الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فنبتدئ بإذن الله عز وجل في هذا المجلس وهو أول مجالس الكلام على الأحاديث المعلة في كتاب الصلاة، ونبتدئ بحول الله وعونه فيما يتعلق بالأحاديث المعلة في أبواب الأذان.
الحديث الأول: هو حديث أبي الدرداء عليه رضوان الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا يؤذن فيهم ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، وعليك بالجماعة فإن الذئب يأكل من الغنم القاصية ).
هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند و أبو داود و الترمذي و النسائي كلهم من حديث زائدة عن السائب بن حبيش الكلاعي عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث يروى تارة بهذا اللفظ بذكر الأذان فيه: ( ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا يؤذن فيهم )، وتارة بذكر إقامة الصلاة، ( لا تقام فيهم الصلاة ).
والحديث من جهة الإسناد جيد، فهو حديث لا بأس به، وصححه غير واحد، ولكن ذكر الأذان فيه ليس بمحفوظ فيما يظهر، وفي النفس منه شيء، وذلك أن هذا الحديث يروى من حديث زائدة بن قدامة عن السائب عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر الرواة الذين يروونه عن زائدة بن قدامة لا يذكرون فيه الأذان، رواه عن زائدة بن قدامة عن السائب جماعة ممن لم يذكر الأذان منهم: عبد الله بن المبارك و أحمد بن يونس و معاوية و مروان بن معاوية و أبو أسامة حماد بن أسامة و عبد الصمد ، وغيرهم، يروونه عن زائدة بن قدامة عن السائب به، ولا يذكرون فيه الأذان.
وقد رواه الإمام أحمد في كتابه المسند من حديث وكيع بن الجراح عن زائدة بن قدامة فذكر الأذان فيه، والمشكل في هذا أن وكيع بن الجراح إمام حافظ، ولكن قد روى ابن أبي شيبة هذا الحديث عن وكيع بن الجراح عن زائدة بن قدامة ولم يذكر الأذان، ففي رواية الإمام أحمد ذكر الأذان، وفي رواية ابن أبي شيبة كما جاء في كتابه المسند لم يذكر الأذان فيه، مما يدل على أنه يحتمل أن الوهم في ذلك ليس من وكيع من جهة زيادة اللفظة، وإنما هي ممن يروي عنه وكيع ، وقد روى الإمام أحمد في كتابه المسند رواية وكيع بن الجراح في بعض المواضع وقرنها برواية عبد الرحمن بن مهدي ، وذكر الأذان فيه، ولا يخفى أن عبد الرحمن بن مهدي قد وافق وكيعاً في روايته هذه، ويحتمل أن الإمام أحمد رحمه الله قد قدم رواية وكيع وقرن رواية عبد الرحمن بن مهدي بها على التغليب في الموافقة في أكثر اللفظ، والذي يظهر والله أعلم، أن ذكر الأذان ليس في حديث وكيع ، وربما وكيع بن الجراح سمعه أكثر من مرة من زائدة، تارة بذكر الأذان وتارة بغير ذكر الأذان، والعلة في ذلك فيما يظهر أنها من السائب بن حبيش الكلاعي، و السائب بن حبيش شامي مقل الرواية، وحديثه مستقيم، وتفرد أهل الشام في مثل هذا الحديث الأصل أنه يقبل ما لم يخالف فيه، والحديث لا يعالي في مثل هذا السياق بالشاميين، و السائب مقل الرواية لا يعرف من روى عنه إلا زائدة ، وروى عنه حفص بن عمر بن رواحة الأنصاري كما رواه عنه غير واحد، كما أسند ذلك ابن عساكر في تاريخ دمشق، وهذا يدل على أن السائب من المقلين في الرواية، قال الإمام أحمد عليه رحمة الله: لا أعلمه يروي عنه إلا زائدة ، ونص على هذا الدارقطني كما في سؤالات البرقاني له، فقد سأله عن السائب فقال: لم يرو عنه إلا زائدة بن قدامة ، ولكن قد روى عنه غيره، روى عنه حفص بن عمر بن رواحة الأنصاري كما عند ابن عساكر في تاريخ دمشق، وقول الإمام أحمد رحمه الله: أنه لم يرو عنه إلا زائدة إشارة إلى قلة روايته، وهذا ظاهر، وقلة الرواية من الراوي تضعف جانب السبر لدى الأئمة، وجانب السبر لدى الأئمة هو: أن ينظروا ويتأملوا في مرويات الراوي ثم يحكموا عليها في موافقته لمتون الآخرين، وإذا كان راوٍ من المقلين ولا يروي عنه إلا واحد واثنان فهذا يجعل الأئمة يتوقفون، ولهذا سأل عبد الله بن أحمد أباه عن السائب فقال: لم يرو عنه إلا زائدة ، فقال: هو ثقة؟ قال: لا أدري، والإمام أحمد رحمه الله في قوله: لم يرو عنه إلا زائدة، يعني: أنه سبر تلامذته، فوجد أنه لم يرو عنه إلا فلان، ولكن الأئمة في الرواة المقلين لا يوثقونهم ما استقام المتن، فهذا المتن مستقيم، ولكن خشية أن يكون ثمة حديث آخر جاء بمثل هذا الإسناد أو جاء بغيره عن هذا الراوي فيحمل ذلك التوثيق على المتن الذي يستنكر، فيقال: إن الأئمة قد وثقوا ذلك الراوي، لهذا يحتاط الأئمة في المقلين، وهذا عند الإمام أحمد رحمه الله في غير العراقيين، أما العراقيون فالإمام أحمد رحمه الله فيمن لم يرو عنه إلا واحد هو أبصر بحديثهم وأظهر في أبواب الإحاطة، فيوثق الراوي ولو كان مقلاً لم يرو عنه إلا واحد، وقد جاء هذا في غير واحد ممن وثقه من أهل الكوفة والبصرة، ولكن لما كان بعيداً من جهة المنزلة، وليس من المعروفين بالرواية والمشهورين أمسك الإمام أحمد رحمه الله عن توثيقه، وقد وثقه غير واحد كـابن حبان، والعجلي، ولكن إنما كلامنا هنا على عدم شهرة روايته، وإذا كان لم يشتهر، والرواة عنه من الثقات، زائدة بن قدامة ويروي هو عن معدان بن أبي طلحة ، وأشهر مروايته عن معدان، وله شيخ آخر هو أبو الشماخ الأزدي من المجهولين، وهو شامي أيضاً، وتفرد السائب بهذا الحديث محتمل؛ لأن الأصول قد دلت على وجوب الجماعة، ووجوب إقامتها، لكن مسألة الأذان أن الجماعة إذا لم يأذنوا وأقاموا الصلاة استحوذ عليهم الشيطان، هذا مما يقال بأنه تفرد به السائب، وأكثر الرواة على عدم ذكر هذه الزيادة فيه كما تقدم الكلام معنا في هذا، فالذين رووه عن زائدة بن قدامة ممن لم يذكروا لفظة الأذان: عبد الله بن المبارك ، و أحمد بن يونس ، و مروان بن معاوية ، و معاوية ، و أبو أسامة حماد بن أسامة و عبد الصمد وغيرهم، وهؤلاء لم يذكروا الأذان، وحديثهم في ذلك أرجح، و وكيع بن الجراح وإن كان قد ذكر الأذان فله رواية أخرى لا يذكر فيها الأذان، وهذا الحديث وهو حديث السائب إنما حملنا فيه السائب؛ لأن السائب هو أقرب الرواة في الإسناد إلى الجرح، ولا نستطيع أن نجرح الأئمة الذين لم يذكروا هذه اللفظة باعتبار أنهم أئمة ورواة كثر، ولا الذين ذكروها عنه لجلالة قدرهم، وهذا الحديث قد جاء بغير ذكر الأذان، رواه حفص بن عمر الأنصاري عن السائب ، عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء ولم يذكر الأذان فيه، وهذا يدل على رجحان تلك الرواية، كذلك أيضاً قد جاء هذا الحديث من وجه آخر من حديث عبادة بن نسي يرويه عن معدان عن أبي الدرداء ، ولم يذكر الزيادة فيه، مما يدل على أن مثل هذه الزيادة مما يتوقف فيها العلماء بالتصحيح.
وهنا قاعدة في الرواة المقلين: الرواة المقلون إذا تأخروا طبقة أو بعدوا مكاناً عن معاقل النبوة ونزول الوحي هؤلاء مما يحتاط في زياداتهم، ومفاريدهم، وكلما تأخر الراوي منهم طبقة كان أقرب إلى الجرح، ويدل على أن السائب بن أبي حبيش ليس بمعروف الرواية عند الأئمة أن عبد الرحمن بن مهدي وهم في اسمه، كما ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه الله، كما نقله عنه ابنه عبد الله أنه قال حدث عبد الرحمن بن مهدي في هذا الحديث عن زائدة ، عن السائب قال ابن حنش ، ووهم فيه، والرواة إذا كانوا من المشهورين فلا يخطئ الناس في أسمائهم، وإذا كانوا من المقلين يخطئ الناس في أسمائهم، والذي أخطأ هنا ليس بأدنى الناس والرواة، بل هو عبد الرحمن بن مهدي من أبصر الأئمة بالرجال، وهو عراقي، وقريب من بلد السائب فخطؤه في اسمه دليل على أنه لا تروى عنه الأحاديث بكثرة، ومنهم من يعدل السائب ويوثقه من وجهٍ أن زائدة بن قدامة من الثقات الرفعاء، ولا يحدث أحداً إلا وقد سأل عنه، فإذا كان من الثقات حدثه، وإذا لم يكن من الثقات لم يحدثه، إذا كان صاحب سنة حدثه، وهذا يقول به بعض العلماء أن زائدة بن قدامة تلاميذه معدلون، لتشدده في التحديث للتلاميذ بخلاف غيرهم، نقول: الإمام أحمد رحمه الله حينما توقف عن توثيق السائب مع علمه بوجود زائدة ، ولهذا لما سأله ابنه عن السائب قال: لم يرو عنه إلا زائدة، قيل: أثقة هو؟ قال: لا أدري، إذاً: فهو يعلم أن الذي روى عنه وتفرد بالرواية عه زائدة ، فنقول: إن الرجل قد يكون صاحب سنة أو قد يكون ثقة في دينه، ولكن من جهة الرواية والضبط فيه ضعف، والراوي لا يظهر حفظه وضبطه للمرويات إلا بكثرة مرويه، والشام من بلدان الأحاديث والرواية، ومع ذلك لم يرو إلا عن معدان وعن أبي الشماخ الأزدي ولم يرو عنه إلا زائدة و حفص بن عمر الأنصاري ، وهذا يدل على أنه ليس من المشهورين المعروفين بالرواية، لهذا نقول: إن ذكر الأذان في حديث أبي الدرداء ليس بمحفوظ والحديث جيد، ويعضد هذا ويؤكده أن الحديث هذا قد جاء من حديث نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان )، فما ذكر الأذان فيه وإنما أشار إلى إقامة الجماعة، وربما تذكر لفظة الأذان في المتن؛ لأن الغالب أن الصلوات لا تقام إلا بأذان، وهذا هو المعتاد، سواءً قلنا: إن الأذان من الواجبات أو قلنا: إن الأذان من المستحبات، الأصل في ذلك أن الصلاة لا تكون إلا بأذان، فغالباً يجري على ألسنة الناس: لا يؤذن فيهم ولا تقام فيهم الصلاة، فربما تجوز السائب لقلة مرويه في ذلك بذكر بعض الألفاظ تارة وبعدمها تارة أخرى، وهذا لا يطعن في أصل الحديث لاجتهاله، وكذلك صحة إسناده وعدم وجود مطعن فيه.
ومن الأمور التي ينبغي أن تضبط في مسألة الرواة المقلين الذين لا يروون إلا عن واحد أو اثنين، أنه ينبغي كما ننظر إلى الذين يروي عنهم هذا الراوي أن ينظر إلى التلامذة، فالتلامذة لهم أثر على الراوي المجهول، فربما كان ذلك من الرواة الذين لا يحدثوا إلا عن ثقة، وينظر أيضاً إلى كون ذلك الراوي بلدي له، المقل المجهول في بلد إذا روى كهذا الحديث، الحديث يرويه شامي عن شامي عن شامي، وهذا أصح من كونه يرويه مدني عن شامي مقل الرواية عن شامي فاتحاد البلد أقوى؛ لأنه يشق أن يأتي إمام كبير إلى الشام فيروي عن مجهول ثم يخرج منها، ولكن إذا روى شامي عن شامي عن شامي فهذا دليل على أن أهل البلد أدرى بالاختصاص، وأعرف بالحديث، كذلك رواية الإمام أو الحافظ المدني أو المكي عن الشامي المقل هذا دليل على الضعف، لكن رواية الإمام الحافظ الشامي عن مقل مدني، هذا تعديل؛ لأن الأصل الرواية من المدينة.
الحديث الثاني من الأحاديث هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن ).
هذا الحديث جاء من وجوه متعددة من حديث أبي هريرة وهذا الذي نتكلم عليه، وجاء من حديث أبي أمامة ومن حديث واثلة ، ومن حديث الحسن مرسلاً، وجاء موقوفاً على عبد الله بن عمر ، وجاء من حديث سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأتي الكلام عليها بإذن الله.
أولها: حديث أبي هريرة : حديث أبي هريرة رواه الإمام أحمد و أبو داود ، وغيرهم من حديث الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن )، هذا الحديث ظاهر الإسناد لأول وهلة الصحة، فـالأعمش إمام ويروي عن أبي صالح ، و أبو صالح ممن أكثر عنه الأعمش ، وهو من شيوخه، و أبو صالح من خاصة وتلامذة أبي هريرة ، ولكن هذا الحديث لا يصح، وذلك للانقطاع بين الأعمش وبين أبي صالح ، ومع كون أبي صالح شيخاً للأعمش إلا أنه لم يسمع هذا الحديث منه، روى أسباط بن محمد و أبو بدر شجاع بن الوليد ، و محمد بن فضيل هذا الحديث عن الأعمش قال: حدثت عن أبي صالح عن أبي هريرة ، ورواه جماعة ولم يذكر فيه صيغة السماع بين الأعمش و أبي صالح ، وإنما ذكروه بعن، و الأعمش فيه تدليس، وممن رواه ولم يذكر صيغة السماع جماعة، كـسفيان الثوري ، و حفص بن غياث ، و معمر بن راشد الأزدي ، وأحمد الراسبي وغيرهم، يروونه ولا يذكرون فيه السماع، وممن مال إلى الإعلال بالانقطاع جماعة من الحفاظ، كـالإمام أحمد رحمه الله، و علي بن المديني ، بل إن الإمام أحمد رحمه الله يقول: هذا الحديث ليس له أصل صحيح، يعني: أن الطرق كلها مردها إلى الأعمش ، وعند الأعمش يظن الواسطة التي تكون بين الأعمش وبين أبي صالح ، وهذا الحديث عامة المتأخرين على تصحيحه، وعامة المتقدمين على إعلاله، وذلك أنهم يحتجون ببعض الطرق، فإن هذا الحديث قد جاء من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة فيقولون: إن هذا الحديث جاء فيه التصريح بالسماع، فقد رواه الدارقطني في كتاب العلل أن الأعمش يقول: سمعته من أبي صالح ، نقول: إن الأئمة رحمهم الله حينما ذكروا هذا الحديث ذكروا أن الأعمش ذكر الواسطة، و الأعمش إذا كان قد سمع من أبي صالح مثل هذا الحديث فينبغي أن يذكر صيغة السماع مع اشتهاره عن الأعمش ، وقد رواه عنه جماعة، وكذلك أيضاً يشكك في هذا الطريق التي قال فيها الأعمش قال سمعته من أبي صالح ، وهذا غريب، وإيراد الدارقطني رحمه الله يحتمل أنه أراد بذلك ذكر الوجه في هذا أنه قيل: إنه سمع في ذلك على وهم من الرواة، والرواة ربما يهمون في صيغ السماع، فيقولون: سمع فلان من فلان وهو لم يسمع منه، أو يقول فلان: حدثني فلان وهو لم يسمع منه، هذا وارد، ولهذا في مثل هذه نحمل ذلك على رواية الأكثر، ويعضد ذلك أن سفيان الثوري وهو من أبصر الناس بأحاديث الأعمش وأحاديث العراقيين قال: لم يسمعه الأعمش من أبي صالح ، وسفيان الثوري وهو من تلاميذ الأعمش أسند ذلك عنه البيهقي و أبو موسى المديني في كتابه اللطائف، فقد جاء من حديث علي بن المديني عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سفيان أنه أتى بهذا الحديث عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: ولم يسمعه الأعمش من أبي صالح.
وأما الاحتجاج بما جاء من وجهٍ آخر أن هذا الحديث قد توبع عليه الأعمش ، فجاء من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة ، فقالوا: إن سهيلاً قد تابع الأعمش على حديثه، روى هذا الإمام أحمد في كتابه المسند، فنقول: إن هذه المتابعة وهم وغلط، والصواب: أن سهيلاً وإن روى عن أبيه إلا أنه لم يسمع هذا الحديث من أبيه إنما سمعه من الأعمش ، فرجع إلى الأعمش ، نص على هذا الإمام أحمد رحمه الله والبيهقي فقالوا: إن سهيلاً يحدث بهذا عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، فرجعنا إلى الانقطاع الأول.
وهذا الحديث قد جاء من وجهٍ آخر من حديث هشيم بن هشام السلمي ، عن الأعمش قال: أنبأني أبو صالح ، وذكر صيغة السماع، ويستدل بهذا من قال بالوصل، ونقول: إن هذا الحديث معلول، ولا يصح عن الأعمش؛ هشيماً لم يسمعه من الأعمش ، نص على هذا الإمام أحمد رحمه الله.
وأما ما جاء من حديث محمد بن جحادة عن أبي صالح عن أبي هريرة فيما رواه الطبراني وأبو نعيم ، فنقول: إن هذا الحديث لا يصح أيضاً عن محمد بن جحادة الذي يرويه عن أبي صالح عن أبي هريرة ، فإن إسناده إليه ضعيف.
وأما ما يستدل به أيضاً أن هذا الحديث جاء من حديث أبي إسحاق السبيعي عن أبي صالح عن أبي هريرة كما رواه الإمام أحمد في كتابه المسند فقالوا: إن أبا إسحاق تابع الأعمش على روايته، و أبو إسحاق قد سمع شيئاً من أبي صالح ، فنقول: إن أبا إسحاق في هذا الحديث هو العلة، وذلك أنه قد اختلط بآخره، والراوي عنه في هذا الحديث هو زهير ، و زهير قد روى عن أبي إسحاق بعد اختلاطه، فربما سمع أبو إسحاق هذا الحديث من الأعمش فرجعنا إلى العلة الأولى.
كذلك ما يستدلون به من أن هذا الحديث جاء من حديث محمد بن أبي صالح ، عن أبي صالح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وهذه متابعة أخرى لـلأعمش ، فنقول: إن محمد بن أبي صالح مجهول لا يعرف، وإن قيل: إنه أخو سهيل كما أشار إلى هذا أبو داود و أبو زرعة الدمشقي فهذا مما يشك فيه، وقد شكك فيه غير واحد، وإن كان أخوه إلا إنه لا يعرف بالحديث، فهو في عداد المجهولين، وقد اختلف فيه: هل هو هو أم غيره، وعلى كل: فهو ضعيف، ولكن هذا الحديث الذي يرويه محمد بن أبي صالح عن أبي صالح ، لا يرويه عن أبي هريرة وإنما يرويه عن عائشة ، فجعله من مسند عائشة ، فاختلف الإسناد، الأعمش يرويه عن أبي صالح عن أبي هريرة ، و محمد بن أبي صالح يرويه عن أبي صالح عن عائشة ، واختلف العلماء في هذه الوجوه أيها أصح، فذهب أبو زرعة و أبو حاتم إلى أن الأصح حديث أبي هريرة ، وكلمة أصح لا يعني: الصحة، وإنما يعني أن وجه الحديث الذي يروى عن أبي صالح عن أبي هريرة أصح من الحديث الذي يروى عن أبي صالح عن عائشة ، وذهب البخاري إلى أن حديث أبي صالح عن عائشة أصح، وذهب الإمام أحمد رحمه الله و علي بن المديني إلى أنه لا يصح الحديث بوجوهه كلها، وقد نقل الترمذي في كتابه السنن هذا عن علي بن المديني ، ونقله أيضاً البيهقي ، وعبد الله بن أحمد عن الإمام أحمد أنه ليس له أصل صحيح، ولو صح هذا الحديث عن أبي صالح عن عائشة أو عن أبي صالح عن أبي هريرة ، فالحديث من حديث الأعمش عن أبي صالح فالانقطاع موجود على أي الوجهين، فيبقى الترجيح في أي الوجهين أرجح، وعامة الأئمة من الحفاظ على ترجيح حديث أبي هريرة على حديث عائشة ، كما مال إلى هذا أبو حاتم و أبو زرعة ، و ابن خزيمة ، والعقيلي كما في كتابه الضعفاء، وغيرهم، إلى أن الأرجح في ذلك هو حديث أبي صالح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا نقول: إن حديث أبي هريرة حديث ضعيف.
جاء هذا الحديث من وجوه أخرى، جاء عند ابن ماجه في كتابه السنن من حديث عبد الحميد بن سليمان وهو أخو فليح بن سليمان عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن )، وهذا الحديث منكر، قال الإمام أحمد رحمه الله: ما سمعنا بهذا، يعني بهذا الوجه، و عبد الحميد ضعيف الحديث جداً، وقد تفرد به من هذا الوجه.
وجاء من حديث أبي أمامة كما رواه الإمام أحمد وغيره من حديث أبي غالب عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن )، وهذا الحديث تفرد به أبو غالب في روايته عن أبي أمامة ، و أبو غالب ضعيف الحديث، قال ابن حبان : لا يحتج بما يتفرد به عن الثقات، وقد لينه غير واحد.
وجاء هذا الحديث بإسناد صحيح وهو أصح الأوجه، من حديث الحسن البصري مرسلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صحيح مرسل، والمرسل ضعيف، وعلى هذا نقول: إن الحديث بجميع وجوهه لا يصح، وجاء موقوفاً على عمر بن الخطاب وفي إسناده ليث بن أبي سليم ، وجاء أيضاً من حديث أبي محذورة وهو ضعيف أيضاً، وجاء أيضاً من حديث عبد الله بن عمر وهو ضعيف أيضاً، والحديث بهذا اللفظ لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحديث الثالث في هذا حديث أبي وائل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( سنة مسنونة ألا يؤذن المؤذن إلا وهو طاهر ).
هذا الحديث تقدم معنا في كتاب الطهارة، وعلته أنه تفرد به الحارث عن عبد الجبار بن وائل ، وهو متكلم فيه، كذلك فإن عبد الجبار بن وائل لم يسمع من أبيه كما قال ذلك غير واحد، نص على هذا ابن معين وغيره، وجاء هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عباس وحديث أبي هريرة ، فأما حديث أبي هريرة فجاء من حديث يونس عن الزهري عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يؤذن إلا متوضئ )، وهذا الحديث في إسناده انقطاع، فإن الزهري لم يسمع أبا هريرة ، وأما حديث عبد الله بن عباس فأخرجه ابن عدي في كتابه الكامل وهو واه، بل منكر جداً، واستحباب الطهارة على الأذان مما لا خلاف فيه، أما القول الإيجاب وأنه لا يؤذن إلا متوضئ، ولا يصح منه، فهذا يفتقر إلى دليل، ولا دليل يثبت في هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحديث الرابع: فهو حديث الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنه أمر بلالاً أن يؤذن فأذن وهو على راحلته، فنزل ثم صلوا ).
هذا الحديث رواه البيهقي من حديث إسماعيل بن مسلم البصري ، عن الحسن البصري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحديث معلول بعلل: أولها: تفرد إسماعيل بن مسلم البصري بهذا الحديث، وهو يضعف، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة، وترك حديثه ابن المبارك ، و ابن مهدي ، وجماعة، و الحسن البصري أرسله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومراسيل الحسن واهية، ويتكلم في هذا الحديث العلماء عند كلامهم على الأذان لمن كان جالساً، هل يؤذن أم لا؟ كأن يكون الإنسان مثلاً على السيارة، أو يكون الإنسان على الراحلة، وهل يؤذن وهو جالس في الطائرة، أو في حافلة، ونحو ذلك، أم لا بد من القيام؟ هذا من مسائل هذا الحديث الذي يتكلم عليه العلماء، ولكنه حديث مرسل، وفيه أن بلالاً أذن وهو على راحلته.
العلماء يجمعون على استحباب القيام، أما الوجوب فهو موضع خلاف، والصواب أن القيام سنة، وأن المراد بذلك هو إيصال الصوت، فإذا أوصل الإنسان صوته وهو جالس صح أذانه، وكانوا في السابق يصعدون على السطوح ليؤذنوا عليها؛ لكي يسمع الأذان، ثم أصبح الناس بعد أن فتح الله عز وجل على الناس ويسر عليهم أصبحوا يؤذنون من داخل المساجد بالأجهزة المعروفة، وقيام الإنسان ليس بأولى من صعوده، فلو أذن الإنسان وهو قائم وداخل المسجد في الصف الأول فكونه يؤذن على السطح جالساً أولى من أن يؤذن في المسجد قائماً؟ لأنه أبلغ، وأوصل للصوت، إذاً: العبرة ليست بالقيام، ولكن لما كان إيصال الصوت لا يكون إلا بالقيام فكلما ارتفع الإنسان عن الأرض ظهر صوته وسمع، وهذا أمر معلوم ومعروف، ولهذا نقول: إن القيام في ذلك سنة؛ لأن إيصال الصوت أو رفعه لا يكون إلا بهذا، وبقي الأمر على هذا، فلا ينبغي مخالفته.
والحديث الخامس في هذا: حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يكره للإمام أن يكون مؤذناً ).
هذا الحديث رواه ابن عدي في كتابه الكامل، من حديث سلام الطويل، عن زيد العمي ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يكره للإمام أن يكون مؤذناً )، ومسألة كون المؤذن هو الإمام، أم ينفصلان، نقول: هذه المسألة لا يثبت فيها بالنص شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يثبت في ذلك العمل، ولو فعل الإنسان صح منه وجاز، ولا إشكال في ذلك، وهذا الحديث حديث منكر، تفرد به سلام الطويل ، عن زيد العمي ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، و سلام الطويل متروك الحديث، و زيد العمي واه، وتفرد بهذا الحديث عن قتادة ، وتفرده عن قتادة مع كثرة أصحابه والحاجة لهذه المسألة أمارة على الضعف، وإنما قلنا: الحاجة إلى هذه المسألة لأن الإنسان قد يكون في موضع ليس فيه إلا هو، فيؤذن ويقيم ويصلي، وعلى هذا: حينما نقول: إن الصحابة، وقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة الأذان والإمامة، أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يفعل الأذان، وذلك لانشغاله بأحوال الناس، وربما أمر النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة أو من كان مؤذناً أن يؤخر الإقامة لحاجة بعض الناس، فيقوم يتحدث النبي عليه الصلاة والسلام مع المرأة ساعة، أو مع الرجل، أو محتاج أو نحو ذلك وتتأخر الإقامة، فإذا كانت تتأخر الإقامة فأمر الأذان يحتمل كذلك، فربما احتيج إلى تأخيره، وتأخيره مشكلة ليس كالإقامة، فلهذا النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤذن، ولهذا يقول عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى: لو أستطيع الأذان مع الخليفة، يعني الخلافة، لأذنت، يعني: أني لو استطعت أن أجمع مع الخلافة الأذان لكنت مؤذناً، ولكن لا يمكن هذا، وهذا في خلافة عمر بن الخطاب، وهو في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب أولى، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يفد إليه الناس وهو المعظم، وسيد ولد آدم يحتاج إليه الناس أكثر من حاجتهم لخلفائه من بعده رضي الله عنهم وأرضاهم.
وثمة حديث آخر في هذا وهو الحديث السادس حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يؤذن الإمام ).
وهذا الحديث رواه ابن عدي وغيره من حديث المعلى بن هلال عن محمد بن سوقة ، عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث مطروح، بل يقال: إنه موضوع، وذلك أنه تفرد به معلى بن هلال وهو وضاع، اتهمه بالكذب جماعة، كسفيان الثوري ، و سفيان بن عيينة ، والإمام أحمد ، وتركه سائر الأئمة، وقد تفرد بهذا الحديث.
وهل ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أذن؟ إذا قلنا بثبوت أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن، فنقطع أنه أم؛ لأنه هو الإمام لا يصلي به أحد، فإذا أذن أم، ولكن إذا أم فما يلزم أن يكون أذن عليه الصلاة والسلام، قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث أنه أذن، روى أبو عوانة ، وكذلك ابن شاهين وغيرهم، من حديث عامر بن شراحيل الشعبي عن عبد الله بن زيد ، ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن )، أو ( أنه سمع أذان رسول الله صلى الله عليه وسلم ).
هذا الحديث ضعيف، وذلك أن عامر بن شراحيل الشعبي لم يدرك عبد الله بن زيد، وهو على أبعد أحواله، توفي عام تسعة عشر للهجرة، روى الواقدي عن محمد بن عبد الله بن زيد إن أباه توفي عام تسعة عشر للهجرة، و عامر بن شراحيل الشعبي متأخر عن ذلك، بل لم يسمع علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى، وإنما رآه، وقيل: إن عبد الله بن زيد استشهد في أحد، كما جاء من حديث عبيد الله بن عمر ، أن ابنة عبد الله بن زيد دخلت على عمر بن عبد العزيز فقالت له: إن أبي استشهد يوم أحد، وبعضهم يعل هذه الرواية في استشهاد عبد الله بن زيد ، وعلى كل حال نقول: إنه لو قلنا بتأخير حديثه فنقول: إنه توفي عام تسعة عشر، وعلى هذا لم يسمع عامر بن شراحيل الشعبي من عبد الله بن زيد ، ويكون ثمة إرسال وانقطاع في هذا الحديث، وكون الرجل يريد أن يؤذن وهو إمام الأصل في ذلك الجواز، فقد جاء هذا عن عبد الله بن عمر كما رواه ابن أبي شيبة من حديث مصعب عن عبد الله بن عمر أنه أذن وأم، وجاء عن بعض التابعين أنه كره ذلك، وحكى أن من السنة ألا يؤم المؤذن، وإنما يؤم غيره، وألا يؤذن الإمام، جاء هذا عند ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث عمران بن مسلم ، عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص أنه قال: من السنة ألا يؤذن الإمام، وقوله: من السنة، الأصل فيه على أقوى الوجوه أن يقال: إن له حكم الرفع، ولكنه مرسل؛ لأن مصعب بن سعد من التابعين، وإنما قيل من السنة لجري العمل على ذلك، والأصل أن الذي يقوم بالإمامة هو الإمام الأعظم وليس من ينيبه، وإنما تخلى الخلفاء والأئمة والملوك والرؤساء عن الإمامة لما ركنوا إلى الدنيا، بل كان في القرون الأولى يصلي بالناس حتى الفاجر من الخلفاء، حتى الذي يشرب الخمر، وحتى الذي يسفك الدماء ويقتل كـالحجاج بن يوسف ، وكان موعد التهديد الذي يهدد به الناس يوم الجمعة، ويهدد بقتل هذا وقتل هذا، فكان مرتبط ذلك بالإمام الأكبر، ثم انصرف الإمام الأكبر في القرون بعد ذلك إلى الأمر والنهي وإلى الدنيا، ثم ناب في ذلك غيره، فأصبح ثمة انفصال في شأن السياسة وشأن الديانة، فركن الساسة إلى الدنيا وركن العلماء أو أهل الديانة إلى أمور التعبد المحضة، وهذا من مواضع الخلل في الدين، وظهر أيضاً ما يسمى بمصطلحات متأخرة هي من آثار ذلك الانفصال ما يسمى بالإسلام السياسي، أو الدعوة إلى تسييس الإسلام، يقول الإسلام ليس بالسياسي، وهذا جاء من ذلك الصدع الأول.
نكتفي بهذا القدر إن كان ثمة سؤال.
السؤال: [ هل لفظ يكره معتادة في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ]؟
الجواب: قوله في حديث أنس بن مالك: يكره، هذا ليس معتاداً في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولها.
السؤال: [ ألا نقول إن طرق حديث: ( الإمام ضامن... ) تجعله مقبولاً؟ ]
الجواب: ما هي الطرق؟ حديث أبي هريرة كله يرجع إلى وجه واحد، وتفرع عنه، ولهذا يقول الإمام أحمد : ليس له أصل، حديث الأعمش ليس له أصل، يعني: كل هذه الطرق الكثيرة ترجع إلى شخص مجهول الله أعلم به، وأما ما عدا ذلك في الأحاديث الأخرى فحديث الحسن البصري مراسيله واهية، وله شيوخ مجاهيل، فلهذا يتقي العلماء حديثه، وكذلك حديث أبي أمامة فيه أبو غالب، ولا يقبل المتابعة فيما يرويه.
السؤال: [ ما حكم رواية الأعمش عن أبي صالح؟ ]
الجواب: الأعمش عن أبي صالح الأصل في روايته القبول، وإنما رددناها لوجود المخالفة، ولو لم ترد مخالفة كل الطرق لقبلت؛ لأنه من المكثرين، الأعمش من المكثرين، والمدلس إذا كان من المكثرين عن شيخ فتعتبر روايته ولو لم يصرح بالسماع؛ لأن المتن مستقيم، فحديث: ( الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن )، من جهة المعنى صحيح، لكن توسع الفقهاء في الاستدلال، فجعلوا هذا الحديث عمدة في مسائل لا يظهر أنها مقصودة باللفظ، من هذه المسائل يقولون: إن الإمام إذا صلى بالناس وترك المأموم الفاتحة أو القراءة أنه يتحمل عنه كل شيء، سواءً كانت صلاة جهرية أو غيرها، بل توسع بعضهم فقال: حتى لو ترك ركناً ساهياً، وهذه أقوال شاذة، يعتمدون على مثل هذه الألفاظ، لهذا يتوسع بعض المتأخرين في الاستدلال ببعض الألفاظ المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتساهل العلماء في علل هذه الأحاديث، وعند التوسع في هذا ينبغي أن يشدد.
السؤال: أيهما أفضل الإمامة أو الأذان؟
الجواب: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في فضل الإمامة، وإنما الثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام في فضل الأذان، والأحاديث في هذا كثيرة، فيكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( المؤذنون أطول أعناقاً يوم القيامة ).
السؤال: لو فصلت في حال الأعمش؟
الجواب: الأعمش هو: سليمان بن مهران الأعمش وهو عراقي من أئمة العراق ومن أئمة الرواية، والأعمش لم يسمع أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من أواخر الطبقة الخامسة، أو من أوائل الطبقة السادسة، قيل: إنه رأى أنس بن مالك، والصواب أنه لم يسمع منه شيئاً، فما يرويه فهو في عداد المراسيل، وعلى هذا نقول: إن ما يرويه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو منقطع، وفيه نوع تدليس، لهذا العلماء يقسمون روايته في أبواب التصريح بالسماع إلى أقسام: القسم الأول: ما يرويه عن المكثرين الذين يكثر الأخذ عنهم، فهؤلاء تغتفر الروايات ما استقام المتن، ولم يكن ثمة مخالفة.
القسم الثاني: ما يروي عن المقلين، فهذا مما يتشدد العلماء فيه ويحتاطون.
القسم الثالث: ما يرويه عمن أكثر بالأخذ عنه ولكن ثمة مخالفة أو شك في السماع، أو عدم استقامة في المتن، فهذا يطلب فيه التصريح بالسماع، كما في رواية الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة لوجود الاختلاف، والأصل في ذلك القبول، وهناك من الأئمة ممن يعتنون بروايات الأعمش من جهة ثبوت السماع كـسفيان الثوري ، فهو من أوثق أصحاب الأعمش وأعلم الناس بحديثه، وكذلك أدرى الناس بمسموعاته، ومعلوم أن الأعمش ممن يشدد في التحديث وينتقي التلاميذ.
السؤال: مراسيل التابعين هل تقبل أم لا مع كونهم أئمة في الديانة والاحتياط؟
الجواب: أولاً: الأصل عند الأئمة إساءة الظن في الراوي؛ لأن المروي عنه هو النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول وإن كان الحديث فيه كلام: ( من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين )، يعني: يظن، وهذا الظن ألحقه بجملة الكذبة، فيجب الاحتياط في هذا؛ لأن الكذب عن النبي عليه الصلاة والسلام ليس ككذب على غيره، لهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن كذباً علي ليس ككذباً على غيري )، ( من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )، ولهذا ذهب بعض العلماء كإمام الحرمين إلى أن من كذب على النبي عليه الصلاة والسلام فقد كفر، وهذا بمجرد الفعل، وهذا يدل على عظم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهذا العلماء يحتاطون في هذا، وإنما سلكنا في هذا الرد للمراسيل وأمثالها لأن الأئمة الذين ردوا هذه الروايات هم أئمة الزمن الأول، كـشعبة و ابن مهدي ، و سفيان ، وأضرابهم، ومن جاء بعدهم، كـابن معين ، و ابن المديني ، و أحمد بن حنبل ، ويطبقون على هذا، وهم أعلم الناس بهؤلاء الرواة، فهم أعلم الناس بـالحسن البصري مع إمامته وجلالته، وأعلم الناس بـابن سيرين وبـالزهري ، وغيرهم، فإذا كنا نرد رواية الراوي المجهول مع ذكر اسمه فكيف نقبل شخص غير مذكور أصلاً، لهذا نجعل الأئمة محل العدالة وأن إرسالهم لا يطعن فيهم، فالزهري له مراسيل ومع ذلك هو إمام الدنيا في الحفظ والرواية، وإذا تفرد قبل تفرده، ولو لم يوافقه غيره، ولهذا نقول: إن الإرسال لا يضعف الراوي، وإنما يضعف المروي، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر