الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اهدنا صراطك المستقيم, صراط الذين أنعمت عليهم يا رب العالمين.
أما بعد:
قال رحمه الله: [ ولا نترك حضور الجمعة, وصلاة مع بر هذه الأمة وفاجرها لازم, ما كان من البدعة بريئاً، فإن ابتدع ضلالاً فلا صلاة خلفه, والجهاد مع كل إمام عدل أو جائر ].
وذلك أن هذه الأمور يتعلق بها أمر جماعة المسلمين, وبها يأتلفون, وأمر الجماعة أولى من أمر الأفراد, والأمة إن اجتمعت على أمر مرجوح أولى من افتراقها على أمر راجح, ما لم يكن ذلك من أصول الدين العظام؛ لأن الاجتماع أصل عظيم من أصول الإسلام, وأمر الله عز وجل به, ولهذا يقول الله عز وجل: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103], فنهى الله سبحانه وتعالى عن الافتراق, ومن مظاهر الاجتماع: الاجتماع على الأمير ولو كان فاسقاً, ما دام من أهل الإسلام, ولم يأتِ بناقض من نواقضه.
يقول رحمه الله: (ولا نترك حضور الجمعة, وصلاة مع بر هذه الأمة وفاجرها لازم), وذلك أنه ما يخلو أحد من معصية وذنب, فلو ترك الأمر للمعاصي والذنوب التي تكون في الأفراد ما سلم الناس من ذلك, ولنازع بعضهم بعضاً, واستأثر الأمراء ببعض، فكان في الأمة الدماء، ووقع فيهم السيف, ولهذا من عقيدة السلف الصالح، وعقيدة أهل السنة والجماعة الصبر على أئمة الجور مع استصلاحهم قدر الوسع والإمكان, والصلاة خلفهم في الجُمَع, وكذلك أيضاً الجماعات.
قال رحمه الله: (ما كان من البدعة بريئاً, فإن ابتدع ضلالاً فلا صلاة خلفه), في الصلاة خلف المبتدع من الأمراء وغير ذلك, نقول: إن البدعة إذا كانت مكفرة لا يصلى خلفه, وأما إذا كانت البدعة ليست بمكفرة فإنها في ذلك على حالين:
بدعة للإنسان وجه في إقامتها وتعديلها, فيقوم الإنسان بالابتداء باستصلاحها, وبإقامتها مع أمير المؤمنين واستصلاحه بها، وذلك كما كان مثلاً في بعض متأخري الصحابة عليهم رضوان الله تعالى من صلاتهم خلف أئمة الجور الذين يؤخرون الصلاة حتى يخرج وقتها ويصلونها, فيصلونها معهم نافلة, فإن قدروا على استصلاحهم أعلنوا الاستصلاح، وأقاموا الحق في الناس, فصلوا معهم من جهة الظاهر، وهي في الحقيقة نافلة، ويكون في ذلك جمع لكمة المسلمين.
وأما البدعة التي لا يستطيع الإنسان لها تقويماً، ووجوده فيها يزيدها تلبيساً؛ لأن الإحداث في الدين محرم, فيبتعد الإنسان عن ذلك, وإذا وجد الإنسان موضعاً يقيم فيه دين الله سبحانه وتعالى على السنة فإن الأولى أن يأرز إليه؛ لأن الإتيان بالسنة أولى من غيرها حفظاً للدين ومقامه.
قال رحمه الله: (والجهاد مع كل إمام عدل أو جائر والحج).
وهذا كذلك, فإنهم كانوا يحجون مع الأمراء, وكذلك أيضاً في الغزو؛ لأن مصلحة الغزو في مواجهة عدو أعظم، وهم أهل الكفر والشرك, والفاجر من أئمة المؤمنين يكون فاجراً بمعصية أو كبيرة, ولكنهم الآن يواجهون كفراً وشركاً, ولهذا لابد من معرفة مراتب الخلاف، فالنزاع بين المؤمنين كأفراد يحل الخلاف الذي يكون بين الأبعدين, وخلاف الإنسان في مسألة من الفروع مع أحد يخالفه ينبغي ألا يجعله ينازعه في مسائل الأصول, وهذا في أمور الولايات آكد وأعظم.
قال رحمه الله: [ وإقصار الصلاة في الأسفار, والاختيار فيه بين الصيام والإفطار في الأسفار إن شاء صام وإن شاء أفطر ].
وهنا ذكر قصر الصلاة في السفر, وهذه من المسائل الفقهية التي يذكرها العلماء في أبواب الاعتقاد؛ وذلك لمخالفة بعض أهل البدع فيها, فيذكرونها؛ لأنها أمارة على المفارقة مع أهل البدع، كما يذكرون المسح على الخفين في الخلاف مع الرافضة, ويذكرون هنا القصر في الصلاة في الخلاف مع الخوارج؛ لأن الخوارج لا يرون قصر الصلاة، ولا الفطر في السفر, ولا يجعلون ذلك رخصة لكل مسافر, وإنما يربطه طوائف منهم بالخوف, وهذا من المسائل التي يذكرها العلماء في مسائل الاعتقاد, وهي من مسائل الفروع؛ لكونها علم وفرق بين أهل السنة وبين أهل البدع.
قال رحمه الله: [ هذه مقالات وأفعال اجتمع عليها الماضون الأولون من أئمة الهدى, وبتوفيق الله اعتصم بها التابعون قدوة ورضا, وجانبوا التكلف فيما كفوا, فسددوا بعون الله ووفقوا، لم يرغبوا عن الاتباع فيقصروا, ولم يجاوزوه تزيداً فيعتدوا، فنحن بالله واثقون، وعليه متوكلون، وإليه في اتباع آثارهم راغبون ].
بعدما ذكر المصنف رحمه الله الاعتقاد وما سئل عنه من أمر السنة ذكر الإجماع, وأن العلماء عليهم رحمة الله من الصحابة والتابعين وأتباعهم يتفقون على ذلك, وأعظم مواضع الأدلة هو الإجماع في الأمة؛ وذلك أن الإجماع لا بد أن يكون المستند فيه دليل من الكتاب والسنة, وإن كان الدليل من الكتاب والسنة في ذاته أقوى, ولكن من جهة الاحتجاج فإن الإجماع في ذلك أقوى؛ لأن الاجتماع لا يحتمل الخلاف بخلاف النص أو الدليل من الكتاب والسنة؛ لأنه يحتمل تأويلاً فيختلف الناس فيه, فإن اجتمعوا فإن الاجتماع لا بد أن يكون مستنداً إلى دليل, والاجتماع في ذلك هو غاية الأدلة، وهو أعظمها من جهة الاعتبار والعمل به, وإن كان الدليل من الكتاب والسنة من جهة جنسه أعظم من غيره.
ذكر المصنف رحمه الله هنا مجانبة السالفين من الصحابة والتابعين للتكلف, وذلك في تقرير المسائل وبيانها والتدليل عليها, والبحث أيضاً فيما لم يبحث فيمرون النصوص على ما جاءت, وأما ما يكون من خلاف أو يحدث أهل البدع من محدثات فإنهم يردون على ذلك، ولو دخلوا في التكلف بالمقدار الذي يرد تلك البدعة, ولهذا كانوا يكرهون الدخول في الفلسفة والمنطق, وأيضاً كلام المتكلمين فيما يتعلق بمسائل الدين من أمور العقائد والفروع إلا إذا كان ذلك سبباً لإضلال أهل البدع, فإذا ضلوا بسبب ذلك التكلف والضلال فيه, فاستدلوا بشيء من المنطق أو الفلسفة أو الكلام فضلوا بذلك، فلا حرج من الدخول في هذا الباب لصد عدوان الباغي, فيكون ذلك سلاحاً لرد البغي, لا مسلكاً من مسالك تقرير الشريعة للناس؛ لأن الشريعة جاءت باليسر من جهة إفهام الناس, فإنهم يفهمونها إذا أرادوا أن يفهموا, ولهذا اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بإسماع المشركين مجرداً؛ لأنهم يفهمون كلام الله إذا أرادوا أن يفهموا بلا تفصيل ممل أو تكلف, ولهذا الله عز وجل يقول: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التوبة:6], يعني: أعطه مجالاً يتأمل ويتفكر, واجعل بينك وبينه حداً للمخالفة، وكذلك أيضاً المنازعة أو المقاتلة في حال إرادة المقاتلة, ولهذا نقول: إن ما يتعلق بمسائل الدين الأصل فيها اليسر, وأما التكلف في ذلك من جهة الكلام والفلسفة والمنطق فإنه لا يدخل في ذلك إلا في رد كلام المبتدعة, كما سلك ذلك الأئمة عليهم رحمة الله.
قال رحمه الله: [ فهذا شرح السنة تحريت كشفها وأوضحتها. فمن وفقه الله للقيام بما أبنته مع معونته له بالقيام على أداء فرائضه, بالاحتياط في النجاسات ].
وهذا أيضاً من المصنف رحمه الله بيان أن هذا الأمر ليس رأياً له, وإنما هو بيان السنة, فوصفه شرح السنة, أي: سنة النبي صلى الله عليه وسلم, وما كان عليه السالفون من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى عليهم رضوان الله, وهذا ما ينبغي أن يكله الإنسان, فلا يبحث في أقوال الرجال وأهوائهم وترجيحاتهم, بل يلتمس الدليل, وإذا رجح قولاً أن يكله إلى مستنده من الوحي كتاباً وسنة أو إجماعاً أو أصلاً من الأصول العظيمة.
قال رحمه الله: [ وإسباغ الطهارة على الطاعات، وأداء الصلوات على الاستطاعات ].
وهنا ذكر جملة من المسائل المتعلقة بالفروع بعدما ذكر مسائل العقائد على سبيل الإجمال، ومن هذه المسائل: أن شريعة الله سبحانه وتعالى وسنته كما أنها في أبواب العقائد وأمور الباطن فإن ثمة أعمالاً ظاهرة, ومن أظهر هذه الأعمال وأجلها هي الصلاة, وأعظم ما يسبق الصلاة في ذلك هو الطهارة, ولهذا الطهور شطر الإيمان, والإيمان هي الصلاة, كما قال الله سبحانه وتعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143], يعني: صلاتكم عند البيت, فتسمى الصلاة إيماناً, ولهذا العلماء يقولون: من أنكر الوضوء ومشروعيته كفر؛ لأنه لا تصح الصلاة إلا به, فيذكر العلماء الوضوء، ويذكرون غسل الجنابة مع أنها في ظاهرها من الفروع, ولكن هي تتعلق بأصول, فلا تستباح الأصول إلا بها.
فذكر التنزه من النجاسات، وإسباغ الطهارة على الطاعات, وأداء الصلوات على الاستطاعات, وأراد بالصلوات الصلوات الخمس التي لا يتم دين الإنسان إلا بها, ولهذا الله عز وجل أمر بها سائر أنبيائه ونبينا صلى الله عليه وسلم، وأمر بها الناس كافة, وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [النساء:77], وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الناس عموماً كما في حديث جابر عند مسلم : ( بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة ), وكذلك أيضاً في حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه كما في السنن: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة, فمن تركها فقد كفر ).
وهنا قال رحمه الله: (على الاستطاعات)؛ لأن الله عز وجل لا يكلف نفساً إلا وسعها؛ كما جاء في حديث عمران بن حصين في الصحيح: ( صل قائماً, فإن لم تستطع فقاعداً, فإن لم تستطع فعلى جنب ), تيسيراً من الله سبحانه وتعالى للعباد على قدر الاستطاعة, فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16], وقال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286], وقال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7], يعني: بحسب استطاعة الإنسان وما يؤتيه الله عز وجل من قدرة يكلفه سبحانه وتعالى رحمة بالعباد, فإذا كان الإنسان صاحب قدرة تامة فإن التكليف عليه أكثر, وإذا ضعفت قدرته واستطاعته فإن التكليف عليه يضعف, فهذا من رحمة الله عز وجل ولطفه بالعباد.
قال رحمه الله: [ وإيتاء الزكاة على أهل الجدات، والحج على أهل الجدة والاستطاعة ].
وهنا ذكر الزكاة، وعطفها على الصلاة؛ لأن الله عز وجل قرنها في كتابه العظيم بالصلاة في مواضع عديدة.
يقول رحمه الله: (وإيتاء الزكاة على أهل الجدات, والحج على أهل الجدة), ففرض الله سبحانه وتعالى الزكاة على القادرين وأهل الأموال, وللزكاة شروط في ذلك يذكرها الفقهاء في أبوابها, ولكنها أيضاً ركن من أركان الإسلام, وهي الركن الثاني من الأركان العملية, وهي أعظم الأعمال المالية, والصلاة أعظم الأعمال البدنية.
وقوله رحمه الله: (والحج على أهل الجدة), يعني: الاستطاعة, وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97], يعني: جحد بما أمر الله سبحانه وتعالى به عباده فهو كافر بالله سبحانه وتعالى، وهنا الله عز وجل على ما تقدم يكلف عباده بما يستطيعون.
قال رحمه الله: [ وصيام الشهر لأهل الصحات ].
هنا قال: (وصيام الشهر لأهل الصحات), يعني: المكلفين القادرين على الصيام, وأراد بالشهر شهر رمضان؛ لأنه الركن الرابع من أركان الإسلام الخمسة, ومنزلته على ما لا يخفى, وقد تكلمنا على ذلك مراراً.
قال رحمه الله: [ وخمس صلوات سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة الوتر كل ليلة, وركعة الفجر, وصلاة الفطر والنحر, وصلاة كسوف الشمس والقمر إذا نزل, وصلاة الاستسقاء متى وجب ].
وهنا ذكر الصلوات المتأكدة, ولم يذكر ما يتعلق بالسنن الأخرى من بقية الرواتب, وكذلك النوافل المطلقة, وما يتعلق أيضاً بصلاة الضحى وغيرها من الطاعات المرتبطة بأنواع الصلوات, وذلك لأن هذه الأنواع التي ذكر المصنف هي آكد الصلوات, ويتفق العلماء على أن أفضل النوافل اليومية في اليوم والليلة من الصلوات أفضلها صلاة الوتر, وبعض الفقهاء بعد الصدر الأول يقولون بأن ركعتي الفجر أفضل من الوتر, وهذا خلاف إجماع الصحابة عليهم رضوان الله تعالى أن صلاة الوتر أفضل النوافل اليومية, وركعتا الفجر هي أفضل السنن الرواتب, والوتر هو أفضل النوافل عموماً, يدخل في ذلك الرواتب, ويدخل في ذلك النوافل المطلقة؛ لأن الله عز وجل وتر يحب الوتر.
قال رحمه الله: (وصلاة الفطر والنحر), وهما صلاة العيدين, وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حضرها، وأمر الناس بحضورها, وأمر بإخراج النساء، وذوات الخدور، والحيَّض مع أنهن لسن من أهل الصلاة, وذلك ليشهدن الخير ودعوة المسلمين, أي: يدركهن الخير ولو لم يباشرنه بأنفسهن.
قال رحمه الله: (وصلاة كسوف الشمس والقمر إذا نزل) لأن هذه الصلوات منها صلوات الآيات وهي كسوف الشمس وخسوف القمر؛ وذلك لأنها من فروض الكفايات, فيقوم بها البعض وتسقط عن الباقين, وكذلك أيضاً لكونها من صلاة الجماعات, وصلوات الجماعات هي آكد من صلوات الأفراد.
قال رحمه الله: (وصلاة الاستسقاء متى وجب), يعني: متى احتيج إليها, فإنها متأكدة, ويجب على الناس إذا وقع فيهم جدب أن يتوجهوا إلى الله؛ لأن الله عز وجل ما مسهم بقحط إلا ليرجعوا إليه, فإذا أعرضوا عنه كان في ذلك إظهاراً للاستغناء عن الخالق سبحانه وتعالى, وهو مخالف لأصل تقرير الله عز وجل عليهم الضر أو الجدب, وإنما أراد الله عز وجل بذلك ليختبر عباده, فوجب عليهم أو على بعضهم أن يلجئوا إليه سبحانه وتعالى.
ويظهر والله أعلم أن المصنف رحمه الله إنما ذكر هذه الأعمال الصالحة؛ لأنه أراد أن يبين المجمل السابق معنا في الإيمان, فذكر أن الإيمان قول وعمل, ثم ذكر المسائل الاعتقادية, ثم أراد أن يفصل ما أجمله في السابق من أمر الإيمان, فذكر أن هذه الاعتقادات إذا اعتقدها الإنسان لكنه ما عمل بمقتضاها من العبادة والتدين لله سبحانه وتعالى فإن هذا لا يكفيه ولا يحقق إيمانه, فلا بد من العمل, والعمل هو هذه الأعمال من الصلوات الخمس, ومن الطهارة وغيرها.
ولهذا نجد أن المصنف رحمه الله ذكر الأعمال التي تختص بها شرعة محمد صلى الله عليه وسلم, ولم يذكر الأعمال الأخرى التي تشترك فيها شرعة محمد صلى الله عليه وسلم مع سائر الشرائع, أو تشترك مع الفطر, وذلك مثل إكرام الضيف، والإحسان إلى الجار, وبر الوالدين, وصلة الأرحام, وإغاثة الملهوف, هذه أمور تدل عليها الفطرة وسائر الشرائع, فهو لم يذكرها هنا؛ لأنها مستقرة في الفطر ومستقرة في سائر الشرائع, لكن الذي يثبت الإيمان هو العمل الذي اختصت به شريعة محمد, وهو الذي أجمله المصنف في قوله: (الإيمان قول وعمل), فذكر أمور الاعتقاد وهي الأمور الباطنة, وبقي الأمور الظاهرة، فأشار إليها المصنف على سبيل الإجمال هنا, فذكرها بنوعيها: الأفعال, والتروك, والأفعال هي الأمور التي ذكرها المصنف رحمه الله: كالطهارة، والصلوات، والزكوات، والحج، والصيام, ثم النوافل: ما كان من الوتر, وركعتي الفجر, وصلاة الفطر والنحر, وصلاة الكسوف والخسوف, وصلاة الاستسقاء متى وجب, يعني: هذه من أمور الأعمال التي اختصت بها شرعة محمد صلى الله عليه وسلم, وهذا يؤيد ما سبق تأكيده أن المراد بالعمل الذي يصح به الإيمان هو العمل الذي اختصت به شرعة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله: [ واجتناب المحارم، والاحتراز من النميمة والكذب والغيبة والبغي بغير الحق, وأن يقال على الله ما لا يعلم, كل هذا كبائر ومحرمات ].
يقول رحمه الله: (واجتناب المحارم), ذكر ذلك على سبيل الإجمال بعدما ذكر الواجبات؛ لأنه قال في السابق: (على أداء فرائضه), من جهة العمل, ثم ذكر الأمور المحرمات التي يمسك عنها الإنسان, قال: (واجتناب المحارم), سواء كان ذلك من الأمور الظاهرة, قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33], فهذه من المحرمات التي يمسك عنها الإنسان, سواء كان ذلك من الفواحش الظاهرة والباطنة، أو كان ذلك من الإثم والبغي على الناس والظلم بأخذ أموالهم، أو ضرب أبشارهم، أو سفك دمائهم, أو كان ذلك أيضاً من البغي والعدوان، وقيده الله سبحانه وتعالى بغير الحق, ثم ذكر الشرك بالله سبحانه وتعالى لعظمه, وبشاعته، ولكونه أعظم الذنوب، والافتراء على الله سبحانه وتعالى؛ لأنه منازعة لله جل وعلا في شرعته سبحانه وتعالى.
قال رحمه الله: [ والتحري في المكاسب, والمطاعم, والمحارم, والمشارب, والملابس, واجتناب الشهوات, فإنها داعية لركوب المحرمات ].
وهذا كما هو معلوم أن أكل الحرام بوابة لفعل الفواحش, فإذا وجد أكل المال المحرم غالباً في مجتمع واشتهر، فإن هذا بوابة لأمر الفواحش, فتطييب الكسب سبيل لتطييب العمل, ومسلك لتحقيقه أيضاً.
وقوله رحمه الله: (والتحري في المكاسب, والمطاعم, والمحارم, والمشارب, والملابس, واجتناب الشهوات), وذلك أن الإنسان إذا تحرى مالاً صالحاً، فإنه من باب أولى سيتحرى لأمر فعله, فإن النفوس تتشوف إلى المال والمزايدة والمكاثرة في ذلك, فإذا ضعف القلب من جهة المال، فإنه يضعف فيما عدا ذلك, فيتحقق البغي، والظلم، والحقد، والحسد لوجود المغالبة في جانب المال؛ لأن الذنوب والمحرمات التي تتعلق ببني آدم أعظم من غيرها من وجه, لا بتعظيم مطلق ولكن من وجه.
ولهذا نقول: إن الظلم على نوعين:
ظلم الإنسان لنفسه, وظلم الإنسان لغيره.
ظلم الإنسان لنفسه فيما يتعلق بحق الله سبحانه وتعالى, وأعظمه الإشراك مع الله عز وجل غيره, ثم المحرمات التي لا تتعلق بحق العباد, وذلك من التفريط بالواجبات أو فعل المحرمات, فمن التفريط في الواجبات مثلاً تقصير الإنسان بصيام رمضان أو الحج, هذا حق بين الخالق والمخلوق لا علاقة لبقية المخلوقين به, ومنه ما يكون من فعل المحرمات؛ وذلك كشرب الخمر؛ لأنه حق لازم بين الخالق والمخلوق, ولا علاقة للمخلوقين به.
النوع الثاني من المظالم: ظلم الإنسان لغيره, وهذا أعظم من تلك الأنواع من وجه, وذلك أن الدينار والدرهم الذي يكون حقاً لبني آدم لا يغفره الله عز وجل وهو شيء يسير, مهما فعل الإنسان من الطاعات, وأعظم الأعمال عند الله سبحانه وتعالى بعد الإيمان أن يذهب الإنسان مجاهداً بنفسه وماله ولا يرجع من ذلك بشيء، ومع ذلك يغفر الله عز وجل له كل الذنوب إلا الدين؛ لأنه يتعلق بحق الآدمي, هذا قضاء قضاه الله سبحانه وتعالى.
ويدخل في هذا سائر حقوق الناس؛ كاللطم, والقتل, وغصب الأموال, وغير ذلك مما يتعلق بحقوق الناس، فلا بد فيه من القصاص, أو إعادة الحقوق إلى أهلها, أو الاستحلال, لهذا نقول: إن الله عز وجل يغفر الشرك لصاحبه إذا تاب منه, ولا يمحو الله سبحانه وتعالى حق الآدميين وإن تاب الإنسان مدى الدهر.
وعلى هذا لو قيل بأن الإنسان إذا تاب من حقوق الآدميين -كالسرقة مثلاً- عليه أن يعلن التوبة، ويسقط حق الناس بالتوبة, بل نقول: تبقى ذمة الإنسان مشغولة حتى يعيد المال إلى صاحبه, فلا ينفع في ذلك استغفار أو توبة، لأن الله قضى على نفسه سبحانه وتعالى أن يتقاضى الناس في الدنيا أو يتقاضون عنده الحقوق التي كانت بينهم.
وثمة حالة تستثنى في الحقوق التي تكون بين الآدميين, وهي أن الإنسان إذا أخذ مالاً، ولم يستطع إعادته, وهو حريص على ذلك, يرجى أن يؤدي الله عز وجل عنه؛ لأنه جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه, ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ), فالذي يستدين بنية حسنة, وبذل الوسع في إعادته فتعذر عليه ذلك, وحرص على إعادتها، ولكن لم تتهيأ له الأسباب يرجى له أن يؤدي الله عنه، ولكن الأصل أن ذمته مشغولة بما يتعلق بحقوق الآدميين, ويبقى ظلم الإنسان لنفسه بنوع الشرك هو أعظم الذنوب على الإطلاق؛ لأن الله عز وجل لا يغفره للإنسان إذا مات عليه ولم يتب, فيكون من أهل النار خالداً مخلداً فيها, عافانا الله عز وجل وإياكم من ذلك, أما الحقوق التي تكون بين الآدميين من الدماء، أو الجراحات، أو كذلك ما يكون من الأموال، فإن الله عز وجل لو اقتصها من عباده فقد يعذبهم بذلك لكن مآلهم إلى الجنة بخلاف المشرك فإنه لا يخرج من النار, حمانا الله وإياكم.
قال رحمه الله: [ فمن رعى حول الحمى فإنه يوشك أن يقع في الحمى ].
وهنا حذر من الشبهات التي تكون بين الحلال والحرام, يجهلها الإنسان, فعلى الإنسان أن يبتعد منها, وهي تختلف وتتباين, فمن جسر على أولها جسر على الذي يليه حتى ويقع في الحرام, ولهذا جاء في حديث النعمان بن بشير كما في الصحيحين قال عليه الصلاة والسلام: ( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات, فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه, ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى... ) الحديث, فالإنسان إذا تجرأ على الشبهات أخذ خطوة، ثم التي تليها، ثم جسر عليها, فمن أغلق باب الشبهات على نفسه يحميه الله عز وجل من الحرام؛ لأنه ما قرب من حماه وما هو دونه فإن الله عز وجل يعصمه مما عدا ذلك.
ولهذا نقول: إن للمحرمات خطوات يسلكها الشيطان مع الإنسان لإغوائه, كما قال الله عز وجل: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168], فالشيطان يقود الإنسان إلى خطوات الشر على سبيل التدرج حتى يصل, فإذا كان بعيداً في دائرة الواجبات والفرائض أخذ يجره إلى ترك المستحبات أو الوقوع في المكروهات, وإذا كانت قدمه عند المكروهات جره إلى الوقوع في الشبهات، ثم الوقوع في المحرمات, فينظر إلى أي خطوة هو فيها يجره للتي يليها, ولهذا يسول الشيطان للإنسان بحسب منزلته ومقامه, فمن كان من أهل الاحتياط سول له أن الواجب فيه خلاف, فلا يجعله محرماً ولا يجعله مباحاً، بل يأتيه لينزله مرتبة في ذلك, فيتدرج فيه, وإذا كان يتعبد ويكثر من المستحبات جاءه بالتراخي في هذا.
ولهذا نقول: أول ما يبتدئ الشيطان بالصالحين هو الإكثار من المباحات, وإذا قوي عليهم في أمر المباحات جسرهم على المكروهات, فإذا جسرهم على المكروهات أوقعهم في المحرمات, وهذه هي خطوات إبليس في التدرج في ذلك, لهذا ينبغي للإنسان أن يعلم أنه لكل باب خطوة, وما من أمر محرم إلا وله أشياء توصل إليه, فحمى الله عز وجل الإنسان وأغلق عليه مبادئها, والشيطان يشجع الإنسان على تلك المبادئ حتى يصل إلى النهاية؛ لأن الشيطان لا يريد من الإنسان مثلاً البغي، أو الغيبة، أو النميمة, ولكن يريد أن تقع الشحناء, ثم تقع البغضاء, ثم تقع الخصومة, ثم النزاع, ثم القتال, ثم القتل, وهي خطوات يتدرج فيها, لذا حمت الشريعة هذه الكبيرة, كذلك أيضاً ما يتعلق بالزنا من جهة النظر, ومن جهة الخلوة, ومن جهة الاختلاط, ومن جهة السفور والتبرج وغير ذلك, خطوات توصل إلى تلك النقطة, ولهذا الله سبحانه وتعالى حمى ذلك الأصل.
وهذه الأشياء حرمت لا لذاتها, ولهذا أباحها الله سبحانه وتعالى في مواطن منها: الرجل مع أخته, ومع أمه, ومع بنته, ونحو ذلك, فهي مباحة، لأن مثل هذه الأشياء لا توصل لهذا الأمر, ولو كانت محرمة لذاتها لحرمها الله سبحانه وتعالى على الجميع, ولهذا يتدرج الشيطان مع الإنسان في مثل هذا حتى يقوم بإغوائه شيئاً فشيئاً.
ولهذا نقول: إنه ينبغي للإنسان أن يحمي الكبائر بالصغائر، كما حماها الله سبحانه وتعالى, وأن يحمي الواجبات بالمستحبات, وإذا أردت أن لا تدع الصلاة فاحرص على الرواتب, وإذا حرصت أن لا تدع الرواتب فاحرص على النوافل المطلقة؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يدع الرواتب التي قبل الصلوات إلا إذا كان ليس له حظ من النوافل المطلقة, ولا يمكن لأحد أن يدع الفريضة إلا وهو لا يقيم للرواتب نافلة, وهذه قاعدة, وانظروا فيها, فإنه ينبغي للإنسان إذا أراد أن يحمي شيئاً أن يتسع، ويضع حائطاً قبله؛ لأنه لو تجاوزه سيتجاوزه يسيراً, وإذا ترك شيئاً من الصلاة سيدع نافلة, ولهذا يبدأ الشيطان بالإنسان بترك النوافل المطلقة, فإذا فك هذه العقدة بدأ بالرواتب, وإذا فك عقدة الرواتب بدأ بالوتر, وإذا فك الوتر بدأ بالفرائض بحسب مقدوره, وهذه سياسة إبليس تعاكسها السياسة الربانية في ذلك, فينبغي للإنسان أن يسوس نفسه بالحق كما يسوسه الشيطان بالباطل.
قال رحمه الله: [ فمن يسر لهذا فإنه من الدين على هدى, ومن الرحمة على رجاء. وفقنا الله وإياك إلى سبيله الأقوم, بمنه الجزيل الأقدم, وجلاله العلي الأكرم, والسلام على من قرأ علينا السلام, ولا ينال سلام الله الضالين, والحمد لله رب العالمين ].
ختم المصنف رحمه الله هذه الرسالة بالدعاء, بالامتنان للخالق سبحانه وتعالى بمنه وفضله وكرمه, وكذلك بين أيضاً منزلة من استمسك بهذه العقيدة الحقة, التي هي على الهدى والنور والرحمة المنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم دعا أيضاً للسائل لذلك, لتسببه ببيان هذه العقيدة، وخروجها منه، وبيانها للحق, ثم بين منزلة من كان على هذه العقيدة عند الله سبحانه وتعالى, وختم ذلك أيضاً بالسلام على من قرأ عليه السلام, أي: خصه بذلك, قال: ولا ينال سلام الله الضالين, وذلك لأن الله سبحانه وتعالى حرم السلام على من لم يكن من أهل الإسلام, وكأنه ختم الرسالة بالبراءة من أهل البغي والطغيان والشرك, وهذا من بدائع التصنيف, أن بدأ هذه العقيدة ببيان الإيمان ووجوهه, وختمها بالبراءة من الضالين, الذين سلكوا منهج الشيطان الرجيم، من اليهود والنصارى والمشركين والملحدين وأهل الضلال والزيغ، ممن كفر بالله سبحانه وتعالى, أو ابتدع وأحدث في دين الله عز وجل ما ليس منه.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما سمعنا, وأن يبصرنا ما جهلنا, وأن يجعل عملنا وقولنا خالصاً لوجهه الكريم, إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى والله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر