الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الكلام على النبوة وأجزائها مما يحتاج إلى مجالس متنوعة، والنبوة منزلتها علية ورفيعة، ويكفي في ذلك أن الله جل وعلا جعل التكليف منها وإليها، وحفظ الله سبحانه وتعالى الدين لهذه الأمة، فلا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وذلك أن الله جل وعلا قد تكفل بحفظ أصله، كما قال الله جل وعلا: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فامتن الله جل وعلا على هذه الأمة بأن حفظ لها دينها بحفظ كتابها، الذي جعله الله سبحانه وتعالى فيصلاً وفرقاناً وتبياناً وهدى لكل من أراد الهداية، ومن أراد الزيغ والضلال والتيه فإنه يستمسك بالهوى، ويتخذ إلهه هواه، وربما تمسك بشيء من ظواهر الأدلة من كلام الله جل وعلا، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضل وزاغ؛ لأنه أراد الهوى قبل أن ينظر في النص، ولهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، فإذا كان ذلك في الوحي المنزل من كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نظر الإنسان إليه بريبة، أو أراد أن يؤكد في ذلك هوى، فإنه فيما دونه مما لم يكن تبياناً ولا هدىً ويحتمل الخطأ والصواب أكثر، فإنه سيجد في ذلك أيضاً ما يريد.
والكلام حول الرؤى والأحلام هو كلام له ذيول متنوعة، وكلامنا سيتركز على أصول هذا العلم، وعلاقته بكلام الله سبحانه وتعالى، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً علاقته بالفطرة البشرية وما غرسه الله جل وعلا في نفس الإنسان من قدرات، ووهب الإنسان من جملة المواهب التي تأخذ من منافذ الغيب والوحي.
والإنسان كما أن الله جل وعلا قد جعل له تكليفاً في حال يقظته يسلك به طريق الهداية، كذلك قد جعل له منافذ إلى الحقيقة في منامه على سبيل الظن تارة، وعلى سبيل التأكيد تارة، وكذلك ليعرف الخطأ من الصواب، وأن الله جل وعلا أراد بهذه الأمة خيراً.
والله سبحانه وتعالى قد كرم بني آدم، وجعل لهم من أسباب التوفيق والدلالة والخير ما يظهر لهم، وجعل الله جل وعلا من تمام عدله أنه لا يعذب أحداً من عباده إلا وقد استبانت له السبيل، واتضح الطريق، ولهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15].
والكلام على الرؤى والأحلام والمباحث الواردة فيها مما جاء ذكره على سبيل التأصيل تصريحاً أو تلميحاً، أو كان ذلك على سبيل القياس مما يكون بنفي الفارق، أو ما يكون من باب تشبيه الأغلب في بعض الأبواب مما يأتي الكلام عليه، هذا مما يطول جداً، ونحن نتكلم على أهم ما في هذا العلم، ونتكلم على جملة من مسائل تعبير الرؤى، وتأصيل شيء من ذلك بالاعتماد على شيء مما يعرف بالحس، كذلك بالاعتماد على ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من مسائله وأحكامه.
والله جل وعلا قد جعل الرؤى من المنافذ إلى الغيب، وجعلها سبحانه وتعالى أيضاً مما يعرف بها الصادق من الكاذب، كذلك من العلامات والقرائن التي يعرف بها طريق الخير من الشر، وطريق الهداية من الغواية، وغير ذلك مما فيه خير للمؤمن، وفيها دلالة وإرشاد للكافر إذا أراد الدلالة والإرشاد، والرؤى قد جعلها الله جل وعلا مبشرة ومنذرة للعباد.
والرؤيا من جهة الأصل إذا أطلقت، فإنها يراد بها ما يراه الإنسان بعينه، ولكنها غلبت من جهة الاستعمال على ما يراه الإنسان في حال نومه، وأما إذا كانت بالتاء المربوطة، فإنها تكون لما يراه الإنسان بعينه، فيقال: الرؤية، وينصرف معناها من جهة الاصطلاح إلى ما يراه الإنسان في حال المنام، والرؤية ينصرف معناها إلى ما يراه الإنسان في حال يقظته بعينه سواءً كان ذلك على سبيل الحقيقة، أو كان ذلك على سبيل التوهم.
وهذا جرى عليه اصطلاح العلماء، وبه أيضاً نزل النص في كلام الله جل وعلا، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والله جل وعلا قد بين أن الرؤيا حظ المؤمن فيها أوفر، وسعادته فيها أحظى وأقرب، بخلاف غيره، ولهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64]، والمراد بذلك الذين آمنوا وكانوا يتقون، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وجاء تفسير هذه البشرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المراد بها الرؤيا الصالحة التي يراها الرجل أو ترى له، كما جاء في حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبادة عليه رضوان الله تعالى قال: ( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله جل وعلا: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64] قال: لقد سألتني عن شيء لم يسألني أحد عنه قبلك، فقال: هي الرؤيا يراها الرجل الصالح أو ترى له )، وهذا مرفوع وفيه كفاية، وروي هذا التأويل أيضاً عن غير واحد من المفسرين، فروي عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى، كما رواه ابن جرير الطبري من حديث سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس موقوفاً عليه، وروي أيضاً عن عروة بن الزبير كما رواه الإمام مالك في كتابه الموطأ من حديث هشام بن عروة عن أبيه، وجاء أيضاً عن مجاهد بن جبر كما رواه ابن جرير الطبري في تفسيره، أيضاً روي من حديث ليث بن أبي سليم عن مجاهد بن جبر أن المراد بذلك الرؤيا التي يراها الرجل الصالح أو ترى له.
وقد امتن الله سبحانه وتعالى على عباده أن جعل ذلك من وجوه معرفة ما لم يترجح عند الإنسان من أبواب الخير والشر، فإن الإنسان له في ذلك بشارة إن كان على خير، وله نذارة إن رأى شيئاً يستوجب الإحجام، ويأتي مزيد كلام على مسألة الاعتداد والأخذ بالرؤيا فيما كان على سبيل الأمر، أو كان على سبيل الحظر وما بينهما.
وقد بيّن الله سبحانه وتعالى منته على بعض أنبيائه أن جعلهم من أهل التعبير، كما امتن الله جل وعلا على نبيه يوسف عليه السلام، فعلمه الله جل وعلا تعبير الرؤيا، فكان ذلك عليه منة منه سبحانه وتعالى، وتأويل الأحاديث هو تعبير الرؤى، كما جاء تأويل ذلك عن غير واحد من المفسرين، روي عن مجاهد بن جبر و قتادة وغيرهما أن المراد بذلك هو تعبير الرؤى.
والرؤى والأحلام لها جهات، وهذه الجهات بالإمكان أن تجمع في مراتب أو في محال:
أولها: هي ذات الرؤيا، ولا خيار للإنسان فيها، وإنما هي من الله جل وعلا، وقد تكون حلماً فتكون من الشيطان، وقد تكون أيضاً من وساوس النفس، ويأتي مزيد كلام على هذه التفاصيل.
والجهة الأخرى جهة التعبير، وهي أمر خارج عن الإنسان، ومرد ذلك إلى الصواب والخطأ بحسب تمكن الإنسان من هذا العلم.
وكذلك إلى حال الرائي، فإن الرؤيا لا يمكن أن تتحقق إلا برائي يراها، والرائي في الرؤيا لا حد له من جهة جنسه، سواءً كان ذكراً أو أنثى، صغيراً أو كبيراً، مؤمناً أو كافراً على خلافٍ عند العلماء في تحقق بعض أنواع الرؤيا كثرة وقلة، فإن الرؤيا تكون من الكبير والصغير، فإنها قد يراها الصغير غير البالغ، وتصح منه كما جاءت في رؤيا يوسف عليه السلام، فإن رؤياه كانت في حال صغره حينما رأى أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر رآها له ساجدة عليه السلام كما في سورة يوسف، فإنه رآها وهو غلام لم يبلغ، وتكون أيضاً من الكبير كما هو معلوم.
وتكون أيضاً من الكافر كما كانت في رؤيا ملك مصر، وكذلك في رؤيا جماعة من الجاهليين، كما في رؤيا كسرى حينما رأى نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك عمة النبي صلى الله عليه وسلم عاتكة حينما رأت علامة بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك مما يقع من الكفرة على خلاف في صفة تحقق ذلك هل هو من جهة النبوة أم من جهة استراق السمع كما هو في بعض أجزاء الوحي الذي يسرقه الكهنة، ويأتي مزيد كلام على هذا بإذن الله.
وكذلك ينظر إلى ذات المرء من جهة الرؤيا، وهذا أحد جهاتها، ويأتي مزيد تفصيل لذلك.
والرؤيا هناك أبواب منها للإنسان فيه اختيار بحسب حذقه، وذلك الاختيار يرجع إلى قدرة الإنسان وتمكنه، وهذا يقع في التعبير، وأما ما لا اختيار للإنسان فيه فهو نوع الرؤيا، فإن الإنسان ليس له خيار أن يرى الخير أو يرى الشر إلا بالأخذ بأسبابها، فإن الإنسان إذا أخذ بأسباب الصلاح والهداية والوقاية فإنه في الأغلب يرى الرؤيا التي تدله على الخير، أو تحذره من الشر، وهذا يفهم من عموم قول الله جل وعلا: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64]، فالخيار هنا بالأخذ بالأسباب لا بذات الرؤيا.
الرؤى والأحلام هي مما يحتاج إلى تفصيل وبيان لأقسامها، وتفصيلها لسنا بحاجة إلى الخوض فيه، وقد قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما جاء في الصحيح- حينما قال: ( الرؤى ثلاثة: حسنة وهي من الله عز وجل، وحديث نفس وهي من النفس، والرؤيا التي تحزن الإنسان وهي من الشيطان )، إذاً فهي على ثلاثة أقسام: رحمانية ونفسية وشيطانية، فالرحمانية هي التي يراها الإنسان وتحثه على الخير أو تحذره من الشر، وهي التي تفرح الإنسان من جهة معرفتها على سبيل الحقيقة، وأما ما كان من حديث النفس وهي النفسية فتكون مما يوافق حديث الإنسان فيما يفكر فيه، فإذا فكر الإنسان بشيء وقد أشغل باله به في حال يقظته رآه في المنام، فإذا صاحبت الرؤيا ما كان يعيشه الإنسان من تفكير وشغل بال فإن هذا من حديث النفس، وأما ما يحزن الإنسان ويسره ولا يعرف الإنسان وجهه، فإنه في الغالب من الشيطان، ولرؤيا الرحمن علامات كما أن لحديث النفس علامات، وكذلك لأحلام الشيطان علامات.
الرؤى متعلقة بفطرة الإنسان التي خلقه الله جل وعلا عليها، وهي ليست بحالة مضبوطة، حيث يرجع فيها إلى العقل، فقد يرى الإنسان الذي فيه سفه شيئاً، وكذلك الصبي، فتؤخذ رؤياه على ما يخبر بها، وذلك أن ما كان على سبيل التحمل والتكليف، فإنه يكون في حال اليقظة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( رفع القلم عن ثلاثة: وذكر منهم النائم حتى يستيقظ )، والنائم حينما يرى الرؤيا ويخبر بها فهذا من حالات الاستثناء التي يأخذها الإنسان في حال المنام، فيتحملها في حال المنام، ثم يبلغها في حال اليقظة، وهذا التكليف منصرف إلى البلاغ لا إلى ذات الرؤيا، وذلك أن الإنسان ليس له اختيار في ذات الرؤيا، وإنما اختياره في البلاغ الذي رآه، فيجب عليه أن يؤدي الرؤيا كما رآها من غير زيادة أو نقصان، ويأتي مزيد كلام على ذلك بإذن الله.
والرؤى متعلقة بفطرة الإنسان كما تقدم، فقد يراها الكافر وغيره، وهي موجودة ما وجد الجنس البشري، ووجد جنس العقل، وإن كان العقل ناقصاً فما وجد الإدراك، فإذا أدرك الإنسان فإن منفذ الرؤيا ممكن إليه، ولذا وجد علم الرؤى والتعبير عند كثير من الفلاسفة المتقدمين من فلاسفة اليونان والرومان، وكذلك فلاسفة الهند، وقد جاء عن جماعة من فلاسفة اليونان وغيرهم كـجالينوس و أرسطو وكذلك أرطميدورس وغيرهم أنهم كانوا ممن يعتنون بأبواب هذه العلوم تقنيناً وتقعيداً وتأويلاً، وقد صنفوا في ذلك جملة من المصنفات كـأرطميدورس وله خمسة من المصنفات، وهي مترجمة إلى العربية، وموجودة أيضاً بعدة لغات كالإنجليزية والفرنسية والهندية.
وهذه العلوم من جهة إدراكها ومعرفتها يرجع فيها إلى سبر الإنسان لذلك العلم، فإن ذات العلوم من جهة أصلها إذا أراد الإنسان أن يقعد لكل مكتسب يكتسبه الإنسان فإنه يرجع إلى فلسفة ربما ينكرها كثير من الناس، وهو أن الإنسان لا يمكن أن يبتكر شيئاً من المعلومات لم يدركه من جهة منافذ السمع التي تصل إلى قلبه، ومعلوم أن منافذ الإدراك التي تصل إلى الإنسان هي سمعه وبصره وحسه، ومن المنافذ الأخرى التي تصل إلى الإنسان من غير ذلك: عقل الإنسان في حال المنام، فإن الإنسان قد يحرم النظر، فيرى في منامه بعض الأشياء على سبيل الحقيقة، وهو نوع من انعكاس ما يراه الإنسان بغير نظر.
وكذلك ما يدخل في أبواب الحس من حس الإنسان بيده وبشمه وغير ذلك، فإن هذه المحسوسات توصل إلى القلب تلك العلوم، فيجمع الإنسان أخلاط تلك المعلومات والمتفرقات فيصبح لديه علم، فيجمع بين شتات العلوم، وكلما كثرت تلك الأجزاء تحصل للإنسان من دقائق العلم ما ربما يظن أنه لم يسبق إليه، وهي من جهة الأجزاء منثورة قد جمعها بشيء من خليط النوم واليقظة، أو من خليط السمع والبصر فتحقق لديه شيء من العلم، ولهذا لا يمكن للإنسان أن يبتكر فكرة ليست موجودة بجميع أجزائها، وهذا معلوم من جهة المعاني.
وكذلك من جهة المحسوسات، فلا يمكن للإنسان أن يعطى قلماً وورقة، ويقال له: ارسم شكلاً لم تره من قبل، فإن حاسة الإنسان تتوقف حينئذٍ، ولا يستطيع الإنسان أن يكتب شيئاً من ذلك؛ لأنه ما لديه من معلومات إما قد نقلها على صورتها أو ألف بين أجزائها، وأجزاؤها متنوعة، قد تكون آحاداً وعشرات ومئات وآلاف ونحو ذلك، والإنسان يسبح في تأليف ما يراه ويقيس عليه.
إذاً: عقل الإنسان هو قياس، ولا استطاعة لذلك العقل المجرد أن يخلق الأفكار، فهذا لا يمكن ومستحيل أيضاً، كما أنه يستحيل على الإنسان أن يخلق شيئاً من عدم، كذلك أن يخلق الإنسان جزء فكرة أو فكرة ليس لها وجود بأجزائها المتفرقة على سبيل الاستقلال، وهذا من سبره يجده ظاهراً بيناً.
ومعرفة الرؤى وأصولها هي من العلوم التي تأتي إلى الإنسان من غير اختيار، فيرى الإنسان الرؤيا، ثم يسبر أحوالها ويقيسها مع ما يتحصل لديه، فيقيس جملة من النتائج، منها تحليل وتقسيم الرؤى، ومنها كذلك تقسيم التعبير وأحواله ونحو ذلك، وقد يصيب الإنسان في ذلك ويخطئ بحسب قدرته في أبواب السبر.
وقد كان جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الحذق والدراية في أبواب الرؤيا، منهم من كان في الجاهلية وجاء الإسلام وهو من أهل الحذق، كـأبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى، فقد ذكر ابن سعد في كتابه الطبقات عن محمد بن عمر وهو الواقدي عن سعيد بن المسيب أن أبا بكر كان أحذق الناس أو أعبر الناس بالرؤيا في الجاهلية، وكان ابنتاه عائشة و أسماء قد أخذتا علم التأويل منه، وقد أخذ سعيد بن المسيب علم التأويل من أسماء بنت أبي بكر عن أبيها أبي بكر عليه رضوان الله تعالى، وكان هناك أيضاً من أهل التعبير والحذق في تعبير الرؤيا كـمحمد بن سيرين وغيرهم من أئمة التابعين، والناس يتباينون في إدراك ذلك بقدر قوة السبر وحدة الذكاء.
ومعرفة أنواع الرؤى مردها إلى ما جاء ميسراً من تقسيم الشارع الرؤى إلى ثلاثة أقسام، وبعض الأقسام التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تقسم إلى عدة أنواع.
وأما بالنسبة للتأويل فإن مرده في ذلك إلى جملة من العلوم المكتسبة:
منها السمع، وهو الوحي من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام الله جل وعلا قبل ذلك.
ومنها ما يعرفه الإنسان إذا سبر الرؤى وكذلك تعلقها بالأحداث، فإنه قد يتوفق ويتحصل لديه شيء من العلم الذي لم يكن لديه في السابق.
كذلك بالعلم المكتسب من غيره على سبيل التعلم، والناس يتباينون في ذلك بحسب الإدراك، وهذا العلم متفرق بين تلك الأنواع.
وقد يرى الإنسان الرؤيا من جهة الأصل فتكون كما رآها على حالها، كما جاء في رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة القدر أنه يسجد في صبيحتها على ماء وطين كما جاء في الصحيح، فجاءت على ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تكون مخالفة لذلك كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى غنماً سوداً وغنماً بيضاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الغنم السود العرب، والغنم البيض هم الروم )، وغير ذلك، فإنها قد تكون على جنس ظاهرها، وقد تكون على خلاف ظاهرها، ويأتي الكلام عليها بإذن الله.
بالنسبة للرؤيا، فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان منزلتها، وأنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، وقد جاء في ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس بن مالك ويرويه عنه ثابت ، ورواه عنه جماعة، وكذلك جاء من حديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى، وجاء من حديث عبد الله بن عمرو و عوف بن مالك و أبي سعيد الخدري و عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي في ذلك أيضاً جملة من المراسيل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة )، وجاء في بعض الألفاظ أنها جزء من سبعين جزءاً، وجاء في بعض الروايات أنها جزء من خمسة وأربعين، وجاء في بعض الروايات أنها جزء من أربعين جزءاً من النبوة، وأصح هذه الروايات أنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، وهذه أصح الروايات، ويليها بعد ذلك رواية سبعين، ويليها بعد ذلك رواية خمسة وأربعين، ثم الأربعون، وروي في ذلك أيضاً جملة من الروايات الضعيفة وبعضها واهٍ، وبعضها يصل إلى درجة الموضوع.
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ) اختلف العلماء في معنى ذلك، هل المراد بذلك أنها من النبوة على سبيل الحقيقة، واتفقوا على أن الرؤيا المتعلقة برسول الله صلى الله عليه وسلم ورؤيا الأنبياء أنها من النبوة على سبيل الحقيقة، وهذا ما جاء في الصحيح من حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى أنها قالت: ( أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح ) يعني: ظهوراً ووقوعاً، فتكون في الغالب كحال اليقظة، فهذا من النبوة ومن الوحي الصريح، وهذا قد دل الدليل عليه، وأما ما عدا ذلك فهل هي من النبوة على سبيل الصراحة كحال اليقظة، أم هي جزء دقيق في ذلك؟ ذهب جماعة من العلماء وهو قول ابن حزم ، وأبي بكر بن العربي ، والعراقي وغيرهم إلى أن الرؤيا ليست من النبوة على سبيل الحقيقة، وإنما هي نوع من الإلهام كإلهام الله جل وعلا للنحل، وإنما تكون الرؤيا من النبوة إذا حصلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء، كما جاء في قصة يوسف وغيره، أنها من النبوة فتكون على الحقيقة.
ومن العلماء من قال: إنها من النبوة على سبيل الحقيقة، ويستشكل بعض العلماء أن الكافر يرى الرؤيا فكيف تكون النبوة فيه ولو كانت شيئاً قليلاً؟ وهذا يأتي مزيد كلام عليه بإذن الله جل وعلا.
بالنسبة للرؤى التي تقدم الكلام عليها، فإنها قد تكون صادقة، وقد تكون كاذبة، وكذلك حديث النفس، وهذا محل اتفاق عند سائر الذين أثبتوا الرؤى وهم أهل الإسلام، وجماعة من أهل العقل من غيرهم، وثمة جماعة من أهل البدع كالمعتزلة وغيرهم نفوا أبواب الرؤى، وذلك أنهم لا يؤمنون إلا بالأشياء المحسوسة، وما عدا ذلك فإنهم لا يؤمنون به، والنصوص من كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرة بينة وهي مثبتة لما نفوه.
وهذه التقسيمات من جهة إصابتها على درجات متباينة.
فقد تكون الرؤيا خليطاً بين الصواب والخطأ، وقد تكون صحيحة بتمامها، وقد تكون خطأ بتمامها، ويتعلق ذلك بحال الرائي، وبحال المعبر وقوته وحذقه في ذلك، فإذا كان من أهل الحذق والدراية فإنه يؤول الرؤيا الصالحة بتمامها، فتكون صادقة ويكون تأويله صحيحاً، فيأتي التأويل تاماً، وإذا كان قاصراً فإن الرؤيا الصالحة تكون من جهة تعبيرها صادقة من وجه وخاطئة من وجه، صادقة من كونها رؤيا صحيحة، وخاطئة من جهة تعبيرها، فيظن الإنسان أن الخلل في الرؤيا، والخلل في التعبير، وكثير من الناس لا يدرك موضع الخلل في ذلك، ومرده إلى أهل الحذق والدراية.
ومهما بلغ الإنسان من الحذق والدراية فإنه يخطئ في ذلك، وقد أخطأ في ذلك أكثر أهل الديانة كـأبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى كما جاء الخبر بذلك في الصحيح.
واختلف العلماء في إصابة الرؤيا وسبب كونها خاطئة أو غير خاطئة، أو كون هذه الرؤيا من الأحلام أو من الرؤى، فقد جاء جملة من الأخبار تتعلق بالروح والإعراج بها إلى السماء، وأن الأرواح تعرج إلى السماء فتلتقي وتتحدد، روي في ذلك بعض الأخبار مرفوعاً وموقوفاً من حديث عبد الله بن عباس ؛ من طريق جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس عند تأويل قول الله جل وعلا: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر:42]، فالله سبحانه وتعالى يتوفى الأنفس في منامها، فالتي يأمر الله جل وعلا بقبضها عند موتها لا ترجع إلى صاحبها، والتي يرجعها الله جل وعلا يأمر بإرسالها إلى صاحبها.
وأما من جهة الصحة والخطأ فقد جاء في ذلك بعض الموقوفات والمرفوعات، منها ما رواه ابن مندة في كتابه الروح والنفس من حديث محمد بن عجلان عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه (أن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى سأل علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى: ثلاثة ليس عندي منهن علم. قال: وما هن؟ قال: الرجل يتحدث بالحديث إذ يتحدث به ينسى وإذ نسي فيتذكر، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن على القلب سحابة كحال القمر تكون عليه سحابة فيظلم، ثم تزول فيضيء، كذلك القلب تكون عليه ظلة إذ يتحدث فتأتيه فينسى، ثم تزول فيتذكر، قال: وأما الأخرى فالرجل يحب الرجل ولم ير منه خيراً، والرجل يكره الرجل ولم ير منه شراً. قال: فتلك الأرواح تلتقي في السماء، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف. قال: فالرؤيا تكون صادقة وتكون كاذبة. قال: فتلك الأرواح تغرق في نومها، فإن وصلت العرش قبل أن تستيقظ صدقت الرؤيا، وإن استيقظت قبل العرش كذبت الرؤيا).
وقد جاء في ذلك خبر آخر أيضاً عند ابن مندة في كتابه الروح والنفس عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى بنحو هذا الخبر ولفظه: (إذا اجتالتها الشياطين قبل أن تصل إلى العرش كذبت الرؤيا، وإن وصلت العرش قبل أن تجتالها الشياطين صدقت الرؤيا)، والله أعلم بذلك، والأخبار في ذلك معلومة.
والتقاء أرواح الناس في السماء ثبوته من جهة الخبر فيه نظر، والأخبار في ذلك قد جاءت كثيرة من حديث عبد الله بن عباس وجاء أيضاً عند البخاري في كتاب التاريخ من حديث عبد الله بن عمرو موقوفاً، وجاء أيضاً في حديث علي بن أبي طالب السابق، وقد جاء في ذلك أيضاً جملة من الأخبار، وفيها ضعف، وربما يقال بعدم صحتها من وجه، وذلك أن أرواح الشهداء تكون في حواصل طير خضر في الجنة تطوف فيها، ثم تكون في قناديل تحت العرش، فإذا كانت كذلك فكيف تلتقي معها أرواح الكفار، إذا كانت ستلتقي معهم، ثم كذلك إما أن تكون أرواح الكفار تأتي إلى الجنة، أو أرواح أهل الإيمان تخرج من الجنة، والله جل وعلا حرم على من دخل الجنة أن يخرج منها، وهذا له وجه من النظر، وقد يختل هذا النظر ببعض القوادح، وليس هذا محل بسط هذه المسألة.
وقد يعرف صدق الرؤيا من جهات متنوعة:
من هذه الجهات: وضوح الرؤيا، وذلك أن الرؤيا إذا كانت واضحة ولم تكن خليطاً، فإنها أقرب إلى الصواب من غيرها.
وكذلك من حال الرائي، فإن الرائي كلما كان من أهل الصلاح والديانة والعبادة كلما كانت رؤياه أقرب إلى الصدق، وأقرب إلى الإصابة، ولهذا كان مقام النبوة أعلى، فكانت رؤيا الأنبياء صادقة، وذلك أن الشياطين التي لها أثر على الرؤيا الكاذبة لا تأتيهم، وكذلك من كان دونهم، فإذا كان الإنسان من أهل الصلاح والديانة كانت رؤياه أقرب إلى الصدق، وكان من أهل التأويل الصادق في الأغلب.
وأما الكافر فقد يرى الرؤيا، ويكون أحد أطرافها من أهل الإيمان والصلاح، كما كانت الرؤى في رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعلقة ببعثته عليه الصلاة والسلام، فتكون ظاهرة ولو كانت من كفرة، كذلك في قصة يوسف عليه السلام لما رأى ملك مصر، وكذلك رؤيا السجينين معه عليه السلام، وكانت الرؤيا متعلقة بنصرة يوسف عليه السلام، وكذلك رؤيا التمكين له كانت صادقة لوجود أحد أطرافها من الصالحين، ولو كانت من كافر فإنها تكون أقرب إلى الصواب من غيرها.
ويؤخذ من الاستنباط أن الرؤيا كما أن صدقها يعتمد على جهة الرائي، كذلك ثمة أسباب متعددة تدل على صدقها، وأنها أقرب إلى الصحة، منها ما يتعلق باستعداد ذلك النائم كالوضوء والدعاء، ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حث على الوضوء قبل النوم، وجاء بالنص عن أبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى، كما رواه البيهقي في شعب الإيمان عن زياد بن نعيم عن أبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى أنه كان يسأل من حوله: (من رأى منكم رؤيا فليحدثنا بها)، وقال: (لأن يرى رجل مسلم يسبغ وضوءه فيّ رؤيا خير لي من كذا وكذا)، مما يدل على أن إسباغ الوضوء وكذلك النوم على الوضوء من علامات صدق الرائي، وكذلك صدق هذه الرؤيا.
وإذا قلنا: إن الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، والنبوة من جهة الأصل خص الله جل وعلا بها نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو بالمقام المحمود، كذلك من جهة تخصيص صاحبها ينظر إلى فضله ومنزلته، ولهذا الذي يؤول الرؤيا من غير الرجوع إلى صاحبها تأويله قاصر، والدليل على ذلك ما جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح من حديث سليمان عن ثابت عن أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ترى الرؤيا فتعجبه، وإذا رأى أحد رؤيا ولم يكن يعرفه سأل عنه، فإذا ذكر بخير كانت له أعجب )، وإسناده صحيح، وقد قال الضياء في كتابه المختارة: إن هذا الخبر على شرط الإمام مسلم عليه رحمة الله؛ لهذا معرفة منزلة الراوي من جهة صلاحه ومعرفة حاله من الأمور التي تصدق الرؤيا، وتكون أقرب إلى صحتها وصدقها.
كذلك لما كانت النبوة التي هذه الرؤيا من أجزائها قد اختصها الله جل وعلا بسيد الخلق دل ذلك على فضل الإنسان الرائي من جهة صدق رؤياه.
كذلك من وجه آخر النبي صلى الله عليه وسلم قد نزلت عليه النبوة، وكانت هذه الرؤى تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير بقاع الأرض وهي مكة والمدينة، ولم ينزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء خارج مكة والمدينة إلا في النزر اليسير.
إذاً يدل هذا على أن أفضلية المكان لها أثر، فالذي يرى الرؤيا في المساجد أو في المسجد الحرام أو في المدينة فهذا من قرائن قوة الرؤيا وصدقها.
كذلك إذا رئي في هذه الرؤيا من كان من أهل الديانة والصلاح والصدق ونحو ذلك، ولو كان الرائي كافراً فإذا كان أحد أطرافها وأجزائها من أهل الصلاح والديانة، فهذا يكون من وجوه الخير وصدق الرؤيا، كما في رؤيا جملة من الكافرين في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما في قصة يوسف عليه السلام، وهذا من الأمور التي ينبغي أن تؤخذ بالاعتبار، ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها بالاعتبار كما تقدم في حديث أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى.
ولو كانت الرؤيا صادقة، وغلب على ظن الإنسان الصدق، فالرؤيا ليست بحجة من جهة العمل، وليست بملزمة، وحكى الاتفاق على ذلك غير واحد من العلماء كـأبي زرعة وغيره، ونص عليه أبو بكر بن العربي ، وذلك أن الشريعة قد تمت، والله سبحانه وتعالى أمرنا بالأخذ بكتابه العظيم، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الله جل وعلا: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، فمن جهة تمام الدين الدين تام، وليس لأحد فيه إضافة لا برؤيا، ولا بغيرها، وذلك أن غيرها من غير الوحي، والرؤيا هي جزء يسير يكتنفه جملة من التوهمات والأخلاط التي تشكك في صدقه، وذلك أن الرؤيا كحال الخبر الضعيف الذي قد يصح وقد لا يصح فلا يحتج به، ويختلف من جهة القرائن المحتفة به، فقد يحتف بقرينة فيقوى عند الإنسان، فيأخذ به على الظنة.
وبعض العلماء يأخذون بالحديث الضعيف إذا احتفت به قرينة، أو كان ذلك من أبواب الاحتياط، كما نص على ذلك الإمام أحمد عليه رحمة الله، وعمل به جماعة من العلماء كالإمام النووي عليه رحمة الله، وينص الإمام أحمد عليه رحمة الله تعالى على الأخذ بالحديث الضعيف في أبواب الاحتياط كالحض والمنع إذا اعتضد بما هو أقوى منه كالقياس، أو عمل الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، فإنها تحث الإنسان على العمل أو تحذره من الإقدام عليه.
إذا جاءت الرؤيا مخالفة للوحي، فإننا نقول: إن هذه الرؤيا من الشيطان، وهذا من علامتها.
وكذلك إذا كانت الرؤيا خليطاً، أو من أضغاث الأحلام التي من الشيطان وهي أنها خليط ممزوجة بين عدة أحوال وتقلبات، فإن هذا من علامات كذبها، ولهذا سمى الله جل وعلا الرؤيا بشرى، وسمى الأحلام التي هي من الشيطان أضغاث أحلام، كما قال تعالى: أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ [يوسف:44]، فسماها الله جل وعلا أضغاثاً، والأضغاث هي الخليط، كالحطب يحطبه الإنسان والعشب يجمعه الإنسان لبهائمه، أو يشب به ناراً، فإنه يكون خليطاً من أعواد الإذخر، ومن سمر الأرض وغيرها، فتسميه العرب أضغاثاً، فهذا من الخليط، فإذا رأى الإنسان أنه في عدة أحوال واجتمع له عدة أجناس من الرؤى في حال واحدة، فإن هذا من علامات كذبها.
وكذلك مما يدل على ورود الشيطان في تلك الرؤيا، إذا صاحب الرؤيا احتلام، فإن الاحتلام من الشيطان، فهذا من علامات كذبها، وإذا رأى الإنسان رؤيا وفيها احتلام فإن هذا من الشيطان، وقد جاء في ذلك بعض الأخبار منها الموقوف والمرفوع، منها ما رواه الدينوري في كتابه المجالسة من حديث معلى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عبد الله بن عباس أنه قال: (الأنبياء لا تحتلم، الاحتلام من الشيطان)، وروي هذا من حديث داود بن الحصين عن عكرمة عن عبد الله بن عباس عند الطبراني ، ويرويه إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي عن داود عن عكرمة عن عبد الله بن عباس ، وهذا الخبر جاء مرفوعاً، وهو معلول بـإبراهيم، وروي من غير هذا الوجه، وهي طرق معلولة.
وينص غير واحد من العلماء على أن الاحتلام الذي هو إنزال الرجل في منامه أن ذلك من الشيطان، ولهذا ينصون على أن الأنبياء لا يحتلمون، لكون ذلك من الشيطان، والشيطان لا يصل إلى الأنبياء، فليس له عليهم سبيل، وهذا من القرائن التي يؤخذ منها ذلك الأمر.
والرؤيا من أجزاء النبوة، وبابها في ذلك دقيق، وتعدد الأجزاء في الروايات المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل هي ستة وأربعون، أم هي خمسة وأربعون أم غيرها؟
بعض العلماء قال: إنه ليس في ذلك تضاد، كما نص على ذلك ابن عبد البر عليه رحمة الله تعالى وغيره، قالوا: هذا من اختلاف التنوع لا من اختلاف التضاد بحسب اختلاف الرأي، فكلما كان الإنسان من أهل الديانة والصلاح والعبادة المتينة، واجتمعت له أسبابها كانت الأجزاء لديه أقل، وكلما كان الإنسان لم يأخذ بأسبابها وقل الدين لديه، كانت الأجزاء لديه في ذلك أكثر.
ومنهم من أول ذلك بحسب ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، إذا كان ذلك خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الوحي ينزل عليه في ثلاثة وعشرين سنة، والرؤيا التي كانت في الابتداء ستة أشهر، وهي من جهة جمعها تكون ستاً وأربعين، وهذا قد نص عليه بعض العلماء، وهو محتمل، ولكن مرده إلى الظن؛ لأن إثبات أن الرؤيا كانت لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه المدة لم تكن بيقين في النص المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الرؤيا الصادقة يستحب للإنسان ألا يحدث بها إلا من أحب، وذلك كما في قصة يوسف، ولهذا نهى يعقوب عليه السلام يوسف عليه السلام أن يحدث بها إخوته، مع كون هذه الرؤيا ظاهرة في أن يوسف سيظهر على إخوته وعلى أبويه، وأنهم سيخرون له سجداً عليهم السلام، مع ذلك يعقوب عليه السلام لم ينهه ويزجره لأنه حدثه بها، وإنما نهاه أن يتحدث بها إلى إخوانه، وذلك أن الأب يحب أن يكون ابنه فوقه، وأما بالنسبة للأخ فلا يحب أن يفوقه أخوه، وهذا معلوم، ولهذا لم ينكر يوسف عليه السلام أن حدثه بذلك بل قال: لا تحدث بها إخوتك، وهذا ظاهر.
وينبغي للإنسان إذا رأى رؤيا ألا يحدث بها إلا من أحب من أهل الرأي والحذق، وقد جاء في ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود في كتابه السنن من حديث يعلى عن وكيع بن عدس عن عمه أبي رزين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الرؤيا معلقة برجل طائر، متى أولت وقعت )، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فلا يحدث بها إلا واداً أو ذا رأي ) يعني: صاحب تعبير وصاحب حذق، ولو كان الإنسان لا يعرفه، فإنه يحدثه بذلك لعله يصيب رأياً حسناً يحث الإنسان ويبشره بما هو عليه.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم حث الإنسان ألا يحدث برؤياه إلا من أحب كما جاء في الصحيح.
وأما تلاعب الشيطان بالإنسان فإنه ينبغي للإنسان ألا يحدث به، وهذا كما يرى الإنسان ما يحزنه.
كذلك الخليط الذي لا يمكن أن يكون على سبيل اليقظة، فإن الإنسان لا ينبغي له أن يتحدث به، كما جاء ذلك الأعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ( يا رسول الله! إني رأيت كأن رأسي قد قطع وهو يتدحرج أمامي، فقال: لا يتحدث أحدكم بتلاعب الشيطان به ).
إذاً ينبغي للإنسان في حال الرؤيا الحسنة ألا يتحدث بها إلا عند من أحب، كحال الأخبار الحسنة وحظوظ الدنيا التي تحصل لديه، فإنه ينبغي ألا يحدث بها إلا من أحب.
وينبغي أيضاً أن يحذر الإنسان من التحديث جزافاً في الرؤيا، وأن يزيد الإنسان فيها وينقص؛ لكونها من أجزاء النبوة، والكذب في الرؤيا كبيرة من كبائر الذنوب، وهو أعظم من الكذب العادي في غير الرؤى.
والكذب تعظيمه يرجع في ذلك إلى عدة جهات:
الجهة الأولى: جهة الرائي.
الجهة الثانية: جهة المتحدث إليه.
الجهة الثالثة: هي جهة المكذوب عنه.
الجهة الرابعة: ما كذب فيه، فالإنسان الكاذب تختلف منزلته من جهة تعظيم الكذب في حقه، فإذا كان عظيماً كالملك ونحو ذلك، فإن كذب الملك أعظم من كذب غيره، ولهذا جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة لا ينظر الله إليهم، وذكر منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الملك الكذاب )، أي: أنه يكذب؛ لأن حاجته إلى الكذب أقل من حاجة غيره؛ لأنه لا يرجو مصلحة عند أحد.
كذلك المكذوب عليه، فالذي يكذب على الله جل وعلا أعظم ممن يكذب على غيره، ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18]، فالذي يكذب على الله جل وعلا فريته أعظم من فرية غيره، ويكون يوم القيامة ممن يفتضح، ويشهد عليه الأشهاد أن هذا ممن كذب على الله سبحانه وتعالى بأن أفتى أو ذكر شيئاً مما يتعلق بالنبوة، ويدخل في ذلك ما يتعلق بأبواب الرؤيا لتعلقها بشيء من أمور الوحي.
وقد عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الكذب بالرؤيا كما جاء في صحيح البخاري وغيره من حديث عكرمة عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من تحلم بحلم لم يره كلَّف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بعاقد )، وقد جاء أيضاً في حديث عبد الله بن عمر -وهو في الصحيح أيضاً- من حديث عبد الرحمن بن عبد الله مولى ابن عمر عن أبيه عن عبد الله بن عمر أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن من أفرى الفرى أن يري الإنسان عينه ما لم تر )، ولهذا يجب على الإنسان أن يحذر من التحديث بالرؤيا التي لم يرها، وأن يحذر من ذلك، وليعلم أنه كبيرة من كبائر الذنوب.
كذلك من جهة المادة أو النوع الذي يفتري فيه الإنسان، فإذا كان من الوحي فإنه يقتضي امتثالاً وتعبداً، وإذا كان من الكذب على الناس في الإخبار فهو بحسب الذي يرجع إليه، فإذا كان ثمرة ذلك خصومة أو تفريقاً بين اثنين ونحو ذلك، فإن هذا من عظائم الأمور التي يجب على الإنسان أن يحذر منها؛ لأن أثرها في ذلك عظيم، وإنما عظم الكذب في الوحي لكونه كذباً على الله سبحانه وتعالى، ولكونه كذباً على الوحي، فإنه يقتضي العمل على سبيل التعبد، وقد تجتمع هذه الأجزاء في إنسان فيكون أعظم فرية، كحال الإمام الذي يكذب على الله جل وعلا، ويكذب على أناس يقتدون به، فكذب على الله وكان ملكاً، وكذب في الوحي على أناس يقتدون به فاجتمعت فيه أسباب التعظيم والتغليف.
كذلك ينبغي على الإنسان في حكايته للرؤيا أن يدقق فيها، وعلى المعبر أن يدقق في تعبيره، وألا يتحدث جزافاً، وذلك من جهتين: كون التحديث بالرؤيا على سبيل الفرية، والزيادة فيها على سبيل التعمد كبيرة من كبائر الذنوب لتعلقها بالوحي، والرؤيا لا تكون لها ثمرة في نفس الإنسان ما لم يظهر له حسنها، أو بشارتها، أو نذارتها، أو تأويلها الصادق، فيكون حينئذٍ تأويلها من ثمار تلك الرؤيا.
والتأويل من غير بينة وعلم من المجازفة في أمر النبوة، فيكون حينئذٍ كحال تأويل بعض النصوص في أبواب الشريعة، وذلك في بعض المراتب لا يقال: إنه من تأويل ما يتعلق مثلاً بالغيبيات، أو ما يتعلق بالأوامر والنواهي ونحو ذلك، وإنما يكون دونها مرتبة، وذلك لكون هذه الرؤى جزءاً من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، وأجزاء الشريعة تتباين، منها ما كان على سبيل التأكيد والتغليظ كأمور العقائد، وكذلك ما يلحق بها من أعمال الجوارح العملية، كالصلوات، والحج والصيام، والزكاة وغيرها مما ينبغي للإنسان أن يحتاط فيه بحسب مادة الرؤيا، فالفرية في تأويلها على سبيل الجزاف أعظم.
وينبغي للإنسان ألا يتصدر لذلك إلا وقد أصبح من أهل المعرفة والدراية بها، ولهذا فإن تعظيم الكذب في تأويل رؤيا مردها إلى أمر عظيم من الشريعة يكون بحسب أثرها، والمادة المكذوبة فيها، وبحسب المعبر من جهة مكانته عند الناس، وأثرها على السامع.
تقدم الإشارة إلى أن من علامات صدق الرؤيا المكان الذي تقع فيه، والزمن الذي تقع فيه، فالأزمنة والأماكن الفاضلة قد يقال: إنها من القرائن التي تصدق فيها الرؤيا، كما اختار الله جل وعلا لوحيه، والرؤيا جزء من وحيه سبحانه وتعالى إلى نبيه، وقد كان في مكة والمدينة، وهي أفضل البقاع عند الله جل وعلا.
وقد يستنبط من ذلك أن الله سبحانه وتعالى حينما أنزل الوحي على نبيه عليه الصلاة والسلام في هذين البلدين سبب تخصيص شيء من أحكام دينه بغير هذين البلدين، فشريعة الصلاة لتعلقها بالتوحيد فرضت في السماء، فشرعها الله سبحانه وتعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام في السماء وهي أعظم منزلة ومكاناً من الأرض، وذلك لتشريف ومنزلة ساكنيها لعلوها منزلة وكذلك لشرف ساكنيها، كما جاء في قصة الإسراء ورؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنبياء والمرسلين، والله جل وعلا فوق ذلك مستوٍ على عرشه، ويكفي في ذلك أن الله سبحانه وتعالى ينزل في السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل.
إذاً من علامات صدق الرؤيا وقوعها في الأزمنة الفاضلة.
وأما الأماكن كأن تكون مثلاً في المساجد أو البقاع المفضلة ونحو ذلك، وهذا بدلالة القرائن، وكذلك في اقترانها بصالح، كذلك من جهة ذات الرائي، وكذلك من جهة ذات الرؤيا فإنه ينظر إليها.
وهناك خلاف عند العلماء من جهة الأزمنة، هل ثمة أزمنة فاضلة من الليل والنهار؟
روي في ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء في سنن الترمذي وغيره من حديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أصدق الرؤيا رؤيا الأسحار )، وهذا الخبر خبر ضعيف، وقد جاء عن ابن سيرين -وهو من أئمة الحذق في التأويل- عند البخاري من حديث ابن عون عن ابن سيرين أنه قال: رؤيا النهار كرؤيا الليل، يعني: على حد سواء، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض رؤاه ليلاً، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض رؤاه نهاراً، كما جاء في البخاري من حديث أنس بن مالك قال: ( حدثتني أم حرام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عندها -والقيلولة في النهار بعد الظهر- فقالت: قال عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قام مبتسماً، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: إني رأيت أناساً من أمتي ركبوا البحر كأنهم الملوك، وقالت: ادع -يا رسول الله- أن أكون منهم، فقال: أنتِ منهم ). وهذه الرؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت نهاراً.
ومن العلماء من يقول: إن الرؤيا لا تكون في حال استغراق النوم، وإنما في حال هدوئه بعد انتهاء استغراقه وقبيل يقظة الإنسان، ومرد ذلك إلى التجربة، ولا أعلم في ذلك نصاً صحيحاً صريحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإنما هي جملة من القرائن تقدمت الإشارة إليها.
وقد جاء النص في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أنواع الرؤى أنها تكون صادقة، كالرؤيا التي يراها الرجل الصادق في الحديث، وهذا مرده إلى الصالح، فالصالح لا يمكن أن يعتاد الكذب وأن يتحراه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح الإمام مسلم يقول: ( إذا تقادم الزمان -وجاء في رواية: آخر الزمان- لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثاً )، يعني: أن الإنسان كلما كان من أهل الصدق في قوله صدقت رؤياه، وفي آخر الزمان تصدق، وذلك لبعدهم عن النبوة، وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى أن الله جل وعلا يعوض المؤمن شيئاً من البشارة والنذارة.
وينبغي للإنسان في تأويل الرؤيا أن يكون من أهل الحذر، وإذا كان من أهل التأويل، وعرف شيئاً فإنه يؤوله ولو أخطأ في ذلك فإنه لا يأثم، ولهذا تأول أبو بكر عليه رضوان الله تعالى بعض الرؤى وأخطأ، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث عبيد الله بن عبد الله عن عبد الله بن عباس أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا رسول الله! إني رأيت رؤيا، كأن ظلة في السماء تنطف سمناً وعسلاً، ثم مد سبب من السماء فأمسك به رجل حتى علا، ثم كان رجل بعده أمسك به ثم علا، ثم أمسك به رجل بعده، ثم علا، ثم أمسك به رجل فانقطع، ثم وصل فعلا، فقال أبو بكر : لأعبرنها يا رسول الله! قال: اعبرها، فقال: تلك الظلة القرآن، وأما السمن والعسل فهو الخير فيه، والناس بين مستقل ومستكثر، وذلك أنهم يأخذون بأوانيهم -يعني: من ذلك السمن والعسل- قال: وأما من أخذ بذلك السبب فعلا فهو أنت، ثم يأخذ به رجل بعدك، ثم رجل، ثم رجل فينقطع، ثم يوصل له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً، فقال: يا رسول الله! والله لتخبرني بما أصبت وأخطأت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقسم ).
وفي هذا جملة من المسائل:
منها أنه لا حرج على الإنسان أن يؤول الرؤيا مع وجود الفاضل، وذلك أن أبا بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى أول تلك الرؤيا مع وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويظهر أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يؤول تلك الرؤيا لكونها فيها شيء من الفتنة لبعض أصحابه.
ومن الحكمة التي ينبغي أن يتحلى بها المعبر فلا يخبر بكل شيء يعلمه من حال الرؤيا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين حال الإصابة، ولم يبين حال الخطأ، وإنما أشار لورود خطأ قد يكون يسيراً، وقد يكون كثيراً، ويظهر هنا من جهة الأصل حذق أبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى وأن الخطأ في ذلك يسير، ولهذا صدقه ما جاء بعده مما كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه الرؤيا متعلقة بعموم الخير للأمة، وبحسب جنس ما رؤي والسمن والعسل من الأمور المحمودة المحببة عند الناس، فأولت على أعظم أجناس الخير، وهو الوحي.
والإنسان لا حرج عليه إذا كان ثمة نذارة أو تحذير لشخص أن يخصه به، وألا يحدث به غيره، ولهذا الشافعي عليه رحمة الله تعالى رأى رؤيا في الإمام أحمد قبل نزول فتنة خلق القرآن والأذية التي تلحقه، وكان الإمام الشافعي عليه رحمة الله تعالى بمصر، فكتب إلى الإمام أحمد بذلك حتى يستعد لتلك الفتنة عليهما رحمة الله.
ولا حرج على الإنسان أن يعمل بتلك الرؤيا بالبعد عن شخص، أو الدنو منه، إذا غلب على ظنه وتأكد، واجتمعت في ذلك الأسباب من غير النظر إلى هوى أو ميلان نفس، ونحو ذلك، وأن يحترز الإنسان في ذلك، وقد جاء عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى عند ابن أبي شيبة من حديث محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب أن قاضياً ولاه عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى، فجاء إليه فقال: يا أمير المؤمنين! إني رأيت الشمس والقمر يقتتلان، ورأيت النجوم بينهما، يعني: تتقاتل، فقال: مع أيهما كنت؟ فقال: كنت مع القمر، فقال: والله لا أولينك شيئاً، واستنبط عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى ذلك من قول الله جل وعلا: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ [الإسراء:12]، وذلك أن الشمس باقية، ونورها أقوى، وأثرها أيضاً في الناس أنفع، بخلاف القمر، وهذا من الحذق في التأويل، ولا حرج على الإنسان أن يحذر.
وأما أن يقلب الرؤيا التي تكون مثلاً نذارة، فيقلبها إلى خير محض وبشارة، فإن هذا من المجازفة وهو من الكذب، ولهذا ذكر ابن عبد البر عليه رحمة الله في كتابه التمهيد أن الإمام مالكاً عليه رحمة الله قال: (أيؤول الرجل الرؤيا من غير علم؟ فقال: أيلعب بالنبوة؟)، وقال: (إن أحسن التأويل فليخبر به، وإذا كان شراً فليقل خيراً أو ليصمت، فقال: إذا كانت شراً أيؤولها على خير؟ قال: لا يكذب، التعبير من النبوة، فلا يلعب به)، وبه يعلم أن الإنسان إذا رأى شيئاً مما يسوء ولم يكن ثمة وجهاً في ذلك، فإنه ينبغي للإنسان أن يسكت عن التأويل، ويحثه على الدعاء والعمل الصالح، والإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى، فإن هذا هو الأولى.
وأما أن يقلب الرؤيا فيقول: هذه بشارة فهذا من الكذب، وينبغي على الإنسان أن يحذر من هذا.
وثمة نصوص موجهة إلى ذات الرائي، ونصوص موجهة إلى المعبر، وهذه مما تقدم الإشارة إلى شيء منها.
أما بالنسبة لما يخص الرائي، فإنه متعلق بأسباب صدق الرؤيا، وأن يحدث بالرؤيا من أحب من أهل الصلاح لا من يظهر منه الحسد، وإن كان فيه صلاح، فإن إخوة يوسف هم من أهل الصلاح، ولكن ما خلا جسد من حسد، فينبغي للإنسان ألا يحدث بذلك إلا من أحب، وكذلك إذا رأى خيراً في إنسان فإنه ينبغي أن يبادر بإخباره بذلك، ولهذا يقول أبو بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى فيما رواه البيهقي من حديث زياد بن نعيم قال: لأن يرى الرجل المسلم فيّ رؤيا وهو مسبغ الوضوء خير لي من كذا وكذا، يعني: أنه يبشره بشيء من الرؤيا، وهذا من الأمور الحسنة التي ينبغي للإنسان أن ينقلها لصاحبها، كما هو ظاهر في أصل الرؤى، ولهذا جعلها الله جل وعلا بشارة كما في قول الله سبحانه وتعالى: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64] فينبغي للإنسان أن يبادر بإبلاغه، وإذا كانت من أمور الشر ونحو ذلك، فإنه يحثه على العمل، ويدعوه إلى الأصول العامة.
وبالنسبة للمعبر عليه أن يحذر من الفرية والكذب والخرص، فإن هذا من التحدث في أمر النبوة، فعلى الإنسان أن يحذر من ذلك غاية الحذر، وأما المجازفة في ذلك والخرص أو الحديث بالظنة ونحو ذلك، فأمره خطير من جهة أن هذه الرؤيا تتعلق بالنبوة، كذلك ربما يعمل بها بعض الناس، وكذلك ربما تمرض الإنسان، وتدعوه إلى الهم، وقد وقع ذلك لبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث أبي قتادة قال: ( إني كنت أرى الرؤيا فتمرضني، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأى أحدكم الرؤيا تسوءه فليتفل عن يساره ثلاثاً، وليتعوذ من الشيطان الرجيم، ولا يتحدث بها فإنها لن تضره )، وهذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه جملة من الفوائد، منها أن الرجل ولو كان صالحاً قد يرى الرؤيا فيهتم لها وتؤذيه في نفسه ونحو ذلك وهي لا تضر الإنسان، فإذا كان ذلك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أمنهم، فإنها في غيره من باب أولى، كذلك إذا كانت تسوءه فإنه لا يتحدث بها.
وهل يقال: إن عدم تحديث الإنسان بها علامة على عدم وقوعها؟ هل يقال: إن على الإنسان ألا يتحدث بالرؤيا السيئة كفاً لشرها الذي ربما سيطرأ عليه أم هو من باب دفع الكذب ووساوس الشيطان؟
قيل: إن ذلك يحتمل الأمران: من جهة كونها من الكذب، فقد تكون من الكذب والفرية، ومن حديث الخرافة، فلا يتحدث بها إذا كانت تحزن الإنسان، وقد تكون أيضاً مما يؤول على هذا الوجه، فالرؤيا قد تحتمل الوجهين، تحتمل التأويل الحسن والتأويل السيئ، وذلك أن الرؤى فيما يظهر لي كحال الزجاجة المقعرة لها وجوه، قد تري الإنسان شيئاً من وجه، ومن وجه تري الإنسان شيئاً، فإذا عبرت على السيئ تكون سيئة، وإذا عبرت على الخير تكون من الخير.
وينبغي للإنسان إذا كان من أهل الحذق فرأى لها وجهين أن يأخذ بوجه الخير، ولا يحدث بالوجه السوء فتقع على ما هي عليه، وهذا ظاهر في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي رزين: ( الرؤيا معلقة برجل طائر، فإذا أولت وقعت )، والمراد أنها تقع على أحد هذين الوجهين: على وجه السوء أو على وجه الخير، وكذلك يؤيد هذا ما جاء في سنن الدارمي من حديث سليمان بن يسار عن عائشة عليها رضوان الله تعالى (أن امرأة كانت تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجها يغيب في التجارة، فكانت تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخبره أنها ترى أن سارية بيتها وقعت، وولدت ولداً أعور، فيقول لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرجع زوجك سالماً، وتلدين غلاماً، ثم إنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقيت عائشة عليها رضوان الله تعالى، فقالت لها: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثتها بالرؤيا، فقالت: إني رأيت أن سارية بيتي سقطت أو انكسرت وولدت ولداً أعور، فقالت: لا يرجع إليك زوجك، وتلدين ولداً فاجراً، فلم يرجع زوجهاً، وولدت ولداً فاجراً، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته بتلك المرأة، فقال: مه يا عائشة ! عبري أو أولي الرؤى على خير وجهها، فإنها إذا أولت وقعت )، ويؤيد هذا ما جاء في مستدرك الحاكم: ( أن الرؤيا إذا عبرت وقعت ).
ويقال: إنه ينبغي للإنسان إذا رأى فيها أكثر من وجه أن يحملها على الوجه الحسن، وإذا رأى لها وجهاً سيئاً واحداً ينبغي له ألا يؤولها، وأن يدعوه إلى الخير، وإذا رأى الإنسان أمراً سيئاً، وألح على الرائي، فإنه لا يجيبه في ذلك مهما ألح ولو حلفه، ولهذا أبو بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى في هذه الرؤيا، مع أنه ليس الرائي، قال: ( والله لتنبئني -يا رسول الله- بما أصبت وأخطأت، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تقسم )، ويظهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخبره بذلك التأويل، وذلك أن الرؤيا تقع إذا أولها ولو كانت على وجه واحد، وذلك أنها في أبواب الخير تكون من أبواب البشارة، وإذا كان الإنسان يستدرك فيها أمراً من عمل صالح ونحو ذلك كانت إنذاراً فيبلغها الإنسان، وإذا كانت من الشر المحض الذي يأتي الإنسان، وكان الرائي في ذلك رؤياه يظهر فيها الصدق، فإنه لا يجوز للإنسان أن يخبر بتلك الرؤيا؛ لأنها تحبط الإنسان وتمرضه وتحمله في ذلك هماً، وكذلك فإن الرؤيا قد تكون صادقة، وقد تكون أيضاً من الرؤى الكاذبة، فينبغي للإنسان أن يحذر من ذلك؛ لأنه إذا أخطأ من هو أولى منه كـأبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى، فإنه قد يخطئ، وكذلك قد يخطئ الناقل.
وثمة جملة من الأمور التي ينبغي أن يكون الإنسان فيها على بينة، منها: أن الرائي ينبغي أن يكون حذراً في حكاية الرؤيا دقيقاً فيها. وكذلك أن ينظر في أحوال منامه، وأن تجتمع له القرائن حتى يغلب على ظنه صدق الرؤيا من عدمها.
وكذلك بالنسبة للمعبر أن يحذر من المجازفة في ذلك لتعلق هذا الأمر بشيء من أبواب النبوة.
كذلك فإنه ينبغي للمعبر أن يكون من أهل المعرفة بحال الرائي من جهة صلاحه ومن جهة ذاته، فإن الرؤيا قد تختلف من حال إلى حال، فالرؤيا قد تكون على صورة واحدة، لكنها من الرئيس تختلف عن المرءوس، ومن الأمير تختلف عن المأمور، ومن الحر تختلف عن العبد، ومن المرأة تختلف عن الرجل، ومن الصبي تختلف عن الكبير، ومن المريض والسقيم تختلف عن الصحيح السليم، وهذه تتباين فإن الإنسان قد يطرأ عليه شيء عارض، فرؤيا الإنسان في سفره قد تختلف عن رؤياه في حال إقامته وإن كانت من جهة ذاتها واحدة، ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل عن حال الرجل إذا كان لم يعرفه، كما تقدم في حديث أنس بن مالك وقد رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح في كتابه المسند.
وإذا كانت الرؤيا تتعلق بشيء عام من أمور البشارة، فإن هذا من الأمور الحسنة التي ينبغي للإنسان أن يحدث بها الناس.
كذلك من الأمور المهمة في أن من كان حاذقاً في تأويل الرؤى عليه أن يتصدر للناس في هذا الأمر، فإنه من الأمور الحسنة إذا كان من أهل الحذق والدراية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث سمرة في الصحيح، كان كثيراً ما يسأل أصحابه عليهم رضوان الله تعالى: ( هل رأى أحد منكم رؤيا؟ ) وكذلك جاء عن أبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى كما تقدم في شعب الإيمان عند البيهقي أنه كان يسأل من حوله: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ فإن هذه الرؤيا قد تتعلق بأمر الناس فيكون في ذلك بشارة، وقد يكون فيها أيضاً نذارة للإنسان فيتجلد ويصبر إذا حصلت المصيبة، ويعلم أنها من الله سبحانه وتعالى، وأمر المؤمن في ذلك كله له خير.
كذلك أن يحذر المتصدر في ذلك؛ لأن تصدره لا يسوغ له أن يتكلم بغير علم وأن يجيب على كل سائل ومستفتٍ، بل ينبغي له أن يحذر، فإذا كان ثمة ظن فلا يجزم في تعبير رؤياه، فإن من كان من أهل الحذق والدراية كان يخطئ في ذلك، وعليه ألا يجزم بكل حال، فضلاً عن أن يحلف يميناً في تأويل وتعبير رؤياه، أو يقطع بذلك أنها ستحدث في يوم كذا وكذا، فإن الرؤيا من جهة الوقوع لا حد لها في ظواهر النصوص، فقد يرى الإنسان رؤيا وتقع بعد عام، أو عشرة أو عشرين أو أربعين، فإن رؤيا يوسف عليه السلام قد جاء في بعض الآثار أنها كانت بعد أربعين كما روى البيهقي في كتابه شعب الإيمان من حديث سلمان الفارسي عليه رضوان الله تعالى، قال: (رؤيا يوسف عليه السلام وقعت بعد أربعين عاماً)، وجاء من حديث شداد عند البيهقي أيضاً قال: (وقعت بعد أربعين)، وهذا أقصى ما يكون من وقوع الرؤيا، يعني: أن أقصى وقوعها إلى أربعين، وهذا من الآثار الموقوفة، ولا عمدة في ذلك من جهة الوحي، ولكن في الأغلب أن الرؤيا تكون قريبة، وقد تبعد.
ويظهر -والله أعلم- أن قربها وبعدها بحسب نزولها على الذوات، فإذا كانت لازمة للإنسان لا تتعدى فإنها قريبة، وإذا كانت متعدية إلى الناس كافة فإنها تكون في الأغلب بعيدة؛ وذلك لأن تقلب الإنسان في ذاته من حال إلى حال أسرع من تقلب مجموع الناس والأمم والشعوب، فإذا كانت تتعلق بأمم وشعوب كانت أبعد، وإذا كانت تتعلق بفرد واحد فإن الإنسان يطرأ عليه الموت بغتة بخلاف موت الدول والشعوب وتقلب الأحوال ونحو ذلك، فإن وقوعها يكون متأخراً.
وينبغي على المعبرين أن ينظروا لحال الرؤيا، فإنها إذا كانت في فرد فإنها تختلف عن الجماعة وكلما كانت في جماعة كانت أكثر بعداً، فإذا كانت في بلدة فإنها تكون أدنى من كونها في دولة أو في أمة كثيرة، أو كانت أكبر في الأرض فإنها تكون أبعد، وأن يأخذ الإنسان بهذه القرائن، فإنها من آثار معرفته، وحذقه في هذا الأمر.
ولعله يؤخذ من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه في آخر الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب ) أن آخر الزمان هو قرب الساعة، فلما كان الأجل قريباً اقتضى أن يقرب ما كان من أجزائها، ومن ذلك ما بين حال الرائي وبين وقوع الرؤيا بخلاف الفسحة الطويلة التي تكون قبل أمر الساعة، كحال قصة يوسف عليه السلام، فإن بينه وبين الساعة مدة أطول مما كان بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأمر الساعة فضلاً عن آخر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان وقوعها بعد أربعين سنة.
كذلك من القرائن في ذلك حال الرائي، فإذا كان الرائي شيخاً كبيراً، فإن رؤياه من جهة الوقوع أقرب من الرؤيا بالنسبة للصبي، وهذا يؤخذ من رؤيا يوسف عليه السلام، فإذا رأى الصبي رؤيا فالغالب أن رؤياه تكون بعيدة بخلاف الرجل الكبير الذي تقدم في العمر، فإن رؤياه تكون دون ذلك.
كذلك فإنه ينبغي له أن ينظر إلى حال أجزائها، فإذا كان مثلاً في جماعة ونحو ذلك، وأكثرهم من الكبار، وبعضهم من الصغار ونحو ذلك، فيجمع من ذلك خليطاً يقرب له مدة الوقوع، وهذا إنما أخذ من مجموع النظر، ولم يؤخذ بالنص، وإنما هو من مجموع قرائن، ولا يعلم أحد من العلماء نص على هذه المسألة من جهة هذه الضوابط والقرائن الأخيرة، والله أعلم بذلك.
ومما ينبغي في هذا الأمر أن الإنسان كما يرحم الناس في تكاليف الشريعة وإصدار الأمر فعليه أن يرحم الناس أيضاً في تأويل الرؤيا من جهة ورود المشقة عليهم، فالله سبحانه وتعالى قد جعل دينه يسراً، وكذلك أراد الله جل وعلا بالأمة اليسر، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [البقرة:185]، فإذا كان ذلك في الإرادة الكونية وكذلك في الإرادة الشرعية، فإن ذلك من لوازم إرادة المعبر بالرائي اليسر بالتيسير عليه في إيصال العلم له على أيسر سبيل حتى لا يشق عليه وقعها، فالناس تتباين من جهة إدراك التأويل، وبعض الناس لديه حساسية في تلقي التعبير، وكم من المعبرين بجهالة قد فرقوا بين الأزواج وبين الإخوة، وصدوا كثيراً من الناس عن عمل الخير بسبب تأويل باطل فاسد، أو بإظهار شيء من رؤى السوء التي لا ينبغي للإنسان أن يؤولها.
والحديث في أبواب الرؤى مما يطول، ونسأل الله جل وعلا الإعانة والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
السؤال: هل يشترط للمعبر أن يعلم ويحفظ قدراً كبيراً من السنة والقرآن؟ ومن لم يحفظ ذلك هل يجوز له التعبير؟
الجواب: بالنسبة للتعبير قد يؤخذ من ظواهر الأدلة من كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأحكام التي تفيد الإنسان في أبواب التأويل، ثم يقيس على ذلك، وعلم الرؤى كعلم الشريعة أصله وحي وإلهام من الله جل وعلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أصبح مقنناً، وجعل له علم آلة كعلم أصول الفقه، والقواعد الفقهية، وكذلك ضوابط سائر العلوم كضوابط اللغة، واللغة أصلها من الله سبحانه وتعالى ألهمها الإنسان، فأصبح لها ضوابط وضبطت، ثم أصبحت أقيسة يقيس بها الإنسان ثم يصدر حكماً، كذلك علم الرؤى، وقد يصيب الإنسان وقد يخطئ بحسب حذقه، والإشكال يكتنف الرؤيا كثيراً بحسب دقة الرائي وضبطه، وكذلك امتزاج تلك الرؤيا بجملة من الخطأ والصواب بحسب اجتماع الأسباب فيه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بيّن بعض الأصول في بعض تعبيره، مثلاً القميص والثوب هو دليل على الدين، واللبن دليل على الديانة والفضل والرحمة، وكذلك الغنم، فإنها تدل يدل مثلاً على الناس على اختلاف أجناسهم ونحو ذلك، فيقيس الإنسان بها بعض الأشياء، فإذا الإنسان رأى شخصاً عليه قميص، وفيه مثلاً بقعة أو وسخ ونحو ذلك، فقد يكون هذا الوسخ علامة على بعض الذنوب ونحو ذلك، فذلك الدين فيه تشويه يخرم ذلك الدين، وينقص ذلك الجمال والبهاء، كذلك اللبن إذا رأى الإنسان اللبن ممزوجاً بغيره بماءٍ أو بخليط، مثلاً إذا كان اللبن كثيراً فإنه يدل على العلم والفضل، فيأخذ الإنسان من ذلك ويقيس عليها غيرها.
كذلك ينبغي للمعبر أن يسعى إلى استصلاح الناس وألا يعبر الرؤيا مجردة، ولهذا يوسف عليه السلام لما جاءه الفتيان اللذان معه في السجن لتعبير الرؤى بادر بدعوتهم إلى التوحيد، أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39] أراد بذلك أن يدعوهم إلى التوحيد، وأن يحذرهم مما هم عليه، ثم بعد ذلك بين لهم الرؤيا، ولهذا إذا وجد المعبر شيئاً يظهر منه التقصير في الصلاة، عليه أن يدعوه إلى إقامة الصلاة، والمحافظة عليها، ويبين أن تركها أمر خطير، ثم بعد ذلك يؤول له الرؤيا.
السؤال: هل تعبير الرؤى ظني أم قطعي؟
الجواب: تعبير الرؤى ظني عن غير النبي عليه الصلاة والسلام، وحديثنا يخرج عن قضايا الأعيان وأحوال الأعيان، وهناك كثير ممن استغل هذا الباب للتجارة في القنوات الفضائية، وفي الهواتف أيضاً، وهناك من هو صاحب صدق وديانة، ويخطئ ويصيب، والناس بين مستقل ومستكثر من الخير والشر في هذا الباب.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر