الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فنحن في هذا المجلس نتكلم على مسألة مهمة، وقضية جليلة القدر، وهذه القضية تتعلق بركن من أركان الإسلام، ومسألة جليلة قد أمر الله سبحانه وتعالى بها في جميع الشرائع السابقة، وقد أمر بها كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهي: إقامة الصلاة.
والصلاة لها مسائل متعددة، وأحكام متنوعة ينبغي لكل مسلم أن يتفقه وأن يتبصر فيها، وهذه المسائل يعلمها كثير من الناس على جهة الإجمال، ولكن يجهلون شيئاً من التدليل، أو يجهلون شيئاً من التفصيل، أو ربما شاع واشتهر عند كثير من الناس جملة من المسائل المرجوحة في أحكام الصلاة، ومضى عمل الناس عليها، والسنة في ذلك على الخلاف؛ لهذا كان من المهم أن يتفقه العامة والخاصة بأحكام هذه الصلاة.
ونحن في هذا المجلس نتكلم على أحكام الصلاة وشيء من مقدماتها على سبيل الإجمال، وذلك لأهميتها، وجلالة قدرها.
ويكفي أن الله سبحانه وتعالى أمر بها جميع أنبيائه، وجعلها شرعة ظاهرة من العبادات التي تدل على توحيد العابد لله سبحانه وتعالى؛ لهذا لما كانت الصلاة من أظهر وجوه التوحيد الظاهر لله جل وعلا كان صرفها لغير الله جل وعلا من أظهر وجوه الشرك؛ لهذا كان أكثر ما يصنعه الجاهليون في جاهليتهم من مظاهر الشرك: السجود لغير الله جل وعلا كالسجود لشجر أو حجر أو صنم أو كوكب وغير ذلك، وهذا دليل على أهمية الصلاة، سواء كانت سجوداً منفرداً، أو كانت بمعناها العام بالتوجه بالدعاء لغير الله جل وعلا، وهي داخلة في عموم هذا اللفظ.
الصلاة قد جعلها الله جل وعلا ركناً من أركان الإسلام كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير ما خبر، كما جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً )، وجاء هذا أيضاً حينما صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام بالصلاة قارناً لها بالتوحيد، حينما سأله جبريل كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة ، وفي مسلم من حديث عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى أن جبريل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، إن استطعت إليه سبيلاً ).
ولأهمية الصلاة كان الصحابة عليهم رضوان الله تعالى يبينون منزلتها، وكذلك جاء بيان منزلة عاملها عند الله سبحانه وتعالى في نصوص كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن الله جل وعلا قد صدرها في أول قائمة العبادات العملية البدنية؛ وذلك لما لها من مكانة عظيمة جليلة القدر، ويكفي في ذلك أن الشارع الحكيم ما نص على أن ثمة شيئاً من الأعمال إذا تركه الإنسان من أعمال الإسلام يكفر به من الأعمال البدنية إلا الصلاة، وهذا ظاهر في جملة من الأحاديث الواردة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكفي في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث جابر بن عبد الله قال: ( بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ) وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً -كما في السنن وغيرها- من حديث بريدة أنه قال: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ).
والصلاة هي الفيصل بين المؤمن والكافر، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتنون بها عناية بالغة، حتى في أحلك الظروف وأصعبها، ويكفي في هذا أن الشارع الحكيم أوجبها على الإنسان حتى في حال الخوف، فإذا كان في حال الخوف، وفي وجاه العدو، وفي جبهة من الجبهات فإنه يحرم عليه أن يفوت أداء هذه الصلاة، ويجب عليه أن يؤديها متى استطاع وأمكنه ذلك؛ ولهذا شرع في الإسلام صلاة الخوف، وهي على صور وأحكام متعددة، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكدون عليها، وكذلك يظهر من عملهم الحرص عليها، كما جاء عند عبد الرزاق من حديث عبيد الله بن عبد الله عن عبد الله بن عباس أنه قال: لما طعن عمر احتملته أنا ونفر من الأنصار حتى أدخلناه منزله، فلم يزل في غشية واحدة حتى أسفر، فقال رجل: إنكم لن تفزعوه بشيء إلا بالصلاة، قال: فقلنا: الصلاة يا أمير المؤمنين! قال: ففتح عينيه، ثم قال: أصلى الناس؟ قلنا: نعم، فقال: أما إنه لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فصلى وجرحه يثعب دماً. والمراد من هذا أنه في هذه الحال لم يفوت الصلاة، كذلك أصحابه لم يفوتوا عليه الصلاة، فقالوا: إنه جريح وضرير، وينبغي له أن يرتاح وأن يدع الصلاة، وأن يفوتها لهذه الحال للضرورة، ولكن حرصوا على ذلك.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين أنها النجاة والنور للإنسان يوم القيامة كما روى الإمام أحمد و ابن حبان و الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من حافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بها كن له نوراً ونجاة وبرهاناً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا نجاة ولا برهاناً يوم القيامة، وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف )، والمراد من هذا أن الإنسان إذا حشر مع كافر فالأصل أن له حكمه، وأنه إذا حشر مع مؤمن فله الحكم كذلك.
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكى عنهم الإطباق والإجماع أنهم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة كما روى ذلك الترمذي من حديث عبد الله بن شقيق.
كذلك كان التابعون كما روى محمد بن نصر المروزي من حديث أيوب بن أبي تميمة أنه قال: ترك الصلاة كفر لا نختلف فيه. وقد حكى غير واحد من العلماء أن تارك الصلاة كافر، على خلاف عند جماعة من العلماء من المتأخرين: هل هذا الكفر هو من الكفر الأكبر المخرج من الملة أو من الكفر الأصغر؟.
ومن الأمور المهمة التي ينبغي أن يقدم بها في مسألة الصلاة هي: ما يتعلق بطهور المؤمن ووضوئه، فنتكلم على شيء سريع في أحكام الوضوء؛ وذلك لأهميتها، ويكفي في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤكد ويحث أصحابه ويجعل الصلاة لا تقبل إلا بطهور كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح قال: ( لا يقبل الله صلاة إلا بطهور، ولا صدقة من غلول ) والمراد من ذلك أن الرجل إذا أدى الصلاة من غير طهارة فإنه لا يتقبل منه.
وثمة أمر مهم أيضاً ينبغي أن يعلم وهو: أن الوضوء للصلاة من الأمور التي يتفق عليها العلماء، ولا خلاف عندهم فيها، وهي من المسائل الضرورية المعلومة من دين الإسلام بالضرورة، ومن جهل شيئاً منها فيجب عليه أن يتعلم وأن ترفع عنه تلك الجهالة بالعلم.
ومن جحد وجوب الوضوء في الصلاة فقد كفر، ولا خلاف في ذلك؛ وذلك أن الوضوء لا تصح الصلاة إلا به، وما لا يصح الشيء إلا به أخذ حكمه، وهذا بالاتفاق عند العلماء وكان هذا الشيء من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، فحكم الوضوء هو كحكم الصلاة من جهة الجحود والنكران، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على الوضوء، حتى إنه كان يتوضأ لكل صلاة كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس بن مالك: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، قال: وكنا نصلي الصلوات الخمس بوضوء واحد )، وكان يحث أصحابه في ابتداء الأمر أن يتوضئوا لكل صلاة، ويأمرهم بذلك عليه الصلاة والسلام كما جاء في حديث عبد الله بن عمر عند أبي داود (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر الناس بالوضوء لكل صلاة، فلما شق عليهم أمر بالسواك عند كل صلاة)، وكان عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى يجد قوة ويتوضأ لكل صلاة، حتى إن الصحابة إذا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاتين أو أكثر بوضوء واحد، فإنهم ربما استنكروا ذلك؛ لأنهم قد اعتادوا من فعله عليه الصلاة والسلام أنه يتوضأ لكل صلاة، كما جاء في عام الفتح حينما فتحت مكة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس بوضوء واحد، فأتاه عمر بن الخطاب فقال: ( يا رسول الله! إنك صنعت شيئاً لم تكن تصنعه من قبل؟ فقال: عمداً صنعته يا عمر! ) والمراد من ذلك أن الإنسان إذا توضأ بوضوء سابق فإن هذا أمر حسن، إذا لم ينقض وضوءه، وإذا توضأ لكل صلاة فهو أحسن وأتم وأكمل، وهذا مما لا خلاف فيه.
والإنسان إذا أراد أن يتوضأ -وعليه وضوء سابق- فإنه لا يقال إنه يجب عليه أن يستنجي أو يستجمر؛ وذلك أنه لا صلة بين هذا وهذا، بل يقال: إنه يتوضأ ظاهراً وكفى، كذلك فإن الاستنجاء والاستجمار لا يكون إلا من الخارج من السبيلين من البول والغائط، وأما ما كان من غيرها من الريح فإنه لا يجب فيه الاستنجاء والاستجمار.
والإنسان في وضوئه يهتدي بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتأكد في حق المتوضئ أن يعمد إلى وضوء طاهر تتحقق فيه الأوصاف، سواء كان ماء بحر أو ماء نهر أو بئر، والأصل في المياه الطهارة ما لم يتغير أحد أوصافها الثلاثة: الريح والطعم واللون بالنجاسة التي تحدث فيها، أو بالمجاورة على قول عامة العلماء.
وكذلك من الأمور المهمة: أن يهتدي المسلم بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعله، وبفعل أصحابه وما اشتهر واستفاض عنهم.
ويتأكد في حق الإنسان إذا أراد أن يتطهر أن يذكر اسم الله؛ فقد ثبت هذا عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله، وقد جاء في ذلك جملة من الأحاديث المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كحديث أبي هريرة وغيره، ولا يصح في هذا الباب شيء من جهة الأمر، لكن جاء في ذلك جملة من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يصح وضوء من لم يذكر اسم الله عليه، وجاء في هذا جملة من الأخبار بألفاظ متنوعة، ولا يصح منها شيء، ولكن الثابت في ذلك عمل الصحابة كما جاء عن عبد الله بن عمر كما قال ذلك الإمام أحمد و أبو حاتم وغيرهم، فيتأكد في حق الإنسان أن يذكر اسم الله عند وضوئه؛ وذلك أن الوضوء من الأفعال التي هي ذات بال، فينبغي للإنسان أن يذكر اسم الله عليها لعموم الأخبار؛ وكذلك لفعل السلف الصالح في ذلك، ومن تركها فوضوؤه صحيح عند عامة العلماء.
وكذلك أن يفعل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة وضوئه، فيبدأ بغسل كفيه، ويغسل الكفين ثلاثاً، وأما بالنسبة لغسل الإنسان لكفيه فإنه لا يخلو من حالين: إما أن يكون مستيقظاً من نوم، فإنه يتأكد في حقه تأكداً زائداً أن يغسل يديه ثلاثاً؛ وذلك لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة أنه قال: ( إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده )، ومن العلماء من يقيد ذلك بنوم الليل، ومنهم من يقده بنوم النهار، والذي يظهر -والله أعلم- أن الأمر متعلق بالليل والنهار؛ وذلك أن العلة تلحق بالنومين؛ وذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: ( لا يدري أين باتت يده ) ومبيت اليد وفقدانها يفقد الإنسان حاله في ذلك سواء كان في نوم ليل أو نوم نهار.
وإنما علق الأمر بالليل فذكر البيتوتة هنا، فقال: ( لا يدري أين باتت يده )؛ لأن الغالب من أحوال الناس أنهم لا ينامون إلا بالليل؛ لأنهم أصحاب كد وكدح في النهار، فينامون ويبكرون في نومهم، فينامون قريباً بعد صلاة العشاء هذه عادتهم أنهم ينامون هذا الوقت، وهذا يدل على أنهم يكتفون بنوم الليل، وربما ناموا وقالوا، وهذا شيء يسير يفعله بعضهم ولا يفعله كلهم، فجاء النص بتعليق ذلك الأمر بالأغلب وهو نوم الليل.
وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالاستنثار عند الاستيقاظ من النوم ثلاثاً؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام معللاً ذلك قال: ( فإن الشيطان يبيت على خيشومه ) وهذا فيه إشارة إلى تأكيد الاستنثار عند الاستيقاظ من النوم مع غسل اليدين.
وكذلك فإن الإنسان في ذلك إذا لم يجد ماء فإنه يتيمم، وهذا الأمر فيه تيسير للأمة ورحمة وشفقة بها، فيتوضأ الإنسان بوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم: يغسل يديه ثلاثاً، ثم يتمضمض ويستنشق من كف واحدة، والمراد من كف واحدة أنه لا يفصل بينها، فيأخذ كفاً للمضمضة، وكفاً للاستشناق، بل يأخذ كفاً واحدة يمرها على فمه فيتمضمض، ثم الباقي من ذلك يجعله للاستنشاق، والاستنشاق هو أن يجذب الإنسان ماء إلى أنفه ثم يخرجه عن قصد، فيكون الأول الاستنشاق، والثاني هو الاستنثار، والاستنثار لازم للاستنشاق، والاستنشاق لا يلزم منه الاستنثار؛ فإن الإنسان قد يستنشق شيئاً، ثم يدعه يخرج من تلقاء نفسه من غير دفع، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الاستنشاق والاستنثار؛ تطييباً لحال الإنسان في وضوئه وطهوره، كذلك فإنه يتأكد في حق الإنسان أن يتمضمض، وأن يبالغ في المضمضة والاستنشاق كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسند والسنن أنه قال: ( أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائماً ) فيستثنى الصائم؛ خشية أن يتخلل وضوءه فيتسلل الماء إلى جوفه من حيث لا يشعر، فيبطل بذلك صيامه، وهذا من أمور الاحتياط حتى يتحقق للإنسان التعبد الكامل في مسألة الصيام، فيتمضمض ويستنشق من كف واحدة.
ثم يغسل وجهه ويستوعب الوجه، والوجه حده من منابت الشعر في الوجه إلى أسفل الذقن، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن الأخرى، وسمي وجهاً؛ لأن واجه به الإنسان يواجه به غيره، ولا يدخل في ذلك الرقبة، ولا يدخل في ذلك الأذنان ولا الرأس، وهذا من الأمور التي ينبغي ضبطها، فبعض الناس يبالغ في ذلك ربما وصل الماء إلى رقبته، فقام بغسلها، وكذلك غسل الأذنين، وهذا ليس من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والإنسان إذا كان كث اللحية فإنه يتأكد في حقه أن يخللها؛ لعموم تأكيد غسل الوجه، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خلل لحيته في خبر من الأخبار، وقد جاء في ذلك في المسند وكذلك السنن من حديث عثمان بن عفان -والحديث فيه ضعف- ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته ) ، وجاء أيضاً في جملة من الأخبار، وفيها ضعف، ولكن جاء ذلك عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين أنهم كانوا يخللون، فيكون التخليل من السنة، كذلك بقياس الأولى إذا كان الشارع الحكيم قد حث على تخليل الأصابع، والأصابع ظاهرة، وكذلك وصول الماء إليها أظهر من وصول الماء إلى بشرة الإنسان إذا كان كث اللحية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخليل الأصابع كما تقدم في حديث لقيط ، كذلك قد جاء في حديث المستورد عند البيهقي وغيره (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يخلل أصابع رجليه بخنصره) فإذا كان ذلك في الأصابع الظاهرة، والإنسان يخللها حتى يصل إليها الماء؛ فإن اللحية من باب أولى، ولكن لا يكون ذلك إلى درجة الغسل، بحيث إن الإنسان يبلل اللحية بالكامل، كحال الإنسان الذي يغتسل، يقال: إن حكم الاغتسال يختلف عن حكم الوضوء.
ثم بعد ذلك يغسل يديه إلى المرفقين، وغسل اليدين إلى المرفقين يكون من أطراف الأصابع إلى المرفقين، كما كان ظاهر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإدخاله المرفقين في الغسل هذا من الأمور المتأكدة وهو قول جماهير الفقهاء، ومن العلماء من قال: إن ذات المرفق لا يدخل في ذلك، وهو الغاية التي يتوقف عنده الإنسان، والصواب في ذلك: أنه يغسله؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام غسل يديه إلى المرفقين، وهذا هو ظاهر الآية إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] إشارة إلى دخولها، وهنا غائية تغني: حتى يبلغ، ومن لم يبلغها فإنه لا يقال: إنه قد بلغ كذا، وإنما قرب منها.
وغسل اليدين يكون من أطراف الأصابع، وثمة خطأ يقع فيه كثير من الناس أنه يبدأ غسل اليدين من مفصل الكف إلى المرفق، ويقول: اكتفي بالغسلة الأولى للكف، يقال: إن الغسلة الأولى سنة، والغسلة الثانية التي هي من أطراف الأصابع إلى المرفقين هذا من الأمور الواجبة، ولا خلاف عند العلماء في ذلك.
وينبغي للإنسان أن يأخذ لكل عضو ماء جديداً كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، إلا ما كان مشتركاً ودل الدليل عليه، كمسألة المضمضة والاستنشاق فيما تقدم الكلام عليه، كما جاء في حديث عبد الله بن عباس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمضمض ويستنشق من كف واحدة )، أي: أنه لا يفصل بينها، والحديث الذي فيه الفصل حديث ضعيف، وهو حديث ليث بن أبي سليم عن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفصل بين المضمضة والاستنشاق ).
كذلك من الأمور المهمة التي ينبغي للإنسان أن يكون على بينة فيها في مسائل الطهارة: أنه يتأكد في حقه أن يمسح رأسه بماء جديد، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل كما جاء في صحيح الإمام مسلم ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ لرأسه ماء غير الماء الذي أخذه ليديه ) ، بعض الناس حينما يغسل اليدين -ولقرب الرأس منها، والرأس ممسوح، واليدين مغسولة- يقوم بمسح رأسه ببقايا الماء الذي في اليدين، يقال: إن هذا خلاف السنة، ولو فعله أجزأ، ولكن الأولى أن يأخذ ماء جديداً، فيقوم بمسح رأسه.
وأما مسح الأذنين فهو تبع لغسل الرأس، وأما بالنسبة لمسح العنق فلا يثبت في مسح العنق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء، سواء القذال -وهو آخر الرأس من الخلف، وهو العنق من الخلف- أم مسح العنق من الأمام؛ فكل ذلك لا يستحب غسله، وقد جاء في ذلك عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى، وجاء أيضاً عن بعض السلف، ولا دليل على ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل هذه الأمور لو جاء فيها الدليل، أو فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لورد بأصح الأسانيد؛ للحاجة الماسة إليه؛ فإن هذا من الأمور التي تعم بها البلوى، ويفعلها الإنسان في كل يوم وليلة مرات.
فينبغي للإنسان أن يمسح رأسه وأذنيه بماء واحد، ويكون ذلك مسحاً لا يكون غسلاً.
وأما مسح الأذنين فجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الإجمال، وجاء فيه جملة من الصفات أن النبي مسح الأذنين، ولا يثبت في صفة مسح الأذنين شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء في ذلك جملة من الأحاديث أنه يمسح ظاهرهما وباطنهما، جاء هذا في بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في حديث المقدام بن معدي كرب ، وجاء أيضاً في حديث عبد الله بن عباس وغيرهما، ولكن هذه الأحاديث كلها معلولة، ولكن يقال: إن مسح الرأس واجب -وهو ركن من أركان الوضوء- وأما مسح الأذنين فسنة، وهذا محل اتفاق عند العلماء، ولم يخالف في ذلك -فيما أعلم- إلا بعض التابعين من متأخريهم، ومن ترك مسح الأذنين متعمداً أو ناسياً فوضوؤه صحيح، ومن تركه متعمداً فقد خالف السنة، والسنة في ذلك أن يمسح الأذنين، وقد جاء في ذلك ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل أصبعيه في سماخ أذنيه )، والحديث في ذلك أيضاً ضعيف، ولكن يمسح الإنسان الباطن والظاهر حتى يتحقق في ذلك المسح.
ويجزئ من الرأس أن يمسح الإنسان بعضه -على خلاف عند العلماء في القدر المجزأ في ذلك- والأولى في هذا أن يمسح الإنسان أكثره، أو يستوعبه كله كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل كما جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بيديه فأقبل بيديه وأدبر ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه )، إشارة إلى أنه مسح رأسه ذهاباً وإياباً، إشارة إلى الاستيعاب والتأكيد، وأنه ينبغي للإنسان أن يستوعب العضو، وأما الإنسان الذي يمسح بعض الرأس كالذي يكون عليه عمامة أو طاقية أو قبعة فيمسح فيزيلها، ثم يمسح إلى نصف الرأس ولا يوصله إلى الخلف فوضوؤه في ذلك مجزأ، وقد جاء عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى أنه مسح اليافوخ فقط، يعني: اكتفى بمسح اليافوخ عن بقية الرأس، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح ناصيته حينما كانت له عمامة، وقد جاء هذا في حديث أنس بن مالك، ولكن يقال: إن هذا متعلق بحال الإنسان إذا كان عليه عمامة.
ويمسح الرأس والأذنين مسحة واحدة، وأما بقية الأعضاء فينبغي للإنسان أن يغسلها ثلاثاً هذا أعلى المراتب، ولا يزيد في ذلك من غير سرف، والسنة في هذا أن يغسلها ثلاثاً، فقد ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثلاثاً ثلاثاً )، وقد جاء عنه أنه توضأ مرتين مرتين، وجاء عنه أنه توضأ مرة مرة، كما جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس ، وإن زاد على ثلاث فقد أساء وبالغ وغلا، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في المسند والسنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي عليه الصلاة والسلام توضأ ثلاثاً ثلاثاً، فقال: ( من زاد على هذا فقد أساء وظلم ) يعني: أن الإنسان إذا زاد عن ثلاث غسلات في وضوئه فقد أساء وخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وظلم، أي: ظلم غيره بأحقيته بهذا الماء الذي أسرف فيه، والسنة في ذلك أن يكتفى بالقدر الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك بعد مسحه للرأس يغسل القدمين إلى الكعبين، ويحتاط في هذا ألا يبقى من مواضع أعضائه شيء؛ فإن الإنسان إذا بقي منه شيء ولو لمعة يسيرة فإنه يتأكد في حقه أن يعيد الوضوء، وأن يحسن وضوءه، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر بن عبد الله ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً على قدمه مثل اللمعة قدر الظفر لم يصبها الماء، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحسن الوضوء )، ومعنى الإحسان أنه يأتي إلى هذه البقعة ويقوم بوضع الماء عليها.
وينبغي الإشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يرتب بين الأعضاء كما جاءت في القرآن وجاء في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة وضوئه في حديث عثمان وحديث علي بن أبي طالب ، وأن لا يقدم عضواً على آخر؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم رتب أفعال الحج في الصفا والمروة، فقال: ( أبدأ بما بدأ الله به ) كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح، وكذلك في سنن النسائي، وجاء في لفظ: ( ابدؤوا بما بدأ الله به ).
والمراد من هذا أنه ينبغي للإنسان أن يلتزم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في طهارته، وكذلك في أدائه العبادة؛ فإن هذه الأمور هي من الأفعال التعبدية وليست من أفعال العادات التي يخير الإنسان بالصيغة الأصلح في ذلك، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حسم هذا الأمر، وأمر بالاقتداء والاهتداء بسنته، والأمر في هذا هو منه ما كان على الاستحباب في بعض أفعال الوضوء كالعدد في الوضوء من اثنين أو ثلاثة، والواجب في ذلك أن يكون مرة واحدة لجميع الأعضاء.
قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الألفاظ زيادة أنه مسح رأسه مرتين، وجاء فيه ثلاث، وهذه الزيادات زيادات غير محفوظة وشاذة ولا تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أعلم أحداً من الصحابة مسح رأسه أكثر من مرة، وإنما يأتي المسح على سبيل الإجمال، أما إدخال الماء إلى العينين أو الزيادة عن مواضع الوضوء، كأن يبلغ الإنسان ماءه إلى الساق، أو ربما غسل شيئاً من رأسه وناصيته، فيقال: إن الشعر، وأما بالنسبة للوجه فإنه يغسل، والمراد من هذا أن الزيادة على ذلك هي اجتهاد من بعض الصحابة كما جاء عن أبي هريرة وجاء عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى، والسنة في ذلك أن يقوم الإنسان بالعمل الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا انتهى الإنسان من وضوئه فإنه ينبغي له أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أو أن محمداً عبده ورسوله، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذكر ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح، وجاء عنه أنه يقول: ( اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، وينظر إلى السماء )، وهذه المسألة مسألة اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين لا يثبت إسنادها عن رسول الله، والثابت في ذلك أنه يتشهد الشهادتين، وأما النظر إلى السماء فالنبي كان كثيراً ما ينظر إلى السماء، وهو مقترن بالدعاء، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح من حديث أبي موسى ( كان ينظر إلى السماء، وكان كثيراً ما ينظر إليها ) وكذلك ما جاء في صحيح الإمام مسلم ( أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما استطعم رفع بصره إلى السماء، قال المقداد عليه رضوان الله تعالى قال: فخشيت أن يدعو علي، فقال: اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني ) إشارة إلى أن الإنسان إذا نظر إلى السماء فهذا من مواضع الدعاء؛ لهذا يقال: حتى لو كان الإسناد في ذلك ضعيفاً، فإن الإنسان إذا رفع بصره إلى السماء في حال ذكره أو دعائه فإن هذا من الأمور المستحبة، وهي من السنن المهجورة التي يهجرها كثير من الناس في النظر إلى السماء عند الذكر، أو عند الشهادتين ما تمكن من ذلك.
وأحكام الوضوء والطهارة هي من المسائل الكثيرة التي ينبغي أن يرجع فيها إلى مظانها، ولكن هذا هو على سبيل الإجمال، والأصل في كلامنا هنا ما يتعلق بأحكام الصلاة والعناية بها، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عنايتهم في هذه المسألة ظاهرة جليلة، والنصوص في ذلك أيضاً من الكتاب والسنة، ومن آثار الصحابة والتابعين هي كثيرة جداً.
وبالنسبة لمسائل الصلاة وما يتعلق بها فقد تقدمت الإشارة في صدر هذه المحاضرة إلى تأكيد أمر الصلاة، وكذلك النصوص الواردة في كفر تاركها، وهذا دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يحتاط فيها أداء، وكذلك قضاء، وكذلك إعادة، وكذلك ما كان من شروطها من استقبال قبلة، وكذلك الطهارة، حتى يكون الإنسان على براءة منها، وأن يؤديها كما أمر الله جل وعلا وحث.
من المسائل المهمة التي ينبغي للمصلي أن يكون على معرفة بها: أن الإنسان إذا انصرف إلى صلاة الجماعة ينبغي له أن ينصرف بسكينة ووقار، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء من الأدعية في حال ذهاب الإنسان إلى المسجد في طريقه، جاء في هذا في صحيح الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عباس: ( اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً ) والصواب في ذلك أن هذا في دعاء قيام الليل، ومن العلماء من قال: إنه في السجود، ومن العلماء من قال: إنه إذا تعار الإنسان من الليل، وهذا محل خلاف، أما أن يكون عند الذهاب إلى المسجد فجاء في بعض الطرق من حديث محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن عبد الله بن عباس وهو قول مرجوح، والحديث قد أعله في ظاهره: البخاري ، وكذلك الإمام مسلم ، وقد أخرجه البخاري وجعله في غير ذهاب الإنسان إلى طريقه، وهذا هو رأي الإمام مسلم عليه رحمة الله، وقد ترجم البخاري عند هذا الحديث، قال: باب الدعاء إذا انتبه الإنسان من الليل. وما جعله في الذهاب للمسجد.
وأما بالنسبة لذهاب الإنسان إلى المسجد فينبغي أن يكون على السكينة والوقار كما جاء في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ) أي: أنه ينبغي للإنسان أن يمشي مشياً يسيراً، وأن يقارب بين الخطى حتى يعظم في ذلك أجره.
وأما بالنسبة للإسراع اليسير إذا الإنسان خشي فوات الركعة فإسراع يسير لا يرهق الإنسان، وكذلك لا يفوت عليه الخشوع حال حضوره وشهوده للصلاة، فإن هذا قد جاء عن بعض الصحابة كما جاء عند الإمام مالك من حديث عبد الله بن عمر أنه سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي إلى الصلاة، كذلك ما جاء عن عبد الله بن مسعود كما رواه ابن أبي شيبة في المصنف من حديث عمارة بن عمير أن عبد الله بن مسعود قال: أحق ما سعينا إليه الصلاة. وقد نص الإمام أحمد عليه رحمة الله على أنه لا بأس على الإنسان إذا طمع أن يدرك التكبيرة الأولى أن يسرع شيئاً ما لم يكن عجلة تقبح، أي: أنه ينبغي للإنسان ألا يسرع في ذلك إسراعاً يقبح، ولا يليق بوقار الإنسان، كذلك أن الإنسان إذا سعى سعياً شديداً وطال به ذلك فربما حضر إلى الصلاة من غير خشوع، فينشغل باستعادة النفس، وكذلك إزالة الرهق في هذا، وهذا مما لا ينبغي.
ولكن ينبغي للإنسان أن يتعجل وأن يبادر بالصلاة، وأن يدرك التكبيرة، وأما بالنسبة للوجوب فإنه لا يجب على الإنسان حتى يسمع الإقامة، أما قبل الإقامة فهذه منزلة الصالحين الأبرار الأتقياء المرابطين الذين ينتظرون الصلاة إلى الصلاة.
وأما بالنسبة للنهي عن تشبيك الأصابع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذهاب إلى المسجد فقد جاء في ذلك جملة من الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يصح منها شيء.
وينبغي للإنسان أن يقارب بين الخطا حال ذهابه إلى المسجد؛ حتى يكتب له الأجر، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول لبني سلمة حينما أرادوا أن يقربوا من المسجد كما جاء في حديث جابر قال: ( دياركم تكتب آثاركم ) أرادوا أن يقربوا من المسجد فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( دياركم تكتب آثاركم ) أي: أن آثاركم تكتب فلا تفوتوها، وهذه فرصة عظيمة أن يغتنم الإنسان الأجر الصالح في ذلك ولو في الخطوات، والإنسان في هذه الدنيا في مرحلة تكسب، والدنيا مزرعة الآخرة. وأما بالنسبة لحال الإنسان إذا كان يشق عليه المشي إلى المسجد فلا حرج عليه أن يركب، ولا حرج عليه أن يدنو من المسجد، لكن إذا كان يصبر ويستطيع فإنه يتأكد في حقه أن يقارب الخطا، فقد كان جملة من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى يقاربون الخطا يريدون بذلك الأجر كما جاء عند ابن أبي شيبة من حديث ثابت البناني عن أنس بن مالك أنه قال: خرجت مع زيد بن ثابت إلى المسجد قال: فأسرعت المشي، فحبسني؛ لأن إسراع المشي يدل على مد القدم إلى الخطى، فهذا يفوته خطوات، فجعله يمشي قليلاً، وهذا جاء عنه أيضاً في خبر آخر كما جاء عند عبد الرزاق و ابن المنذر أيضاً من حديث ثابت قال: أقيمت الصلاة و أنس بن مالك واضع يده علي. أي: واضع يده على كتفي وهو يمشي، قال: فجعلت أهابه أن أرفع يده عني، وجعل يقارب بين الخطى، فانتهينا إلى المسجد وقد سبقنا بركعة، وقد صلينا مع الإمام، وقضينا ما كان فاتنا، فقال عليه رضوان الله تعالى ثابت قال لي أنس بن مالك : يا ثابت! اعمل بالذي صنعت بك، قلت: نعم، قال: صنعه بي أخي زيد بن ثابت . والمراد من هذا أنه ينبغي للإنسان أن يقارب بين الخطى؛ ليعظم بذلك الأجر، وأن أمره بالمسارعة من الأمور المستحبة، إلا عند الضرورة إذا دنا الإنسان وخشي فوات الركعة، فلا حرج عليه أن يسارع، وقد كان جماعة من السلف يقاربون بين الخطا.
وينبغي للإنسان أن يمشي منتعلاً إلى المسجد، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما جاء في الصحيح على لفظ العموم: ( استكثروا من النعال؛ فإن الرجل لا يزال راكباً ما انتعل ) وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان ينتعل، وكان ربما مشى عليه الصلاة والسلام حافياً.
وينبغي للإنسان أن يحرص على الأذكار حال ذهابه إلى المسجد: من ذكر الخروج من المنزل، وذكر دخوله من المنزل، فهذا من تمام العمل.
وينبغي له أيضاً أن يستحضر النية، وهذا من الأمور التي يغفل عنها كثير من الناس في حال ذهابهم إلى العبادات، فينبغي أن يجمع الأعمال كلها بنية واحدة، فالنبي صلى الله عليه وسلم عند ذهابه إلى عمل كان عليه الصلاة والسلام لا يخلي ذلك كله من نية صادقة؛ لهذا بلغ النبي عليه الصلاة والسلام المرتبة العلية في هذا؛ لهذا يقول العلماء: النية تجارة العلماء. يعني: يكسبون بالعمل القليل ثواباً عظيماً، فيجمعون جملة من الأعمال، فإذا أراد أن يذهب إلى المسجد فيجمع مع النية الأصل وهي أداء الصلاة فيجمع بهذا رؤية الناس والسلام عليهم، وإذا كان فيهم رحم فهو من صلة الرحم، وإذا كان فيهم مريض فهو من عيادة المريض، وكذلك بذل السلام ونحو ذلك، حتى يجمع الله عز وجل له الأجر العظيم في ذلك.
وينبغي للإنسان أن يختار المسجد الأقرب إليه كما كان السلف الصالح في ذلك يؤكدون على هذا؛ فإنهم كانوا يميلون إلى المسجد الأقرب أو المسجد الأقدم، وهذا قد جاء عن أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى؛ وذلك أن المسجد الأقرب أو الأقدم أجمع للناس.
وينبغي للإنسان أيضاً أن يحرص على الجماعة فهي من الأعمال الواجبة التي حث عليها الله عز وجل حيث أمر بالركوع مع الراكعين، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإتيان إلى المساجد، ونهى عن البقاء في البيت مع سماع النداء.
وينبغي للإنسان أن يعمل بالدعاء الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد، كما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث عبد الملك بن سعيد عن أبي أسيد أو أبي حميد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك ).
وينبغي للإنسان أيضاً أن يحرص على هذا الذكر ذهاباً وإياباً، دخولاً وخروجاً.
وأن يقدم رجله اليمنى عند دخوله المسجد، كما جاء عند البيهقي وغيره من حديث أنس بن مالك قال: من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى. وهذا الحديث قد أعله البيهقي، ولكن قد جاء عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى كما جاء في البخاري معلقاً أنه كان يدخل المسجد برجله اليمنى، وقد ترجم على هذا البخاري عليه رحمة الله في كتابه الصحيح، قال: باب التيمن في دخول المسجد وغيره.
وإذا دخل الإنسان المسجد ولم تقم الصلاة بعد فإنه يستحب ويتأكد في حقه أن يصلي تحية المسجد، وهي سنة، وقد حكي الإجماع على سنيتها، وينبغي له ألا يجلس حتى يصلي ركعتين كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ) والمراد من هذا: أن هذا من عمارة المساجد، والمساجد عمرت لأداء العبادة، فينبغي للإنسان أن يبادر إلى ذلك، وإذا وجد الناس قد قاموا فإن الفريضة هي أعظم من النافلة، وهي تجزئ عن تلك العبادة التي نواها الإنسان، وإن نوى وقصد أداء سنة راتبة فإنه يأتيه الأجر إذا كان ذلك من عادته؛ فإن الله عز وجل يكتب له الأجر إن فاته ذلك من غير قصد.
وينبغي للإنسان إذا سمع الإقامة أن يقوم ما لم ير الإمام، فإذا رأى الإمام قد دخل وتقدم فإنه ينبغي له ويتأكد في حقه أن يقوم عند قيام الإمام؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تقوموا حتى تروني ) أي: أنه ينبغي للإنسان إذا أقيمت الصلاة أن يقوم حال سماع الإقامة ما لم ير الإمام، فإذا رأى الإمام فإنه يقوم لرؤيته حتى يتهيأ الناس لتسوية الصف، قد جاء في ذلك كلام الفقهاء وكذلك جماعة من السلف في وقت قيام المأمومين، منهم من قال: عند قوله: قد قامت الصلاة، ومنهم من قال: عند ابتداء الإقامة ونحو ذلك، وهذا كله من مسائل الاجتهاد الذي يأخذونها بدلائل الاقتران؛ فإن الإقامة ما كانت إلا ليتهيأ الناس للصلاة، فيأخذونها بهذا الأمر، وأما التحديد البين الثابت في ذلك القيام عند لفظ معين فإن هذا لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في قوله عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن أبي قتادة عن أبي قتادة أنه قال عليه الصلاة والسلام: ( إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني ) أي: أن الصلاة قد تقام بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتأخر النبي في ذلك لمصلحة، أو لقضاء حاجة، كما قام النبي عليه الصلاة والسلام مع المرأة التي سألته، والناس قيام في ذلك ينتظرونه.
وكذلك فإنه ينبغي أن يعلم أن على الإنسان في حال قيامه للصلاة عند الإقامة أن ينشغل في تسوية الصفوف.
ولا يشرع ذكر معين بعد الإقامة وقبل التكبير، وقد جاء عن بعض الفقهاء من المتأخرين ذكر معين، أو الجهر بالنية، وهذا كله لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بشيء من الأحاديث عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، ما كان يقول: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، أو نحو ذلك، فإن هذا من الأدعية التي يجتهد فيها بعض الفقهاء، ولا دليل على ذلك.
ينبغي للإنسان أن ينشغل بما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من السواك، وكذلك من تسوية الصف، ومتابعة الإمام إذا كبر فيبادر بالتكبير.
وتسوية الصفوف سنة بالاتفاق، ويتأكد في حق الإمام أن يسوي صفوف المأمومين، أما غير تسوية الصف -وهي الفرجات- فإن وضع فرجة في الصف من الأمور المحرمة.
وينبغي للإنسان أن يحرص على أداء الصلوات في أول وقتها، فهذا من الأمور المتأكدة، وهي في وقتها من أوله إلى آخره واجبة، ولا خلاف في ذلك؛ ولهذا قال الله جل وعلا: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] وقد روى ابن جرير الطبري في كتابه التفسير من حديث القاسم بن مخيمرة قال في قول الله جل وعلا: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ [مريم:59] قال: إنما أضاعوا وقتها، ولو كان تركاً كان كفراً.
لهذا ينبغي للإنسان أن يؤدي الصلاة في وقتها الذي أمر الله عز وجل به، وأن من أخرها عن وقتها فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب كما جاء عن عمر بن الخطاب قال: من جمع بين الصلاتين من غير ضرورة فقد أتى كبيرة من كبائر الذنوب.
وينبغي للإنسان أن يحرص على السنن في مسألة الصفوف، وهو أن يكون خلف الإمام، وهذا لا يتحقق في الغالب للإنسان إلا إذا بكر وبادر، وقد حث النبي عليه الصلاة والسلام على أن يكون أهل العقل والعلم والديانة خلف الإمام؛ لهذا قال عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيح من حديث البراء قال: ( ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ) أي: أنه ينبغي للإنسان من أهل الأحلام والنهى والعقل والدين والعلم أن يكونوا في مثل هذا الموضع؛ لأنه هو الذي ينبغي أن يصدر به الناس، كذلك فيه إشارة إلى أنه ينبغي لأهل العقل والعلم أن يتصدروا الناس؛ لأنهم محل القدوة، وإذا تأخر أهل القدوة في ذلك تأخر الناس تبعاً واقتداء بهم؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام حث على ذلك وأكد عليه في أحوال كثيرة.
وكذلك ينبغي أن يعلم أن الأفضل أن يكون الإنسان خلف الإمام، ولو كان يساره يسيراً إذا كان قريباً منه، وأما فضل ميمنة الصف فقد جاء في ذلك بعض الأخبار الموقوفة كما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث ابن البراء عن البراء بن عازب قال: ( كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه يقبل علينا بوجهه ). أي: أنهم يستحبون بذلك لإقبال النبي عليه الصلاة والسلام. فمن العلماء من قال: إن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى يحبون أن يكونوا عن يمين النبي؛ لإقبال النبي بوجهه عليهم، وهذا من خصائصه، وأما غيره فلا؛ فإن المقام هو أفضل والقرب من الإمام أفضل، ولو كان عن يسار الصف، وأما بالنسبة لميمنة الصف وفضلها كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف ) فالخبر في ذلك لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن يقال: إن الصحابة من جهة العمل كانوا يحبون ذلك، وهذا جاء عن غير واحد كما جاء عند ابن أبي شيبة من حديث عطاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: خير المسجد المقام، ثم ميمنة الصف. والمراد بالمقام: هو الذي يكون خلف الإمام، ويسمى بالروضة، وهذا هو السنة التي كان الصحابة عليهم رضوان الله تعالى يحرصون عليها، ثم ميمنة الصف.
وينبغي أيضاً أن تعتدل الصفوف وأن تكون متقاربة من الإمام وأن لا يزيد طرف على طرف، هذا من باب الأولى، ولا أعلم دليلاً في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتدال الصفوف، أن لا تكون جهة أكثر من جهة، فإذا زادت بعدد يسير ونحو ذلك فلا يقال بأهمية ما يسمى بعدل الصفوف أن تكون متساوية بالعدد، ولكن متساوية بالتقارب، لا تزيد زيادة فاحشة في اليمين عن الشمال، وكذلك في العكس.
وينبغي للإنسان أن يستحضر نية خالصة في عمله، وأعظم النيات في ذلك أن يخلص الإنسان النية لله جل وعلا في أمور العبادات كهذا الركن العظيم من أركان الإسلام وهو الصلاة؛ لأن قلب النية إلى غير الله خطر عظيم؛ لأن النية الفاسدة -من الرياء والسمعة- في ركن من أركان الإسلام يختلف عن نية فاسدة في شيء من نوافل العبادات؛ فإن الأجر العظيم قد ينقلب على الإنسان جرماً، وعقاباً عظيماً عند الله سبحانه وتعالى إذا فسدت النية.
ينبغي للإنسان أن يعلم أن النية هي أعظم الأعمال التي يؤجر عليها الإنسان، فربما يعمل الإنسان عملاً قليلاً فيؤجر على ذلك بنيته العظيمة، وربما يعمل عملاً عظيماً فيحرم الأجر العظيم بسبب نيته، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين وغيرهما: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ).
كثير من الناس -من بعض المجتهدين بالعبادة والمتعبدين- ربما يجهرون بالنية، فيقولون: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض. ونحو ذلك، أو ربما ذكر شيئاً من النيات في حال عبادته كأن يقول: بسم الله، موجهاً لبيت الله، مؤدياً لفرض الله، الله أكبر. أو نحو ذلك، أو اللهم إني أنوي أن أصلي لك صلاة الظهر أربعاً. فهذا من الأمور المخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعلم في ذلك خبر عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولا عن أحد من الصحابة، ولا عن أحد من التابعين، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، ورحم الله امرئ انتهى إلى ما قد سمع.
وينبغي للإنسان أن يحرص على أداء العبادة كما جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن آكد الأمور في مثل ذلك: أن يحرص على استقبال القبلة فإن الله جل وعلا أمر بذلك، وهذا محل اتفاق عند العلماء، فمن صلى إلى غير القبلة متعمداً فقد بطلت صلاته، وهذا لا خلاف فيه عند العلماء، إلا في بعض الصور في مسألة النافلة في السفر إذا كان الإنسان يصلي على راحلته، كذلك إذا جهل الإنسان في بعض الصور الأخرى، وهذا من الأمور المعلومة في مسائل الفقه عند العلماء، وينبغي للإنسان في حال جهله القبلة أن يسأل إذا كان في بلد فيها من يجيبه عن ذلك بعلم أن يسأل وأن يتحرى، وإذا صلى وتحرى واتجه إلى غير القبلة فصلاته صحيحة، ولا يجب عليه أن يعيدها.
وينبغي للإنسان أن يكبر عند استقباله القبلة وأدائه للصلاة، وأن يقول: الله أكبر، ويرفع يديه، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) فأحال الأمر إليه، وما أحاله إلى غيره.
وينبغي أن يعلم أن الإنسان بمجرد تكبيره يحرم عليه ما كان قد جاز له قبل ذلك من الأعمال التي كانت يستسيغها قبل الصلاة: من الكلام والأكل ونحو ذلك؛ لهذا قال عليه الصلاة والسلام كما جاء في السنن وغيرها من حديث علي بن أبي طالب قال: ( تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم ) يعني: يحرم على الإنسان بالتكبير ما كان جائزاً له، ( وتحليلها التسليم ) أي: يحل له ما كان قد حرم عليه قبل ذلك.
وينبغي للإنسان في أدائه للصلاة أن يحرص على الخشوع، وأن لا ينصرف بقلبه إلى غير العبادة التي يؤديها، فيتأمل معاني القرآن وألفاظه، وكذلك أحكام الله عز وجل التي يتلوها، وكذلك عظم الصلاة من ركوع وقيام وسجود ونحو ذلك.
ويرفع الإنسان يديه في حال الصلاة، ورفع اليدين متأكد عند تكبيرة الإحرام كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ويديمه، كما جاء في حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى.
وأما كون رفع اليدين من الأمور الواجبة فقد قال به بعض الفقهاء من أهل الرأي، والصواب في ذلك أنه سنة في تكبيرة الإحرام وغيرها، والواجب في ذلك هو لفظ التكبير أن يقول الإنسان: الله أكبر.
وينبغي للإنسان في ذلك في حال رفعه ليديه أن يبسط كفيه، ويضع أصابعه ويوجهها إلى جهة القبلة، جاء عن حفص بن عاصم أنه قال: من السنة في الصلاة أن يبسط كفيه، ويضم أصابعه ويوجهها مع وجهه إلى القبلة. واستقبال القبلة بالكفين عند التكبير هذا جاء موقوفاً على عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى، وأما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يثبت في ذلك شيء.
وينبغي للإنسان أن يحرص على استقبال القبلة بجسده كله، وقد كان عبد الله بن عمر يفعله، كما جاء عند ابن سعد في كتابه الطبقات أنه كان إذا كبر استحب أن يستقبل بباطن كفيه القبلة، وهذا إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان في حال الصلاة أن يستقبل بجميع أطراف جسده القبلة، فإن هذا من الأمور المتأكدة في الصلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر، وتكبيره في ذلك من جهة الصفة، جاء عنه جملة من جهة التكبير، تارة يكبر النبي عليه الصلاة والسلام مع قوله: الله أكبر، وتارة قبلها، وتارة بعدها مباشرة، فهذا كله من الأمور الجائزة التي إن فعلها الإنسان جاز وأتى بالهدي والسنة التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويسن ويتأكد للإنسان -في حال أداء الصلاة- أن يضع سترة أمامه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ويحث أصحابه، بل كان النبي عليه الصلاة والسلام يديم ذلك، فكان إذا سافر أخذ العنزة معه، والعنزة هي عصا ينصبها الرجل بين يديه في حال أدائه الصلاة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.
وأما بالنسبة لوضع البصر في الصلاة بعد تكبيرة الإحرام فالإنسان يضع بصره في الصلاة في الموضع الذي هو أخشع له، إلا أنه ينبغي له أن يعلم أنه يحرم عليه أن ينظر إلى السماء، ويتأكد في حقه عدم الالتفات، ويكره كراهة شديدة، أما بالنسبة لوضع البصر إذا وضعه بين يديه، أو وضعه موضع سجوده، أو وضعه إلى الأمام فإن هذا من الأمور الجائزة، شريطة أن يكون ذلك هو أخشع لقلبه، جاءت جملة من الأخبار أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يضع بصره موضع سجوده حتى يخرج من الصلاة، وهذا إسناده ضعيف، ولا يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام فيما أرى في ذلك شيء، إلا أنه ينبغي للإنسان أن يحرص على الخشوع، وأن تظهر منه السكينة والتضرع والاستكانة لله جل وعلا، فقد جاء هذا عن جماعة من السلف كما جاء عن محمد بن سيرين أنه قال في قول الله جل وعلا: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2] قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى رفع رأسه إلى السماء تدور عيناه، ينظر هاهنا وهاهنا، فأنزل الله عز وجل عليه الآية السابقة ) فطأطأ ابن عون رأسه ونكسه في الأرض. وهذا من الأحاديث المرسلة، وطأطأة الرأس في ذلك في الصلاة تفتقر إلى دليل إلا أنه ينبغي للإنسان أن يعلم أن موضع البصر، وكذلك هيئته في صلاته ينبغي أن توافق السنة، فإذا وافقت السنة ولم تخالف هدياً أنه يفعل ما هو أسمح لأدائه الصلاة خاشعاً؛ لأن الخشوع هو قلب الصلاة.
وينبغي للإنسان أيضاً أن يحرص على عدم إشغال قلبه بإطلاق بصره يمنة ويسرة، أو إلى السماء، أو في زخارف المسجد أو السجاد ونحو ذلك؛ فلهذا يقال: إن الإنسان يضع البصر فيما هو أسمح لصلاته وأخشع لها.
وكذلك بالنسبة لوضع القدمين حال قيام الإنسان، السنة في حقه أن يقوم معتدلاً فلا يقوس جسده، أو يميل جسمه يمنة أو يسرة، بل ينبغي أن يصلب جسمه، وهذا فيه إشارة إلى تعظيم الموقوف له، وقد جاء في ذلك عند ابن أبي شيبة من حديث عيينة بن عبد الرحمن قال: كنت مع أبي في المسجد، فرأى رجلاً صافاً بين قدميه، فقال: ألزق إحداهما بالأخرى، لقد رأيت في هذا المسجد ثمانية عشر من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ما رأيت أحداً منهم فعل هذا قط. أي: أن الإنسان ينبغي في ذلك في حال أدائه للصلاة أن يقوم معتدلاً مستوياً، ناصباً جسده، وصافاً بين الصف، ملزقاً بين قدميه ومقارباً لهما من غير كلفة ولا تفريج شاق ظاهر في هذا، وهذا هو هدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء عند النسائي وغيره من حديث أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى أنه رأى رجلاً قد صف بين قدميه، فقال: أخطأ السنة، لو راوح بينهما كان أعجب إلي. أي: أنه ينبغي للإنسان في مثل هذا أي إذا كانت صلاته طويلة أن يراوح بينهما حتى لا يمل الصلاة، إذا كانت صلاة طويلة، خاصة في قيام الليل، أو في الصلاة التي يطيل بها الإنسان سواء مع جماعة أو كان منفرداً.
ويستحب للإنسان في ابتدائه للصلاة بعد تكبيرة الإحرام أن يشرع بدعاء الاستفتاح كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام، فيقول كما جاء في البخاري وغيره من حديث أبي هريرة ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يسكت بين التكبير والقراءة إسكاتة، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله! أرأيت إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول فيها؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد ) وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يستفتح صلاة الليل كما جاء في حديث علي بن أبي طالب فقال عليه الصلاة والسلام: ( وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنبي جميعاً إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك ) وهذا الخبر قد رواه الإمام مسلم في كتابه الصحيح، والذي يظهر أنه كان في صلاة الليل، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح صلاته بما تقدم، وربما أقر أصحابه ببعض الاستفتاح كما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمر أنه قال: ( بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قام رجل من القوم، فقال: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من القائل كلمة كذا وكذا؟ فقال رجل من القوم: أنا يا رسول الله! قال: عجبت لها فتحت لها أبواب السماء ).
وكذلك جاء في لفظ آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حينما سمع رجلاً حفزه النفس وهو يقول: ( الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: رأيت اثني عشر من الملائكة يبتدرونها أيهم يرفعها ) وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن ينوع بين أذكار استفتاح الصلاة، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في السنن من حديث عائشة أنه كان يستفتح الصلاة بقوله: ( سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك ) ولكن هذا الخبر لا يصح مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى، وإسناده في ذلك عنه صحيح.
ويستحب للإنسان المصلي بعد ذكر دعاء الاستفتاح أن يقوم بالاستعاذة قبل بدئه بالفاتحة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ، وينبغي أن يعلم أنه لا يشرع بعد دعاء الاستفتاح والقراءة شيء من الأذكار والأدعية، وينبغي أن يعلم أن دعاء الاستفتاح إنما هو للصلوات المفتتحة بالتكبير، والمختتمة بالتسليم، فلا يكون ذلك لصلاة الجنازة فإنه لا يثبت في ذلك خبر عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولا عن أحد من أصحابه عليهم رضوان الله تعالى.
وينبغي له أن يستعيذ قبل قراءته، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: ( أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه ) وهذا جاء من حديث أبي سعيد الخدري عليه رضوان الله تعالى؛ لهذا ينبغي للإنسان أن يستعيذ قبل قراءته؛ لعموم قول الله جل وعلا أولاً: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98] وكذلك لهذا الخبر، وإن كان قد تكلم فيه غير واحد من العلماء إلا أنه يكفي قول الله جل وعلا في ذلك: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98] .
وكذلك ينبغي للإنسان -بعد الاستفتاح والاستعاذة- أن يبتدئ ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم الفاتحة؛ لأن بسم الله الرحمن الرحيم -على قول غير واحد من العلماء- آية من الفاتحة، ومنهم من قال: إنها آية منفصلة في أول كل سورة تفصل السور عن بعضها، وعلى كل فإنه يتأكد في حقه أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ويكفي في ذلك الاحتياط وصحة الصلاة، وأنها من الأمور المتأكدة باتفاق العلماء، وقد جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس بن مالك ( أن النبي صلى الله عليه وسلم و أبا بكر و عمر كانوا يفتتحون الصلاة بـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] ) وجاء عند الإمام مسلم عليه رحمة الله أن أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى قال: لم أسمع أحداً منهم يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم. المراد بهذا ليس نفي القراءة على سبيل الإطلاق، وإنما المراد بذلك الجهر بها، أي: أنهم لم يكونوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم كما يجهرون بالفاتحة، وإنما يسر بها الإنسان، ثم بعد ذلك يقرأ الفاتحة جهراً في الصلاة الجهرية؛ لهذا قال: لم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. أي: أنها ليست مما يسمع، وإنما هي مما يذكر.
وكذلك فإنه ينبغي للإنسان ويتأكد في حقه أن تكون قراءته هادئة مترسلة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يقف عند رؤوس الآي كما يروى في هذا خبر عن النبي عليه الصلاة والسلام.
ويجب عليه أن يقرأ فاتحة الكتاب؛ وأن يبتدئ بها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحث على ذلك ويبتدئ بالفاتحة عليه الصلاة والسلام ويقول: ( كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ).
وينبغي للإنسان في ذلك أن يجهر بها في الصلاة الجهرية، سواء كان منفرداً أو كان إماماً، أما بالنسبة للمأموم فينبغي له -في حال صلاته الجهرية- أن ينصت لقراءة الإمام ولا يقرأ معه؛ فإن قراءة الإمام له قراءة، إن سكت الإمام أو لم يسمع كلامه قرأ، وإن سمع كلامه فإنه يجب في حقه أن يستمع له، وذلك أن الله جل وعلا أمر بالإنصات وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204] فالله جل وعلا أمر بالإنصات حال سماع القرآن، وقد جاء عن غير واحد من السلف أنها نزلت في الصلاة.
وينبغي للإنسان أن يقرأ معها سورة، ويأتي الكلام على ذلك بإذن الله تعالى.
السنة عند ابتدائه الصلاة أن يضع يده اليمنى على اليسرى، ولم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أن سدل في موضع من المواضع في صلاته عليه الصلاة والسلام، بل السنة في ذلك أن يقبض يده اليمنى على اليسرى كما جاء ذلك صحيحاً من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد قال: ( كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة ) . والمراد بالأمر لاشك أنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال راوي الخبر وهو أبو حازم الذي يرويه عن سهل بن سعد قال: لا أعلم إلا أنه ينمي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والصحابة.
فإذا قالوا: أُمرنا أو نُهينا فإن المراد بذلك هو النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا آمر خاصة في أمور التعبد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والكيفية الصحيحة لوضع يده اليمين على اليسرى: أن يضع الكف اليمنى على ظهر كفه اليسرى، والرسغ والساعد كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث وائل بن حجر عليه رضوان الله تعالى كما جاء في الصحيح، وهذا أصله في الصحيح وهو عند أبي داود وكذلك النسائي أنه قال: ( وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد ) والخبر في صحيح الإمام مسلم، وليس فيه ذكر الرسغ والساعد، ولعله أراد بذلك أن يبين حال بقية اليد؛ فإنه بين حال الكف ولم يبين الباقي، فأراد أن يبينه على سبيل الاسترسال، ويظهر لي أنها من ألفاظ الإدراج.
وينبغي أن يعلم أن هذا هو هدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك هدي التابعين، فقد جاء في حديث أبي زياد مولى آل دارج كما روى ابن عساكر في تاريخ دمشق قال: ما رأيت فنسيت؛ فإني لم أنس أن أبا بكر الصديق كان إذا قام إلى الصلاة قام هكذا، وأخذ بكفه اليمنى على ذراعه اليسرى لاصقاً بالكوع.
وينبغي أن يعلم أيضاً أن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى كانوا يلتزمون ذلك، وكذلك التابعون وأتباعهم، كما جاء عن عمر بن عبد العزيز كما رواه أبو نعيم في كتابه الحلية أنه قال كما جاء في حديث عبد الله السلمي، قال: كان عمر بن عبد العزيز إذا صلى أو مشى أو قعد إنما يضع كفه اليمنى على ذراعه اليسرى. وهذا من السنن التي ينبغي للإنسان أن يأخذ بها في حال أداء الصلاة.
أما موضع اليد من الجسد من جسم الإنسان فهل يضعها على صدره، أم يضعها على سرته، أم يضعها أسفل من السرة؟ فيقال: قد جاء في ذلك جملة من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يضعها على سبيل الإجمال، جاء فيه ألفاظ أن النبي يضعها على صدره كما جاء في حديث وائل بن حجر عند أبي داود وغيره من حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر ( أن النبي عليه الصلاة والسلام وضع يده اليمنى على اليسرى على صدره ) وهذا من مفاريد مؤمل بن إسماعيل في روايته عن سفيان، ولا يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه وضع اليد اليمنى على الصدر، وإنما يضعها على الإجمال، فيضع الإنسان يده اليمنى على اليسرى سواء كان على صدره، أو على بطنه، أو على سرته، أو كان دون ذلك، السنة في ذلك هو القبض، أما ما زاد على ذلك فإنه يحتاج إلى دليل ثابت في هذا، والأدلة في ذلك لا تعضد القول بالسنية، وهذا هو قول جماهير العلماء ورواية عن الإمام أحمد عليه رحمة الله.
ويستحب ويتأكد للإنسان أن يقرأ كما تقدم بسورة بعد الفاتحة، والفاتحة -كما تقدم- ركن من أركان الصلاة؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيحين وغيرهما: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ( كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج )، ويجهر في الجهرية، ويسر بالسرية، والجهر في ذلك سنة متأكدة.
وكذلك فإنه إذا ختم قراءة الفاتحة فإنه يقول: آمين، يمد بها صوته إذا كان قارئاً بالجهر، ويؤمن معه الناس من خلفه، ولو أمن الناس كانوا في مقام الداعي؛ ولهذا لما ذكر الله عز وجل حال موسى و هارون مع فرعون قال الله جل وعلا: وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:88] قال الله جل وعلا بعد هذا الدعاء، والداعي موسى قال: قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [يونس:89] فالله عز وجل قال في أول الآية: (( وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ )) ثم قال الله جل وعلا: (( قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا )) إشارة إلى أن ثمة تأميناً، والمؤمِّن في ذلك هارون، فكان المؤمن في مقام الداعي، والتأمين في ذلك إما أن يكون بالقصر أو المد، يمد بها صوته فيقول: آمين، أو يقول: أمين من غير مد؛ فإن الأمر في ذلك سائغ وجائز.
وأما الإنسان في حال قراءته فينبغي أن يكون متضرعاً خاشعاً لله عز وجل؛ ولهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55] وكذلك ينبغي للمأمومين حال سماعهم الإمام إذا أمَّن أن يؤمِّنوا كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا ) وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إذا قال الإمام: آمين، فقولوا: آمين ) أي: أنه ينبغي للإنسان أن يتابع الإمام في كل شيء؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا ) الخبر، وقد جاء أيضاً عن غير واحد من السلف بيان أنه ينبغي للمأمومين أن يجهروا بالتأمين، كما جاء عند ابن حزم الأندلسي من حديث عطاء أنه سئل: أكان ابن الزبير يؤمن على إثر أم القرآن؟ قال: نعم، ويؤمن مَن وراءه، وإن للمسجد للجة. أي: أن صدى الصوت يصل إلى أرجاء المسجد؛ لكثرة المؤمِّنين، وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون قبل ذلك، وظاهره أنه فعل الخلفاء الراشدين عليهم رضوان الله تعالى.
وكذلك كان فعل الصحابة كما جاء عند البخاري في كتابه التاريخ من حديث خالد بن ثور عن عطاء بن أبي رباح قال: أدركت مئتي نفس من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في هذا المسجد إذا قال الإمام: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] قال: سمعت لهم رجة بآمين. فينبغي للإنسان أن يعتني بهذا، وكثير من المأمومين ربما يغفل عن هذه السنة، وربما يتلفظ بآمين في نفسه، ولا يرفع صوته، وهذا ليس من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسنة في ذلك هو أن يجهر الإنسان بآمين.
وينبغي للإمام إذا كان مصلياً بالناس في صلاة جهرية، أو كان منفرداً أيضاً أن يسكت بعد تكبيرة الإحرام وبين قراءته ويكون هذا السكوت ليقرأ استفتاح الصلاة، وأما بالنسبة للسكتة بعد قراءة الفاتحة فقد جاء في ذلك جملة من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن بعض السلف، ولا يصح في هذا شيء.
وأما بالنسبة للمأموم إذا قرأ الإمام في صلاة جهرية فينبغي له أن ينصت كما جاء عند عبد الرزاق من حديث عبد الله بن عمر قال: ينصت للإمام فيما يجهر به في الصلاة، ولا يقرأ معه. وهذا الذي عليه عمل الصحابة عليهم رضوان الله كما جاء عن عبد الله بن عباس و ابن مسعود و ابن عمر و أبي هريرة و عائشة ولا يعلم لهم مخالف من وجه صحيح صريح، بل إنه قد يكون هو الإجماع، وقد روى عبد الرزاق شيئاً ربما يُفهم منه المخالفة في ذلك كما جاء عن يزيد بن شريك أنه قال لـعمر : أقرأ خلف الإمام؟ قال: نعم. قلت: وإن قرأت يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، وإن قرأت. وهذا يحتمل أن يكون في صلاة سرية، ويحتمل ذلك أنه يقرأ الإنسان بين سكتات الإمام، إلا أن عمل الأكثر في ذلك هو على الإنصات، ولو فعل الإنسان القراءة في حال السكتات فإن هذا مما لا حرج فيه، والسكوت في حال قراءة الفاتحة هو كذلك يأخذ حكم السكوت في حال قراءة السور بعد الفاتحة.
وينبغي أن يعلم أن قراءة السورة بعد الفاتحة مما لا يختلف العلماء في مشروعيته وتأكيده، ويستثنى من ذلك الركعتان الأخيرتان من الصلاة الرباعية، والركعة الثالثة من الصلاة الثلاثية، وجاء ذلك في ظاهر بعض الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كحديث أبي قتادة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم القرآن وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب، ويطول في الركعة الأولى ما لا يطول في الثانية ) قال ابن سيرين: لا أعلمهم يختلفون في هذا. أي: أنه ينبغي للإنسان أن يقرأ السورة في الركعتين الأوليين بعد الفاتحة، وأما ما كان في الثالثة والرابعة، فإنه لا يقرأ فيها، وهذا قول عامة العلماء، وهو قول الإمام أبي حنيفة و مالك و أحمد و الشافعي في مذهبه الجديد، وأما القراءة في الركعتين الأخريين من الرابعة أو في الركعة الأخيرة من الثالثة فهذا قد جاء عن بعض السلف، وروي عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى، وجاء عن غيره أيضاً، وهذا يحتمل إما أن يكون من ألفاظ العموم وأريد بها الخصوص كالركعتين الأوليين، واحتمال أنه من مسائل الاجتهاد التي يفعلها الإنسان تارة ويدعها تارة أخرى، إلا أن ظواهر النصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك تبين أن الإنسان ينبغي له أن يلتزم قراءة الفاتحة وسورة في الركعتين الأوليين، وأما في الركعة الثالثة والرابعة فإنه يقرأ سورة الفاتحة كما هو الظاهر.
وينبغي للإنسان أن يجعل في الصلاة لكل ركعة سورة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل لكل ركعة سورة، وأما الفصل بين السور ولو كانت قصاراً فإن هذا خلاف السنة، وأما قراءة مثل السور القصيرة كسورة الغاشية أو البروج أو سورة عم ونحو ذلك في ركعتين فهذا خلاف الأولى، والأولى في ذلك أن يجعل كل سورة لركعة، ويستثنى من ذلك السور الطويلة، ولو قرأ آية أو فصل سورة فإن هذا مما لا حرج فيه، إلا أن الأولى أن يجعل لكل ركعة حظها، وهذا بالنسبة للقراءة في مسألة الصلاة.
وينبغي للإنسان أن يعلم أن القراءة في الصلوات قد سن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضبطاً معيناً كان يلتزمه عليه الصلاة والسلام في حال إقامته، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الحضر في صلاة الفجر بطوال المفصل، وفي المغرب من قصاره، وفي الباقي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في أواسطه، والمراد بذلك في صلاة العشاء، وصلاة الظهر، وصلاة العصر، ويستثنى من ذلك بعض الأحوال التي لا حرج على الإنسان أن يغاير في هذا.
وينبغي أن يعلم أن القراءة في ذلك -من جهة الإطالة وعدمها باختيار الطوال والأواسط والمفصل- إنما هي في حال الإقامة، أما في حال السفر فالسنة في ذلك على الدوام أن يخفف فيقرأ من القصار، فإن هذا هو فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرى ذلك أنه من عملهم ديمة؛ لأن هذا مقتضى الأصل؛ فإن الرجل لما وضع عنه شطر الصلاة، فينبغي أن يوضع عنه أيضاً الإطالة في القراءة؛ لأن هذا أقرب إلى التيسير، قد جاء عند ابن أبي شيبة من حديث ابن سويد أنه خرج مع عمر بن الخطاب حاجاً، فصلى بهم الفجر فقرأ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قريش:1] و أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1]. وجاء أيضاً من حديث عمرو بن ميمون أنه قرأ في سفر بـ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] . وهذا فيه إشارة إلى التخفيف في صلاة السفر، ولو كانت في صلاة الفجر ألا يقرأ بالطوال.
وكما تقدم في مسألة فصل السورة الواحدة بين الركعتين ولو كانت قصيرة فإن هذا ليس من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روى الإمام أحمد في كتابه المسند من حديث أبي العالية رفيع بن مهران قال: حدثني من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لكل سورة حظها من الركعة ) وهذا إسناده صحيح، والمراد من ذلك أنه ينبغي أن تستوعب الركعة السورة تامة فلا يفصلها بين الركعتين، وقد كان الصحابة عليهم رضوان الله تعالى ولو شرعوا في السورة الطويلة لا يقطعونها بين ركعتين كما جاء هذا عن أبي بكر الصديق، وعند البيهقي و عبد الرزاق أن أبا بكر الصديق قرأ البقرة في ركعتين، وجاء عند ابن أبي شيبة وغيره أيضاً من حديث يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر قرأ بآل عمران في الركعتين الأوليين من العشاء، قطعها. يعني: فيهما. وهذه من الحال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها إشارة إلى جواز القطع، وأن الغالب في حالهم ما تقدمت الإشارة إليه: هو عدم الفصل، والجواز في ذلك إشارة إلى التيسير إلا أنه ليس هو الأغلب في فعلهم، وأما أن يختار الإنسان آية من القرآن أو آيات من أواسط السور فيريد أن يقرأ بها، فإن هذا من الأمور الجائزة في ذلك، قد جاء هذا عن جماعة من السلف في هذا أيضاً كما جاء عن تميم الداري عند ابن أبي شيبة أنه ردد قول الله جل وعلا: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ [الجاثية:21] وجاء أيضاً عند ابن أبي شيبة من حديث سعيد بن جبير عليه رضوان الله تعالى أنه كان يصلي بهم في شهر رمضان يردد قول الله جل وعلا: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:70-72] ، وأما ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كرر آية واحدة في قول الله جل وعلا: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ [المائدة:118] فهذا لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه خبر، وقد جاء عند الإمام أحمد و النسائي و ابن ماجه ، وإسناده في ذلك ضعيف.
وينبغي للإنسان أن يغاير بين السور، وأن يسعى على ترتيب المصحف في ذلك، ولو غاير وقدم وأخر فلا حرج في ذلك، شريطة ألا ينكس الآي من السورة الواحدة، والسنة في هذا أيضاً أن الإنسان إذا كان لا يستطيع القراءة، أو كان جاهلاً أمياً أن يسبح وأن يهلل، فإن ذلك يجزئ عنه، كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في السنن وغيرها ( أن رجلاً قال: يا رسول الله! إني لا أستطيع أن آخذ شيئاً من القرآن فعلمني ما يجزئني منه، فقال: قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقال: هذا لله، فما لي؟ قال: تقول: اللهم اغفر لي وارحمني وارزقني واهدني ).
وينبغي للإنسان الحرص على الخشوع؛ فإن الخشوع هو قلب الصلاة، ولكل شيء روح، وقلب الصلاة هو خشوعها، والانشغال الذي يطرأ على الإنسان أحياناً، ينبغي عليه أن يدفعه؛ فقد أكد الله عز وجل مسألة الخشوع، وجعل ذلك منقبة لأهل الإيمان الخلص، كما جاء في قول الله جل وعلا: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45] المراد بهذا أن الإنسان الذي يؤدي الصلاة من غير خشوع ستكون ثقيلة عليه، أما الذي يؤديها بخشوع وتدبر فإنه يحبها؛ ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إمام الخاشعين، فكان يقول لـبلال : ( أرحنا بها يا بلال! ) أي: يلتمس الراحة بأداء الصلاة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ) أي: راحتي وطمأنينتي وميل قلبي في الصلاة، بخلاف الذي لا يخشع؛ فإن الصلاة ستكون ثقيلة عليه.
وينبغي أيضاً أن يعلم أن ما يطرأ على الإنسان من أفكار ينبغي أن يقطعها، وربما يطرأ على بعض الصالحين أو الخاشعين، أو العباد من الخواطر التي لا يسلم منها بشر، فقد جاء عن أبي عثمان النهدي عن عمر بن الخطاب أنه قال: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة. والمراد من هذا أن الإنسان ينصرف تارة من غير قصد ولو إلى عمل صالح، ومن العلماء من قال بجواز ذلك إذا كان في المصالح العامة التي تغلب حال الإنسان.
وكذلك ينبغي أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد انقضائه من قراءة السورة يكبر للركوع، ويرفع يديه كما رفعها في تكبيرة الإحرام، والركوع هو قبل السجود بالاتفاق، ولا خلاف عند العلماء في ذلك، وهذا الرفع رفع اليدين هو من الأمور المستحبة، ومن السنن التي ينبغي أن يحرص عليها.
وألفاظ التكبير من الأمور المتأكدة، أي لفظ: الله أكبر في كل موضع، وهي من الأمور الواجبة على الإمام في صلاة الجماعة؛ لأن الأئمة لا يسمعون ولا يعرفون أحوال الانتقال إلا بالتكبير، فيجب عليه أن يكبر، أما بالنسبة للمأموم فهو سنة في حقه، ولا يجهر به في الحالين، وأما بالنسبة للمنفرد فهو سنة في حقه على الصحيح، ويكفي في هذا أن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى لم يبطلوا صلاة من تركها كما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة أن أبا هريرة كان يكبر في الصلاة كلما رفع ووضع، فقلنا: يا أبا هريرة! ما هذا التكبير؟ فقال: إنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهؤلاء ما سألوا أبا هريرة إلا وقد كان من فعلهم أنهم لم يكونوا يكبرون، وقد جاء في البخاري من حديث قتادة عن عكرمة قال: صليت خلف شيخ بمكة فكبر اثنتين وعشرين تكبيرة، فقلت لـابن عباس : إنه أحمق، فقال: إنها سنة أبي القاسم ثكلتك أمك. والمراد من هذا أن يبين أن هذا الفعل الذي كان عليه الصحابة عليهم رضوان الله تعالى هو على سبيل التأكيد والسنية، لا على سبيل الإيجاب الذي إذا تركه الإنسان بطلت صلاته.
وأما بالنسبة لرفع اليدين فينبغي -كما تقدم- أن يرفع يديه حد ثدييه أو دون ذلك، وقد جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه كان إذا رفع يديه يحاذي بهما منكبيه وشحمة أذنيه )، وجاء في رواية: ( أطراف أذنيه ) وهذا هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمواضع التي جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يرفع يديه فيها عند التكبير هي: تكبيرة الإحرام، والركوع، والرفع من الركوع، والرفع من الركعة الثانية للثالثة، وهذه مواضع أربع ينبغي للإنسان أن يحافظ عليها، ولو رفع الإنسان يديه في كل موضع من تكبيرات الصلاة فقد جاء في ذلك بعض الأخبار ولا يصح منها شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو اكتفى بتكبيرة الإحرام الأولى ورفع يديه فيها ولم يرفع في التكبيرات الباقية، فقد جاء هذا عن عمر بن الخطاب كما جاء عن الأسود قال: رأيت عمر بن الخطاب يرفع يديه أول تكبيرة، ثم لا يعود. أي: أنه كان لا يرفع يديه بعد ذلك، وهذا جاء أيضاً عن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى، وأما رفع اليدين في حال السجدات فإن هذا مما لا يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام إلا عند الرفع من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة، فإن هذا مما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر ، ولكن قد جاء عن عبد الله بن عمر أنه كان يرفع يديه إذا دخل في الصلاة وإذا ركع وإذا قال: سمع الله لمن حمده، وإذا سجد بين الركعتين، وإسناده عن عبد الله بن عمر صحيح، فإذا فعل الإنسان ذلك في بعض الأحيان فإن هذا مما لا حرج فيه.
وينبغي للإنسان في حال ركوعه أن يطمئن؛ ولهذا جاء في صحيح البخاري من حديث أبي حميد الساعدي أنه قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع هصر ظهره ) أي: ثناه في استواء من غير تقويس، وهذا هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا جاء في صحيح الإمام مسلم ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه، ولكن بين ذلك ) يعني: في حال الرجوع، وهذا من اعتداله عليه الصلاة والسلام من غير إفراط أو تفريط في هيئة الإنسان في حال ركوعه، وينبغي للإنسان أن يعلم أن عدم الطمأنينة في الصلاة هي مما يفوت على الإنسان الأجر، وربما أبطل صلاته، وقد جاء عند محمد بن نصر من حديث زيد بن وهب أن حذيفة بن اليمان رأى رجلاً لا يطمئن في ركوعه وسجوده، قال: منذ متى وأنت تصلي هذه الصلاة؟ قال: منذ أربعين سنة، قال: منذ أربعين سنة ما صليت، ولو مت على هذا لمت على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم.
وينبغي للإنسان أيضاً أن يطيل في ركوعه، وهذا من السنن المهجورة.
وأن يكثر أيضاً من تعظيم الله عز وجل وإجلاله، ويخص في ذلك ألفاظ التعظيم الواردة كأن يقول الإنسان: سبحانك اللهم وبحمدك، أو سبحان ربي العظيم؛ فإن هذا مما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء عند أبي داود و النسائي و ابن ماجه من حديث إياس بن عامر عن عقبة بن عامر أنه قال: ( لما نزلت فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:74] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم، فلما نزلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] قال لنا: اجعلوها في سجودكم )، وقد تكلم في هذا الخبر غير واحد، ولكن هذا من أمور السنة التي لا خلاف فيها عند العلماء: أن يعظم الله عز وجل في ركوعه، وكذلك في سجوده، فيقول في الركوع: سبحان ربي العظيم. وأن يقول أيضاً: سبحان الله ربي الأعلى في سجوده؛ وذلك لمناسبة اللفظ؛ فإن في حال سجود الإنسان يكون منخفضاً فإذا كان في حال السجود يكون دانياً من الأرض فيحتاج إلى تعظيم الله عز وجل، وينبغي للإنسان أن ينشغل بدعاء الله سبحانه وتعالى، وأن لا ينصرف في حال سجوده؛ فإن أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد، وهذا من الأمور التي ينبغي للإنسان أن يحرص عليها.
وكذلك من جهة العدد كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود أنه ذكر أن عدد التسبيحات ثلاث، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا ركع أحدكم فقال: سبحان ربي العظيم ثلاثاً، فقد تم ركوعه، قال: وإذا سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فذكرها ثلاثاً فقد تم سجوده، وذلك أدناه ) وهذا من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينبغي للإنسان أن يواظب عليه من غير مخالفة، ولو زاد في ذلك فإن هذا من الأمور الحسنة، وهذا هو أدنى مراتب الكمال، والواجب في ذلك أن يسبح تسبيحة واحدة.
وأما بالنسبة للرفع من الركوع فإنه يقول: سمع الله لمن حمده إماماً ومنفرداً، أما المأموم فيقول: ربنا ولك الحمد، وقد جاء في ذلك صيغ أربع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولها أن يقول: اللهم ربنا لك الحمد، ثانيها: أن يقول: اللهم ربنا ولك الحمد، ثالثها: أن يقول: ربنا لك الحمد، ورابعها: يقول: ربنا ولك الحمد. وهذه كلها ثابتة في الصحيح.
وأما بالنسبة للقول بعد ذلك فيقول الإمام والمأموم: اللهم ربنا لك الحمد، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
وقد جاء أيضاً ما ينبغي للإنسان أن يقوله بعد رفعه من الركوع وهو: اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء، اللهم نقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس. وينبغي أن يعلم هذا الدعاء؛ ففيه إشارة إلى أن الرفع من الركوع هو من مواضع الدعاء، فينبغي للإنسان أن يكثر من الدعاء في مثل هذا الموضع في حال إطالة الإمام، كذلك ينبغي للإمام أن يفعل ذلك سراً بينه وبين نفسه، إلا في حال القنوت فإنه يدعو لنفسه ويدعو لمن معه أيضاً، فلا يخص نفسه بالدعاء.
وكذلك في حال انتهائه من ذلك الذكر أن يهوي للسجود، والهوي في السجود في ذلك أن يكون أيضاً على طمأنينة.
أما بالنسبة لتقديم اليدين أو الركبتين في هذا، فقد جاء في ذلك جملة من الأحاديث ولا يصح منها شيء، منها ما يقدم الركبتين، ومنها ما يقدم اليدين، ولا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك خبر من جهة وقف ذلك على اليدين، أو وقف ذلك على الركبتين، والكل في ذلك ضعيف، سواء حديث وائل بن حجر أو حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى، وإنما الثابت في ذلك بعض الموقوفات، السنة أن يسجد على سبعة أعظم، وهي واجبة؛ ولهذا جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( أُمرت أن أسجد على سبعة أعظم ) وهذه الأعظم هي: الجبهة، وأشار بيده إلى الأنف، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين، وإن لم يسجد على أحد من هذه الأعضاء في صلاته فإنه قد فرط في هذا، ونقصت صلاته، بل قال بعض العلماء ببطلانها. والوجوب في ذلك يسقط ولو بشيء يسير يمس بهذه الأعضاء السبعة في حال سجوده.
وكذلك كما جاء في صفة سجود رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح من حديث ابن بحينة ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه ) ، وكذلك ما جاء من حديث البراء قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع بسط ظهره، وإذا سجد وجه أصابعه قبل القبلة فتفاج ) والمراد بهذا أنه ينبغي للإنسان أنه يفرج بين يديه، وأن يستقبل بأصابعه القبلة، وهذا جاء عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى كما جاء عند الإمام مالك من حديث نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: إذا سجد أحدكم فليستقبل القبلة بيديه؛ فإنهما يسجدان مع الوجه. وهذا فيه إشارة ما تقدمت الإشارة إليه أن الإنسان ينبغي في حال صلاته أن يستقبل القبلة بأطراف أصابعه، وكذلك في وجهه وكفيه.
وكذلك في حال وضع يديه حال سجوده ينبغي للإنسان أن يكثر من الدعاء في حال السجود؛ فأقرب ما يكون الإنسان من ربه وهو ساجد.
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما جاء في مسلم-: ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا فيه من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم ).
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضع القدمين في حال السجود أنهما تكونان ملتصقتين، جاء في ذلك خبر في حديث عائشة عند ابن خزيمة ولا يصح، بل يضع القدمين على الهيئة التي أسمح له، ولكن يوجه بأطراف أصابع قدميه القبلة، فلا يفرش قدميه إلى الخلف، بل يستقبل بهما القبلة، وأن تكون القدمان متجاورتين لا ملتصقتين ولا منفرجتين انفراجاً فاحشاً.
وأما جلسته فالسنة في ذلك أن ينصب اليمنى، ويستقبل بأصابعها القبلة، والجلوس على اليسرى في الجلسة بين السجدتين كما جاء في النسائي من حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى.
وكذلك السنة أن يقعي في بعض الأحيان، والإقعاء هو أن ينصب الإنسان قدميه، وأن يجلس على عقبيه كما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عباس أنه سئل عن الإقعاء، فقال: هو السنة.
والسنة أن يقول بين السجدتين: رب اغفر لي. كما جاء في حديث حذيفة بن اليمان ، وأما الزيادة على ذلك كأن يقول: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني، فلا بأس بها؛ فإن الخبر في ذلك فيه كلام، وقد ضعفه بعضهم.
وكذلك فإنه في حال نهوضه إلى الركعة الثانية يعتمد على يديه كما جاء في الصحيح عن أبي قلابة ، قال: جاءنا مالك بن الحويرث فصلى بنا في مسجدنا هذا، فقال: إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة، ولكني أريد أن أريكم كيف كان رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، قال: فقلت لـأبي قلابة : كيف كانت صلاته؟ قال: مثل صلاة شيخنا هذه. يعني: عمرو بن سلمة . قال: وكان ذلك الشيخ يتم التكبير، وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام، أي: يعتمد الإنسان على يديه حال قيامه من الركعة إلى الركعة الثانية، أما طريقة العجن وهو أن يقبض الإنسان كفيه، ثم يعتمد عليهما، فإن هذا جاء فيه حديث وهو ضعيف، كذلك الاعتماد على الركبتين أن يعتمد الإنسان على فخذيه أو ركبتيه، فيضع كفيه عليهما ثم يقوم، فهذا جاء فيه حديث ضعيف، لو فعله الإنسان فلا حرج، لكن السنة أن يعتمد على يديه.
ويفعل في ركعته الثانية ما فعل في ركعته الأولى.
وفي الثانية يجلس للتشهد، والتشهد الأول واجب، وهيئة جلوسه كما تقدم الإشارة إليه كالجلسة بين السجدتين، وهذا مما تكلم فيه بعض العلماء، فمنهم من يرى التورك، ومنهم من يرى الافتراش، والصواب في ذلك أن يفترش ولا يتورك كحال الجلسة بين السجدتين في التشهد الأول، سواء كانت الصلاة ثنائية، أو كانت رباعية فالتشهد الأول يكون على هذه الحال، أما في التشهد الثاني فهو جلسة أخرى، وثمة خلاف بين العلماء في هذه المسألة، أما بالنسبة للتورك وهو ما يكون في التشهد الثاني، وعلى قول بعضهم في التشهد الأول في الصلاة الثنائية إذا لم تكن رباعية، والتورك هو أن ينصب الإنسان قدمه اليمنى، ويجعل قدمه اليسرى تحت ساقه اليمنى على الأرض، وجاءت صفة أخرى وهي: أن يجعل قدمه بين ساقه وفخذه، وهذه أظهر في كونها من ألفاظ الوهم، وجاء في سنن أبي داود أن القدم تكون بين الساق والأرض.
ويشرع أن يشير بالأصبع في التشهد، والإشارة عن النبي عليه الصلاة والسلام ثبتت في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر ، أما نصبها وتحريكها وحنيها فقد جاء فيه حديث ضعيف، السنة في ذلك أن يشير.
أما موضع الإشارة عند أي موضع يشير يقال: إنه يشير في جميع المواضع، أما تحديد شيء معين فهذا كله من الاجتهادات وتمسك في بعض الألفاظ، وهذا فيه ما فيه، فيحتاج إلى نظر.
وأما استقبال القبلة بالأصبع في هذا فإنه لا يصح في ذلك شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه.
ويتأكد في تشهده الأخير أن يذكر التشهد الأول، وأن يتم ما جاء في ذلك في حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى فيقول: ( التحيات لله، والصلوات الطيبات، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله )، فهذا هو التشهد الأول، ثم بعد ذلك يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد الثاني، وهذا الحديث في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس، وجاء أيضاً في الصحيح من حديث أبي موسى ، وغير ذلك، جاء من حديث عبد الله بن عباس أن يقول: ( التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله )، وجاء أيضاً في تشهد حديث أبي موسى: ( التحيات الطيبات والصلوات لله، السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله ). وأما ما جاء في لفظ حديث عبد الله بن مسعود أنه قال: ( السلام عليك أيها النبي! )، فقال بعضهم: إن هذا كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حي، وبعد ذلك يقال: السلام على النبي، وهذا من مسائل الاجتهاد، ولكن يقال: أن يؤتى باللفظ كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذه الصحابة عنه، فإنهم كانوا يغيبون عن النبي عليه الصلاة والسلام في الأسفار، ولا يرونه، ومع ذلك لم يكن النبي يحثهم على شيء من تغيير هذه الألفاظ، وإذا كان الإنسان في اعتماده في الركعة الثانية بعد تشهده يقوم إلى الركعة الثالثة، فالركعة الأولى تقدم أنه يعتمد على يديه، أما من الثانية إلى الثالثة من التشهد الأول إلى الثالثة فلم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام نوع من اعتماد، وقد جاء في حديث أبي هريرة عند الترمذي كما جاء عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان ينهض على صدور قدميه )، وهو ضعيف وعام أيضاً، لا يدرى هل هو المراد به في أول الصلاة أم في آخرها.
وينبغي أيضاً أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير بعد ذكره للتحيات، والسنة في ذلك أن يقول: اللهم صل على محمد وعلى آله محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، فقد جاء أيضاً في حديث أبي حميد الساعدي ، وفيه: ( اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم، إنك حميد مجيد ) فهذه من صيغ الصلاة، ولو صلى على الإجمال أجزأه، والسنة في ذلك أن يأتي بالمشروع.
ويسن أن ينشغل بالدعاء بعد تشهده، وأن يأتي بالوارد عن النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال ) ويذكر غير ذلك من الأدعية، ومن العلماء من قال بوجوب الدعاء بهذا الدعاء، وهذا قول طاوس ، والصواب في ذلك أنه من السنن المتأكدة، فإذا قضى دعاءه ذلك يدعو بما شاء وتيسر، أو يسبح ويهلل إن طال به الدعاء وطال جلوس الإمام.
ثم بعد ذلك يسلم، والسلام به يستبيح الإنسان ما حرم عليه أثناء الصلاة، والتسليمة الأولى فرض باتفاق العلماء، حكى الإجماع على ذلك ابن عبد البر و ابن المنذر و النووي وغيرهم.
وعامة العلماء على أن التسليمة الثانية من السنن وليست من الواجبات، وهذا هو الصواب أن الثانية سنة، وقد حكي الإجماع على ذلك، ومن العلماء من قال: إن الثانية أيضاً فرض، والصواب أن الصلاة تنقضي بالتسليمة الأولى، أما الثانية فهي سنة وتمام وكمال، وقد جاء عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى كما روى عبد الرزاق من حديث نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يسلم عن يمينه واحدة. وجاء عن عائشة عليها رضوان الله تعالى كما جاء عند ابن أبي شيبة من حديث القاسم عن عائشة أنها كانت تسلم تسليمة واحدة قبالة وجهها. وهذه كلها أسانيدها صحيحة، وقد جاء هذا عن علي بن أبي طالب و أنس بن مالك و سلمة بن الأكوع وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما زيادة لفظ: وبركاته. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته في السلام فهي زيادة لا تثبت، ولا أصل لها في المروي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبهذا السلام يكون الإنسان قد قضى صلاته، وأتى بها كما جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وينبغي للإنسان أن يتعبد بالعبادة كما شرع الله؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) وألا يجتهد الإنسان فعلاً من الأفعال أو قولاً من الأقوال إلا وله أثر في ذلك من كتاب أو سنة أو عمل صحابة على أدنى الأحوال.
وبهذا نكتفي بما تقدم على سبيل الإجمال والاختصار لا على سبيل التفصيل والإسهاب؛ فإن موضع التفصيل في غير هذا المجلس، ولضيق الوقت تكلمنا على هذه المسائل على سبيل الإيجاز.
أسأل الله جل وعلا أن يوفقني وإياكم لمرضاته، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر