الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فنتكلم على شيء من الأحاديث المعلة في الصلاة.
وأول أحاديث هذا المجلس: هو ما جاء من حديث سويد بن غفلة أنه قال: ( سمعت أبا بكر و عمر و عثمان و علي بن أبي طالب عليهم رضوان الله يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت في وتره، قال: وكانوا يفعلون ذلك ) ، وهذا إنما كان من هؤلاء الخلفاء مرفوعاً وكذلك موقوفاً عليهم، هذا الحديث قد رواه الدارقطني في كتابه السنن من حديث عمرو بن شمر عن سلام أو سلام عن سويد بن غفلة عن أبي بكر و عمر و عثمان و علي بن أبي طالب ، وهذا الحديث منكر، بل هو مطروح وذلك أنه قد تفرد به عمرو بن شمر في روايته عن سلام ، وتفرده بهذا الحديث مما لا يقبل لو كان ثقة فكيف وهو متروك الحديث! وقد تكلم فيه غير واحد من العلماء وذلك من وجهين:
أحدها: اتهامه في دينه فإنه كان سيء القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال ابن حبان عليه رحمة الله قال: كان يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه لا يحتج به، وقال الدارقطني رحمه الله: إنه متروك الحديث، وتفرده بهذا الحديث مما لا يقبل من وجوه متعددة:
أولها: أن هذا الحديث ينبغي أن يحمله في ذلك الثقات الكبار حتى لو كان عمرو في روايته هذه هو من الثقات أو من المتوسطين في الرواية فإن هذا الحديث لا يقبل، وسبب ذلك: أن هذا الحديث قد اجتمع في روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر و عمر و عثمان و علي بن أبي طالب ، ومثل هؤلاء لا ينبغي أن يأتي بإسناد واحد فرد، وذلك أن أبا بكر و عمر و عثمان و علي لم يكونوا من جهة تصدرهم للرواية في زمن واحد أدركه سويد ، وإنما كان من يؤخذ عنه القول في زمن أبي بكر أبو بكر ولا يتقدم أحد عليه.
ودليل ذلك: أنه بعدما ذكر المرفوع ذكر أن ذلك يفعله أولئك، يعني: أنه أخذه عنهم بالسبر، ولهذا قال: وكانوا يفعلون ذلك يعني: أن أولئك الخلفاء كانوا يقنتون في وترهم كما كانوا يرفعون ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يدل على أنه أخذ ذلك عنهم واحداً تلو الآخر مع إدراك سويد لهم.
ولهذا نقول: إن هذا الحديث منكر أو نستطيع أن نقول: إن هذا الحديث كذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك أن الأحاديث التي تتعدد فيها الرواية وخاصة تروى عن جماعة من الصحابة وذلك كـأبي بكر و عمر و عثمان و علي بن أبي طالب ينبغي أن تروى بوجه أصح أو بوجوه متعددة ولا تخلو المدينة منها، وهذا إسناد كوفي، وينبغي أن نعلم أن أهل الكوفة من جهة عادتهم في رواية الأحاديث أنهم ربما رووا حديثاً موقوفاً وجعلوه مرفوعاً، وربما تجوزوا بالأقيسة فجعلوا ما كان من قول صحابي أنه يكون قولاً لمن دونه، وما كان لخليفة فإنه يكون أيضاً للخليفة الآخر، وذلك عندهم كما تقدم معنا في بعض المجالس أنهم يبالغون في مسألة القياس والرأي, وذلك أن المسائل الفقهية عندهم يكثرون القياس فيها ولو كانت في أمور العبادات، ولهذا يهمون ويغلطون.
ومن أظهر الأوهام عند الكوفيين ما يتعلق بقنوت الوتر، ومن نظر إلى مسألة قنوت الوتر عند الكوفيين يجد أنها من المسائل المشكلة عندهم، وسبب ذلك: أن فقهاءهم يرون القنوت في الوتر، وعمدتهم في ذلك ما جاء عن عبد الله بن مسعود وعن عمر ، وأصبح عملاً مستفيضاً في الناس وفي الأئمة القنوت في صلاة الوتر فرادى وجماعات فاستقر لديهم الأمر، لما استقر كانت الأحاديث والآثار تروى عندهم فيجسرون على رفعها سواء كانوا من الثقات، أو كانوا من الضعفاء، أو كانوا أيضاً من المطروحين.
وكذلك أيضاً من وجوه هذا أن من وجوه النكارة في هذا الحديث: أنه لو كان الراوي ثقة غير عمرو بن شمر في روايته لهذا الحديث وتفرده له به لو كان من هو أوثق منه لا يقبل لأن هذا الحديث يقتضي الاشتهار بمعنى: أنه يحكي ذلك عملاً عن أبي بكر و عمر و عثمان و علي بن أبي طالب ، يعني: أنه في الخلافة الراشدة كلها، ومع ذلك هذا الحديث لا يأتي إلا بإسناد كوفي يرويه عمرو بن شمر عن سلام عن سويد بن غفلة عن أبي بكر و عمر و عثمان و علي بن أبي طالب عملاً، وهذا قد يحمل من بعض الثقات إذا رووه عن علي بن أبي طالب ولكن أن يرووه عن سائر الخلفاء الراشدين فهذا مما لا يقبل، لأن علي بن أبي طالب كان ينزل الكوفة ويتفردون بشيء من فقهه، ومثل هذه الأعمال مما تستفيض وتشتهر إذا كانت عملاً في المدينة فكيف إذا كانت مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا نقول: إن هذا الحديث كذب سواء تعمد فيه عمرو أو لم يتعمد بروايته لهذا.
الحديث الثاني: هو حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه سأل البراء عليه رضوان الله عن قنوت الوتر، فقال: سنة ماضية، هذا الحديث قد أخرجه ابن خزيمة في كتابه الصحيح من حديث زبيد اليامي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء أنه قال: سنة ماضية، هذا الحديث تفرد بروايته العلاء بن صالح يرويه العلاء بن صالح عن زبيد اليامي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء قال: سنة ماضية، العلاء في ذاته صالح وهو عدل, وذكرنا فيما سبق قريباً أن الكوفيين مما يستشكلونه ربط الحديث المروي بأفعالهم، ولهذا العلاء بن صالح كوفي تفرد بهذا الحديث عن زبيد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء ، وخالفه في ذلك سفيان الثوري وهو أوثق منه وأضبط يرويه عن زبيد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه سأل البراء عن القنوت في الفجر لا القنوت في الوتر، فقال: سنة ماضية.
وكذلك قد رواه شعبة بن الحجاج كما رواه ابن خزيمة في كتابه الصحيح من حديث شعبة بن الحجاج عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء أنه قال في قنوت الفجر: سنة ماضية، وبهذا نعلم أن هذا الحديث إنما هو في قنوت الفجر لا في قنوت الوتر.
يقول ابن خزيمة رحمه الله: إن العلاء بن صالح وهم في هذا الحديث فربما كان مكتوباً عنده الوتر من غير نقط متصلة فقرأها, كانت الفجر فقرأها الوتر، ألا تتشابه رسماً؟ تتشابه، وربطها بالعمل لأن الكوفيين يقنتون في الوتر ولا يقنتون في الفجر، وهذا من مواضع الإعلال الذي ينبغي لطالب العلم أن يتبصر بفقه بلد الرواة حتى يدرك أخطاءهم في الرواية.
ولهذا نذكر مراراً أن الرواية لها صلة في أبواب الدراية من جهة العلل، وإذا أدركنا أن أهل الكوفة من جهة الفتوى يفتون بقنوت الوتر ولا يفتون بقنوت الفجر، فكيف بينهم حديث يرويه كوفي عن كوفي عن كوفي في قنوت الفجر ولا يعملون به؟ فقلب ذلك، فقلبه إلى مسألة الوتر.
ولهذا نقول: إن من مواضع الإعلال عند الأئمة عليهم رحمة الله أنهم يعرفون فقه الراوي وفقه أهل بلده ثم ينظرون إلى مرويه، وهذا باب متسع من أبواب العلل، وتقدم أيضاً الإشارة إلى أن الرواة على نوعين: رواة لهم رواية وليس لهم دراية، ورواة لهم دراية بمعنى: أنهم أصحاب فقه، وهذان النوعان إذا لم يميز بينهما طالب العلم في أبواب العلل وقع في شيء من الوهم.
ولهذا تجد بعض المتأخرين حينما يقف على رواية العلاء بن صالح في روايته لهذا الحديث عن زبيد اليامي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء أن القنوت في الوتر سنة ماضية يقول: إسناده صحيح، وربما حمل الأمر على المعنيين أنه في قنوت الفجر سنة ماضية، وفي قنوت الوتر سنة ماضية.
ثم أيضاً من مواضع الإعلال: أن الطبقة التي تفرد فيها وهو العلاء بن صالح طبقة متأخرة، والطبقة المتأخرة وخاصة عند الكوفيين يزيد فيها الراوي عند رواية الحديث بالمعنى ويتجوزون في ذلك، ثم أيضاً إن الكوفيين ممن يكثرون القياس في أمور العبادات فيقيسون عبادة على عبادة أخرى، فيقيسون القنوت في الفجر على القنوت في الوتر فيعملون به ويستفيض ربما عندهم، ولما أكثروا من أمور القياس تجوزوا برواية الأحاديث حتى وقعوا في الأوهام والأغلاط، وربما دار عندهم الحديث عن أحد من الصحابة فرفعوه إلى النبي عليه الصلاة والسلام لأنه يوافق العمل من غير قصد للكذب, وإنما أنهم يرون أن هذه الأعمال إنما جاءت عن الصحابة ولابد أن يكون لهم أثر في ذلك، ويكون لديهم في هذا إفراط في باب إحسان الظن أن أعمال الصحابة على سبيل الإطلاق لا يدخلها الاجتهاد وإنما هي وحي.
فنقول: إن إحسان الظن في ذوات الصحابة من جهة الفضل وجلالة القدر أمر خارج عن مسألتنا، ومسألتنا هي أن هذه المسائل يدخل فيها الاجتهاد حتى عند الصحابة فيجتهدون في مسائل الدين ولا ينقص هذا من قدرهم، ونحن نتكلم على علل الحديث, فإذا جاء حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب فليس لنا أن نتوسع بالقياس في باب آخر، وإذا جاء قول عن أحد من الصحابة ليس لنا أن نرفعه باعتبار أن الذي قال به صحابي, والصحابي لا يقول شيئاً إلا وهو مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا معلوم.
ولهذا نقول: إن مدرسة أهل الرأي في روايتهم للأحاديث الموقوفة يتساهلون برفعها وربما إذا توهم الإنسان حديثاً على لفظين حملوه على المعنى السائد عندهم، ولهذا نقول: إن من قرائن الإعلال التي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها: أن ينظر في المسألة المنظورة في المتن، والراوي الذي يرويها، وأن ينظر في بلده التي هو فيها ما العمل المستفيض فيها خاصة عند ورود المخالفة، ولهذا تجد الأحاديث المرفوعة التي جاءت في قنوت الوتر مدارها عند أهل الكوفة، لأن العمل لديهم مستفيض، وأهل الشام، ألا يوجد لديهم أحاديث في قنوت الوتر؟ يحتمل هذا ويأتي الكلام عليه، لهذا أقول: إنه ينبغي أن نفهم الرواة وطبقاتهم، وأن نفهم بلدان الرواة أيضاً، وأن نفهم الفقه المشتهر عندهم وعند أصحابهم، وهذا باب دقيق في مسألة الإعلال.
نذكر القرائن الموجودة في هذا، من هذه القرائن: أن الحديث إذا تسلسل إسناده في بلد من البلدان والعمل على خلافه فهذا من أمارات النكارة؛ لأن الحديث إذا كان مرفوعاً عندهم عن النبي عليه الصلاة والسلام لابد أن يحدث انشقاق في المدرسة الفقهية، فإذا وجد فيهم حديث ينقله راو عن راو آخر من طبقات متعددة، ثم لا يوجد قول يوافق ذلك الحديث دل هذا على أن الحديث وهم وغلط, وأن الوهم متأخر أيضاً، ولهذا جعلنا الوهم هنا في طبقة العلاء بن صالح في روايته هنا لهذا الحديث عن اليامي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى , وذلك لمخالفته من هو أوثق منه.
من هذه المواضع أيضاً في معرفة فقه الراوي وأهل بلده: أن الراوي ربما روى حديثاً يوافق قوله, ولكن هذا الحديث يخالف ما عليه أشياخ ذلك الراوي، وهذا يوجد كثيراً في المدرسة الكوفية، هذا أيضاً من مواضع النكارة، لأن المدرسة الكوفية لديها ميل إلى الرأي وتجوز في ترك الحديث والعمل برأي الأشياخ، بخلاف مدرسة المدينة، فمدرسة المدينة يتشبثون بالنص ولو خالف قول الشيخ، ولهذا قد نعل في هذه القرينة حديثاً كوفياً ولا نعله في المدينة باعتبار أن أهل المدينة يتمسكون بالحديث ولو خالف قول الأشياخ.
ولهذا من الأمور المهمة في أبواب العلل: أن طالب العلم إذا أراد أن ينظر إلى إسناد من الأسانيد أن ينظر إلى فقه الراوي وفقه شيخه ليس في هذا الحديث في غيره ممن أخذ عنه الفقه حتى يكون طالب العلم في ذلك على تبصر فيه.
وكذلك أيضاً من القرائن: أن الراوي إذا تفرد بحديث من الأحاديث يخالف قول أشياخه ولكن هذا الحديث يرويه عن شيخ ليس من أهل بلده كأن يروي الكوفي حديثاً عن مدني يخالف قول الكوفيين وهو يقول بهذا الحديث ويخالف في ذلك أشياخه نقول حينئذ: إنه في هذا الحديث تصحح الرواية، لأن هذا الحديث جاءه من بلد آخر وربما لم يعلم به أشياخه، لأنه جاء بعد زمنه، لأنه جاء بعد ذلك الزمن، ولهذا الذي يدرس الأحاديث منفكة عن فقه الرواة فيها أو فقه أهل البلدان الذين يدور الإسناد فيهم هذا يكون لديه ترجيح لكثير من الأحاديث الشاذة التي يخالف فيها أهل العلم من النقاد.
ولهذا تجد الأئمة عليهم رحمة الله لا يكادون يصححون حديثاً في قنوت الوتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإنما يتكلمون على بعض الأحاديث التي إنما هي موقوفة على بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي بعضها كلام، وبعضها يميل العلماء إلى تحسينه وتجويده.
الحديث الثالث: هو حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله أنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث يقنت في أخراهن ).
هذا الحديث رواه الطبراني في معجمه الكبير، وكذلك في معجمه الأوسط من حديث سهل بن العباس عن سعيد بن سالم القداح عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث أيضاً حديث منكر, وهو معلول بعدة علل:
أول هذه العلل: أن هذا الحديث تفرد به سهل بن العباس الترمذي وحديثه في ذلك لا يقبل من وجهين: أنه متروك بذاته, وقد طعن فيه غير واحد من الأئمة، وقال فيه الدارقطني عليه رحمة الله: ليس بثقة متروك الحديث، وقال به مرة ضعيف، ثم أيضاً إنه من طبقة متأخرة لا يحمل عنه التفرد بمثل هذا الحديث، ثم أيضاً يضاف إليها ثالث أنه آفاقي وينفرد بإسناد مدني، وهذا الإسناد إسناد مدني جليل وهو رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر ، ومثل هذا ينبغي أن يتفرد بها مثل سهل بن العباس .
ولهذا نقول: إن هذا الحديث منكر من هذا الوجه، وكذلك أيضاً معلول هو بتفرد سعيد بن سالم القداح ، وقد تفرد بهذا الحديث عن عبيد الله بن عمر ، وتفرده في ذلك مما يستنكر من وجوه أيضاً، من هذه الوجوه: أن القداح لا يعرف بالملازمة ووفرة الحديث عن عبيد الله ، وعبيد الله له أصحاب كثر ينقلون عنه حديثه من المدنيين وهم أدرى الناس وأعلم الناس بالمروي عن عبد الله بن عمر خاصة، فكيف والحديث مرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمر عن رسول الله وهم أحرص بهذا!
والعلة الثانية في حال القداح : أن القداح ليس من أهل بلد عبيد الله ، وذلك أن أهل البلد خاصة في الراوي المشهور كحال عبيد الله يلتقطون حديثه ولا يدعونه للآفاقي، فإذا وجد إمام من الأئمة من المكثرين الحفاظ المتقنين فجاء آفاقي ليس بمشهور بالرواية فأخذ حديثاً عند هذا المشهور فهذا من أمارات النكارة؛ لأن أهل البلد خاصة إذا كانت من معاقل العلم المشهورة هم أعلم الناس وأدراهم بحديثه الذي يرويه.
ولهذا ينبغي أن نفرق بين الرواة الذين يأتون من الآفاق ويأخذون حديثاً عن راو في بلد يختلف عن بلدهم أن نفرق بين راو يعتني أهل بلده بأخذ مرويه، وبين راو لا يعتني أهل بلده بأخذ مرويه، ثم أيضاً أن نفرق بين الأحاديث المتينة التي لابد للراوي أن يتحدث بها كحال عبيد الله لابد أن يتحدث بمثل هذا الحديث في مجالس خاصة وقد مر عليه عقود طويلة في الجلوس للحديث، ومثل هذا لا ينبغي أن يكتم، فلو كان من فضائل البلدان أو من فضائل الأشخاص والأفراد، أو من أشراط الساعة ونحو ذلك وأخذه آفاقي عنه لاحتمل فيه التفرد، لأن المجالس في مثله لا تعمر؛ لأنه ليس من أحكام الدين الخالصة التي تجري عليها مسائل الحلال والحرام.
ولهذا نقول: إن مثل هذه التفردات وهي تفرد القداح وتفرد أيضاً صاحبه في هذا وهو سهل بن العباس الترمذي مما يعل به هذا الحديث.
وعلة أيضاً تضاف إلى هذه العلل: أن هذا الحديث المرفوع جاء عن عبد الله بن عمر موقوفاً خلافه, وذلك أن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله يروي هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يوتر بثلاث يقنت في أخراهن، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم يقنت في الوتر، والثابت عن عبد الله بن عمر أنه كان لا يقنت في وتره، فقد صح عنه من حديث عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر ورواه أيضاً عبد الرزاق من حديث أيوب عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه سئل عن قنوت الوتر, وكان لا يقنت في وتر ولا في فجر, فقال: إنما القنوت طول القيام والقراءة. وهذا النقل أصح مما جاء من حديث القداح عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر .
ولهذا نقول: إن ما رواه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف عن عبيد الله وما رواه عبد الرزاق أيضاً عن أيوب عن نافع عن عبد الله بن عمر كذلك هو أصح من غيره، و عبد الله بن عمر عليه رضوان الله لا يصح عنه أنه قنت في وتره.
جاء عند ابن أبي شيبة في المصنف من حديث إبراهيم النخعي عن الأسود عن ابن عمر أنه قنت في الفجر، وعندي أن هذا غلط، لماذا هذا غلط؟ لأن الأسود كوفي، و ابن عمر مدني, ونادراً أن يخرج من المدينة، وفقهه ينقله أهل المدينة، خاصة أنه ينقل عن عبد الله بن عمر العمل، ومثل العلم يقتضي السبر.
ومن وجوه الإعلال أيضاً: أن هذا الحديث إبراهيم عن الأسود جاء عن عمر ويدل أن النسخة الموجودة في ابن أبي شيبة وهم وغلط، والصواب فيها عن إبراهيم عن الأسود عن عمر وليست عن ابن عمر ، ثم أيضاً إن الأسود لم يشتهر بالنقل عن ابن عمر وإن كان له شيء من الحديث في مثل هذا، ولهذا نقول: إن نقل أهل المدينة عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى أقوى من نقل غيره.
وكذلك أيضاً من وجوه الإعلال أنه جاء عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله أنه كان لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان، وجاء هذا عند البيهقي وغيره من حديث أيوب عن نافع عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله.
كذلك أيضاً إنا إذا نظرنا إلى ما جاء من فقه أصحاب عبد الله بن عمر عليهم رضوان الله نجد أنهم يأخذون ذلك فقهاً ولا يأخذونه رواية مرفوعة مما يدل على أن هذا إنما هو من العمل الذي يكون عن عبد الله بن عمر وليس مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فرفعه من مواضع الوهم.
وهنا نؤكد كثيراً إلى أنه ينبغي لطالب العلم أن يعرف مواضع البلدان للرواة، ومتى خرجوا، ومن أين خرجوا، وأي بلد دخلوا، والفقه الذي هم فيه، ورابطهم في شيوخهم حتى يدرك مواضع العلل، حتى يعيش في فكر أبي حاتم ، و أبي زرعة ، و الدارقطني وأضراب هؤلاء بحيث لو أعلوا علة أدرك العلل ونفس أولئك الأئمة الذي يجرون عليه، وأما الأخذ بالظاهر فهذا من مواضع الإشكال لهذا يستشكله, حتى ربما من هو معتن أو مبرز في علوم الحديث.
وكنت أقرأ قبل أيام لـابن القطان الفاسي كلاماً في حديث البحر حديث أبي هريرة عليه رضوان الله وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( هو الطهور ماؤه، الحل ميتته )، ورده لهذا الحديث والتشديد فيه مع أن هذا الحديث لو أراد الإنسان أن يتأمله لا ينظر إلى هذه الأحاديث على أنها معادلات حسابية، الحديث يرويه مالك بن أنس عن صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة عن المغيرة بن أبي بردة عن أبي هريرة ، هؤلاء كلهم من أهل المدينة، المدن ليس في زمانهم كزماننا، إذا أخذنا بمعادلات المصطلح وتعاملنا معها على أنها معاملات حسابية سنرد هذا الحديث، وهذا من غرائب الإعلال أن ينظر إلى مواضع العلل ولا يفرق بينها، ثم أيضاً إن العلية من الرواة في الزمن الأول ليسوا بحاجة إلى رواية شيء في حديث البحر، ليسوا بحاجة إلى رواية حديث البحر لأن مسألة وحكم البحر من الأمور المستقرة ولا يعرف الخلاف في هذا عن كبير أحد إلا ما جاء عن عبد الله بن عمر ثم اندثر هذا القول, حتى أصحاب عبد الله بن عمر لم يكونوا يقولون بهذا القول.
فالأمور والأحكام المستقرة لا تتداعى الهمم إلى نقلها، ولننظر إلى فقههم هم وتسليمهم بالمسائل لا ننظر إلى فقهنا نحن والإشكال الوارد لدينا، قد يرد إشكال لدينا في مسألة من المسائل ثم نلزم المتقدمين برواية أحاديث، ولهذا نقول: إنما يتعلق بالأصول العظيمة نشدد فيها إذا كانت مفتقرة إلى أصل فلم يدل دليل عليها، وهذا من المواضع المهمة التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار وأن لا ينظر إلى مسائل العلل، وأن ينظر إلى الأسانيد مجردة هكذا.
لو نظر الإنسان إلى مالك بن أنس يروي عن صفوان بن سليم وهو مدني زهري أيضا وقريشي ويروي عن سعيد بن سلمة وهو مديني أيضاً، و المغيرة بن أبي بردة وهو مديني أيضاً من أهل المدينة يروي عن أبي هريرة أهل بلد واحد ويعرفون بعضاً، إذا أراد الإنسان أن يطبق عليهم من أمثال هذه المسائل هذه القواعد يقوم بإعلال كثير من الأحاديث ولا يفرق هؤلاء كانوا في الشام أو في اليمن أو في الشرق أو في الغرب خراسان وغيرها هم على سواء ليسوا على السواء.
ولهذا لا يوجد أحد من النقاد تعرض لهذا الحديث هيبة له وهيبة لـمالك ، ولهذا الإمام مالك رحمه الله لما روى حديث الهرة وفي إسناده مجاهيل ماذا قال البخاري ؟ قال: جود مالك إسناده، يعني: الإمام مالك يعرف الحبال القوية في المدينة، ويعرف من أين يؤتى الخبر.
ولهذا الأحاديث التي تتسلسل بالمدنيين ينبغي أن يكون لها هيبة، لأن رقة الديانة ما كانت في تلك الطبقة قبل مالك ، صحيح أن الفقه قليل في عموم الناس ولكن يوجد أعيان هم حملة هذا الحديث وهم النقلة، وهم يعرفون أعيان العلم ويعرفون الطبقة كما تعرف أنت الأجداد وتعرف الأعمام، وتعرف الجيران، وأنسابهم ونحو ذلك فتدرك هذا وتعلم هذا.
والإمام مالك رحمه الله إذا روى عن أحد أو روى عن أحد يروي عن أحد فهؤلاء ينبغي أن يحسن الظن بهم إذا كانوا مدنيين لأن مالكاً موغل بمعرفة المدنيين فلم يخرج من المدينة وليس له شيخ إلا نزر يسير جداً في خروجه إلى مكة، ولهذا بعض العلماء يقول: إن الإمام مالك ليس له من الشيوخ غير المدينة على الإطلاق.
الحديث الرابع: هو حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت في الوتر ) ، هذا الحديث رواه الطبراني وغيره من حديث عطاء بن مسلم عن العلاء بن المسيب عن حبيب بن أبي ثابت عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وهذا الحديث منكر وهو معلول أيضاً بعدة علل:
أول هذه العلل: أن هذا الحديث تفرد به عطاء بن مسلم وهو متكلم فيه، وقد ضعفه غير واحد كـالبيهقي ، وكذلك ابن حبان وغيرهم، وهو في ذاته وإن كان رجلاً صالحاً إلا أنه كان صاحب كتاب ويروي من كتابه ثم أتلف كتابه فأصبح يروي من حفظه فوقع في الوهم والغلط، وقد تفرد بهذا الحديث عن العلاء ، وتفرد به العلاء عن حبيب بن أبي ثابت عن عبد الله بن عباس .
ثم أيضاً إن هذا الحديث يرويه العلاء بن المسيب عن حبيب ، وهذا أيضاً تفرد، و العلاء بن المسيب وإن كان ثقة هنا في هذا الحديث يرويه عطاء بن مسلم وهو كوفي نزل حلب، وأصل حديثه ومروياته عن الكوفيين، جاء بأحمال أهل الكوفة إلى حلب فأخذ عنه الشاميون حديثه، كوفي يرويه عن كوفي وهو العلاء، ألا تلاحظون معنا الأحاديث التي مرت كلها من مفاريد الكوفيين؟
إذاً: يوجد إشكال لدى الكوفيين في مسألة قنوت الوتر، ومدار أو مجموع أحاديث قنوت الوتر المرفوعة تأتي من العراق، وهذا ربط للموقوفات والعمل وفقههم بالمرفوع وهذا خطأ، ولهذا مما يشتهر به أهل الكوفة أنهم يروون الحديث الموقوف ويجعلونه مرفوعاً تجوزاً يتجوزون برواية الأحاديث الموقوفة ويجعلونها مرفوعة.
ثم أيضاً إن من مواضع الإعلال: أن هذا الحديث مرفوع، ومثل هذا العمل من الأعمال اليومية التي تكون من النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن لا تبقى قروناً في الكوفة ثم لا يوجد لها أصل عند المدنيين، ثم أيضاً إن هذا الحديث يروى عن عبد الله بن عباس و عبد الله بن عباس له أصحاب كثير يهتمون بفقهه والمرفوع عنه أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا لا ينبغي أن يتفرد به العلاء بن المسيب عن حبيب عن عبد الله بن عباس . ثم أيضاً إن عبد الله بن عباس إنما جاء العراق عرضاً، وأعلم الناس بحديثه هم الحجازيون هم الذين يروون أحاديث عبد الله بن عباس وأعلم الناس به، ومثل هذا التفرد أيضاً مما يستنكر.
ومن القرائن أيضاً على وهمهم وغلطهم: أن القنوت في الوتر ثبت عن عبد الله بن عباس من فعله ولم يثبت مرفوعاً، قد رواه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث عبد الله بن عبيد بن عمير عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى أنه قنت في وتره، فربما ظنه أهل الكوفة مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفعوه عن عبد الله بن عباس.
ثم أيضا من المواضع التي يلتمس فيها أو ينظر فيها إلى إعلال الحديث: أن الحديث إذا تعددت مخارجه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلها موقوفة ولم يرد فيها مرفوع إلا واحد فهذا من مواضع إعلال ذلك الخبر الواحد، لأن الحديث كلما كان له مخارج إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يوصل به دل على عدم وجوده أصلاً، وهذا من القرائن العقلية أن الناس إذا صدروا عن شيء وذكروا أنهم لم يروه أو لم ينقلوا شيئاً عنه فهذا أمارة على أنه لم يقله.
ولهذا المترجح أن السنة في قنوت الوتر أنه يكون في رمضان لا يكون في غيره، ولا أعلمه يثبت عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قنتوا في غير رمضان، وإنما تأتي بعض العبارات المطلقة في كلام بعض الرواة من التابعين كما يرويه بعضهم عن عبد الله بن مسعود و عمر ولكنها كلمات مطلقة تقيدها بعض الوجوه التي تذكر رمضان أنه يكون في رمضان، وأما في غيره فلا يعرف ذلك.
كذلك أيضاً من قرائن الإعلال في هذا: أن مثل هذا التفرد في مرور أمثال هذه الطبقات ينبغي أن ينقل، وذلك أن مثل هذا في رواية عطاء بن مسلم في روايته عن العلاء عن حبيب عن عبد الله بن عباس قد مر بطبقات متعددة ولم يرد عن عبد الله بن عباس ولم يأخذه أحد ممن ورد إلى حياض العلم إلا أولئك، وهذا من مواضع النكارة خاصة في الأحاديث التي يحتاج الناس إلى مثل أحكامها خاصة الآفاقيين، فإن حبيباً ليس من أهل الاختصاص اختصاصاً بيناً بـعبد الله بن عباس فثمة من أصحابه من هو أوثق، وكذلك أجل فقهاً وأظهر بأخذ مسائل الأحكام منه.
وكذلك أيضاً بالنسبة لـحبيب مع العلاء، وكذلك العلاء بالنسبة لـعطاء بن مسلم ، وكلما تأخرت طبقة الرواة وتسلسل الحديث ولم يتفرع له فروع بالرواية فإن هذا من أمارات الإعلال.
ثم إن هذه المسألة وهي مسألة قنوت الوتر لم تكن معروفة عند أصحاب عبد الله بن عباس فقهاً وإنما يرويه الواحد من أصحابه والاثنين، ولو كانت من المسائل المستديمة عنده لنقلها أصحابه واستفاضوا فإنهم نقلوا ما دونها، وهذا مما يدل على أن المسألة ليست مرفوعة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وليست أيضاً مطلقة عن عبد الله بن عباس في سائر الليالي وإنما هي مقيدة في ليالي رمضان بل في النصف الأخير من رمضان.
ولم يثبت عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قنت في أول رمضان، وإنما كان ذلك بعد منتصف رمضان، كما جاء ذلك عن أبي بن كعب ، وجاء أيضاً عن عمر بن الخطاب ، وجاء أيضاً عن عبد الله بن مسعود ، وروي أيضاً عن عبد الله بن عمر عليهم رضوان الله، وجاء أيضاً عن عبد الله بن عباس عليهم رضوان الله، وروي في ذلك أيضاً بعض الأحاديث الضعيفة عن أبي هريرة عليه رضوان الله، وجاء أيضاً فيها بعض الأحاديث المعلولة بالانقطاع عن بعض الصحابة كـعلي بن أبي طالب وكذلك عثمان بن عفان ولا يصح منها شيء.
ثم أيضاً إننا كما تقدم أن الأحاديث المتسلسلة بالكوفيين أنه يرد فيها الوهم والغلط من جهة الرفع ومن جهة الرواية بالمعنى, وذلك أن الكوفي في ذاته مما يترخص برواية الحديث بالمعنى ثم أيضاً إذا روى عنه غيره مثله ثم مثله فيزيد في ذلك احتمال رواية الحديث بالمعنى، وكذلك احتمال الرفع، فالمسلسل بالكوفيين هو من الإعلال.
ومن قرائن القوة: الأحاديث المسلسلة بالمدنيين، وكذلك الأحاديث المسلسلة بالمكيين، وإذا جاء مدني ودخل في أثناء إسناد بصري أو ربما كوفي ونحو ذلك فإن هذا مما يعطيه قوة إذا احتف أيضاً بقرائن أخرى، فينبغي أن ينظر إلى هذا، وكثير من النقاد الذين يتكلمون في الأحاديث تخريجاً ونحو ذلك لا ينظرون إلى أمثال هذه المسائل فيقعون في شيء من الوهم والغلط، وربما استنكروا كلام الأئمة عليهم رحمة الله في حكمهم على الأحاديث.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر