الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم حقق توحيدنا، وارزقنا صدق التوكل عليك, وحسن الظن بك، واهدنا صراطك المستقيم يا رب العالمين.
أما بعد:
فقد سبق الكلام على الإيمان بالقدر وأنه ركن من أركان الإيمان, وذلك لما جاء في حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما, لما سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان, قال: ( الإيمان أن تؤمن بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, وبالقدر خيره وشره, وبالبعث بعد الموت ), فالإيمان بالقدر خيره وشره هو من أركان الإيمان التي لا يقوم الإيمان إلا عليها, ولهذا جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر لما سئل عن قول معبد الجهني لما أحدث في القدر وأن الأمر أُنُف, قال: أخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني, وأن الله عز وجل لا يقبل من أحد شيئاً حتى يؤمن بالقدر. وذلك لأن من نفى القدر على ما تقدم ينفي علم الله سبحانه وتعالى وهذا لازمه, ولهذا الأئمة من أهل السنة كالإمام أحمد عليه رحمة الله وغيره كـالشافعي فإنهم يحاجّون ويخاصمون أهل القدر بالعلم, فإنك إذا نفيت القدر فإنه يلزم من ذلك أن تنفي العلم, فيخاصم في ذلك وينازع.
وعقيدة أهل السنة في القدر أن يثبت أن الله عز وجل يعلم ما كان، ويعلم ما يكون, ويعلم ما سيكون, وأن الله عز وجل قدر أفعال الخلائق، وخلق الناس وما يفعلون, وأن الله عز وجل قدر كل شيء, سواء ما كان له اختيار ومشيئة؛ كالإنسان, أو ما ليس له اختيار كسائر الجمادات في الأرض؛ مما يجريها الله عز وجل بالرياح وغير ذلك, وأن الله عز وجل قدر أحوالها وآجالها, وقدر الله سبحانه وتعالى تقلباتها, وأن يعلم الله جل وعلا ذلك كله. ويكل ما أشكل عليه في ذلك إلى الله سبحانه وتعالى؛ لضعف عقل الإنسان عن إدراك علم الله سبحانه وتعالى في الكون.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وخلق الملائكة جميعاً لطاعته, وجبلهم على عبادته ].
خلق الله عز وجل الملائكة, وهو سبحانه وتعالى لا يأمر عباده بالشرك, ولا أن يتوجهوا بصرف عبادة لغير الله سبحانه وتعالى, سواء كانوا ملائكة مقربين أو أنبياء مرسلين, وإنما يأمرهم الله جل وعلا بتوحيده وحده, ومن صرف شيئاً من العبادة لغير الله، فجعل لشيء من المخلوقات ولو مقرباً كالملائكة, أو مرسلاً مصطفى كالأنبياء شيئاً من العبادة من دون الله سبحانه وتعالى فقد أشرك مع الله عز وجل غيره, والملائكة لهم مشيئة يتصرفون بها, ولهذا الله سبحانه وتعالى مدحهم فقال: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6], لا يخرجون عن أمر الله سبحانه وتعالى, ولهم اختيار, ولكن الله عز وجل مدحهم على عدم الخروج عن طاعة الله سبحانه وتعالى وأمره.
ولهذا نقول: إن خلق الله سبحانه وتعالى في باب المشيئة على نوعين:
النوع الأول: خلق لهم مشيئة, وهم الخلق الذين يخيرون؛ وهؤلاء كالإنس والجن والملائكة, والإنس والجن يخرجون عن أمر الله عز وجل بإذنه, والملائكة لا يعصون الله عز وجل ما أمرهم, إذ فطرهم الله عز وجل على طاعته سبحانه وتعالى.
النوع الثاني: خلق ليس لهم مشيئة؛ وذلك كالجمادات, من الأحجار، وكذلك أيضاً من التراب والمياه وغير ذلك, فإن الله سبحانه وتعالى يجريها بمشيئته من غير إرادة قائمة في ذاتها, وإنما هو بأمره وحده, ولهذا لا يجري عليها ثواب ولا عقاب, فلا تثاب هذه الجمادات؛ لأنها ليس لها اختيار وليس لها مشيئة, وإنما يثاب من له اختيار ومشيئة, وهم الإنس والجن؛ لوجود الاختيار فيهم, ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30], وبمشيئتهم يثيبهم إن أطاعوه, ويعاقبهم إن شاء في معصيته إلا الشرك, فقد جعل الله عز وجل أمره مقضياً, إذ لا يغفره سبحانه وتعالى لفاعله إلا أن يتوب.
قال: (وخلق الملائكة جميعاً لطاعته, وجبلهم على عبادته), ومعنى جبلهم يعني: طبعهم وفطرهم على ذلك, إذ لا يخرجون عن أمره سبحانه وتعالى.
قال المصنف رحمه الله: [ فمنهم ملائكة بقدرته للعرش حاملون، وطائفة منهم حول عرشه يسبحون، وآخرون بحمده يقدسون، واصطفى منهم رسلاً إلى رسله، وبعض مدبرون لأمره ].
يقول: (فمنهم ملائكة بقدرته للعرش حاملون), ومنهم حول العرش حافون, ومنهم من ينتظر عند العرش, فليس بحاف ولا بحامل, وأعمال الملائكة يسخرهم الله عز وجل لها, فمنهم ملائكة حملة العرش, ومنهم حافون حول العرش, ومنهم من هو ملك موكل بالرياح, ومنهم موكل بقبض الأرواح, ومنهم من هو موكل بأمر الجبال, ومنهم من هو موكل بالأمطار وتسييرها، وغير ذلك، بأمر الله سبحانه وتعالى وعلمه جل وعلا، ومنهم ملائكة كتبة يحصون على العباد ما يفعلون؛ كرقيب وعتيد, ومنهم ملائكة الفتنة في القبر، وهم منكر ونكير, ومنهم من أوكله الله عز وجل بالوحي -وهو: جبريل روح القدس عليه السلام- وجعله الله سبحانه وتعالى رسولاً لأنبيائه, يُنزل عليهم أمره ووحيه سبحانه وتعالى, وعلى رسولنا صلى الله عليه وسلم وغيره, ومنهم ملك الموت, ومنهم ملك الأرحام الذي يكتب ما يقدره الله عز وجل على الأجنة في بطون أمهاتهم.
فالملائكة لا يحصيهم عدداً إلا الله, ولا يعلم أفعالهم وكذلك واجباتهم إلا الخالق سبحانه وتعالى, وإذا عُلم أنهم خلق فهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً, فمن صرف إليهم شيئاً من العبادة صرف إليهم شركاً, فأشرك مع الله عز وجل غيره, والله سبحانه وتعالى لا يعبد إلا هو.
وإنما ذكر الملائكة لبيان جملة من المسائل المتعلقة بأمر الاعتقاد, ومن هذه المسائل أن هناك من يتوجه للملائكة بالعبادة, فيصرف لهم تعظيماً أو سجوداً أو سؤالاً, أو يجعلهم وسائط وشفعاء من دون الله سبحانه وتعالى, وهؤلاء أشركوا مع الله عز وجل غيره, فأراد أن يبين المصنف رحمه الله هذه المسألة، فبين أن الملائكة خلقهم الله جل وعلا, وبين الحكمة من خلقهم, فلا تتعدى هذه الحكمة، فينازع الله عز وجل في أمرهم.
وكذلك هناك من يزعم أن الملائكة بنات الله, تعالى الله عز وجل عن ذلك علواً كبيراً, ولهذا أراد المصنف رحمه الله أن يبين أنهم مخلوقون, خلقهم الله عز وجل كما خلق غيرهم, إلا أن الله عز وجل جعل لهم صفات، وجعل لهم ماهيات، وجعل لهم أفعالاً يوكلون بها, وجعل لهم أحوالاً من جهة زمانهم، وتحولهم وجوهرهم، وتغيرهم في ذلك، مما يقدره الله عز وجل لهم بإذنه سبحانه وتعالى.
وهنا ذكر مسألة الاصطفاء, قال: (واصطفى منهم رسلاً إلى رسله), إشارة إلى أن أفضل الملائكة هم الموكلون بالرسالة, فذكر الملائكة ثم ذكر من اصطفاه الله سبحانه وتعالى منهم لحمل رسالته, وإنما اصطفاهم الله عز وجل لشرف المحمول وهو الوحي, والذي هو كلام الله سبحانه وتعالى, ومن هذا نأخذ أنه إذا كان الملائكة حملة الوحي أفضل الملائكة، فحملة الوحي من البشر أفضل البشر، وأعلاهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
قال المصنف رحمه الله: [ ثم خلق آدم بيده وأسكنه جنته, وقبل ذلك للأرض خلقه ].
يعني: أن الله عز وجل قدر على آدم مآله حال خلقه, وعلم ما يئول إليه أمره, وأن الله عز وجل خلقه بيده سبحانه وتعالى ففي الحديث: ( خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي ), يعني: أن الله عز وجل خلقه بيده لا كحال ذريته, فقد خلقهم الله عز وجل بأمره.
يقول: (ثم خلق آدم بيده وأسكنه جنته), وقد اختلف العلماء في الجنة التي أسكنها الله عز وجل آدم؛ هل هي الجنة التي يئول إليها الخلق بعد ثوابهم وبعد حسابهم في الآخرة أم هي جنة أخرى؟ اختلفوا في هذه المسألة على قولين:
منهم من قال: هي الجنة التي يئول إليها المؤمنون, ومنهم من قال: إنها جنة أخرى, وكونها جنة أخرى يحتاج في ذلك إلى دليل من الوحي صحيح صريح.
يقول: (وقبل ذلك للأرض خلقه), يعني: أن الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق آدم ويسكنه الجنة قدر عليه وعلم سبحانه وتعالى أنه سيئول أمره إلى الأرض, وستكون في ذلك ذريته, والله سبحانه وتعالى لا يكون شيء إلا وقد سبق في علمه جل وعلا, وإذا كان هذا في آدم فإنه في ذريته كذلك, لذا قال: (وقبل ذلك للأرض خلقه).
قال المصنف رحمه الله: [ ونهاه عن شجرة قد نفذ قضاؤه عليه بأكلها, ثم ابتلاه بها نهاه عنه منها، ثم سلط عليه عدوه فأغواه عليها ].
وقوله: (ونهاه عن شجرة قد نفذ قضاؤه عليه بأكلها), فيه أن الله سبحانه وتعالى يخلق عباده ويقدر أشياء سبحانه وتعالى عليهم, ويكون في سابق علمه سبحانه وتعالى وقوع ذلك منهم, لحكمة يريدها الله جل وعلا, والحكمة في ذلك مفوضة إلى الخالق سبحانه وتعالى, ولهذا مع علم آدم عليه السلام بأن الله عز وجل قدر عليه ذلك إلا أنه التمس التوبة من الله جل في علاه, وذلك مما وقع منه من أكله من الشجرة.
فالشجرة التي نهى الله سبحانه وتعالى آدم وزوجه عن أكلها، نهاه الله عز وجل عن أكلها وعن قربها, وذلك أن القرب يفضي إلى الأكل, وفي هذا يُعلم أن الله سبحانه وتعالى إذا نهى عن شيء نهى عما يفضي إليه ولو لم يكن من جنسه, ولهذا نهى الله سبحانه وتعالى آدم عن قرب الشجرة, وكذلك نهى الله سبحانه وتعالى عن الخمر وعن قربها والدنو منها؛ حتى لا يسول للنفس الطمع فيها فيقع الإنسان في شربها, ولهذا نهى الله عز وجل عن قرب أشياء ولم يُكتفِ بالنهي عن الملابسة, كما نهى الله سبحانه وتعالى عن القرب للفواحش؛ لأن القرب منها تقريب لداعي النفس للوقوع فيها, فالقرب للفواحش من إطلاق البصر, والخلوة, والاختلاط, والتبرج, والسفور, وغير ذلك من الأمور التي تفضي إليها, فهذا تقريب لها, ولهذا ما من شيء حرمه الله إلا وقد جعل ذرائع موصلة إليه محرمة حتى لا تفضي إليه.
يقول رحمه الله: (ثم ابتلاه بما نهاه عنه منها) ابتلى الله سبحانه وتعالى آدم بالأكل من الشجرة, امتحاناً منه واختباراً له ولذريته, ومع وقوع ذلك إلا أنه وزوجه طلبا المغفرة من الله سبحانه وتعالى, والله جل وعلا حينما كان آدم في الجنة ومعه زوجه سلط عليهما إبليس في الجنة, فكان إبليس في الجنة معهم وكان يتشكل على صور شتى, فتارة يأتيه بصورة بهيمة أنعام, وتارة يأتيه في صورة حية, يسول في كل مرة له الأكل من هذه الشجرة حتى أكل منها, فأمضى الله عز وجل بعد ذلك أمره, بأن أنزله وأهبطه إلى الأرض.
وفي هذا أيضاً أن الإنسان لا يجوز له أن يحتج بقدر الله على فعله المحرم, ومن فعل أمراً محرماً، فاحتج بقدر الله عز وجل عليه ولم يتب فقد سلك طريقة إبليس, ولهذا أول مخالفة للخالق سبحانه وتعالى بدت في الجن من إبليس, وفي البشر من آدم وزوجه عليهما السلام, فإبليس احتج بقدر الله على ذنبه ولم يتب, ولهذا قال: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف:16], أي: بما أمضيت وقضيت علي من الضلال والإغواء سأستمر في هذا الأمر, وأما آدم وزوجه فاستغفرا الله سبحانه وتعالى مما وقع منهما، فمن استغفر فقد سلك طريقة آدم, فهو آدمي, ومن احتج بقدر الله عز وجل على ذنبه وبقي عليه فهو إبليسي, ولهذا نقول: إن قدر الله عز وجل ليس حجة للإنسان أن يمضي على ما هو عليه, بل يتوب ويستغفر وينيب إلى الله سبحانه وتعالى.
قال المصنف رحمه الله: [ وجعل أكله لها إلى الأرض سبباً، فما وجد إلى ترك أكلها سبيلاً، ولا عنه لها مذهباً ].
وذلك أن الله عز وجل قدر ذلك عليه, ولا يخرج الإنسان عن قدر الله سبحانه وتعالى، وما كتبه جل وعلا عليه, فلا بد أن يصير إليه, ولهذا المؤمن يقلع ويستغفر, ويسأل الله سبحانه وتعالى أيضاً الإعانة على ذلك والثبات عليه. نعم.
قال رحمه الله: [ ثم خلق للجنة من ذريته أهلاً، فهم بأعمالها بمشيئته عاملون، وبقدرته وبإرادته ينفذون ].
وهذا مما يقدره الله عز وجل كذلك على ذرية آدم, فخلق للجنة خلقاً وهم في بطون أمهاتهم, وخلق للنار خلقاً وهم في بطون أمهاتهم, وقدر الله سبحانه وتعالى للجنة أهلاً وللنار أهلاً؛ كما جاء في حديث عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكذلك أيضاً جاء في حديث عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا من سابق علم الله جل وعلا وتقديره لعباده, فإذا أراد الله عز وجل حصول شيء هيأ له أسبابه, ولا يخرج الإنسان عن ذلك.
قال رحمه الله: [ وخلق من ذريته للنار أهلاً، فخلق لهم أعيناً لا يبصرون بها، وآذاناً لا يسمعون بها، وقلوباً لا يفقهون بها، فهم بذلك عن الهدى محجوبون، وبأعمال أهل النار بسابق قدره يعملون ].
وهذا أيضاً كما أنه في أمر الجنة كذلك أيضاً في أمر النار, وما قدره الله سبحانه وتعالى على خلقه كذلك, والله جل وعلا لو لم يخلق لهم بصراً، وسمعاً، وعقلاً، وقلباً، لم يعذبهم الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله عز وجل إنما عذبهم مع وجود السمع والبصر والقلب؛ لأنه به تقوم الحجة, فإذا قامت الحجة عليه ولم يعمل -يعني: أنه لم يستجب مع علمه- فكان معانداً, ولهذا يقول الله جل وعلا: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6], وما قال حتى يستجيب؛ لأنه ربما لا يستجيب, فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ [الرعد:40], إنما على الرسول البلاغ, وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [النور:54], فعليه أن يُسمع بهذه الحواس التي آتاه الله عز وجل الإنسان الحجة, فإذا لم ينقاد, فإنه حينئذ تقوم عليه الحجة, واستحق حينئذ العقاب.
ولهذا الإنسان الذي لا يستجيب ويكتفي بالسماع والبصر والإدراك والوعي بقلبه من غير عمل فيه شبه بالبهائم؛ لأنه يسمع كما تسمع, ويبصر كما تبصر, ويفقه كما تفقه، وشابهها في عدم العمل, ولهذا الله سبحانه وتعالى يقول: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ [الفرقان:44], يعني: يشابهونها في عدم العمل والاستجابة, ويشابهونها بالسماع المجرد فقط, وشبههم الله عز وجل أيضاً بالأموات؛ لأنهم يسمعون ولكنهم لا يستجيبون, ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في المشركين الذين وضعهم في قليب بدر: ( ما أنتم بأسمع لي منهم ), يعني: يسمعون, ولكن لا يستطيعون أن يردوا, ولا يستطيعون أن يستجيبوا, ولا يستطيعون أن ينفعوا ولا أن يضروا, لا أنفسهم ولا غيرهم.
قال المصنف رحمه الله: [ والإيمان قول وعمل، وهما سيان ونظامان وقرينان, لا نفرق بينهما، لا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بإيمان ].
وهنا شرع المصنف رحمه الله في مسألة الإيمان, يقول: (والإيمان قول وعمل, وهما سيان ونظامان وقرينان), فالإيمان يطلق العلماء عليهم رحمة الله تعالى في بيانه ألفاظاً، فيقولون: هو قول وعمل, وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية, وتارة يقولون: هو قول وعمل واعتقاد, وهذه الإطلاقات مردها إلى مقاصد أصحابها, وغالب إطلاقات السلف عليهم رحمة الله يقولون: الإيمان قول وعمل, وربما يقولون: قول وعمل ونية, ومرادهم بذلك أن ما كان من أمر القلب، وما كان من أمر اللسان، وما كان من عمل الجوارح، فهذا هو الإيمان.
والإيمان هو: ما وقع في القلب من التصديق بما أخبر الله عز وجل ونبيه به, وما أخبر الإنسان به عما في قلبه في قول لسانه, وما عمل به من جوارحه, فهذا هو الإيمان, فلا يصح اعتقاد ونية إلا بقول وعمل, ولا يصح القول إلا باعتقاد ونية وعمل, ولا يصح عمل الجوارح إلا مع اعتقاد ونية وقول, فلا بد من اجتماع هذه الثلاثة للإيمان.
وقول المصنف: الإيمان قول وعمل, واكتفاؤه بالقول والعمل؛ لأن القول والعمل شامل للقلب, فللقلب قول وعمل, وذلك التصديق والنية, فالقلب يصدق بما أخبر الله عز وجل به, من وحدانيته في ذاته, وربوبيته وألوهيته سبحانه وتعالى, وأسمائه وصفاته جل وعلا, وكذلك النية في العمل, فلا يعقد أعمالاً بجوارحه وقوله إلا وهي خالصة لله سبحانه وتعالى, ولهذا نقول: إن القلب له قول وعمل.
ولهذا يختصر العلماء الإيمان, فيقولون: الإيمان قول وعمل؛ لأنه داخل في القلب وداخل في الظاهر, فهو شامل للأعمال والأقوال الظاهرة وللأقوال والأعمال الباطنة, والباطنة: هي عمل القلب وقوله, والظاهرة: هي قول اللسان وعمل الجوارح, وقول اللسان يسمى فعلاً في قول بعضهم, وبهذا دل عليه القرآن, ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112], فسماه قولاً ثم سماه فعلاً, وبعضهم يقول: إن القول لا يسمى فعلاً, وبعضهم يسميه عملاً.
ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93], قال بعض المفسرين: عن لا إله إلا الله, فلا إله إلا الله شاملة لقول اللسان ولوازمها أيضاً عمل الجوارح, ومال إلى هذا بعض المصنفين في العقيدة من المتقدمين, وبعضهم يقول: إن قول اللسان لا يسمى عملاً, وإنما يسمى قولاً, وذهب إلى هذا أيضاً بعض الأئمة عليهم رحمة الله, وعمل الجوارح يسمى عملاً ويسمى فعلاً بالاتفاق, ولا يصح العمل إلا باجتماع هذه الأشياء, وهي: قول وعمل القلب, وقول اللسان, وعمل الجوارح.
وهناك من العلماء من يعرف الإيمان أو هذه الثلاثة فيقول: هي أركان الإيمان, أو يقول: هي شروط الإيمان, ومن يطلق أمثال هذه العبارات يريد تيسيراً وتقريباً للمعنى, ومرده من جهة المعنى الذي يريده إلى مقصده بمثل هذا التقسيم, فإذا كان يريد بمثل هذا التقسيم أن يجعل لازم ذلك خاطئاً فنقول له: إن التقسيم حينئذ خاطئ؛ لأنه أدى إلى الخطأ, وإذا كان مرد أو لازم تقسيمه صحيحاً فيكون حينئذ تقسيمه صحيحاً.
ومعنى ذلك: أن قولهم: القول والعمل والاعتقاد أو القول والعمل والنية هذه أركان, ما المراد؟ إذا قال: المراد أنه لا يصح الإيمان إلا بها, نقول: هذا التقسيم صحيح وهذا الوصف صحيح, وذلك أن الأركان لا بد من وجودها, فإذا فقد واحد منها فقد الآخر, ولكن لو قال: إني أسميها أركاناً ولكن إذا فقدنا واحداً لا يزول الإيمان, نقول حينئذ بأن هذا المعنى خاطئ؛ لأنه قد يقول مثلاً: أركان الإسلام خمسة, فإذا ترك الإنسان الصيام أو الزكاة أو الحج لا نكفره فكذلك من ترك العمل أو القول أو الاعتقاد يقول مثلاً: لا نكفره, لذا نقول: هذا المعنى باطل, وهذا القياس أيضاً باطل.
إذاً ما يذكره العلماء من هذه المعاني كقولهم: الإيمان قول وعمل واعتقاد, أو قول وعمل ونية, وذكرهم بوصف هذه الأشياء أنها شروط أو أركان أو واجبات مردهم في ذلك إلى المعنى اللازم لقولهم, فقد يكون صحيحاً وقد يكون خاطئاً, فما المعنى الصحيح في هذه الثلاثة؛ في قولنا: الإيمان قول وعمل واعتقاد؟ نقول: المعنى الصحيح في ذلك أن نطلق كما أطلق السلف أن الإيمان قول وعمل ونية, أو قول وعمل, وهو شامل أيضاً للنية, ولو قلنا: أركان وبينا المعنى فهو صحيح, ولو قلنا: شروط وبينا المعنى الموافق لقول السلف فهو صحيح, إذاً ما المعنى الموافق لقول السلف وظواهر الأدلة من الكتاب والسنة؟ نقول المعنى الموافق هو أن القول والعمل والاعتقاد هي الإيمان, فلا يصح الإيمان إلا بوجود هذه الثلاثة.
وما هي هذه الثلاثة بالنسبة للإيمان؟ نقول: كالركعات الثلاث بالنسبة للمغرب, فصلاة المغرب ثلاث ركعات, فإذا نقصت واحدة كالأولى أو الثانية أو الثالثة لا تسمى مغرباً, ولو دخل مبطل على الركعة الأولى أو الركعة الثانية أو الثالثة فهل تبطل الأولى أو الثانية أو الثالثة أو تبطل جميعاً؟ تبطل جميعاً, فمن انتقض وضوءه في الركعة الثالثة بطلت الأولى والثانية, وعلى هذا نقول: إن تقرير المسألة في الركعة تقريراً صحيحاً في الإيمان يفهم منه أيضاً الكفر, فمن أخطأ في تأصيل هذه المسألة من جهة تعريفها بالإيمان، فإنه يخطئ في تأصيل الكفر فيها.
ولهذا نقول: إذا فهمنا أن هذه الثلاثة هي الإيمان في إطلاقات السلف قول وعمل ونية، ندرك أن أي مبطل لأي واحد منها يبطل الجميع؛ فمن تكلم بكلمة الكفر فسب الله سبحانه وتعالى، أو سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كفر بالله؛ ولو سجد لله فأدى الصلاة لله عملاً ولو سجد؛ لأن المبطل إذا دخل على واحد من هذه الثلاثة أبطلها جميعاً؛ كحال المبطل في أحد الركعات الثلاث فإنه يبطل الصلاة جميعاً, فلا نقول لمن أبطل صلاته ونقض الركعة الثالثة: إن الركعة الأولى والثانية صحيحة فلا تبطل صلاته, فالقول بصحة الصلاة باطل؛ لأن الناقض إذا دخل على أي واحد من هذه الثلاثة أبطلها؛ لأن هذه الثلاثة كلها هي المغرب, فكذلك لو جاء الإنسان باعتقاد وقول ولكنه عطل العمل, فلم يأت به؛ كمن جاء بالركعة الأولى أو الثانية فسلم من المغرب بركعتين, ولم يأت بالثالثة, فليست هي المغرب وذاك ليس الإيمان.
ولكن ما هو العمل الذي يثبت به الإيمان؟ نقول: العمل الذي يثبت به الإيمان هو ما انفردت به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولهذا نقول: إن العمل الذي يؤجر عليه الإنسان على نوعين:
النوع الأول: ما اتفقت به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم مع الشرائع السابقة, مما دل عليه الشرع أو دل عليه الطبع, فما دل عليه الشرع من سؤال الله المغفرة, أو مثلاً الصدقة, فالصدقة موجودة في شريعة محمد وشريعة موسى وشريعة عيسى, فهي من جملة الأعمال التي دلت عليها الشرائع.
وكذلك ما دل عليه الطبع أنه لا بد أن يكون موجوداً في سائر الشرائع ولو لم يدل عليه النص, فما دل الطبع والفطرة على استحبابه واستحسانه؛ كإغاثة الملهوف, ودفع الأذى عن الناس, والإحسان إلى الأقربين, وإكرام الضيف, والإحسان إلى الجار, وغير ذلك من مكارم الأخلاق, هذا النوع لا يثبت الإيمان مع وجوده, وإنما يدخل في دائرة زيادة الإيمان ونقصانه.
النوع الثاني: ما اختصت به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم, وهذا هو المقصود عند العلماء أنه لا يصح الإيمان إلا به؛ وذلك كالصلاة, والصيام, والزكاة, والحج, وغير ذلك, فإذا أوجد الإنسان شيئاً من هذه الأعمال فهذا أمارة على أنه آمن بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم عملاً, فوجد منه شيء من العمل الموافق لشرعة محمد صلى الله عليه وسلم, ولهذا يرحم اليتيم والشيخ الكبير ويعينه في الطريق ويميط الأذى عن الطريق ويداوي الجريح, وهذا معنى دلت عليه الفطرة، ولا يمكن أن توجد شريعة لا تدل عليه من الشرائع السابقة, بل لا بد أن يأتي في الشرائع, وعليه فإن فعل هذه الأشياء ليس دليلاً على إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ولهذا من الضعف والجهل من يقول: إن هذا رجل يرحم الضعفاء ويعين المحتاجين ويكرم الضيف ويحترم الناس وغير ذلك ينبغي أن يكون من أهل الجنة, ولو كفر بمحمد, هذا كلام باطل؛ لأن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم اختصت بشرائع, وهذه الشرائع هي التي شملت النوع الأول وهي ما دلت عليه الفطرة مما اشترك مع الشرائع السابقة, واختصت بشيء آخر، وهي شرائع محمد صلى الله عليه وسلم التي جاء بها؛ كالصلوات الخمس, وصفة الوضوء, والصيام, وكذلك أيضاً الحج, وقد وجد في السابق, لكن زاد النبي صلى الله عليه وسلم في صفته وهيئته, فلا بد من وجود الثاني ليثبت العمل كالذي نقول في تعريف الإيمان إنه قول وعمل.
ومنهم من يكفر تارك الصلاة, ويجعل أصل هذا الباب مسألة كفر تارك الصلاة, ومنهم من لا يكفر بها, وهذه من المسائل الخلافية, والخوض فيها مما يطول بنا.
وخلاصة ذلك، أن من فهم الإيمان وعلاقة الاعتقاد والقول والعمل بمعنى الإيمان فهم مسألة الكفر الطارئ عليه, ومن اختل لديه هذا الأمر، فجعل هذا الأصل مضطرباً عنده، ولم يدركه كما فهمه السلف الصالح عليهم رحمة الله، حينئذ فإنه يختل في جانب ورود الكفر لديه؛ كحال الكفر الذي يطرأ على بعض الناس عملاً فيقول: لا يكفر؛ لأنه لم يبين مقصده؛ كالذي يسجد لصنم, أو يسب الله, أو يدوس المصحف, أو غير ذلك, فهذا ظهر منه الكفر العملي, ما لم يكن ثمة قرينة قوية تدفع القصد.
فمثلاً: لو أن رجلاً أعمى يمشي في الطريق فوطأ المصحف، ألا يوجد قرينة على أنه لا يعلم؟ يوجد قرينة, إذاً لماذا دفعنا عنه الكفر مع أنه وقع في صورة الكفر؟ دفعنا عنه الكفر لوجود قرينة قوية جداً تدفع القصد, لكن الأصل أن الناس بأفعالهم يقصدون, هذا هو الأصل, فإذا جاء لدينا ما ينفي هذا الأصل، رفعنا الحكم المترتب على ذلك لعدم وجود القصد, فإذا لم يوجد القصد لم يوجد الفعل.
ولهذا نفرق مثلاً في وطء المصحف بين الأعمى والمبصر, كذلك أيضاً من ذبح لله سبحانه وتعالى في موضع يقصده بعض الناس -وهم قلة- للذبح لغير الله, ولكن لم يشتهر هذا الأمر, وعرف عن هذا الرجل أنه موحد, وهو جار مثلاً لهذه الشجرة أو جار لهذه الحصاة, فذبح في موضع أو في زمن يذبح فيه لله كالأضاحي, فجاء إلى حجارة يقصدها قلة أو نحو ذلك, هل نحمله على الندرة أم نحمله على الأصل؟ نحمله على الأصل, أما إذا اجتمعت القرائن في وجود شخص لا يوجد في هذا الموضع إلا من قصد؛ كالذي يقصد الأضرحة قصداً بعينها؛ لأن الله لا يعظم فيها سبحانه وتعالى, فيسجد عكس القبلة لصنم فهذا قصد الشرك, فوقع منه الكفر عملاً ولو لم يفصح عن اعتقاده, ولهذا نقول: إذا فهم الإيمان على وجهه فهم الكفر, وإذا اختل معنى الإيمان وفهمه كما يفهمه السلف اختلت كذلك مسألة الكفر.
ولهذا يقول المصنف رحمه الله في القول والعمل: (هما سيان ونظامان وقرينان لا نفرق بينهما, لا إيمان إلا بعمل, ولا عمل إلا بإيمان), وهذا على ما تقدم معنا في مسألة الركعات, إذا قلنا: قول وعمل, فهذا -من باب التقريب- كركعتي الفجر, الركعة الأولى ملتزمة للثانية, والثانية ملتزمة للأولى, فإذا بطلت هذه بطلت هذه وإذا بطلت هذه بطلت هذه, إذا صلى ركعة ولم يأت بالثانية بل سلم من أولى فهذه ليست الفجر, وإذا عرفنا بالتعريف الثاني؛ قول وعمل واعتقاد, أو قول وعمل ونية, نقول: هي كحال صلاة المغرب, ثلاث ركعات, لا تصح الأولى إلا مع صحة الثانية والثالثة, ولا تصح الثانية إلا مع صحة الأولى والثالثة, ولا تصح الثالثة إلا مع صحة الأولى والثانية, ومن أبطلها بشيء من المبطلات وجب عليه أن يعيد الصلاة من أولها, وفي مسألة الإيمان وجب عليه أن يعيد إيمانه وأن يجدده بالتوحيد, ولهذا يقول المصنف: (لا إيمان إلا بعمل, ولا عمل إلا بإيمان).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر