الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا يا رب العالمين.
قال رحمه الله تعالى:
[ والأمر قصد الفعل ممن دونه وإفعلٌ من لفظه يعنونه
وعندنا قد يقتضي الفورية لا للتراخي بل نرى الحينية ]
تقدم معنا الإشارة إلى الأمر، وأن الأمر هو: استدعاء الفعل ممن دونه، واستدعاء الفعل ممن دونه إذا قلنا أن الأصل فيه الوجوب فينبغي أن نقول: استدعاء الأمر ممن دونه على وجه الوجوب؛ لأننا نقول بأن الأصل في الأمر الوجوب، وإنما ذكرنا أن يكون لمن دونه؛ لأن طلبه ممن فوقه يكون دعاء، وإذا كان ممن كان مساوياً له فإنه يكون التماس، فالإنسان يقول لله جل وعلا: اللهم اغفر لي، فهذا طلب وهو أمر، ولكنه يكون دعاء؛ لأنه ممن دونه لمن فوقه، وأما إذا كان ممن يختص بخصائص البشر فإنه يتوجه إليه الخطاب بالالتماس، فتطلب من فلان غرضاً أو حاجة التماساً أن يحقق ذلك المطلوب.
ولهذا نقول: إن ألفاظ الأمر، أو أفعال الأمر ينبغي أن ينظر إليها من جهات: الجهة الأولى إلى الآمر، والثانية إلى المأمور، والثالثة إلى صيغة الأمر، والرابعة إلى القرينة المحتفة به، وهذه الأربع هي التي تعطي الإنسان بياناً لمعرفة وجه الأمر، وآكد ذلك أن ينظر الإنسان إلى الآمر والمأمور، وأن ينظر إلى صيغة الأمر، وأن ينظر إلى السياق، وقد يضاف إليها خامساً أن ينظر إلى المأمور به، هذه الخمسة تعطي الإنسان معرفة بطبيعة الأمر.
وهل هو على سبيل الإلزام، أو على سبيل الدعاء، أو على سبيل التهديد، أو على سبيل التسخير، أو التصبير، أو الإهانة، أو التعجيز أو غير ذلك؟ فقد تطلب من إنسان طلباً وتتوجه إليه بالأمر ولا تريد النفاذ؛ لأنك تريد منه تعجيزاً وإهانة، وذلك كقول الله سبحانه وتعالى: كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا [الإسراء:50] فالله جل وعلا أمرهم بأن يكونوا حجارة ولا يستطيعون أن يفعلوا ذلك، وقد تطلب طلباً وتريد به الإهانة، أو تريد به التخويف، أو التهديد، أو التسوية بين الفعلين وغير ذلك مما يشير إليه المصنف فيما يأتي بإذن الله.
والأمر يكون بصيغة افعل، ويكون أيضاً من غير فعل الأمر، ويأتي على صور متعددة من جهة تحقق الأمر بالصيغة، وذلك بالفعل المضارع المجزوم باللام، كقول الله سبحانه وتعالى: فَلْيَحْذَرِ [النور:63]، وَلْيَطَّوَّفُوا [الحج:29]، فالله سبحانه وتعالى أمر بالطواف بهذا الفعل المضارع المجزوم باللام، وكذلك أيضاً ما كان باسم فعل، وذلك كقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ [البقرة:216]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين )، فهذا دليل على الأمر، و "على" من صيغ الأمر، وكذلك المصدر النائب عن فعله، فإنه يدل على الوجوب، وذلك كقول الله جل وعلا: فَضَرْبَ الرِّقَابِ [محمد:4] يعني: اضربوا رقاب هؤلاء، وظاهره أنه يفيد الخبر، ولكنه يتضمن الأمر؛ لأنه مصدر نائب عن فعله، كذلك أيضاً المشتق من فعل الأمر، وذلك كقولنا مثلاً: يأمركم، وينهاكم، وذلك لتضمنه فعل الأمر أو النهي، وأصل الأمر هو بصيغة افعل، ويعرف تحديده بالنظر إلى ما تقدم من الخمسة، النظر إلى الآمر، النظر إلى المأمور، النظر إلى الصيغة، النظر إلى المأمور به، النظر إلى السياق، وهذا يعطي الناظر في الأمر تحديده هل هو للوجوب أو للاستحباب أو لغيره؟
قال رحمه الله تعالى:
(وعندنا قد يقتضي الفورية لا للتراخي بل نرى الحينية )
بالنسبة للأمر هل يقتضي الفورية والمبادرة به؟ أولاً ينبغي أن نعلم أن النهي يقتضي الفورية، وهذا محل اتفاق عند العلماء، وإنما الخلاف في الأمر، فإذا نهى الله عز وجل عبداً من العباد عن فعل شيء، فمقتضى ذلك أنه ينتهي على الفور، فإذا قال الله عز وجل لا تسرقوا، فينبغي أن تبادر، ولا تقل: إن النهي هو من الغد أو من بعد الغد ونحو ذلك.
كذلك أيضاً فإن النهي يقتضي التكرار، وهذا محل اتفاق عند العلماء، لا تسرق اليوم، ولا تسرق غداً، ولا تسرق مرة، ولا تسرق مرتين، وهذا على سبيل الدوام.
أما بالنسبة للأمر فهل الأمر يفيد الفورية أو يفيد التراخي؟ اختلف العلماء، وهل يفيد التكرار أم يكتفي بمرة واحدة؟ أولاً لا بد من النظر إلى صيغة الأمر، وكذلك النظر إلى المأمور به، فإذا كان مقيداً بقيد خارج عن ذات الفعل فإنه يقتضي التكرار بذلك القيد، وذلك إذا أمر الله جل وعلا بعبادة في زمن معين، كإقامة الصلاة لدلوك الشمس، فإنه يجب على الإنسان أن يأتي بالصلاة عند دلوك كل شمس، فهذا مقيد؛ لأن الله جل وعلا أمر بالفعل وقيده بشيء من التقييدات، فيقيد به التكرار لهذا التقييد.
واختلف العلماء في الأمر المجرد هل يقتضي الفورية، وهل يقتضي التكرار؟ بالنسبة للفورية هذا محل خلاف عند العلماء، فمن العلماء من قال: إنه يقتضي الفورية، ومن العلماء من قال: إنه يقتضي التراخي، وذهب جمهور العلماء إلى أنه يقتضي التراخي إذا كان متجرداً عن أي قرينة، وذهب جماعة من العلماء إلى أنه يقتضي الفورية، وأنَّ هذا هو الأصل فيه، وإذا قيد بقيد فإنه يقيد بذلك القيد ولا يتوسع فيه حتى لا يقع الإنسان في أمر الابتداع، والذي يظهر والله أعلم في أمر الفورية والتراخي أن ذلك بحسب السياق، وبحسب المأمور به، فإذا كان المأمور به من الأمور المتأكدة اللازمة التي يجب على الإنسان أن يأتي به بعينه من غير حد معين فالأصل في ذلك الفورية والتكرار، وأما إذا كان الأمر من غير تأكيد وإلزام بنوع من أنواع الإلزام، ولم يأت فيه تهديد في حال الترك فالأصل في ذلك أنه على التراخي، ولا يفيد تكراره.
قال رحمه الله تعالى:
[ كذاك أيضاً يقتضي التكرارا فافهم مقالي، لا تكن مهذارا ]
مسألة التكرار محل خلاف عند العلماء، هل الأمر يقتضي التكرار أم فعله مرة واحدة يجزئ؟ من نظر إلى الأوامر الشرعية في كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد أن الأوامر التي تقتضي التكرار دل الدليل على مقتضى تكرارها، سواء كان ذلك في الصلوات، أو كان ذلك في الزكاة، أو كان ذلك في الصيام، ونحو ذلك، فقد دلت الأدلة على أمر خارج عن ذات صيغة الأمر، فأخذنا مسألة التكرار من أمر خارج عنه، وأخذنا ذلك أيضاً من النهي عن ضده، فالله سبحانه وتعالى أمر بصلة الرحم، هل هذا يقتضي التكرار أم يجزئ مرة واحدة؟ نقول: لو كان مجرداً لكان مرة واحدة كافية، ولكن لما نهى الشارع عن ضده دل على أنه على التكرار؛ لأنه لا يمكن أن يمتنع الإنسان عن ضده إلا بتكرار ذلك الفعل؛ لهذا نقول: إن الفعل المجرد من غير نهي عن ضده يفيد الفعل مرة واحدة ولا يفيد التكرار، فإذا كان ثمة قرينة، وهذه القرائن: أولها التأكيد والإلزام، وثانيها النهي عن الضد؛ لأن النهي عن الضد يلزم معه تكرار الفعل، كالنهي عن ترك الصلاة، فالنهي عن ترك الصلاة يلزم منه تكرار هذه العبادة، والنهي عن ترك الزكاة يلزم منه الإتيان بها، وما جاء في الشريعة الأمر به مرة واحدة ونهي عن ضده فقد جاء النص بتقييده مرة واحدة، كما في الحج، جاء الأمر به مرة واحدة، وجاء النهي عن ضده، وذلك في قول الله جل وعلا: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]، بين الله سبحانه وتعالى أن الأمر متوجه عموماً، ثم نهى عن ضده، وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في العمر مرة، وهذا أخرج مسألة الحج من مسألتنا؛ لهذا نقول: إن الأمر إذا كان مجرداً من النهي عن ضده، ومن التأكيد به بأي نوع من أنواع التأكيد، وذلك بالتشديد وكثرة النص على الفعل فإن ذلك لا يقتضي التكرار، وإذا وجد معه أحد هذه القرائن فإن ذلك يجعله يقتضي التكرار.
والفقهاء والأصوليون يتكلمون عن هذه المسألة في مسألة التكرار، ويذكرون فيها الخلاف ويسوقونه، ولكن لا يشيرون في كثير من الأحيان إلى مسألة القرائن والنهي عن الضد، والنهي عن الضد هو أمارة على معرفة التكرار من عدمه، ولها أثر عليه، ولهذا نجد أن الشارع يأمر بكثير من الأوامر، ولا ينهى عن ضدها، فهذا يقتضي أن الفعل مرة واحدة من العبد يجزئ عنه، وإذا جاء النهي عن الضد في ذلك فإن المرة الواحدة لا تجزئ عن هذا، وهذا ظاهر، كمسألة الزكاة، ومسألة صيام رمضان؛ لأنه جاء النهي عن الضد في الإفطار لمن أفطر يوماً من رمضان متعمداً وغير ذلك، سواء في رمضان هذا أو الذي يليه، فهذا أعطانا قرينة على ضبط هذه المسألة.
قال رحمه الله تعالى:
[ أمر بشيء نهيك عن ضده كذاك نهي مثله في حكمه ]
يقول هنا: (أمر بشيء نهيك عن ضده) الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن الضد؟ الذي يظهر والله أعلم أن الأمر بالشيء نهي عن أضداده؛ لأن الشيء قد يكون له ضد واحد، وينتفي بورود أحد أضداده، وقد يوجد له أضداد مجموعها يخالف ذلك الأمر أو ذلك المضدود؛ ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى حينما أمر بالصلاة قائماً، لزم من ذلك النهي عن القعود وعن الاضطجاع وعن الاتكاء والاعتماد، فهذه أضداد، وأما الذي يقابل القيام فهو القعود، إذاً هل الأمر نهي عن ضده أو عن أضداده؟ نقول: نهي عن أضداده، فكل ضد ينتفي معه وصف الأمر فإنه منهي عنه، وهذا عام؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم حينما أمر بالصلاة وأمر الله جل وعلا بها كذلك، فأمر الله سبحانه وتعالى بالصلاة: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالإتيان بالصلاة في أحاديث كثيرة، والصلاة لها أضداد، فمن هذه الأضداد الترك بالكلية، أو قصرها إذا كانت تامة من غير موجب، أو الإتيان بها على غير وجهها، كأن يأتي مثلاً بركوع من غير سجود، أو يأتي بركعة وسجدة ونحو ذلك، فهذه أضداد عن ذلك الوصف الذي أمر الشارع به، فذلك النهي هو نهي عن أضداده، فإن أمرنا بأمر فذلك يقتضي النهي عن أضداده، ونعرف قيمة الأمر والنهي باجتماعهما على فعل واحد، فالأمر من جهة الفعل، والنهي من جهة الترك، والإنسان إذا أمره الله عز وجل بفعل شيء ثم نهاه عن ضده دل على تأكيده وإلزامه، والقاعدة أن كل ما أمر الشارع به ونهى عن ضده فهو واجب لا مدخل للاستحباب إليه، وهذا يطرأ في مسألة النسخ أو مسألة تخصيص العام، وتقييد المطلق، وأما ما جاء الأمر به من غير نهي عن ضده فهذا في الغالب أنه لا يكون واجباً، وإذا نهى الشارع عن شيء ولم يأمر بضده فإن الغالب أن النهي لا يكون على التحريم، ولهذا من فقه الرجل إذا أراد أن ينظر في المأمورات أن يلتمس المنهيات عن ترك ذلك العمل حتى يقيمه.
وثمة قاعدة وهي: أن الأمر يقتضي الوجوب، ويذكر العلماء الخلاف في ذلك هل الأمر يقتضي الوجوب أم لا؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: قالوا: إن الأمر يقتضي الوجوب، وهذا قول جماهير العلماء.
القول الثاني: قالوا: إن الأمر يقتضي الاستحباب إلا لقرينة، فإذا جاءت قرينة صارفة عن الاستحباب والندب إلى الوجوب فهذا يدفعه عن مرتبة الاستحباب إلى مرتبة العلو وهو الوجوب، الأمر الثاني: قالوا: لا ينضبط هذا وإنما ينظر فيه إلى القرائن، ولا أصل في هذا، ونحن نقول: إن الأمر إذا كان مقترناً بنهي عن ضد فإنه يقتضي الوجوب، وإذا كان نهياً من غير أمر بضده أو كان أمراً من غير نهي عن ضده فإن ذلك لا يقتضي التأكيد والإلزام؛ ولهذا نجد أن الشارع أمر بأفعال كالسواك، وما نهى عن ضده، ونهى عن المشي بنعل واحدة، والمشي بخف واحدة، وما أمر بضده بالمشي بنعلين أو المشي بخفين؛ فنعلم بذلك أن النهي هنا على الكراهة، والأمر في مسألة السواك إنما هو على الاستحباب، ومن فقه الرجل الذي ينظر في المأمورات أن ينظر في المنهيات في بابها حتى يقدرها على تقدير الشارع لها.
وفي قوله رحمه الله:
( أمر بشيء نهيك عن ضده كذاك نهي مثله في حكمه )
يعني: أن النهي عن الشيء هو أمر بضده، وهذا ليس على الاطراد كما تقدم الإشارة إليه، كذلك أيضاً قد ينهى الشارع عن شيء ولا يأمر بضده على سبيل الإلزام، وقد يكون مسألة الضد في ذلك لا تتطابق كما في النهي عن الزنا، فإن هذا ليس أمراً على سبيل الإيجاب بالزواج، فقد ينتهي الإنسان عن الزنا ولكن لا يؤمر بالزواج، وقد ينتهي الإنسان عن فعل وهو ترك الصلاة، لكن يجب عليه أن يأتي بالصلاة؛ لأنه لا يمكن أن يتحقق ترك الصلاة إلا بالإتيان بها، كذلك نهي الشارع عن ترك الزكاة لا يمكن أن يتحقق إلا بالإتيان بها فيكون النهي عن الشيء أمر بضده، وهذا على ضوابطه السابقة.
وهذه القاعدة التي يذكرها العلماء في أن الأمر بالشيء هو نهي عن الضد، أو النهي عن الشيء هو أمر بضده يذكرونها في أبواب المقابلة من جهة الإيجاب والتحريم، ولا يذكرونها من جهة إفادتها الإيجاب بنوعيها، ووجود الشيء منفكاً عن أحد وجهيه لا يعني المقابلة، فنعلم أن الواجب يأتي بالأمر، وإذا جاء الأمر أفاد الوجوب، فهل يلزم من ذلك أنَّ ما يقابله محرم؟ نقول: من جهة الأصل هذا هو الغالب ولكنه لا يطرد، وينبغي أن نأخذ من ذلك القاعدة السابقة أنَّ اجتماع الشيئين دليل على التأكيد والوجوب، وانفراد أحدهما عن الآخر دليل على عدم التأكيد وهو الاستحباب أو الكراهة.
قال رحمه الله تعالى:
[ ويوجب ما لا يتم إلا به في غير ضر أو كحال المكره ]
مسألة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهذه مسألة الوسائل، وكذلك الأسباب الموصلة إلى الواجبات، وما لا يتم الواجب إلا به على نوعين: أسباب أو متممات شرعية، وأسباب أو متممات كونية، فالأسباب الشرعية ما بينها الشارع بذاتها، فهذه قد استقلت وانفردت بالحكم الشرعي، وذلك كاهتداء الإنسان إلى القبلة بسؤال غيره أو النظر بالنجوم ونحو ذلك، فهذه أمر شرعاً بالاهتداء بها، فيجب عليه وجوباً أن يأخذ بهذه الأسباب؛ لأنه لا تتم صلاته إلا بهذا الأمر، كذلك أيضاً السعي في تحقق ما يستر الإنسان به عورته، وذلك إما أن يكون بالشراء، وإما أن يكون بالطلب والاستعارة ونحو ذلك، وهذا يكون على الوجوب؛ لأنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهو ستر العورة.
وأما بالنسبة للأسباب الكونية فإنها لا تجب بذاتها، وإنما تجب بمعناها، بخلاف الأسباب الشرعية، الأسباب الشرعية ما خصه الدليل بعينه، فإنه يجب أن نأخذه، وذلك كحال ستر العورة فإن الإنسان يسترها باللباس فوجب عليه أن يتحقق لديه اللباس حتى يؤدي الصلاة، وأما الأمور الكونية فالإنسان يتنوع فيها، فإن لم يجد هذا أخذ ذاك؛ لأن الشارع ما أمر به بعينه وإنما أمر بمعناه، وذلك كركوب الإنسان إلى الغزو فقد يركب إبلاً، أو يركب خيلاً، أو يكون راجلاً، فهذه سبل، أو يكون الرجل منتعلاً، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول كما جاء في الصحيح من حديث جابر قال: ( استكثروا من النعال، فإن الرجل ما يزال راكباً ما انتعل )، يعني: أن الإنسان يجب عليه أن يصل إلى الغاية على أي سبب كان مما كونه الله عز وجل في هذه الأرض وخلقه له؛ لهذا نقول: إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب بذاته إذا كان شرعياً، وبمعناه إذا كان كونياً، فمثلاً: الصلاة لا تتم إلا بالطهارة فوجب علينا أن نأتي بالطهارة، وكذلك لا تتم إلا بستر العورة فوجب على الإنسان أن يستر العورة، إذاً: يجب على الإنسان أن يحقق المقصود الشرعي بأي سبب من الأسباب الكونية، كذلك أيضاً مسألة بناء المساجد فلا يتم للإنسان إتيان الصلوات إلى الجماعة إلا ببنائها، فيبنيها من الخشب، أو من الحجر، أو من الطين، يبنيها بأي وسيلة كانت حتى يتحقق الأمر الذي أمر الله عز وجل به وهو جماعة المسلمين في المسجد.
وقوله: (في غير ضر أو كحال المكره)، إذا كان الإنسان يتعذر عليه استعمال ذلك السبب أو ما لا يتم الواجب إلا به فإنه يعذر، وذلك إذا كان يجد في ذلك مشقة، كالإنسان الذي يشق عليه أن يوجد دابة توصله إلى مقصوده إما لغلاء فاحش، وهو من أهل الفقر، فيقال حينئذٍ: إن ذلك الوجوب يسقط عنه، ولا يجب عليه حينئذٍ ما أوجبه الله عليه بذاته وما استطاعه، كالإتيان إلى صلاة الجماعة إذا تعذرت على الإنسان بعدم وجود المركوب، أو كان مكرهاً بعدم الخروج من بيته لا تسقط الصلاة وإنما يؤديها في بيته، ويسقط القدر الذي أوجبه الله عليه وهو الإتيان إلى الصلوات، وهذا مقتضى قول الله جل وعلا: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ).
قال رحمه الله تعالى:
[ كذاك مجنون وساهٍ لا تقل ولا صبي داخل مثل الرجل
لأنهم في مثلهم لم يوجبوا لكن إذا زال المغيا خوطبوا ]
قوله: ( كذاك مجنون وساهٍ لا تقل )، أولاً بالنسبة للجنون: المراد به التغطية والخفاء، خفاء العقل؛ ولهذا تسمى الجن جناً لخفائها واستتارها، وكذلك إذا جن الليل على الإنسان غطى ما يراه الإنسان، وغطى السماء؛ ولذا يسمى المجنون مجنوناً؛ لأن الله عز وجل حجب عقله عن التفكر والتأمل، والمجنون هو فاقد العقل بالكلية على الدوام، وأما الساهي فهو فاقد العقل في خطاب بعينه وهو العارض، وذلك أن الإنسان إذا نودي بأمر فقيل له: افعل كذا، وهو ساهٍ يفكر، فهذا ساهٍ وليس بمجنون؛ وذلك لأنه فاقد العقل عند خطاب بعينه لا على سبيل الدوام، أما بالنسبة للمجنون فإنه فاقد للعقل بالكلية وعلى الدوام، في هذا الخطاب وفي غيره، وهم يشتركون في عدم التكليف، يعني: الساهي والمجنون، ولكن بالنسبة للساهي إذا وجد سبيلاً للتذكر وجب عليه، أما المجنون فيرفع عنه القلم بالكلية، ويدخل في ذلك تبعاً مسألة السهو العارض ومسألة النائم، وكذلك المغمى عليه ومن في حكمهم، فإنهم يدخلون لاشتراكهم في فقد العقل مع المجنون، وسواء قل زمن فقد العقل والجنون، أو كان ذلك طويلاً.
يقول: ( ولا صبي داخل مثل الرجل )، وذلك أن الصبي مرفوع عنه القلم، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في المسند والسنن من حديث الأسود عن عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يعقل، وعن النائم حتى يستيقظ )، وهؤلاء الثلاثة رفع الله عز وجل عنهم القلم، ويدخل فيهم من في حكمهم وهو الساهي، فيسمى ساهياً ويسمى مخطئاً لوقوعه بمباشرة شيء من غير قصد.
ورفع القلم إنما هو عن ورود الإثم لا عن وجوب العوض في حال الإتلاف، فإن الصبي، وكذلك المجنون، والنائم ربما يتلف شيئاً لغيره فيجب عليه أن يضمن، ولكن الإثم والعقاب مرفوع عنه، ولهذا المجنون إذا كان له مال، أو الصبي كان له مال وأتلف دار أحد بعينه فيجب عليه في ماله العوض، يقيم ذلك عنه وليه، كذلك أيضاً المجنون إذا كسر زجاجاً، أو ضرب سيارة، أو قتل دابة، أو قتل شخصاً، فإن ذلك لا يكون هدراً يرفع عنه الإثم والعقاب؛ لأن المراد بالقلم المرفوع في قوله: ( رفع القلم عن ثلاثة ) هو الإثم، وليس المراد بذلك العوض؛ ولهذا يجب عليه العوض كحال المخطئ، فالمخطئ الذي يمشي بسيارته ويتلف مالاً لا يجب عليه في ذلك العقوبة، ولا يعزر لأنه مخطئ أو ساهٍ، ولكن يجب عليه أن يعوض غيره في مقام الإتلاف؛ لأن حقوق الناس محفوظة، لا تسقط بالخطأ، وذلك لورود ظن العمد في ذلك وهي شبهة وإن كانت ضئيلة.
كذلك أيضاً في مسألة المجنون فربما أطلقه غيره وهو في ذاته مجنون، وذلك لأن صيانة أموال الناس آكد من عدم أخذ العوض من مجنون أخذه في ذلك عنه عارض، وأما صيانة أموال الناس فهي آكد من ذلك، وإنما ذكر الجنون؛ وذلك لأن ضده العقل، والجنون أمر نسبي، يرفع القلم عنه في الآثام، ولا يرفع عنه في الأجور، فالمجنون قد يعمل عملاً يثاب عليه، كذلك أيضاً الصبي، كما في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس في صحيح الإمام مسلم من حديث كريب عن عبد الله بن عباس قال: ( لما كان النبي عليه الصلاة والسلام بالروحاء لقيه قوم فجاءت إليه امرأة بصبي لها فرفعته، فقالت: يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال عليه الصلاة والسلام: نعم ولك أجر )، الصبي حينما رفعته أمه دل على أنه ليس قوام يراه الناس، وهذا دليل على أنه صغير، إما أن يكون دون التمييز أو نحو ذلك، أو ربما كان رضيعاً، والمجنون الذي هو أكبر منه قد يدرك ما لا يدركه الصبي، بل نقطع أن بعض المجانين يدركون ما لا يدركه الصبي، بل إن الصبي في مهده أبعد عن الإدراك بالكلية مقارنة بالمجنون، فالمجنون يذهب ويجيء ويشرب ويستتر في حال قضاء الحاجة ونحو ذلك، وهو مسلوب العقل، ويبتعد عن النار، ويتناول الماء، ونحو ذلك، بخلاف الصبي الذي يقدم عليها، وقد كتب الله الأجر للصبي فمن باب أولى أن يكتب للمجنون في حال إتيانه بالعبادة.
أما بالنسبة للإثم في حال ورود التقصير منه فذلك مرفوع عنه، والآثام إما حق لله محض فذلك مرفوع عنه، وهل يجب في ذلك عليه الكفارة إذا وقع الإنسان فيه، وذلك كالحج إذا وقع من الصبي أو المجنون شيء من محظورات الإحرام، وذلك بلبس المخيط أو التطيب أو الصيد ونحو ذلك، هل في ذلك جزاء أم لا؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على عدة أقوال، وليس هذا محل بسطها، وهذا كما أنه في المجنون فإنه في الصبي.
وأما بالنسبة لما كان من غير أبواب الكفارات مما يرفع عنه الإثم فلا يجب معه البدل، وذلك إما أن يكون بالإعادة أو بالقضاء، كترك الصلاة أو ترك الصيام، فالمجنون إذا ترك الصيام أو ترك الصلاة حتى خرج وقتها لا يجب عليه القضاء في حال عقله إذا خرج الوقت، وإنما يستأنف ككونه مولوداً جديداً، كذلك الصبي الذي يبلغ بعد غروب الشمس لا يجب عليه أن يقضي صلاة العصر، وهكذا، وكذلك أيضاً في مسألة الصيام.
وأما بالنسبة للجنون النسبي هل يقع معه تكليف لأنه يوجد من الناس من به شيء أو جذوة من الجنون، أو به نوع سفه وفيه إدراك؟ وهذه مسألة تكلم فيها المعتزلة، وتكلم بها أيضاً الفلاسفة القدامى من الجاهليين الرومان واليونان ونحو ذلك، أن عقل الإنسان ينبغي أن ينزل عليه الثواب والعقاب بحسب إدراكه للخطاب المتوجه إليه، فإذا كان إدراكه في ذلك تاماً نزل عليه العقاب في حال المخالفة تاماً، وإذا كان إدراكه في ذلك ضعيفاً فإن العقاب يكون عليه ضعيفاً، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العظيم: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15] قيد الله جل وعلا العقاب ببعث الرسول، والرسول لا يبعث إلى المجنون، ومن لم يكن من أهل التكليف لم يكن من أهل الخطاب ابتداء؛ لهذا نقول: إن المجنون الذي يرفع عنه القلم ولو أدرك شيئاً من المعاني فإن ذلك خارج عن التكليف، وإن كان في طبائع البشر أنهم ينزلون العقوبة على من فيه إدراك يسير، ومن سلب الإدراك بالكلية لا تنزل عليه العقوبة؛ وهذا موجود حتى في فطر الناس، فأفعال المجانين مسلوبي الإدراك بالكلية لا يقع فيها الغضب بل يقع فيها الرحمة؛ فإن المجنون إذا أتلف شيئاً يرحم ويشفق عليه، وكلما زاد عقله يؤاخذ؛ ولهذا المجنون هو الوحيد الذي لا عدو له، وكلما زادت نسبة العقل زاد خصومه وأعداؤه، ومن رام حياة بلا خصوم فليعلم أنه مجنون؛ لأنه كلما زاد ذكاؤه زاد خصومه، وهذا أمر يدرك بالحس، ويدرك أيضاً بالواقع.
والسهو وهو شريك في الغفلة العارضة في مسألة النوم والصبي، فيجري القلم على النائم في حال استيقاظه، والصبي في حال بلوغه.
وقد اختلف العلماء في بلوغ الصبي على عدة أقوال:
القول الأول: قالوا: إن البلوغ يكون بسن أربع عشرة، وهذا ذهب إليه جماعة وهو قول سفيان الثوري، وعبد الرزاق وغيرهم، وذهب إليه جماعة من الفقهاء، وقد روى عبد الرزاق في كتابه المصنف عن سفيان الثوري أنه قال: سمعنا أن البلوغ يكون بأربعة عشر، وأقصاه ثمانية عشر، وإذا كان في الحدود أخذنا بأقصاه. يعني أنه يبتدئ بالسن أربعة عشر، ثم ينتهي بثمانية عشر وهو الأقصى، وقال عبد الرزاق بعد إخراجه له: وبه نأخذ. يعني أنه يعتد بهذا القول.
القول الثاني: قالوا: إن البلوغ يكون بسن الخامسة عشر، وهذا الذي ذهب إليه جمهور العلماء، وهو قول الإمام أحمد، والشافعي، والأوزاعي، وغيرهم من الأئمة، وهذا هو الظاهر لحديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله كما جاء في الصحيح قال: ( عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربعة عشر، فلم يجزني، وعرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها بعام يوم الخندق وأنا ابن خمسة عشر فأجازني )، وكتب نافع إلى عمر بن عبد العزيز بهذا الحديث، فكتب إلى عمال به أن يفرضوا لمن كان سنه خمسة عشر، وفي هذا أمارة إلى أنَّ العمل جرى على هذا.
وثمة قول فيه ضعف وهو أن البلوغ يكون بثمانية عشر، وذهب إلى هذا بعض الفقهاء من أهل الرأي.
وهذا السن يدخل فيه الرجل والمرأة، فمن بلغ هذا السن فهو بالغ على هذه الأقوال.
ويبلغ أيضاً بالإنبات كما جاء في مسند الإمام أحمد وعند أبي داود و الترمذي و غيرهم ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما عرضت عليه بنو قريظة أمر بأن ينظروا من أنبت فيقتل، ومن لم ينبت فلا يقتل )، قالوا: وفي هذا أمارة إلى التكليف؛ لأن الصبي لا يقتل، وهذا في الذكر والأنثى، ومن العلماء من قال: إن الإنبات في ذاته ليس من أمارات البلوغ، وهذا قول الإمام مالك رحمه الله.
ويكون البلوغ أيضاً بالاحتلام للذكر وللأنثى، وذلك لقول الله جل وعلا: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا [النساء:6]، النكاح يكون هنا ببلوغ الحلم، وبلوغ الحلم كما أنه للرجل كذلك أيضاً هو للمرأة؛ ولهذا قالت أم سلمة: ( أو تحتلم المرأة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فبم يشبهها ولدها )، وهذا فيه إشارة إلى أن مسألة الاحتلام تكون للرجل وتكون أيضاً للمرأة، وتزيد المرأة بالحيض، وذلك لحديث أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة لحائض إلا بخمار )، يعني أن الصلاة لا تصح من المرأة إذا كانت حائضاً إلا بخمارها، وما كان دون ذلك فإنها تصلي كيفما شاءت، كالصبية تصلي مع أمها، أو تصلي منفردة، ولا تضع خماراً عليها؛ لأنها ليست من أهل التكليف، أما إذا كانت من أهل الحيض فيجب عليها أن تختمر.
قوله رحمه الله تعالى:
( لأنهم في مثلهم لم يوجبوا لكن إذا زال المغيا خوطبوا )
ولم يوجب الشارع في مثل هؤلاء شيئاً من الأحكام التكليفية، ولكن إذا زال المغيا وهو السبب والغاية التي لأجلها ارتفع التكليف والخطاب، ولم يجر القلم فإنهم يخاطبون، وقد يقع الخطاب عليهم قاصراً من غير الشارع، والخطاب شرعي، وذلك بأمر الصبي وهو ابن سبع سنين بالصلاة، وبضربه عليها وهو ابن عشر، هذا خطاب شرعي ولكنه إلى الولي، فلا يتوجه إلى الصبي مباشرة، وإنما إلى وليه، وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال عليه الصلاة والسلام: ( مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها لعشر ) الأمر يتوجه ابتداء إلى الولي أن يأمر الصبي بالصلاة، لا أن يأمر الشارع الصبي، فالأمر هنا من الولي لا من الشارع، وذلك لعدم زوال المغيا عن الصبي.
قال رحمه الله تعالى:
[ يخاطب الكفار بالفرع وما من شرطه في رأي كل العلما ]
مخاطبة الكفار بفروع الشريعة، الكفار المراد بهم من كانوا خارج الإسلام، وليس المراد به هو من تلبس بشيء من المكفرات الصغيرة التي لا تخرجه عن دائرة الإسلام كمن وقع في الكفر الأصغر، وإنما الخطاب هنا بالاتفاق يتوجه إلى الكفار الخارجين عن ملة الإسلام، وقد اختلف العلماء في توجه الخطاب إليهم على قولين:
فذهب جمهور العلماء إلى أن الخطاب يتوجه إليهم بفروع الإسلام، قالوا: وذلك أن العقاب ينزل عليهم بترك الفرع، فلزم أن يخاطبوا عليه، ولو نزل العقاب عليهم بالفرع ولم يخاطبوا به لكان ذلك تكليفاً بغير الطاقة؛ لأن الله عز وجل قال حاكياً عن أهل النار: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:42-43]، ومعلوم أن الصلاة لا تأتي إلا بعد التوحيد، فبين الله سبحانه وتعالى أن أمرهم بالصلاة لم يمتثلوه فكان موجباً لهم بدخول النار.
والقول الثاني قالوا: إنهم لا يتوجه إليهم الخطاب بفروع الشريعة، وإنما يعاقبون على الفرع تبعاً للأصل، وذلك أنه يختلف الذي عرف الأصل بفروعه عن الذي عرف الأصل ولم يعرف الفرع، فالذي سمع بالإسلام وما أقبل فهذا كافر، ولكن من سمع بالإسلام وسمع بالصلاة والزكاة والصيام وترك الجميع يعاقب على الجميع، ولا يعني ذلك نزول الخطاب عليه ابتداء، قالوا: وذلك أن الله جل وعلا نهاه عن شهود موضع العبادة، فكيف يخاطب بفرعها؛ لهذا قال الله جل وعلا: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28]، فإذا منعناه من دخول موضع العبادة فكيف يخاطب بفرعها بأن يؤدي مثلاً الصلاة فيها، أو يؤدي المناسك فيها وهو كافر بذلك، وهذا فيه ما فيه مما يدل على أنه لا يدخلها حتى يدخل في الإسلام ثم يؤدي المنسك فيها بعد ذلك، ثم إذا قلنا: إنه يخاطب بفروع الشريعة فيلزم من ذلك أن تكون الفروع عامة، ومن ذلك المناسك، فكيف يتوجه الخطاب إلى كافر أن يؤدي الحج وهو على كفره! فإن هذا مما لا يقبل منه، وأما نزول العقاب عليه في الآخرة، فإنه إذا علم الأصل بفرعه نزل العقاب عليه بترك الجميع، وأما إذا عرف الأصل من غير فرعه فإنه يعاقب بترك الأصل.
والكفار الذين يسمعون عن الإسلام ولا يعلمون فروعه، فلا يدرون ما الصلاة ولا الصيام ولا الحج فهؤلاء يعاقبون على ترك التوحيد جملة، ولا ينزل بهم عقاب مخصوص على صلاة، بخلاف من شاهد المسلمين أو كان بين ظهرانيهم من المنافقين فترك الإيمان، وترك الفروع، فهذا ينزل عليه العقاب على الجميع، وهم الذين ذكرهم الله عز وجل في قوله: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:42-43]، وتقسيم الشريعة إلى أصول وفروع هذا من المعاني التي استنبطها العلماء من مجموع نصوص الشريعة، والشريعة وشائج مترابطة متواصلة بعضها مع بعض، وبعض العلماء ينفي أن يكون ثمة أصول وفروع، ويقول: إن الشريعة كلها واحدة، لا ينبغي أن يقال: فروع، حتى لا يهون شيء من الشريعة.
قال رحمه الله تعالى:
[ أمر لندب أو لتهديد ورد تكوين تعجيز وإيجاب وقد
يأتي لإرشاد كذا إنذار تأدى بإكرام كذا احتقار
إباحة مع التمني والدعا إهانة التسخير فيمن قد سعى
من وإذن قل كذا والتسوية تصيير تلهيف التماس المشورة ]
( أمر لندب أو لتهديد ورد تكوين تعجيز وإيجاب وقد ) المصنف رحمه الله يريد أن يبين أن الأمر قد يأتي على غير الوجوب، وليس المراد به الامتثال، وهذا له أنواع كثيرة في لغة العرب، فيأتي من باب التعجيز، ويأتي من باب التخيير، ويأتي من باب التسخير، ويأتي من باب التصيير، ويأتي من باب الإعجاز، ويأتي من باب السخرية، ويأتي من باب التكوين، ويأتي من باب المشورة، وهو المشاورة لا على سبيل الأمر المباشر، بل ربما يأتي على الإباحة إذا كان بعد حظر، وهذا إنما يعرفه الإنسان بالنظر إلى الخمس الجهات التي تقدم الكلام عليها، النظر إلى الآمر، النظر إلى المأمور، النظر إلى المأمور به، النظر إلى صيغة الأمر، النظر إلى السياق، هذه الخمسة إذا نظر الإنسان إليها أفادته معنى ذلك الأمر هل هو للامتثال أم لا؟
مثاله: الله سبحانه وتعالى يقول مثلاً في خطابه: كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا [الإسراء:50]، ويقول: كُونُوا قِرَدَةً [البقرة:65]، في هذا الخطاب هل يستطيع الإنسان أن يكون كذلك؟ ليس باستطاعته هذا، وإنما هو أمر من الله عز وجل تكوينياً، وهذا نعلم به ليس على الإلزام، وكذلك الخطاب إذا توجه ممن دونه إلى من فوقه فيكون دعاء، وإذا كان ليس على سبيل الإلزام بالنظر إلى المأمور به، فإذا أمر الشخص بشيء وهذا ليس على سبيل التأكيد بالنظر إلى ذات السياق أو النظر إلى المأمور به نعلم أنه ليس على سبيل الإلزام، والمأمور به إذا خلا من النهي عن ضده دل هذا على الندب لا على الإيجاب، إذاً: هذا استفدناه بالنظر إلى المأمور به.
والنظر إلى الآمر والمأمور من جهة العلو والدونية والمساواة، ففي المساواة التماس، ومن علو إلى من دونه أمر إيجاب أو ندب، ومن دونه إلى من كان أعلى منه يكون دعاء، هذا بالنسبة للنظر إلى الآمر والمأمور.
كذلك النظر إلى السياق، فالسياق يفيد الإنسان معرفة بهل الأمر على سبيل الوجوب أم هو على سبيل الاستحباب؟ وذلك كقول الله جل وعلا: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]، الصيد في ذاته مباح، ولكنه جاء بعد حظر، فإذا جاء بعد حضر فإنه يدل على الإباحة، إذاً: نأخذ من هذا الأمر أنه من الله لعبده، فهل هو أمر يفيد الوجوب أم لا؟ هو في ذاته فعل يستطيع الإنسان أن يقوم به وهو الصيد، فيحمل على الوجوب، وإنما منعنا من كونه واجباً أو مندوباً، النظر إلى السياق، وهذا السياق لأنه كان مستحباً فنهي بتوقيت ثم ارتفع ذلك التوقيت فرجع إلى أصله، فجعلناه مستحباً.
ولهذا نقول: إن الإنسان إذا نظر إلى حال الأمر بوجوهه الخمسة فإنه يعرف هذا الأمر هل هو على الوجوب، أم المراد بذلك الندب؟ وثمة أمور خارجة عن الأمر ينظر فيها الإنسان وتفيده أيضاً معرفة، وذلك بالنظر إلى ما كان ملابساً لجنس المأمور به من الأحوال، كأن يأمر النبي عليه الصلاة والسلام بشيء ثم يفعل ضده، فنقول: إن هذا يدل على عدم التأكيد، أي أن الأمر على الاستحباب فصرف الفعل في ذلك، كذلك عمل الصحابة أيضاً، فإذا جاء أمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وجدنا عمل الصحابة على خلافه فإن هذا يدل على أن الأمر في أحسن أحواله على الاستحباب ما لم يعطل إذا كان إجماع الصحابة على خلافه، وربما كان الأمر إذا دخل عليه استثناء يدل على الاستحباب كقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، ثم قال: لمن شاء )، وهذا الاستثناء دليل على أن الأمر ليس على الوجوب وإنما هو على الاستحباب؛ لهذا نقول: إن الأمر يأتي على الوجوب، ويأتي على الندب، ويأتي على التعجيز، ويأتي على التهديد، ويأتي أيضاً للاعتبار، ويأتي أيضاً للمشورة كما في قول الله سبحانه وتعالى: فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102]، فهذا للمشاورة، والأخذ بالنظر والرأي، وكذلك يأتي للإهانة، كقول الله سبحانه وتعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]، فهذا فيه نوع إهانة واحتقار، وقد يأتي للدلالة والإرشاد كقول الله جل وعلا: وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [البقرة:282]، والإشهاد في حال البيع إرشاد، وليس على سبيل الإيجاب، ومن العلماء من يحمله على مسألة الاستحباب، ويأتي الأمر كذلك للتهديد والإنذار كقول الله سبحانه وتعالى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت:40]، فهذا إنذار للإنسان وليس أمراً له أن يفعل ما يشاء من الأعمال، وهو تهديد له بأن الله سبحانه وتعالى سيعاقبه على كل صغيرة وكبيرة، ويأتي ربما على الإباحة على ما تقدم الكلام عليه، والتمني أيضاً، وهو طلب شيء معجوز عن تحقيقه في الحال، وقد يتحقق للإنسان بعد ذلك، كأن يتمنى الإنسان علماً عاجزاً عنه، أو يتمنى مال فلان، أو يتمنى أن يكون وجيهاً أو رئيساً أو ملكاً مطاعاً ونحو ذلك، هذا من التمني، وله معاني متعددة يعرفها الإنسان بالنظر إلى هذه الجهات الخمسة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر