الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اهدنا صراطك المستقيم, صراط الذين أنعمت عليهم يا رب العالمين.
أما بعد:
فقد قال الإمام المزني رحمه الله تعالى في رسالته شرح السنة: [ ويقال بفضل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق رضي الله عنه, فهو أفضل الخلق وأخيرهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم].
بدأ المصنف رحمه الله في مسألة فضل الصحابة, وصدر هذه المسألة بمسألة فضل أبي بكر الصديق عليه رضوان الله, فبدأ بفضل الأفراد قبل أن يبدأ بفضل الصحابة عليهم رضوان الله, وهذا نوع من الترتيب، وعامة المصنفين في أبواب الاعتقاد يذكرون فضل الصحابة في الإجمال، ثم يثنون ببيان التفصيل بفضلهم على مراتبهم.
أبو بكر الصديق عليه رضوان الله لا يختلف أهل الإسلام على فضله, ولا يختلفون كذلك بأنه أفضل الصحابة عليهم رضوان الله, وقد فضله الله عز وجل بجملة من الفضائل:
منها: أنه من السابقين الأولين في الإسلام.
ومنها: أنه رفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته, ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة:40], فكان رفيقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره الله عز وجل بوصفه وبيان حاله.
ومنها: أنه كان المعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بماله, وكذلك نفسه وأهله، كما جاء في الصحيح ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في الناس خطيباً فقال: ما من أحد من الناس أمن علي بماله ونفسه ), وفي رواية: ( وأهله من أبي بكر الصديق ), وذلك أنه كان يعين رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمال هو وزوجه أسماء عليها رضوان الله تعالى, وكان أبو بكر الصديق عليه رضوان الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من السابقين, وأيضاً يذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من سطوة المشركين وتعديهم, سواء كان ذلك بألسنتهم أو كان بأيديهم, فكان مقامه من جهة المناصرة, والتمكين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يكن لمثله عليه رضوان الله.
ومن فضائله في ذلك: أن ابنته عائشة عليها رضوان الله هي أحب وأفضل النساء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قيل له: فمن الرجال؟ قال: أبوها ), وذلك لفضلهم عليهم رضوان الله تعالى، وكذلك أيضاً من فضائل أبي بكر الصديق عليه رضوان الله أنه أدرك كل الفضائل الذي فضل على غيره بها, من البيعات, والغزوات, والهجرة, والنصرة وغير ذلك من الأمور, ففضل على غيره, فاجتمعت فيه أفراد الفضائل التي انقسمت في غيره, ولهذا كان الصحابة عليهم رضوان الله تعالى لا يقدمون عليه أحداً في حال غياب رسول الله صلى الله عليه وسلم, سواء كان في أمرهم من جهة المشورة والرأي والفتيا, وكذلك الإمامة والأمر والنهي, ولهذا يقول عبد الله بن عمر عليه رضوان الله: ( كنا نفضل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقول: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نسكت ), وجاء في رواية: ( ثم علي بن أبي طالب ), عليهم رضوان الله.
وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده, وقد أجمعت الأمة على ذلك, وإجماع الصحابة عليهم رضوان الله تعالى على ذلك سواء كان ذلك في ابتداء الأمر أو تواطئوا على ذلك فيما بعد دليل على اتفاقهم على فضله وتقدمه على غيره, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسر إليه ما لا يسر إلى غيره من أصحابه, وكان يصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواضع لا يصاحبه فيها إلا هو, وكان أيضاً أكثر الناس استشارة, يستشيره رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من الأمر, وكثيراً ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب هو وأبو بكر وعمر، وكان أيضاً كثيراً ما يقول الصحابة عليهم رضوان الله: أتينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر وعمر، أو عنده أبو بكر وفلان, فكان أبو بكر عليه رضوان الله تعالى جليساً ملازماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقدماً في حضره وفي سفره.
وهو أيضاً أفضل الأمم بعد الأنبياء, فكل نبي له أصحاب, وأفضل أصحاب الأنبياء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو: أبو بكر الصديق عليه رضوان الله؛ على خلاف فيما يتعلق فيمن اختلف في نبوته, سواء كان لقمان أو الخضر أو مريم عليهم السلام, فيختلف العلماء في ذلك بسبب الخلاف في نبوتهم، وخلافهم بعضه ضعيف وبعضه قوي بحسب العين.
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء بهديه, والاستنان بسنته, والأخذ بقوله عند عدم وجود شيء من أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا ( لما جاءت المرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن أتيت من قابل ولم أجدك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ائت أبا بكر ), وهذه أمارة على أن أقوال أبي بكر الصديق عليه رضوان الله هي أولى بالترجيح والأخذ إذا لم يكن ثمة سنة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه أعلم الناس بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيه, وإذا اجتمع إليه عمر وعثمان وعلي، فهؤلاء الأربعة لا يُخرج عن قولهم إذا اجتمعوا على حديث, وقد جاء في السنن من حديث العرباض : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ), فهذا وصف لهم بالتزكية على سبيل المجموع لا على سبيل الإفراد, ( الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ), وهم: الخلفاء الراشدون الأربعة عليهم رضوان الله تعالى، وكان من بعده وهو: عمر بن الخطاب يقر بفضل أبي بكر ولا يخرج عن قوله.
قال رحمه الله [ ونثني بعده بالفاروق وهو: عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فهما وزيرا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وضجيعاه في قبره ].
وزيرا رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة القرب والدنو والاستشارة والأخذ برأيهم فيما يؤخذ فيه الرأي, وكذلك أيضاً لقربهما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنتيهما, فتزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر بن الخطاب؛ وهذا لشدة قرب هذين الرجلين منه.
قال رحمه الله: (وضجيعاه في قبره), وذلك أن الله عز وجل قد اختار لهم قدراً أن يكونا بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في قبره, لذا لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم دفن في حجرة عائشة عليها رضوان الله تعالى, وبقي مكان فيها, وكانت عائشة في الحجرة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبيت بها, وكان حالها على حالها السابق, حتى توفي أبو بكر الصديق عليه رضوان الله, فما بقي إلا موضعاً واحداً؛ دفنت أبا بكر الصديق عليه رضوان الله، ثم بقي مكان واحد فبعث إليها عمر بن الخطاب عليه رضوان الله يستأذنها بذلك, فقالت: إني كنت أريده لنفسي وإني أوثره به, يعني: بهذا المكان, ثم دفن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى في ذلك المكان, ثم خرجت عائشة عليها رضوان الله تعالى لضيق مكان حجرتها عن استيعاب شأنها, وربما يكون أيضاً ذلك من باب التعظيم, وحتى لا يكثر الناس دخولاً وولوجاً إليها وكانت الحجرة ابتداءً تفتح بأمر عائشة، يعني: الحجرة التي فيها قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وبهذا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم تبن على قبره الحجرة, وإنما دفن فيها, وهذا هو الفرق بين القبور التي تدفن ثم يبنى عليها, وهذا هو الأمر المحظور, والأمر المنهي عنه, بخلاف من يدفن مثلاً في دور, أو يدفن مثلاً في أحواش معروفة أو نحو ذلك, فهذا لم يقصد بالبناء من جهة الأصل التعظيم, وكانت العرب ابتداء تدفن في أفنية المنازل وتدفن أيضاً في الحجر, ولهذا يقول الشاعر:
لكل أناس مقبر بفنائهم فهم ينقصون والقبور تزيد
يعني: يدفنون الناس في الأحواش، ويدفنونهم في البيوت, فإذا امتلأ البيت أو امتلأت الحجرة من أهلها خرجوا منها إلى موضع آخر, فلم يكونوا يستوحشون من القبور كما يستوحش المتأخرون منها, والنهي في ذلك أن يوضع القبر ثم يكون عليه البناء, وإنما دفن النبي صلى الله عليه وسلم في موضعه الذي مات فيه؛ وذلك لما جاء في حديث أبي بكر : ( إن الأنبياء يدفنون حيث يُقبضون ), يعني: في الموضع الذي يموتون فيه, وهذا الحديث جاء من طرق متعددة من حديث أبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى وغيره, منهم من يحسنه ومنهم من يضعفه, ولعل العلة في ذلك الدفن قطع الاجتهاد, أي: أن لا يجتهد الناس بنقل النبي صلى الله عليه وسلم في موضع كذا أو موضع كذا أو نحو ذلك, وقد يكون أيضاً فيه قطع لحجة من يحتج أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في موضع بناء أو نحو ذلك, فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما اختار الله عز وجل له بقعة وما اختار له بناء, ولهذا فالبناء على القبور محرم, وأما دفن الميت في بيت كان فيه والبناء بني لغيره, فهذا أمر آخر, كما كان عليه حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحال صاحبيه.
قال رحمه الله: [ ونثلث بذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه ].
يقول: (ونثلث بذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه), عثمان بن عفان سمي بـذي النورين؛ لأنه تزوج بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم له عدة من البنات، منهن: فاطمة ورقية وأم كلثوم، وكان من بناته من كانت تحت ابني أبي لهب في الجاهلية, فطلقتا منهما ثم بعد ذلك تزوجهما عثمان بن عفان عليه رضوان الله تعالى فأطلق عليه لقب ذي النورين, وذلك لقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذه من أمارات قربه، وفضله، ودنوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله هنا: (ونثلث بذي النورين عثمان بن عفان), الصحابة عليهم رضوان الله تعالى يتفقون على ذلك، ولا يختلفون في فضل عثمان على علي بن أبي طالب، كما جاء في حديث عبد الله بن عمر: ( كنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي نقول: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان ), هذا النص الأصح, جاء في بعض الروايات: ( ثم علي بن أبي طالب ), عليه رضوان الله, ويتفق التابعون أيضاً على أن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى هو رابعهم, وكذلك أيضاً يتفق على هذا أهل السنة على خلاف عند بعض المتشيعة الذين يقولون بفضل علي بن أبي طالب على عثمان، ويسمون بالعلويين, ويلمزون من يقدم عثمان بن عفان بالعثمانيين.
وثم بعد ذلك دخل الغلو في دائرة تعظيم علي بن أبي طالب، فبعدما ابتدءوه بدائرة تفضيل علي بن أبي طالب على عثمان، رفعوه، ثم فضلوه على عمر تهيباً لـأبي بكر، ثم رفعوه على أبي بكر تهيباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم ظهر في ذلك الغلو والكفر والطغيان الذي جاوز في ذلك حده؛ إذ جعلوا علي بن أبي طالب هو أولى بالرسالة, وأن جبريل عليه السلام أخطأ رسالته فجعلها في محمد عليه الصلاة والسلام, وإنما هي لـعلي بن أبي طالب، ونشأ بعد ذلك الغلو عكساً؛ لأنه ما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من جهة التفضيل, قالوا: نفضل من ذلك ذريته, فرجعوا بعد ذلك إلى الذرية, بتفضيل فاطمة واختلاق الأحاديث والبدع في ذلك, ثم ما جاء بعد من ذريتها من الحسن والحسين، وما جاء أيضاً من ذريتهم, فجاءت بدعة العصمة في الأئمة من ذرية فاطمة عليها رضوان الله تعالى, وغلوا في ذلك وتسلسلت البدعة لديهم كما تقدم معنا أيضاً في صدر هذا الكتاب.
قال رحمه الله: [ ثم بذي الفضل والتقى علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين ].
يقول هنا: (ثم بذي الفضل والتقى علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين), علي بن أبي طالب هو رابع الخلفاء الراشدين, وهو أيضاً من العشرة المبشرين بالجنة, والنصوص أيضاً في فضله ومنزلته ومقامه وقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم, كثيرة, ومنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال علي بن أبي طالب : ( عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ), ويكفي في ذلك كونه من الخلفاء الراشدين الأربعة الذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستنان بسنتهم والاهتداء بهديهم, وهو كذلك أيضاً من فقهاء الصحابة وأجلائهم.
قال رحمه الله: [ ثم الباقين من العشرة الذين أوجب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة، ونخلص لكل رجل منهم من المحبة بقدر الذي أوجب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من التفضيل ].
يقول: (ثم الباقين من العشرة الذين أوجب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة)، وقد جاءت الأحاديث كذلك في غير العشرة بالشهادة لهم بالجنة, فجاء نص في عائشة، وجاء في خديجة، وجاء في فاطمة، وجاء أيضاً في بلال، وفي أسامة، وجاء في عكاشة، وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكن هؤلاء العشرة هم أفضل الصحابة عليهم رضوان الله, وهم قرشيون, وهم أيضاً من المهاجرين, ومن السابقين الأولين, وممن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, ممن شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغزوات, فاجتمعت فيهم هذه الفضائل, فاستحقوا بذلك التفضيل والتقدم أيضاً على غيرهم.
يقول هنا: (ونخلص لكل رجل منهم من المحبة بالقدر الذي أوجب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من التفضيل), وتكون المحبة للصحابة عليهم رضوان الله تعالى عموماً, والصحابة هم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجالسوه ولو مرة, ويختلفون من جهة فضلهم وقربهم بمقدار صحبتهم ومخالطتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وامتثالهم لأمره, فهم يتباينون في ذلك, وإذا كان الأنبياء يتباينون وفيهم أولو العزم من الرسل, وأيضاً رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضلهم وسيد ولد آدم، فإن الصحابة يتفاضلون من باب أولى, فإذا تفاضل الأنبياء وتفاضل الملائكة، فإن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى يتفاضلون كذلك, وإن اشتركوا في مجموع فضل الصحبة على من بعدهم.
لهذا نقول: إن أقل الأنبياء مرتبة فوق أفضل الصحابة منزلة, وأقل الصحابة منزلة فوق أعلى التابعين منزلة, ثم بعد ذلك يتفاضل الناس بحسب أعمالهم, وذلك لأن النص جاء في فضل الصحابة عليهم رضوان الله تعالى وتزكيتهم, ولهذا يقول الله جل وعلا في فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29], فمن تحقق فيه وصف المعية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقدار طولها وكثرتها وشدتها من جهة الزمان ومن جهة الحال، فإنه يتحقق فيه الفضل.
ولهذا فالصحابة السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار عليهم رضوان الله تعالى أفضل ممن جاء بعدهم, ويأتي معنا الكلام على مراتب فضل الصحابة عليهم رضوان الله تعالى, وتمايزهم فيما خصهم الله عز وجل فيه, فإن تمايز الخلق وتفاضلهم في ذلك، سنة جعلها الله سبحانه وتعالى فيهم, فنحب الصحابة عليهم رضوان الله تعالى بمجموعهم, ونترضى عنهم جميعاً, ونمسك أيضاً عما شجر بينهم, وكذلك أيضاً فإن محبتهم وتقديمهم يكون بتقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم, وذلك بالفضل, وبالخلافة, وبالقرب والاصطفا.
يقول المصنف: (ونخلص لكل رجل منهم من المحبة بالقدر الذي أوجب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من التفضيل), فلا يقدم هذا على هذا لنسبه المجرد, أو مثلاً لحال أو موقف, وإنما مرد ذلك من جهة التفضيل إلى النص, فلا يفضل الصحابي فقط لكونه قرشياً على صحابي آخر, نقول: القرشية هي فضل في النسب, فقد يكون صحابياً وقد يكون كافراً وغير ذلك؛ كحال الأنصار من الأوس والخزرج, قد يكون أنصارياً صحابياً وقد يكون أيضاً من جملة المنافقين وهو معدود في ظاهره من الأنصار؛ كحال عبد الله بن أبي، ولكن نقول: إن التفاضل في ذلك معلوم, والنصوص في ذلك ظاهرة من جهة التفضيل.
قال رحمه الله: [ ثم لسائر أصحابه من بعدهم رضي الله عنهم أجمعين ].
الصحابة على ما تقدم هم من صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, والصحبة في ذلك أن يروا النبي صلى الله عليه وسلم, وإما أن يرووا عنه وإما أن يخالطوه عليه الصلاة والسلام, فهذه هي الصحبة, وهم على اتباع, يخرج من هذا من كان يخالط النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود وليس على ملته, أو كان من المنافقين, أو كان من المشركين, فهو قد خالطه أو صاحبه أو رافقه، ولكنه لم يكن من أهل الاتباع كبعض المنافقين، كحال عبد الله بن أبي، كان ربما يخالط النبي صلى الله عليه وسلم حتى في بعض غزواته, ولكنه كان على نفاق, فلا يعد في الصحابة, فالصحابي: من ظهر منه الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن مات ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض, وذلك يخرج من ارتد من آحاد الصحابة, سواء كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أو كان بعد وفاته, ففي حياة النبي صلى الله عليه وسلم ممن ارتد ومات على ردته، عبد الله بن خطل وبعد وفاته ارتد من ارتد من العرب من بني حنيفة أو غيرهم ممن قاتلهم أبو بكر الصديق والصحابة عليهم رضوان الله, وغيرهم ولهذا نقول: الصحابة من ماتوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم راض وبقوا على ذلك, يعني: على ما هم عليه, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي موسى الأشعري، قال: ( أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهبوا (يعني: يذهبون وهم على الصحبة) أتى أمتي ما يوعدون ), يعني: ما يوعدون من الفتن والاختلاف والفرقة, فنقول: الصحبة: هو أن يموت على ما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا في قوله رحمه الله: (ويقال بفضلهم، ويذكرون بمحاسن أفعالهم), الصحابة عليهم رضوان الله تعالى فضلهم الله عز وجل على من جاء بعدهم, ولكن لا نقول بعصمتهم, بخلاف أهل البدع الذين يقولون بعصمة الأئمة, وذكر محاسنهم مع الإمساك عما يقعون فيه من الخطأ لا يعني ذلك عصمة لهم, وإنما قلنا ذلك حتى لا يُظن أن الإمساك عما يقعون فيه من أخطاء ادعاء للعصمة, فإنه لا معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنبياء الله جل وعلا؛ لأنهم مبلغون عن الله، فاحتاجوا إلى العصمة حتى لا يشرعوا بقولهم أو فعلهم ما لا يريده الله سبحانه وتعالى, فخصهم الله عز وجل من بين البشر بذلك, وأدنى الصحابة منزلة على ما تقدم مع أخطائه أفضل ممن جاء بعدهم منزلة، كأفضل التابعين وغير ذلك.
والأئمة عليهم رحمة الله لا ينظرون إلى ذات العمل وجنسه, وإنما ينظرون إلى مكانه وزمنه, وهذا ما يخفى على كثير من أهل البدع, فيجهلونه أو يتجاهلونه؛ وذلك أنهم ينظرون مثلاً إلى حال وصلاح أحد في زمان، وينظرون إليه منفرداً منفكاً عن زمانه الذي هو فيه, ولهذا سئل ابن المبارك رحمه الله عن أيهما أفضل معاوية أم عمر بن عبد العزيز؟ فقال: لغبار دخل في أنف معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمر بن عبد العزيز عمره كله, وهذا لمقامهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, لذلك بعض الناس يظن أن التعبد أو الديانة التي تكون من الإنسان على سبيل الانفراد أو العدل ينظر إليها منفكة, فبعض الصحابة وجوده رقم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سواد, بحيث لو جاءت أعين قيل: إن حول النبي صلى الله عليه وسلم أناساً, فيهيب هذا الرجل العظيم النبي صلى الله عليه وسلم للأعداء والخصوم ولو لم يعمل شيئاً, فأثره في ذلك أعظم مما يفعله الإنسان منفرداً, فلا ينظر إلى ذات العمل، وإنما ينظر إلى مكانه وموضعه.
ولهذا كان المشركون وكان أيضاً الروم وفارس يبعثون أعيناً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان من الصحابة عليهم رضوان الله ممن يكون حوله وربما لم يغزُ إلا يسيراً, أو ربما لم يغزُ, وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم في آخره, فكانوا ينقلون عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يرونه من التعظيم والإجلال، وكذلك تكثير السواد, فوجود صحابي كثَّر سواد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهيب الأعداء ولو لم يعمل أعظم من رجل عمل أعمالاً كثيرة منفرداً بعيداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك أيضاً فإن وجود الخطأ من الصحابة عليهم رضوان الله لا ينفيه أحد؛ لأنه لا ينفيه إلا من يقول بالعصمة ولا يقال بالعصمة, ومن قال بوجود معصوم غير أنبياء الله عز وجل فقد كفر بالله؛ لأنه يقول بمشرعين, ولا مشرع إلا من بلغ عن الله, فإما أن يكونوا مشرعين من أنفسهم من غير الله؛ فهؤلاء أنداد وأرباب, وإما أن يكونوا مشرعين عن الله فهؤلاء أنبياء بعد محمد صلى الله عليه وسلم وكل ذلك كفر, ولهذا نقول: وجود الأخطاء لا يعني أن الإنسان يحل النزاع فيما بينهم عليهم رضوان الله تعالى.
ثم أيضاً من المسائل المهمة التي ينبغي أن ينتبه لها: أن الصحابة فضلهم الله عز وجل لصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاح أمرهم معه, لا لصحبتهم فيما بينهم, وهذا أمر منفك, إذا أدركه الإنسان أدرك أن الصحابة إنما فضلوا لحسن صحبتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا فيما بينهم, ولهذا يختلفون في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينهم, ويقع بينهم من الخصومات في البيع والشراء, ويقع بينهم من الحدود, وربما يترافعون الأصوات, وربما أخطأ بعضهم على بعض وغير ذلك, ولكن في حال رسول الله صلى الله عليه وسلم يطأطئون رءوسهم ولا يحدون النظر إليه, وإذا بزق رسول الله صلى الله عليه وسلم دلك أحدهم يده ببزاقه, وإذا توضأ اقتتلوا على وضوئه.
وأما النزاع الذي يقع ويأخذه المبتدعة ليس هو مع رسول الله وإنما فيما بينهم, إذاً الجهة منفكة، فالخلاف فيما بينهم خلاف أناس مع أناس؛ كخلاف الناس من أي طبقة فيما بينهم, وتفضيل الله للصحابة عليهم رضوان الله تعالى على غيرهم إنما هو تفضيل لصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا لم يعظم الله خلافهم فيما بينهم؛ وذلك لأنهم من طبقة واحدة يختلفون ويتنازعون, فيقع منهم من يخطئ على الآخر, ويقع منهم ربما من يقع في كبيرة، كالزنا وغير ذلك, ولكن هذه الأخطاء والكبائر سواء كانت من الجوارح، أو من أمور القلوب وغير ذلك إنما تكون فيما بينهم, وأما في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم يعظمونه.
فأهل البدع والضلال يقيمون الصحابة في جهة منفكة وهي علاقتهم فيما بينهم, ويقومون بالتخطئة وبالتضليل ونحو ذلك, ثم يضرب عن النصوص الأصول التي ما جاءت في مثل هذا الأمر فيما بينهم فيقعون في الضلال والزيغ.
ومن المسائل المهمة: أن الأدنى لا يقضي ولا يقيِّم الأعلى من جهة مجموع فضله, وذلك أن الله عز وجل حينما يفضل أحداً بعينه إنما يفضله لمنزلته ومكانه, فمن كان دونه لا يقضي في أصل فضله, وإنما يقضي فيما يقع فيه من أمر عين, من جهة أمور الصواب والخطأ، ونحو ذلك مما يستفيد منه الإنسان حكماً.
مثلاً: الإنسان فضل الله عز وجل والديه؛ أمه وأباه, فضلهم الله سبحانه وتعالى عليه, وجعل لهما منزلة, فإذا اختلف الأب والأم هل يقضي في أصل فضلهما أم في فرع النزاع؟ يقضي في فرع النزاع لا في أصل الفضل, وإذا قضى بينهما يقضي بينهما مع انكسار, ومن الأدب ألا يقضي الابن على الأبوين, ولو كانا على خلاف, وربما يكون هذا مخطئاً على هذا, فما هو الأسلوب الذي يستعمله الابن عند الإصلاح بين الأبوين أو النظر إلى خلافهما؟ يستعمل الرفق, ويتدخل بأسلوب لين هين، بخلاف لو أراد أن يحل نزاعاً أو يقوم خلافاً مع غير أبويه؛ لأن المفضول لغته تتغير عند النظر إلى خلاف الفاضلين عليه, وهذا في مقام الصحابة عليهم رضوان الله تعالى يكون من باب أولى, ولهذا فضل الله عز وجل الصحابة, وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإمساك عن النزاع الذي يكون بينهم؛ لأنه ليس هو موضع التفضيل الذي فضلهم الله عز وجل به, وإنما فضلهم الله سبحانه وتعالى بصحبة محمد عليه الصلاة والسلام, فمات وهو عنهم راض, وبقوا على الإسلام, وما كان بينهم من نزاع فهو خلاف بين طبقة هي أفضل من الطبقة التي تليها.
وأما بالنسبة للخلاف الذي بين الصحابة عليهم رضوان الله تعالى فعلى نوعين:
النوع الأول: خلاف خاص لا يتعدى إلى غيرهم حكماً ولا شرعاً, يعني: جهة الحكم في أمور السياسة, أو من جهة الأحكام الشرعية من أمور الترجيح, فهذا يمسك عنه؛ لأن الخلاف الذي يكون بين الصحابة عليهم رضوان الله ولا يستفاد منه في ترجيح مسألة فقهية, ولا في حكم شرعي, ولا في المصالح السياسية, ولا في أمور النوازل, فهذا يمسك عنه.
النوع الثاني: ما يترتب على معرفته وتحقيق الصواب فيه من الخطأ معرفة حكم فقهي, أو قضاء في نازلة من أمور السياسة الشرعية، أو غير ذلك, فهذا يخاض فيه من قبل العارف بذلك مع احترام وتقدير، فيبين الراجح من المرجوح من غير وقوع في المخطئ، كمباحث الفقه, أو بحث ما وقع بينهم من قتال ليعرف الإنسان مثلاً أحكام مسائل قتال أهل البغي حتى يقيس عليها، ويستنبط عليها المسائل الفقهية, ولهذا بنى الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه الأم مسألة قتال البغي على ما وقع في فتنة ابن الزبير وطلحة عليهما رضوان الله تعالى, فجعل هذا الباب أصلاً في هذه المسألة, وما لا يفيد في مسائل الدين فيبقى خلافاً خاصاً بين الصحابة عليهم رضوان الله تعالى؛ لأن بحثه لا يفيد في مسائل الدين, وربما أوغر الصدور.
ومن الأمور المهمة: أن الله يوم القيامة سيسألك عن فضل الصحابة, ولن يسألك عما شجر بينهم، فلا يقال لك: اقض لي بينهم, بل سيسألك الله هل تؤمن بفضلهم الذي جاء بالنص أو لا تؤمن؟ أما الخلاف الذي بينهم لن تسأل عليه, هم الذين سيسألون فيما بينهم, تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:134], فالإنسان لا يسأل إلا عن عمله وما كلفه الله سبحانه وتعالى فيه, والذي كلفنا الله عز وجل فيه من جهة الصحابة هو: الإيمان بفضلهم، والإقرار بمنزلتهم عند الله سبحانه وتعالى.
قال رحمه الله: [ ويقال بفضلهم ويذكرون بمحاسن أفعالهم، ونمسك عن الخوض فيما شجر بينهم ].
وذلك أن طريقة أهل السنة أنهم يذكرون المحاسن، ويدعون غيرها؛ حتى لا يتمسك أهل البدع والضلال ومن أراد الإساءة إليهم بالوقائع والحوادث التي تكون بينهم, فيكثر من ذكر الفضل والمنزلة والنصوص في ذلك حتى يعظمون؛ لأنهم نقلة الوحي، وأقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فالطاعن فيهم طاعن في الوحي الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أيضاً إن طريقة أهل البدع أنهم يذكرون المساوئ ولو قلت, ويدعون الفضائل ولو كثرت, وهذا يدفعهم إلى زراعة الغل والحقد في نفوس المتلقين حتى يقع فيهم الكره والبغض, وما من أحد في الأرض تجمع سيئاته وتترك حسناته إلا كرهه الناس, وما من أحد ولو كان من أهل الفضل والديانة والاستقامة والولاية لا يذكر خيره ويذكر شره إلا وقد كرهه الناس لما يذكر, إلا من عصمه الله سبحانه وتعالى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, ولهذا نقول: الإمساك فيما يكون بين الصحابة عليهم رضوان الله تعالى هو هدي السالفين من الصحابة فيما بينهم, فإنهم كانوا يمسكون عما بينهم من الوقيعة, فيمسك المفضول عن الفاضل, ويبين منزلته, ولهذا كانوا يجلون الخلفاء الراشدين الأربعة عليهم رضوان الله تعالى.
وتفاضل الصحابة فيما بينهم متباين على ما تقدم, فأفضل الصحابة من جهة الإجمال: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار, وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [التوبة:100], السابقون الذين تقدموا وسبقوا من جهة الإيمان, أقدمهم هجرة أفضلهم, وإنما كان الفضل للسابقين الأولين، واستحقوا قوله جل وعلا: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول أمره ليس عنده قوة وقدرة, والمشركون على تمكن وظهور وجلاء, فالذي على شك وريب لا يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتبعه إلا صادق صديق, ولهذا اتبعه الصديقون، كـأبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى، ومن تبعه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا نقول: إن أعظم الناس ولاية وقرباً من الله الذين يتبعون الحق في زمن ضعفه, وأقلهم ولاية هم الذين يتبعون الحق في زمن قوته؛ لأن الناس كلهم يتبعون القوة, وأخطر الناس الذي يتذبذب, يتبع الحق في زمن القوة فإذا ضعف انتكس عنه, فإذا رجع رجع إليه, وهؤلاء يتبعون القوة من جهة الحقيقة لا يتبعون الحق, ولهذا يثبت أهل الإيمان في زمن الزلازل والمحن؛ لأنهم يؤمنون بالحق لذاته مهما تقلبت أحوالهم.
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، ذكرهم الله على نوعين ذكر المهاجرين ثم الأنصار, والمهاجرون أفضل من الأنصار؛ لأن المهاجرين جمعوا نصرة وزادوا هجرة, وأما الأنصار فهم في بلدهم لم يهاجروا وهم أهل نصرة, ففضل الله عز وجل المهاجرين على الأنصار؛ لأنهم تركوا بلدهم وجاءوا بما جاء به الأنصار من جهة نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمايته وتعزيزه, والغزو معه, وإعانته في أمر الإسلام, لهذا نقول: إن المهاجرين أفضل من الأنصار.
وأيضاً بالنسبة لمن هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من صحبه عموماً فأن من أسلم قبل الفتح أفضل ممن أسلم بعد الفتح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تمكن بعد الفتح ودخل مكة, وهي معقل الإسلام, وأفضل البقاع, وهي التي تتوجه إليها الأفئدة بإقرار أهل الحنيفية عموماً, فإن أهل الملة الإبراهيمية يقرون بفضل هذا المكان, بخلاف المدينة, فإنها ما فضلت إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم, ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة أقبل الناس أفواجاً إلى الدين, فجاءت الوفود، وجاءت القبائل دخولاً في الإسلام لما تمكن النبي صلى الله عليه وسلم, ولهذا نقول: مع اشتراكهم في فضل الصحبة من أسلم قبل الفتح أفضل ممن جاء مسلماً بعد الفتح.
وأيضاً بالنسبة لتفاضل من أسلم قبل الفتح من المهاجرين على ما تقدم من أن أقدمهم هجرة أفضلهم, كذلك أيضاً أفضل أولئك من شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا نقول: إن أفضل الصحابة عليهم رضوان الله تعالى السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين شهدوا بدراً ويسمون بالبدريين, ثم الأحديون, الذين شهدوا أحداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة, وهكذا.
فكما يتفاضل المهاجرون من جهة السبق يتفاضل أيضاً الأنصار من جهة السبق, فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ما كان الأنصار كلهم على الإسلام, وإنما بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم البيعتين, بيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية, وقيل إنهم كانوا في الأولى بضعة عشر أو قيل دون ذلك, وفي الثانية نحو السبعين رجلاً وقيل أكثر من ذلك, فمنهم من أسلم بعد هذه البيعة وقبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم, ومنهم من أسلم بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة.
وأما تفاضل من استوى من جهة مجموع هذه الفضائل الأصول فمرده إلى الله سبحانه وتعالى من جهة تفاضل الأفراد بحسب ما يعلمه الله عز وجل من حالهم, ولكن نقول: إن مجموع الصحابة عليهم رضوان الله من جهة الفضل خير ممن جاء بعدهم, فيعظمون لمنزلتهم، ومكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومكة فتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا قتال ولا قوة تذكر, وهذا ما كان إلا لسواد الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فوجود رجل يتهيبه العدو أو ذكر حاله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يُذكر فيه هيبة, وهذا ما يغفل عنه كثير من أهل الضلال والبدع الذين يذكرون: ما هي فضائل فلان؟ جاء في حديث عروة وهو في الصحيح ( لما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع إلى قومه, قال: يا قوم, لقد رأيت ملوك فارس، ورأيت الروم, والله ما رأيت رجلاً يجله قومه كما رأيت محمداً مع قومه, لقد رأيتهم لا يحدون النظر إجلالاً وتعظيماً وحياء منه, وإذا بزق دلك أحدهم بزاقه بيده, وإذا توضأ اقتتلوا على وضوئه ), فالذي بزق هو النبي صلى الله عليه وسلم, والذي دلك والذي اقتتل على الوضوء لم نعرف اسمه، لذا هذا الرجل الذي نقل هذا الخبر إلى أولئك كسر قلوبهم بهذا الخبر؛ فهذه عبارة جاءت يسيرة جداً, لو أراد الإنسان أن ينظر إليها من جهة التاريخ ما قيمتها على أنها فضل, نجهل الأسماء، ونجهل حقيقة أولئك الذين قاموا بهذه الأفعال، ونقلت كهيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن حوله, كسرت هيبة كسرى، وكسرت هيبة قيصر, وعظم شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس, من هؤلاء الذين اقتتلوا على الوضوء؟ من هؤلاء الذين دلكوا أيديهم ببزاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وصل خبرهم من وصل, ثم فتحت لأجلهم مكة؟ نقول: إن هؤلاء الذين نقل عنهم الخبر اليسير في نصف سطر خير من أعمار التابعين وأعمار أتباعهم.
ولهذا من يمسك عن فضل الصحابة لعدم وجود نص بالفضل، إنما أمسك؛ لأنه يلتمس فضائل حرفية تذكر في التاريخ, ولكن الله سبحانه وتعالى ذكر فضلهم مما لو نص عليه ما استوعبه أحد, من تكثير السواد, ووجودهم حول رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتهيبهم لمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وربما أقوام دخلت في الإسلام لأجل أمثال هذه الأحوال التي لا قيمة لها عند كثير من المؤرخين, وربما لا يذكرونها في جوانب فضائل الصحابة عليهم رضوان الله.
لهذا أعظم أبواب الشر والفتنة للإنسان أن يدخل في أبواب تقييم الصحابة والطعن فيهم؛ لأنه لو دخل في ذلك دخل في باب عظيم من أمور الترجيح وتفضيل هذا على هذا, وهذا قد وقع في زلة, وهذا وقع في كذا, وما يدريه أن الله سبحانه وتعالى قد غفر لهم ما يأتي من أعمالهم بما مضى وسلف من صالحاتهم.
ولهذا نقول: إن غفران الذنوب عند الله سبحانه وتعالى للسيئات بالحسنات أن الله يغفر السيئة السابقة بالحسنة اللاحقة, ويغفر السيئة اللاحقة بالحسنة السابقة, وهذا معلوم, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث حاطب قال: ( لعل الله اطلع على أهل بدر ), فالحسنة هنا سابقة, ( فقال: اعملوا ما شئتم ), يعني: مما يأتي من الأمور.
ولهذا الله عز وجل قد يلطف بعبده لسابقته في الخير, فماذا قدمت؟
ومن التنظير الخاطئ لدى بعض أهل البدع، وبعض من يكتب في التاريخ أو يتكلم في السير يقول: فعلوا وفعلوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, نقول: نعم وإن فعلوا, لكن ماذا فعلوا قبل ذلك, إذاً السابق واللاحق في أمور الخطأ والصواب والمخالفة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ما دام داخلاً في دائرة الإسلام لا يفرق فيه من جهة عظمة العمل, وهذا ما ينبغي أن يلتفت إليه وينتبه له، فالعمل العظيم الذي يكون من الصحابة عليهم رضوان الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفر ما يخلفه مما يقع منهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينبغي ألا ينظر إليه على أن هذا خاتمة أو لاحق وذاك سابق؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد يغفر الذنب اللاحق أو الخطأ اللاحق بالطاعة أو الصواب السابق لعظمها, ويكفي عظماً للأعمال هو مصاحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته, للنصرة معان لا يدركها الناس, فمن معاني النصرة تكثير سواد النبي صلى الله عليه وسلم, ومجالسته, وتهييب النبي صلى الله عليه وسلم في أعين الأعداء بتكثير سواده لو لم يتكلموا أو يحملوا الرماح والسهام في وجوه الخصوم والأعداء.
قال رحمه الله: [ فهم خيار أهل الأرض بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم, ارتضاهم الله عز وجل لنبيه, وخلقهم أنصاراً لدينه, فهم أئمة الدين وأعلام المسلمين رضي الله عنهم أجمعين ].
ومن وجوه فضلهم أن الله عز وجل اصطفاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم, والله سبحانه وتعالى نظر في أحوال الأمم وأحوال القرون، فرأى أقرب الناس فضلاً وأطهرهم قلوباً وأزكاهم نفوساً وأصحهم عقولاً هذا الجيل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.
وأيضاً من الأمور المهمة التي ينبغي أن تعلم: أن في الصحابة من هو منافق معلوم النفاق, معدود في وصف الصحبة من جهة الظاهر, ولكن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى يعلمونه, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في الصحيح من حديث عمار بن ياسر عن حذيفة بن اليمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( في أصحابي اثنا عشر منافقاً, ثمانية منهم لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ), وكم عدد الصحابة؟ ذكر أبو زرعة أن الصحابة الذين حجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة ألف, وقيل: عددهم مائة وعشرون ألفاً, وقد جاء في بعض الآثار عن عبد الله بن عباس أن عدد المنافقين نحو ثلاثمائة, لكنهم كانوا معروفين من جهة الوصف.
ثم أيضاً إن الله عز وجل قد عصم نبيه عليه الصلاة والسلام من أن يخصهم بوحي، أو إخبار يحملونه ويبلغون به الأمة, فكان النبي صلى الله عليه وسلم لديه ممن يدنو منه من الصحابة فيعلمه الدليل, ويعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن لديه من بطانة السوء ممن يدنو منه من المنافقين وطلاب الدنيا, لكن هؤلاء معروفون إما بأوصافهم وإما بأسمائهم عند آحاد وأفراد الصحابة عليهم رضوان الله تعالى.
فوجود هذا العدد القليل, لا يطعن في مجموع الصحابة؛ وذلك لأمور:
أولاً: لندرتهم وقلتهم.
الأمر الثاني: لأن أولئك معروفون, فيعرفهم الصحابة عليهم رضوان الله تعالى من جهة الوصف, والحال, بل كان الصحابة يتتبعون حذيفة بن اليمان وينظرون إلى حاله في تقييم أولئك, حتى إنه في البخاري لما سئل حذيفة عنهم: ( هل بقي منهم أحد؟ قال: ماتوا وما بقي منهم إلا واحد, إن شرب الماء لم يجد برده في بطنه ), (لم يجد برده في بطنه) يعني: لهرمه وكبره, فهو يعرفهم، ويعرف من مات منهم ومن لم يمت, ولو كان فيهم واحد ظهر، أو تصدر، أو روى، أو نحو ذلك لكان أول من يبينه حذيفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا نقول: إن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى هم سادة الأمة, وهم خلفاؤها, وهم قادة الفقه, ولا يعرف منافق بفقه, ولا برواية يرويها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن نفاقه يمنعه فهو يريد من ذلك السلامة, ولهذا يحفظ للصحابة عليهم رضوان الله تعالى قدرهم، ومنزلتهم، ومكانهم, فلا يُنقصون لبعض العمومات, أو لبعض الأفعال التي تكون فيما بينهم.
وصلى والله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر