إسلام ويب

شرح منظومة رشف الشمول في أصول الفقه لابن بدران [3]للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الأحكام الوضعية على نوعين: صحيح وفاسد، ونتيجة الصحة والفساد هي الاعتداد ويقابله النفاذ، وإذا أدى الإنسان العبادة بكامل شروطها وواجباتها فإنه يقال: إن هذه العبادة صحيحة، وينقسم العلم إلى: ضروري، ونظري، والعلم منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم، ومراتب الإدراك هي: العلم وضده الجهل، والشك والظن والوهم، وأقسام الكلام: أمر، ونهي، وخبر، وعرض، واستفهام، وينقسم أيضاً إلى: حقيقة ومجاز، والحقيقة تنقسم ثلاثة أقسام: شرعية، ولغوية، وعرفية.

    1.   

    الأحكام الوضعية

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللسامعين والحاضرين يا رب العالمين.

    قال العلامة ابن بدران رحمه الله: [ فصل الصحيح والفاسد ].

    بعد أن ذكر المصنف رحمه الله تعالى ما يتعلق بالأحكام التكليفية، أورد هنا ما يتعلق بالأحكام الوضعية، وهي على نوعين: الصحيح والفاسد، ومن العلماء من يقول: إن الفاسد هو ضد أو قسيم للباطل، فيكون ثمة: صحيح وفاسد وباطل، والأحكام التكليفية -وهي ما تقدم الإشارة إليه بالواجب والمندوب والمباح والمحرم والمكروه- تتعلق بمجموع أفعال العبادات، فيجمع الإنسان فيها الواجبات مما شرعه الله عز وجل، وهي أشياء كثيرة على سبيل اللزوم والدوام، وأوصاف بعينها تقع على صور بعينها قد دل الدليل عليها، وأما بالنسبة للصحيح والفاسد فإنه متعلق بغيره، لا يكون لازماً على صفة بعينها مشروعة، وإنما هو ما كان خارجاً عن حكم الشرع، والفاسد لا يمكن للإنسان أن يحده بحد، وذلك أن أسباب الفساد لا يمكن حصرها، وأما أسباب الصحة فيمكن حصرها، فالإنسان يأتي بالصلاة فيأتي بشروطها وواجباتها وأركانها وسننها فهذه هي الصلاة، والمبطل لها لا حد له ولا حصر، فيضبط من جهة الأحكام التكليفية، وأما من جهة أسباب الفساد فذاك باب عريض.

    قال رحمه الله تعالى: [ ما باعتداد أو نفوذ قد وصف فهو الصحيح ضده بطلاً عرف ].

    بالنسبة للصحيح والفاسد فإن نتيجة الصحة والفساد هي الاعتداد ويقابله النفاذ، الاعتداد يكون في العبادات، والنفوذ يكون في العقود؛ ولهذا فإن العبادة الصحيحة نافذة، والعبادة الصحيحة معتد بها، والعقد الصحيح نافذ، وإذا تعاقد المتبايعان على صورة معينة فيقال حينئذٍ: قد نفذ العقد بينهما، وإذا أدى الإنسان عبادة بكامل شروطها وواجباتها فإنه يقال: إن هذه العبادة صحيحة.

    ولهذا نقول: إن العبادة توصف بالصحة والاعتداد كما أنها توصف بالفساد وعدم الاعتداد، وأما بالنسبة للعقود فتوصف بالصحة والنفاذ، أو البطلان وعدم النفاذ، لهذا نقول: إن هذه العبادة معتد بها صحيحة، أو عبادة فاسدة غير معتد بها، وذاك عقد صحيح نافذ، وذاك عقد فاسد ليس بنافذ، هذا ما يتعلق بالعبادة.

    وإذا دخلنا في المسائل والتفصيلات المتعلقة بالشروط والواجبات، وكذلك صفة ما توصف به العبادة الصحيحة، دخلنا في التفصيلات والأحكام الجزئية، وما يتعلق بمسائل الفقه، والعبادة توصف بالصحة إذا توفرت شروطها وأركانها وواجباتها، وأما بالنسبة للمعاملات والعقود فتوصف بالصحة إذا توفرت أركانها، وانتفت موانعها، فنقول حينئذٍ: إن أركان البيع مثلاً: البائع والمشتري والسلعة والثمن، هذه الأركان لا بد أن تكون متوفرة لصحة العقد، الموانع في ذلك عريضة جداً، وذلك مثلاً: كقصور الوكالة، أو وجود نوع جهالة في المبيع، ونحو ذلك، فهذا لا حد ولا ساحل له، وكذلك أيضاً ورود بعض الشروط التي تقتضي فساد ذلك العقد أو صحته؟ وهذا مما ليس مباحثه في هذا الباب.

    1.   

    حد العلم ومباحثه

    قال رحمه الله تعالى: [ فصل في حد العلم ومباحثه.

    لا حد للعلم يرى أهل النظر وكل حد قد بدا فيه نظر

    وأن يقل: هو صفات تنكشف به الأمور بالتمام قد عرف

    والعلم كالمعلوم في التفاوت يراهما أهل الكلام الثابت ]

    تقدمت الإشارة إشارة المصنف رحمه الله إلى مسألة الفقه، وأنه أحد أنواع العلم وأصنافه، وهو أشرفها، وهنا في قوله: ( لا حد للعلم يرى أهل النظر وكل حد قد بدا فيه نظر ) وذلك أنه لا يمكن للإنسان أن يعرف العلم؛ وذلك لسعة أنواعه، وكذلك وجوهه والسبل الموصلة إليه، بل كل شيء مكتسب قد يسمى علماً، ولكن إنما يجد العلماء حرجاً في أنه ما من حد وضابط إلا ويخرج عنه ما يند عنه من المعاني، وكذلك أيضاً المعلومات، وإنما نقول بأهمية ضبطه دفعاً للمعارف التي تفضي إلى مخالفة أمر الله، كعلم الإنسان بالسحر ونحو ذلك، مع أنه في ذاته ومن جهة اللفظ يسمى علماً، وفي اللغة يسمى علماً، ولكن من جهة الحقيقة الشرعية هو جهل.

    وكذلك ما نهى الله عز وجل عن البحث فيه، كالبحث في الأمور الغيبية التي لا يدركها الإنسان، كحقيقة صفات الله سبحانه وتعالى فقد جاء في غير ما نص في كتابه العظيم؛ لأن هذا بحث عما لا يدركه الإنسان إلا بالرؤيا؛ ولهذا قال الله جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وفيه الإشارة إلى أن الإنسان لا يمكن أن يدرك المعلومات إلا برؤيتها أو برؤية شبيهها، فالله عز وجل لم يأذن لعباده في هذه الدنيا أن يروه، إنما خص الله عز وجل ذلك بالآخرة، وأما ما عدا ذلك فإن الإنسان يبحثه في الشبه ولا شبه لله سبحانه وتعالى، لهذا البحث عن ذلك من الأمور المعدومة، وفي هذه الآية نعلم أن إدراك الإنسان إنما هو بالنظر في أحوال الكون، فيأخذ الإنسان ويقيس فيها.

    لهذا نقول: إن المعلومات التي لدى الإنسان كلها أقيسة، فالإنسان لا يمكن أن يصف شكلاً لم يره بعينه، فهو مثلاً: لو أراد أن يصنع نظارة لماذا يجعل الإطار مستديراً؟ إما أخذه من رسم آخر من دائرة أخرى، وإما من ورقة الشجر، أو من دوران عينه، أو من رؤيته مثلاً لفوهة بئر أو نحو ذلك، وكذلك أيضاً رسوم الأشكال لا يمكن أن يخط عليها خطاً؛ ولهذا لو أعطيت إنساناً قلماً وقلت له: ارسم شيئاً لم تره من قبل لا يمكن أن يرسم؛ لأنه نسخة عن غيره، ولا يمكن أن يوجد شيء خارج المثيل له.

    لهذا تجد الإنسان حينما يريد أن يصنع شيئاً لا بد أن يصنعه على مثال قد رآه، فالطائرة صنعوها على مثال مما يروه من الحشرات، والهليكوبتر صنعوها على طريقة البعوض ونحو ذلك، فالإنسان لا يمكن أن يوجد شيئاً معدوماً من العلوم، وإذا ادعى إجاد شيء من ذلك فهذا نظير ادعائه أنه يوجد شيئاً من أنواع المادة من عدم، وهذا يدل على عدم علم الإنسان بغير ما وضعه الله عز وجل له، فهو انعكاس لتلك المعلومات، ومن ادعى إيجاد شيء غير ذلك فهذا متوهم ومدعٍ خالقاً من دون الله سبحانه وتعالى، وإما هذه الإبداعات التي يفعلها البشر فهي تأليف دقيق، كلما أكثر الإنسان من جمع أجزاء تلك المؤلفات ظن أنه أبدع، فحينما تنثر أشكالاً في الإنسان، ثم يقوم بوضع لوح منها هو أبدع بوضعها مواضعها حتى أصبحت مكتملة على هذا الشكل، فهو يبدع بتأليف موجودات فيركبها على نحو لم تره أنت ولم يره هو.

    ولهذا نقول: مكتسبات الإنسان من جهة علمه وإدراكه إما أن يكون معلوماً باليقظة، وإما بالمنام، فقد يقول الإنسان: كيف يرسم الناس أشكال الأشباح؟ فهنا نقول: إن هذه رأوها في المنام، ولا يمكن أن يوجد الإنسان شيئاً إلا بشبه رآه باليقظة، أو رآه بالمنام، فيرى شبحاً، أو يرى كذا، ثم يرسم له شكلاً، فربما يرسم رجلاً على هيئة شجرة، فهو وضع الرجل مع الشجرة، ووضع للغصن أعيناً وهكذا؛ ولهذا تجد مثلاً من يجعل للتفاحة أعيناً، ويجعلها تتكلم، ويضع لها فماً، فهو أخذ الفم من هنا وركبه في هذه، فأصبح هذا الشكل، أما أن يوجد شيئاً من عدم فلا يمكن أن يتحقق هذا.

    ومن جهة حد العلم لا بد له من حد؛ لأن العلم ينفع، والجهل يضر، وثمة معلومات هي داخلة في أبواب المكتسب وتضر الإنسان لكونها جهل، كذلك أيضاً العلم له حد فإذا تجاوزه الإنسان أضر به كالطعام، الإنسان جعل الله عز وجل له لذة في الطعام، فإذا زاد عن ذلك قتله، كذلك العلم.

    لهذا جعل الله سبحانه وتعالى أعمار أمة محمد من الستين إلى السبعين وقليل من يجاوز ذلك؛ لأن العلم إن زاد عن حده أفسد على الإنسان نفسه، فابتكر كيف يقتل الناس؛ لأنه متمرد يحب السطوة؛ لهذا جعل الله عز وجل عمر الإنسان ما بين الستين والسبعين ثم يقضي عليه؛ لأنه لو عاش ألفاً أو ألفين أو ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف ماذا يصنع وهو قد صنع في الستين والسبعين صاروخاً، أو قنبلة ذرية، ونحو ذلك؟ ولكن الله عز وجل يقضي عليه حتى يموت العلم معه، يأتي ابنه بعد ذلك فيجد فتاتاً من أبيه، شيئاً من العلم فيبدأ يبني، فإذا أراد أن يصل قضى الله عز وجل عليه.

    لهذا جعل الله عز وجل للبشر سناً معيناً، قد يقول قائل: إن الأزمان السابقة كنوح وغيره كانت أعمارهم بالألف ونحو ذلك فنقول: العلم المكتسب من الأمم السابقة قليل؛ لأنهم أول الأمم، والعلم الموروث بدأ يزيد وينتقل شيئاً فشيئاً، وكلما جاء جيل ومات الشخص مات معه أكثر من شطر علمه، وبقي الشطر الباقي، منهم من يستفيد منه شيئاً ومنهم من لا يستفيد؛ ولهذا الله عز وجل يقضي على الإنسان، ويقصر في عمره، ويأتي سبحانه وتعالى بالأنبياء لصلاح البشرية، لماذا؟ لأنه قد زاد في أبواب العلم؛ ولأن قدرة الإنسان البشرية لا يمكن أن تتقبل مثل هذه الزيادة من العلم؛ لأن الطاقة البشرية لا تطيق أن تتعلم أكثر من هذا، وبقاؤها بدون رسول فساد من جهة العقل والتطبيق؛ ولهذا نقول: لا بد من ضبط العلم كما يضبط أمر الطعام والشراب، وإلا لفسدت البشرية حينئذ كما تفسد الأبدان؛ ولهذا نقول: إن الله جل وعلا جعل لكل شيء قدراً، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أن البشر ما أوتوا من العلم إلا قليلاً؛ ولهذا يقول هنا رحمه الله:

    ( وإن يقل: هو صفات تنكشف به الأمور بالتمام قد عرف

    والعلم كالمعلوم في التفاوت يراهما أهل الكلام الثابت)

    1.   

    أقسام العلم

    العلم - كما تقدم - على قسمين: علم ضروري، وعلم نظري، وتقدم الكلام على هذا التقسيم، وكل ما كشف عنه الإنسان فهو علم، ولكن العلم منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم، والعلم المحمود الذي يعود على الإنسان بالنفع، والمذموم الذي يعود عليه بالمضرة، فالجهل بالعلم الضار علم بذاته.

    العلم الضروري

    قال رحمه الله تعالى: [ وعده ضرورة حيث ورد من دون فكر أو دليل يعتمد ].

    هنا ذكر العلم الضروري وهو ما لا يحتاج إلى تأمل ونظر، وذلك كمعرفة أن الجزء أصغر من الكل، وأن السماء فوق الأرض، والأرض تحت السماء، وأن الابن أصغر من الأب، والأب أكبر من الابن، هذه أمور بديهية، وعلم ضروري يعلمه الإنسان ولا يحتاج فيه إلى تأمل، كذلك أيضاً في عمليات الحساب البديهية التي يعلمها الإنسان.

    والعلم الضروري يتحقق للإنسان بعد شيء من نظر سابق فاستقر لديه فتمحص، فأصبح مستقراً لديه، فأصبح وصف ذلك العلم الوارد إليه علماً ضرورياً، والعلم الضروري إثباته شاق، واليقين فيه شاذ، وذلك أنه لو أراد شخص منك أن تثبت له أن الذي أمامك هو فلان، فإنك تأتيه بشاهدين وانتهى الأمر، أو تأتيه بأبيه يقول: هذا ابني، أو بابنه يقول: هذا أبي، فربطته بأصله وفرعه فثبت أنه فلان، ولكن أن تأتي فلان ويقول: أثبت لي أن السماء فوق الأرض، كيف تثبت له؟ فهذا إثبات مادي، وهو من الأمور الصعبة؛ لأن مردها القطع والعلم الضروري، وهذه من الأمور التي يأخذها الإنسان ضرورة.

    العلم النظري

    وأما بالنسبة للعلم النظري الذي يحتاج فيه إلى تأمل، فقد ذكرنا أن نظر وتأمل الإنسان في المعقولات يسمى النظر، وتأمل الإنسان في المحسوسات يسمى تخيل.

    قال رحمه الله تعالى:

    [ وإن يكن بذاك فهو المكتسب والكل تصوير وتصديق وجب ]

    لا يمكن أن يتحقق للإنسان العلم النظري إلا بالتصور والتأمل، والتصور يسبق التصديق والتكذيب، فيتصور الإنسان ثم يصدق أو يكذب؛ ولهذا نقول: إن العلم على قسمين: ضروري، ونظري، والنظري ما يحتاج إلى نظر وتصور، فيتصور الإنسان ثم تصح لديه النتيجة، فيصدق أو يكذب، ونستطيع أن نقول: إن العلم على نوعين: نافع وضار، والنافع هو الذي في مباحثنا هذه، وقد يكون العلم ضاراً بذاته نافعاً بلزومه كمعرفة أنواع السموم والأمور القاتلة في ذاتها، هي في ذاتها ضارة ولكن بلزومها نافعة للتوقي منها.

    1.   

    تعريف الجهل وبيان مراتبه

    [ والجهل ضد العلم فاعلم والنظر فكر بمطلوب بذال اشتهر

    والوهم مرجوح وظن راجح والشك نفي لارتداد صالح ]

    هنا يذكر المصنف رحمه الله مراتب الإدراك، ومراتب العلم في الإنسان، وذكر الجهل فقال: ( والجهل ضد العلم فاعلم )، والأصل عند العرب أن الشيء لا يبين بنفي ضده، فتقول المرأة هي ما ليس برجل، أو الرجل ما ليس بامرأة، أو تعرف الأرض بأنها ليست السماء، والسماء بأنها ليست الأرض ونحو ذلك، فهذا الأصل، ولكن للتسليم بذلك يقول: ( والجهل ضد العلم فاعلم ) أي: أننا إذا كان غلب على العلماء عدم تعريف العلم فكل شيء ضبطه العلماء بأنه علم فضده الجهل، فهو راجع إلى القول السابق.

    والجهل على نوعين: منه مركب، ومنه بسيط، وتقدم الكلام على ذلك، والجهل مذموم، ويكفي أن الناس يتبرءون منه، وربما نسب الإنسان العلم إلى نفسه وهو جاهل؛ لذم الجهل في قرارة نفسه وفضل العلم؛ ولهذا لا يمكن أن يصف الإنسان فعله أنه فعله بجهل بذاته، وإنما يقول: على علم، وهذا العلم قد يكون على الحقيقة، أو يكون بجهل، والجهل الذي يقع منه قد يكون مركباً، وقد يكون بسيطاً، وإقرار الإنسان لنفسه بالجهل فضل، لماذا؟ لأنه لا يمكن للإنسان أن يتعلم إلا وقد عرف أنه جاهل، وإذا لم يعلم أنه جاهل فإنه لن يتعلم؛ وإنما يبقى على جهله.

    ويقول: ( والنظر فكر بمطلوب بذال اشتهر )، نظر الإنسان في نفسه، ويسميه العلماء التأمل أو التفكر في ذاته، وإذا كانت الذات متعددة يسمى السبر، ولهذا لدينا سبر وتأمل أكثر من عين، وأكثر من ذات، وأما التفكر فهو في ذات واحدة، وقد يزيد، ولكن من غير مقارنة لبعضها البعض، والإنسان إذا أراد أن يسبر أحوال الأرض، أو يسبر النجوم، أو يسبر أحوال الناس فهذا أمر متعدي، وإذا أراد أن ينظر في شيء بعينه، فإنه يتأمل ويتفكر، وهذا كله يوصل الإنسان إلى شيء من العلم.

    ثم أراد المصنف رحمه الله أن يبين أن أعلى مراتب الإدراك هو العلم، وضده الجهل، ويأتي لدينا شك وظن ووهم، فالشك هو: تردد الإنسان بين أمرين بلا مرجح، والظن هو: تردد الإنسان بين أمرين مع رجحان أحدهما، الثالث الوهم وهو: ما يقابل الظن، فهو المرجوح في مقابل الراجح، وهذه كلها دون العلم، والعلم يختلف في الإنسان، فثمة علم، وثمة علم اليقين، وثمة عين اليقين، وأعلى المراتب هو عين اليقين، أي: أن الإنسان شاهد بعينه، فأنت تعلم أن ثمة بلد اسمها مكة، فإذا كثر العلم لديك أصبح علماً يقيناً، وإذا ذهبت إليها أصبح عيناً يقيناً؛ ولهذا إبراهيم عليه السلام قال لربه: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، أراد عين اليقين؛ لأنه في السابق على علم يقين؛ لهذا نقول: إن أعلى المراتب هي أمر المعاينة، والتكليف يتحقق بأصل العلم.

    1.   

    أقسام الكلام

    قال رحمه الله تعالى: [ باب مباحث الكتاب.

    كلامنا أمر ونهي وخبر عرض مع استفهام أرباب النظر

    مع التمني فاعلمنه والقسم نحو نرى والله فينا من ظلم

    وما بقي موضوعه محققاً فسمه بعد مجازاً مطلقاً ]

    أراد المصنف رحمه الله أن يدخل إلى شيء من مباحث الكتاب، وأراد أن يذكر شيئاً من كلام العرب، وأراد أن يبين أقسام الكلام الذي هو من مباحث الكتاب، وأن الكلام إنما هو أمر، ونهي، وخبر، وعرض، مع استفهام أرباب النظر.

    تعريف الأمر وبيان مراتبه

    والأمر في لغة العرب: هو الطلب، وفي اصطلاح العلماء: هو استدعاء فعل ممن هو دونك على سبيل الوجوب والاستعلاء، فالله سبحانه وتعالى أمر عباده بشيء من الأفعال، فهذا أمر منه سبحانه وتعالى، فالأمر إذا كان من عالٍ فإنه يسمى أمراً، وأما إذا كان ممن هو دونك فإنه يسمى دعاء؛ ولهذا الإنسان يقول: لربه سبحانه وتعالى: اغفر لي هذا أمر، لكن هل هو على سبيل اللزوم؟ لا، بل هو دعاء، فإذا كان ممن دونه لمن هو أعلى يسمى دعاء، وإذا كان ممن أعلى لمن هو دونه يسمى أمراً، وإذا كان من شخص مساو لك -كطلب الإنسان من مسئول أو نحو ذلك أن يعطيه كذا- فيقولون: هذا عرض أو التماس أو نحو ذلك؛ لأنه مساو لك في التكليف، وهكذا أيضاً النهي: فهو استدعاء ترك ممن هو دونك، على وجه الإلزام أو التحريم.

    الخبر والتمني والقسم

    وبالنسبة للخبر: فهو ما كان خارجاً عن الأمر والنهي أو الإنشاء فالذي يخبر الإنسان بأمر فيقول: جاء زيد من مكة، أو جاء فلان من بلدة كذا، أو مات فلان أو مكة تبعد عن المدينة كذا، فهذا من جملة الأخبار التي لا تفيد أمراً ولا نهياً، ولا يتحقق فيها الامتثال ولا الحظ ولا المنع، وإنما هو مجرد إخبار.

    كذلك أيضاً بالنسبة لاستفهام الإنسان وسؤاله، فالاستفهام المراد به: طلب علم لم يكن لدى الإنسان وهو الاستعلام، فيطلب علماً لم يكن قد سبق لديه، فيقول: هل ذهب فلان إلى كذا؟ أو ما حكم كذا؟ أو ما الرأي في كذا؟ أو ما تقول في كذا؟ وهذا يكون من جاهل لعالم، وقد يكون من عالم لجاهل على سبيل التعليم، وقد يكون الاستفهام للإنكار، وربما كان للتوبيخ، وربما تضمن الاستفهام أمراً.

    وبالنسبة للتمني: فهو طلب الإنسان ما لا يرجى، كأن يقول: أتمنى أن أوتى صلاح فلان، أو علم فلان، أو مال فلان، أو أن أكون عالماً، أو أن أكون ملكاً، أو أن أكون ثرياً، ونحو ذلك، فهذا يسمى التمني، وهو من صيغ الكلام، قال: ( فاعلمنه والقسم نحو نرى والله فينا من ظلم ) والقسم فيه إشارة إلى تعظيم المقسم به، ولا يكون من العبد إلا لربه سبحانه وتعالى.

    الحقيقة والمجاز

    يقول:

    ( وما بقي موضوعه محققاً فسمه بعد مجازاً مطلقاً )

    كلام العرب ينقسم إلى قسمين: حقيقة ومجاز، والحقيقة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الحقيقة الشرعية، والثاني: الحقيقة اللغوية، والثالث: الحقيقة العرفية، وأولى ما يقدم في المباحث الفقهية هي الحقيقة الشرعية، فتقدم على غيرها، ولا بد لطالب العلم أن يعرف الحقائق كلها عند البحث والنظر؛ لأنه ربما يرد في نصوص الشريعة الحقيقة والمراد بها الحقيقة اللغوية كلفظ الصلاة؛ فإن الغالب استعمالها على الحقيقة الشرعية المختصة بالعبادة ذات الأقوال والأعمال المعلومة، المفتتحة بالتكبير، المختتمة بالتسليم، وقد تأتي على الحقيقة اللغوية فتكون بمعنى الدعاء؛ فحتى لا يخلط الإنسان بين هذا وهذا، لا بد من معرفة الأشياء لغة وشرعاً.

    كذلك أيضاً بالنسبة للحقيقة العرفية، لا بد للإنسان أن يعلمها؛ لأنه يلزم من ذلك الحكم، فالحقيقة العرفية كلفظة الدواب، أو المصطلحات التي يطلقها الناس في الشارع، فيعرف عرف البلد الفلاني، وعرف البلد الفلاني، وعرف البلد الفلاني، فإذا تعارف أهل البلد على لفظة معينة يطلقونها فيحمل عليه، مثال ذلك مسألة ما هي الدابة؟ ففي لغة العرب الدابة هي: ما يدب على الأرض حتى ولو كان إنساناً، لكن بعضهم يقصرها على ذوات الأربع، فإذا قال الإنسان: والله لا أركب دابة، وقصد شيئاً معيناً بعينه، فحمله أحد على ظهره، هل هذا من ركوب الدابة أم لا؟ نقول: يرجع في ذلك إلى عرف الناس، ماذا يُقصد بالدابة، هل يطلقون الدابة على الناس أو نحو ذلك؟ إذاً: للناس مقاصد، وبعض الناس يطلقون كلمة زول يريدون بذلك الشخص، وفي عرفنا على ما أظن أن كلمة زول تطلق على الخيال وإلا لا؟ هو الخيال، وأما بعض العرب فيطلقون كلمة الزول ويريدون بذلك الرجل، وربما الطيب ويحمدونه بذلك، فإذا قال الإنسان: والله لو رأيت زولاً لأتصدقن بكذا وكذا، فإذا رأى خيالاً هل ينطبق عليه هذا؟ لا ينطبق عليه وإنما يرجع في ذلك إلى الحقيقة العرفية، وهو عرف الناس في كلمة الزول، وهذا له اصطلاحات كثيرة جداً لدى الناس، فهم يتباينون من بلد إلى بلد.

    كذلك أيضاً يأتي الإنسان أحياناً ويخالف الحقيقة الشرعية والحقيقة اللغوية، ويرجع فيه إلى كلامه؛ ولهذا تجد مثلاً بعض العجم حينما يُطِّلقون -وقد رأيت شيء من هذا- يكتب الرجل لزوجته: أنتَ طالق، يوجه الخطاب إلى زوجته بخطاب الذكر، هذا الخطاب للذكر إذا أرجعناه إلى اللغة فهو فاسد، وفي الشريعة لا يتوجه إليه الطلاق، أما من جهة العرف فهم يطلقون هذه العبارة، لذا نقول: إذا أطلقت هذه العبارة لا حرج، كذلك أيضاً من جهة ألفاظ الطلاق إذا أطلق الإنسان عبارة من جهة اللغة لا تستقيم، ولا تعبر عن انفكاك بين الزوجين، كذلك ليست من ألفاظ الطلاق في الشريعة، نرجعها إلى العرف فنحكم بذلك.

    لذلك نقول: لا بد من معرفة الحقائق اللغوية والحقائق الشرعية والحقائق العرفية، فما يتمكن الإنسان من معرفته غالباً هي الحقائق اللغوية، والشرعية فهي في متناول الجميع، أما العرفية فإنه لا بد من معرفة حال البلد، وهذا ما ينبغي للعالم أن يكله إلى أهل بلده، فإذا اتصل عليه أحد من أهل بلد فقال: قلنا كذا وكذا أحاله إلى عرف أهل البلد، وبين له الحكم الشرعي، وسأله عن هذه اللفظة وما المراد منها عند أهل البلد حتى يكون الإنسان دقيقاً في حكمه.

    وجود المجاز في كلام العرب

    وهنا مسألة وقع الخلاف فيها وهي: هل الكلام ينقسم إلى حقيقة ومجاز؟ وقد اختلف العلماء في ذلك منذ القدم، فمنهم من قال: إن تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز هو من الأمور الحادثة، ومنهم من قال: إن هذا من الأمور المستقرة، ومنهم من أثبت المجاز في لغة العرب، ولكن ينفيه في كلام الله سبحانه وتعالى؛ باعتبار أنه كله على الحقيقة؛ لأنه يلزم من ذلك الامتثال على الظاهر، وإذا كان مجازاً لم يكن ثمة امتثال.

    ومنهم من يقول: إن الحقيقة هي اللفظ الذي وضع على أول ما وضع عليه حين وضع، فهذا هي الحقيقة، وأما بالنسبة للمجاز فهو ما وضع لفظ على غير ما وضع عليه ابتداءً، فيقال مثلاً: هذا رأس الرجل وهذا رأس الطائر، وهذا رأس الطريق، وهذا رأس الجبل ونحو ذلك، هذه من الأمور المجازية، وهذا من مواضع الخلاف والإشكال أيضاً باعتبار أيهما أول، قد يقول قائل: هذا رأس الإنسان، نعلم أنه رأس الإنسان لدى الإنسان، ولكن بالنسبة للبهائم وبالنسبة للجبال ونحو ذلك يقل استعمال الناس لها؛ باعتبار أنها ليست مماسة لهم في الغالب، فيطلقون ذلك على أحوالهم، فالكثرة والقلة لها أثر من جهة الاستعمال، ولها أثر في استقرار المعنى في نفوس الناس، وقد يقول قائل: إذا قلنا إن هذا رأس الإنسان سابق لرأس الطريق، فيكون رأس الطريق مجازاً، ورأس الإنسان حقيقة، وقد يؤتى ويستدرك عليه، نقول: أيهما سبق الآخر بالإثبات؟ ما هو الدليل على أن رأس الإنسان أطلق عليه رأس قبل رأس الطريق، والإثبات في ذلك من الأمور الشاقة، وقد وجد هذا وهذا في كلام العرب في الجاهلية والإسلام.

    نكمل إن شاء الله تعالى بإذن الله عز وجل في الغد، أسأل الله عز وجل لي ولكم التوفيق والإعانة والتسديد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    قال رحمه الله تعالى:

    [ وما بقي موضوعه محققا فسمه بعد مجازاً مطلقا

    ثانيهما ما دل بالموضوع وعكسه بضد ذي المصنوع ]

    ذكر المصنف رحمه الله أقسام الكلام من جهة الحقيقة والمجاز، وأنها تنقسم إلى قسمين: الحقيقة والمجاز، وأشرنا إلى شيء من الخلاف في هذا، وذكرنا أن الأصل هي الحقيقة حتى عند من قال بالتقسيم، فإنهم يقدمون الحقيقة على المجاز، ويجعلون المجاز عارضاً، ويذكر العلماء أنواعاً وصوراً للمجاز، فيذكرون أنه يأتي ناقصاً، ويأتي تاماً، ويأتي استعارة، وهذا على حسب موضعه، وذلك كقول الله جل وعلا: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:82]، وقول الله جل وعلا: جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ [الكهف:77]، ومعلوم أن الجدار ليس له إرادة، وإنما الإرادة لمن كان فيه حياة، ولما لم تكن فيه حياة دل على أن هذه الإرادة هي إرادة مجازية.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767948320