسح الرجلين، مسح الرأس أمر مفروغ منه، وأما مسح القدمين في الوضوء فيذكر اتفاق الصحابة على أن القدمين حكمهما الغسل، ولكن في هذا الحديث جاء المسح.
وتشبث بأمثال هذه الألفاظ بعض الرواة، فقالوا: إن مسح الرجلين هو أحد صفات الوضوء لهذا العضو وهو الرجلين، ولكن يقال الحديث معلول بعلل الأولى: أن هذا الحديث حديث ضعيف، وذلك أنه يرويه حريز عن عبد الرحمن بن ميسرة ، و عبد الرحمن بن ميسرة لا تعرف حاله بتعديل، وقد قال بنكارة حديثه جماعة من الرواة، وقد تفرد بهذا الحديث على هذا اللفظ، وهذا خبرٌ منكر، ولم يثبت عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح على قدميه، وإنما يأتي المسح على الخفين، وهذا من وجوه النكارة.
الثانية: أن هذا الفعل ليس عليه العمل.
الثالثة: أنه لو كان من حكم القدم المسح لما احتيج إلى تشريع المسح على الخفين، وذلك أن تشريع المسح على الخفين هو نقل من غسل إلى مسح، ولو كان الخف حكمه حكماً مساوياً للقدم لما احتيج إلى ذكر هذا الحكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الكثرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا تجد الأحاديث في المسح على العمامة من جهة الحكم هي تشترك في حكم الرأس، فالرأس يمسح ثم العمامة كذلك أيضاً تمسح، وأما بالنسبة للقدم فالقدم تغسل ولكن الخف يمسح، فهذه نوع مغايرة تحتاج إلى دليل، فإذا قلنا: إن القدم يمسح، والخف في ذلك يمسح فإن المسألة تعتبر دون، وأما المسح على الخف هو نقل عن أصل، والأصل في ذلك الغسل، فيحتاج إلى دليل أقوى في ذلك، فلهذا الأدلة التي جاءت في إثبات المسح على العمامة، والعمامة أدوم على الرأس من الخف على القدم، ومع ذلك جاءت الأحاديث فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسيرة في المسح على العمامة، وجاءت الأحاديث في المسح على الخفين كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنها انتقال عن الأصل، وفي هذا إشارة إلى ما تقدم أن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى إذا خالفوا عملاً حديثاً من الأحاديث فينبغي أن يرد ولو صح إسناده، كيف إذا كان الحديث معلولاً، وذلك أن هذا الحديث في المسح على الرجلين يتشبث من يتشبث في أن حكم القدم المسح وهي أحد الصور أنها تمسح قالوا: كما أن الإنسان إذا اغتسل فإنه يغسل رأسه والغسل يجزئ عن المسح، فكذلك المسح يجزئ عن الغسل، وكذلك أيضاً بالنسبة للقدم، فإن القدم إذا مسحه الإنسان فقد أدى ما عليه فرضاً، ويخرج من هذا ما يتكلم عليه بعض العلماء في مسألة إذا كان على الإنسان حذاء شبيهاً بالخف، أو خف شبيهاً بالحذاء، فمنهم من جوز المسح في ذلك، خاصة في الأحذية التي تكون ممسكة بالقدم من جهات متعددة، وتكون في نوع من الثقوب على القدم، فيرخص في هذا بعضهم وهو قول مرجوح، وذلك أن الخف ينبغي أن يكون مستوعباً للبدن، وتقدم معنا مراراً أن الأحاديث التي تأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أظهر وجوه الإعلال لها والتقوية هو أن ينظر في فقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها من جهة العمل، فإذا كان الصحابة عليهم رضوان الله تعالى عملوا بأمثال هذا الحديث حكماً فإن هذا يقويه من جهة العمل ولو كان ضعيفاً، وإذا كان عمل الصحابة عليهم رضوان الله تعالى في ذلك معدوماً فإنه لا يمكن أن يصار إليه.
والحديث الخامس في هذا: وهو تابع لحديث جابر السابق، وهو ما رواه الدارقطني من حديث الوازع بن نافع ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، عن أبي بكر الصديق و عمر بن الخطاب: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً على قدمه لمعة، فأمره أن يتم الوضوء )، هذا الحديث في إسناده الوازع ، وقد رواه الدارقطني من طريقه، وقد تفرد به من هذا الوجه، وحديثه في ذلك منكر، وقد ضعفه وأعله الدارقطني كما في كتابه السنن، وقال: الوازع ضعيف الحديث، وقد قال بنكارة حديثه جماعة كـالبخاري فقال: منكر الحديث، وقال بأنه متروك جماعة كـابن أبي حاتم ، ولينه الأئمة، ولا أعلم أحداً عدله، ويكفي في هذا ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح من حديث معقل بن عبيد الله عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ( ارجع فأحسن الوضوء )، والإحسان شيء، والإعادة شيء آخر.
الحديث السادس: ما رواه الإمام أحمد و أبو داود ، وغيرهم، من حديث علي بن يحيى عن أبيه عن عمه عن رفاعة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث المسي صلاته: ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليغسل يديه إلى مرفقيه، وليتمضمض ويستنشق، ويمسح رأسه ورجليه ).
هذا الحديث هو حديث رفاعة في قصة المسيء صلاته، رواه عن علي بن يحيى إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، وذكر الوضوء في حديث المسيء صلاته بالتفصيل منكر، وحديث المسيء صلاته جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة عليه رضوان الله، فذكر فيه الأمر بإحسان الوضوء، قال: ( فليحسن وضوءه، ثم ليستقبل القبلة )، ثم ذكر تمام الحديث، ويأتي في بعضها ذكر الوضوء، وفي بعضها، يغفل الوضوء ثم يذكر الباقي، وهذا دليل على أن ذكر الوضوء بالتفصيل في حديث المسيء صلاته منكر، وما جاء فيه من تقديم وتأخير يستدل به من قال بعدم وجوب الترتيب في الوضوء، ويستدل أيضاً بما يأتي في بعض ألفاظه بمسح الرجلين على المسح وهو أيضاً خبر منكر، وذلك أننا لو نظرنا في الأحاديث فيمن يرويه عن علي بن يحيى لوجدنا أنه يرويه عنه جماعة وخلق، ولكن لم يأت ذكر الوضوء فيه بالتفصيل إلا من طريق همام عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن علي بن يحيى عن أبيه عن عمه عن رفاعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر الرواة لا يذكرونه، وأما في غير حديث رفاعة فهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى ولم يذكر التفصيل وإنما ذكر على سبيل الإجمال، وإنما قلنا بالنكارة؛ لأن الحديث ذكر الوضوء فيه يحتاج إليه، ثم إنه لفظ طويل ليس لفظة مختصرة يطويها الراوي، أو لا تعني المخاطب، وإنما رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطبه بالأمر بالوضوء، فتنكبه الراوي إما أن يكون اللفظ على سبيل الإجمال وهذا الذي يظهر في بعض المرويات أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( فأحسن الوضوء )، وهذه لفظة قد يتركها بعض الرواة، لكن النبي عليه الصلاة والسلام يذكر له صفة الوضوء تامة، ثم يدعها أكثر الرواة ويتنكبها أصحاب الصحاح ولا يوردونها، فهذا دليل على عدم ثبوتها من جهة الأصل، وأيضاً فإن مثل هذه الزيادات في المتون مدعاة إلى جرأة بعض الضعفاء بإدخال بعض الألفاظ في المتون، فالرواة يجسرون على إدخال بعض الألفاظ المسلمة في المتن، توسيعاً وتكثيراً لمحفوظهم، فالراوي الضعيف صاحب الديانة والثقة في ذاته، أو قليل الحديث، إذا روى حديثاً يطيل الحديث أو ربما ذكر فيه ما يقطع بوجوده ولو لم يذكر من تفاصيل، وذلك مثلاً كأن يرتحل من مكة إلى المدينة فيذكره الرواة له على سبيل الإجمال فيزيد هو في هذا أن النبي ركب راحلته كذا ثم يذكر اسمها ونحو ذلك، وهذا نوع من الزيادات التي يجسر عليه الضعفاء، وذلك أنهم لا يجرؤون على اختلاق متون منفردة، وذلك للديانة والعدالة فيهم، أما بالنسبة للضبط فإنه معدوم لديهم أو ضعيف، فيوردون بعضاً من الألفاظ في ثنايا المتون يأخذونها من مواضع أخرى فيدرجونها في المتن، كما هنا في ذكر الوضوء.
وهذا اللفظ يتشبث به كثير من الفقهاء من أهل الرأي وغيرهم الذين يبطلون الترتيب في أعضاء الوضوء، ونجد مثلاً في هذا الحديث أنه يذكر المضمضة بعد غسل الذراعين، مع أن الإنسان يغسل الكفين ثم يتمضمض ويستنشق، ثم يغسل كفيه، ثم يمسح رأسه، ثم يغسل قدميه، فتجد المضمضة تارة تكون بعد الذراعين وتارة تكون قبل الذراعين، قال: وهذا دليل على عدم وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء.
والترتيب على نوعين عند الفقهاء: ترتيب العضو الواحد، كاليمنى مع اليسرى من العضو الواحد في القدم وفي اليدين، فإن هذا يقال بالترخيص فيه، وهذا ليس محل بسطه.
أما بالنسبة للأعضاء فيقال: يجب الترتيب فيما بينها، كما ذكره الله عز وجل في ظاهر كتابه، وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شرحا،ً أما التشبث ببعض المرويات في مثل هذا التي يذكرها بعض الرواة فإنهم يذكرونها للعلم بها، ولهذا يخطئون فيها؛ لأنها ليست منقولة وإنما هي مفهومة، ولهذا ينبغي لطالب العلم إذا أراد أن ينظر خاصة في قصة جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع الطرق الواردة فيها حتى يعرف مواضع وهم وغلط وزيادة الراوي.
ومن القرائن في هذا أيضاً أن حديث المسيء صلاته حديث فيه قصة، والقصة تضبط أكثر من القول الإنشائي، فالنبي صلى الله عليه وسلم حينما يصعد على منبر ويخطب في الناس هذا ضبطه ثقيل على غير الحافظ، أما القصة ولو طالت فإنها تضبط، فالإنسان حينما يشاهد قصة بين اثنين أو حدثاً ونحو ذلك في المسجد أمامه، فعلوا وقاموا وتركوا، ونحو ذلك، فإنه يستطيع أن يحكيها بالتفصيل، ولو كان ضعيف الحفظ، ولكن أن يكون نصف هذه القصة زمناً يقوم الشخص يتحدث من نفسه بحديث لمدة خمس دقائق والقصة حدثت مدة عشر أو عشرين دقيقة فإنه لا يستطيع أن يأتي بالألفاظ، فيزيد فيها وينقص، وأمثال هذه القصص ينبغي أن تضبط، وأقرب الناس لها ضبطاً الثقات، ومن دونهم يضبطون ولكن إذا جاءوا بأشياء لم يأت بها من هو أوثق منهم فهذا دليل على أنهم ترخصوا في هذا، ويدل على هذا أن هذه الزيادة جاءت في القصة لفظاً وما جاءت حكاية فعل؛ لأنها لو كانت حكاية فعل لكان كذباً واختلاقاً، أي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه بإناء ماءٍ وأعطاه حتى يتوضأ، وعلمه أو أفرغ عليه الإناء فإن هذا سيكون من الكذب، ولا يمكن أن يكون هذا من راو في نوع تعديل.
أما بالنسبة لمسألتنا هنا فذلك أنه ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه علمه الوضوء فلعله أخذها من موضع آخر فجعلها في مثل هذا، خاصة أنه جاء في بعض المرويات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قمت إلى الصلاة فأحسن وضوءك )، فذكر الوضوء على سبيل الإجمال، ثم ساقه على سبيل الشرح، وهذا قد يقال بأنه من الألفاظ المدرجة التي تكون في الحديث الذي يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا نقول: إن ذكر تفصيل الوضوء في حديث المسيء صلاته منكر، وأما ذكره على سبيل الإجمال فهو ثابت، فقد جاء في حديث أبي هريرة ورفاعة بن رافع، وغيرهم، وأما بالنسبة للتفصيل فهو خبر منكر، ويكفي في هذا أن أكثر الرواة لحديث علي بن يحيى في روايته عن أبيه وعمه عن رفاعة أنه لم يأت ذكر هذا التفصيل في أكثر أو جل الطرق.
ومن وجوه الضعف أيضاً، أن من نظر إلى هذه الزيادة وجد أن ترتيب المتن في المسند يختلف عن سنن أبي داود من جهة ترتيب الأعضاء والمواضع فيها، مما يدل على أن الراوي من جهة الأصل لم يضبط هذه اللفظة، فترخص فيها تقديماً وتأخيراً.
السؤال: يقول: بالنسبة للموالاة إذا كانت ليست بواجبة ما هو المقدار في الفصل؟
الجواب: العرف، إذا كان الإنسان منشغلاً بطلب الماء، يعني الإنسان إذا توضأ مثلاً في البيت ووصل إلى القدمين وانتهى الماء فيكمل في المسجد، يذهب إلى موضع الماء في المسجد ويكمل، أما أنه يتمضمض في جدة ويستنشق في مكة فهذا لا يمكن؛ لأن هذا يتباين، فالماء يبقى على العضو في الشتاء أكثر من الصيف، ثم أيضاً لو ربطناها بجفاف العضو فالإنسان قد يتنشف، فلو قلنا: يزول حكمه بالتنشف فهذا صعب.
السؤال: ما هو أقل مقدار لمسح الأذنين؟
الجواب: ذكرنا أن مسح الأذنين ليس بواجب أصلاً، وأرى أن هذه مسألة إجماع، وأما بالنسبة للمقدار في هذا فالأذن تمسح ولا تغسل، وكيفية المسح بأن يمسح بأصبعه من الداخل وبإبهامه من الخارج، فهذه أظهر الصور؛ لأنه عضو واحد، فيحتاج إلى المسح ظاهراً وباطناً.
السؤال: حديث ابن عمر الذي مسح على يافوخه ألا يعارض الحديث المرفوع: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام مسح بمقدم رأسه حتى ذهب إلى قفاه، ثم ردهما للمكان الذي بدأ منه )؟
الجواب: يقال: إن فعل عبد الله بن عمر على سبيل الترخص، ولو كان عادةً لـعبد الله بن عمر لقيل بالتعارض، والدليل على أنه فعل عارض يدل على الترخص أنه جاء بمثل هذا الوجه على هذا النحو، أنه مسح على يافوخه قط، وقوله هنا: قط، إشارة إلى أنه عادة يمسح إلى ما هو أكثر من ذلك وكان يزيد، أما هذه المرة فاكتفى بهذا، وهذا إشارة إلى الترخص، والإنسان قد يكون مثلاً في موقف من المواقف يترخص، كأن يكون معتاداً أنه يتوضأ وضوءاً تاماً يسبغ لكنه في عجلة أخذ يبلل الأعضاء تبليلاً، فيكون هذا على عجل، فيراه شخص فيحكي عنه هذا الفعل، والبخاري ذكرها وأعلها فقد ذكر هذا الحافظ ابن حجر في الفتح؛ لأنه جاء في زيادة قال: ( ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً )، فقالوا هذه جلسة الاستراحة لكن البخاري أعلها.
هو أصح حديث عنده في حديثه ويغلب عليه الصحة من جهة الصناعة، يغلب على حديثه من جهة اختصاصه الصحة، لكن الإجماع على عدم الوجوب نقله ابن عبد البر، وابن المنذر، وغيرهم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر