الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
قال الله سبحانه تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:177]، هذه الآية نتكلم عليها بإذن الله عز وجل في هذا المجلس.
تقدم معنا الكلام على مسألة استقبال القبلة, وأن الله عز وجل استجاب لنبيه عليه الصلاة والسلام أن غير قبلته بعد أن كانت إلى المسجد الأقصى فجعلها إلى المسجد الحرام, وذلك بعد إلحاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وتضرعه بين يدي ربه سبحانه وتعالى.
ولما تغيرت القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام وقع ذلك في نفوس أهل الكتاب, وخاصة اليهود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قبلته عن قبلتهم، فكأنهم رأوا أنه كان على شيء من البر والخير فتركه إلى غيره, فيرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك قد جمع براً وغيره، ولكن لما تغيرت القبلة رأوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تخلى عن شيء من البر الذي كان فيه، وهذا بحسب ما يرون وما استقر في أذهانهم من ضلال، فكان النبي صلى الله عليه وسلم استجابة لربه وكذلك للقبلة التي يرضاها فتوجه إلى المسجد الحرام، فبين الله سبحانه وتعالى لأهل الإيمان لما بلغهم كلام أهل الكتاب, وكذلك لأهل الكتاب لما قالوا ذلك لأهل الإيمان، بين الله عز وجل لهم ذلك أنه: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177]، وهذا المعنى في هذه الآية المراد بذلك: أن الله عز وجل يوجه عبده حيثما شاء جل وعلا, سواء كان إلى جهة المشرق أو كان ذلك إلى جهة المغرب أو غيرها من الجهات، وأن التوجه إلى أمثال هذه الجهات في ذاته ليس براً, وإنما هو امتثال لأمر الله سبحانه وتعالى؛ ليختبر الله عز وجل إيمان أهل الإيمان، وهذا ظاهر في مسألة ما أمر الله عز وجل به من الدماء، في قوله جل وعلا: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]، أي: أن هذه الدماء التي تذبحونها لن يصل إلى الله عز وجل تلك الدماء أو اللحوم، ولكن الذي أراد الله سبحانه وتعالى من ذلك التشريع هو التقوى، فيبتلي الله عز وجل أهل الإيمان من غيرهم، وهذا هو الحكمة من التشريع، فبين الله سبحانه وتعالى أن اليهود إنما ضلوا بهذا الأمر بسبب اختلال ميزان تراتيب الإسلام في أذهانهم، وذلك أن الله عز وجل قد أمرهم بالإيمان بالرسل وبالكتب وبالملائكة، وأمرهم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فتركوا ذلك كله والتفتوا إلى مسألة الجهة، فبين الله سبحانه وتعالى أن البر لا يرتبط بالجهة, وإنما الجهة هي تابعة لما هو أعظم من ذلك، فأنتم لا تؤمنون بالصلاة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم كما أمر الله, ولم تؤمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتتبعونه فأنى تدركون معنى البر؟
ولهذا نقول: إن أعظم بلاء بني إسرائيل وكذلك ضلال كثير من الناس إنما هو بجهلهم بأولويات الإسلام، وهذه الآية هي أمارة على ذلك، فالنفوس حينما يشق عليها العمل بالأصول تتشبث ببعض الشعائر أو ببعض الفروع حتى ترضي نفسها أنها فعلت شيئاً بشعائر الإسلام، وهذا عين الضلال والخطأ، ولهذا كفار قريش لما بدلوا ما بدلوا من شريعة الله سبحانه وتعالى من توحيد الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وغير ذلك مما أمرهم الله عز وجل من الأصول تعلقوا بعمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج، فجعلوها كالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله، وهذا الجهل إنما وقع فيهم حينما سولت لهم أنفسهم ما يخالف أمر الله سبحانه وتعالى من الوقوع في الشرك، وكذلك وجدوا أن الأصول فيها مشقة، فقالوا: نتمسك بشيء من الدين ولو من جملة الشعائر نرضي بها أنفسنا ثم يظهر من ذلك أننا تمسكنا بدين الله, وهذا ضلال، ولهذا من أعظم مهمات العالم أن يعيد تراتيب الأمور التي وقع الخلط فيها عند العامة، والنبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله سبحانه وتعالى إلى الأمم لإعادة كثير من الخلط، وتصحيح كثير من الباطل، فهناك حق كان في كفار قريش؛ مثل: سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وغير ذلك، ولكن جعلوها مرتبة علية, فأخذها النبي عليه الصلاة والسلام ووضعها في موضع دون ذلك، ولهذا النفوس إذا مالت إلى الهوى تشبثت بشيء من شعائر الله ترضي بها نفسها أن هذا هو دين الله سبحانه وتعالى، فكفار قريش كانوا يريدون من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام أن يكون لهم الحظوة عند العرب، فقاموا بسقاية الحاج حال ورودهم، وقاموا بأمن البيت، وقاموا بعمارة المسجد الحرام وتشييده وغير ذلك، وتركوا ما عدا ذلك من أصول.
إذاً: إنما تشبثهم بهذه الشعائر هو لحظوظ النفس من جهة الحقيقة, وما تضمن ذلك من إسقاط للأصول وهو توحيد الله سبحانه وتعالى وما كان تبعاً لذلك من دعائم الإيمان وأعمال الجوارح الظاهرة؛ كالصلوات وغيرها، وكذلك ما كان متعلقاً بوسائل تحقيق التوحيد، والحذر من الوسائل الموصلة إلى الشرك، فقد وقعوا في ما نهى الله عنه, واجتنبوا ما أمر الله عز وجل به أصولاً وفروعاً وتعلقوا ببعض الشعائر.
فهذه الآية رد للأمور إلى نصابها، وأن الله عز وجل كأنه ألغى مسألة الاتجاه في مقام الإيمان، أنكم لم تؤمنوا بالله سبحانه وتعالى, ولا باليوم الآخر, ولا بالملائكة, ولا بالنبيين, ولا بالكتب، فكيف تتكلمون على بر الجهات؟
الجهات ليست هي موضع نقاش فيمن أنكر ما هو أولى منها، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177]، قيل: إن الله سبحانه وتعالى ذكر المشرق والمغرب هنا على سبيل الخصوص مع بقيتها من الجهات ذلك لأمرين:
الأمر الأول: أن المشرق والمغرب هي قبلة اليهود والنصارى، قالوا: إن اليهود يتوجهون إلى المسجد الأقصى، وأما النصارى فيعاكسونهم في القبلة, فذكر الله عز وجل الجهتين شرقاً وغرباً؛ لأن ذلك يتعلق بأمر أهل الكتاب.
وقيل: إن المعنى الآخر في هذا أن الشرق والغرب هي أكثر الجهات وصفاً، وكذلك أكثرها معرفة عند الناس، ومعلوم أن بقية الجهات تفتقر للشرق والغرب, بخلاف الشرق والغرب فلا يفتقر لبقية الجهات، باعتبار أنها جهات علم بذاتها، فالإنسان يعرف الشرق والغرب بوجود طلوع الشمس وغروبها، وطلوع القمر وغروبه، وأما بقية الجهات فتعرف الجهات بمعرفة الشرق والغرب، ولا يعرف الغرب بمعرفة بقية الجهات, وهذا أمر معلوم مستفيض، ولهذا ذكر الله عز وجل الشرق والغرب أن البر ليس متعلقاً بهذا، بل البر يتعلق من جهة الأصل بالإيمان بالله، وباليوم الآخر، وبالملائكة، والكتاب, والنبيين، وأن هذه التي ينبغي للإنسان أن يؤمن بها, ثم بعد ذلك يأتي الامتثال فيما هو دون هذا.
وبهذا نعلم أن أكثر ضلال الأمم والشعوب هو بجهلهم بأولويات الدين، ولهذا نجد أن كثيراً في بلدان المسلمين ممن يظهرون شعائر من الدين يشبعون بها رغبات النفس أن تمسكوا بشيء من الدين، فالنفس كحال الإناء يحتاج أن يمتلئ بشيء، ولو بشيء من الشعائر الباطنة والشعائر الظاهرة، فإذا مُلئ هذا بشيء من العواطف؛ كالتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بالمولد، أو التعلق بقبر أو بضريح أو نحو ذلك، أو بذكر أو بقراءة سير وتاريخ وغير ذلك في الإسلام، أو ربما يعلق الإنسان نفسه بأن يعلق الألواح في منزله بذكر الله أو كذلك في مركبته أو نحو ذلك فيرى أن هذا إشباع للنفس, لكن تجد أنه لا يقرأ شيئاً من القرآن ولا يعمل شيئاً من دين الله عز وجل، وهذا من الشبهات التي يشبع الشيطان بها النفوس حتى تضل عما عداه، ولهذا دين الله سبحانه وتعالى جاء على تراتيب، فمن أعظم مهمات العالم: أن يعيد هذه التراتيب إلى نصابها حال اختلالها، فإذا اختلت وجب عليه أن يعيدها، وهذا من أعظم مواضع الجهات، ولهذا نجد كفار قريش وقعوا فيه، ونجد اليهود وقعوا فيه، ونجد النصارى وقعوا فيه أيضاً، بل تجد أن المنضوين تحت لواء الإسلام يقعون فيه في كثير من بلدان المسلمين، فيعطلون التوحيد ويتعلقون بشيء من شعائر الدين، من السقيا ... أو ربما الصدقة، ولهذا تجد بعض الناس صاحب ضلال وزيغ، ولديه ربما انحراف في أصول الدين ويشبع رغبته بعمارة مسجد، أو يشبع رغبته بصدقة الماء, أو كفالة أيتام, أو طباعة كتب أو نحو ذلك, وتجده من جهة الأصول قد ضل وانحرف عن دين الله سبحانه وتعالى، وهذا كالضلال الذي وقع في كفار قريش، والذي وقع في اليهود والنصارى.
إذاً: الفعل في ذاته قد يكون حقاً ولكن بمنزلته باطل؛ وهذا كحال الإنسان إذا أراد أن يرتب مثلاً ذوي الأرحام فيقوم بترتيبهم بحسب القرب، فإذا قام الإنسان بوضع العم والخال, ثم ابن العم, ثم ابن الخال, ثم الابن, ثم الأخ, ثم الأخت, ثم جعل بعد ذلك الأب, ثم قام بإعطائه حقه، فإذا أنكر عليه لماذا تضعه في هذا الموضع؟ فيقول: هل تريدني أن أحرمه ذلك أو إعطائي له منكر؟ فنقول: إعطاؤك ليس منكراً وإنما وضعه في هذا الموضع باطل.
وكذلك أيضاً: مراتب الدين وميزانها يختل فيها الأمر، ولهذا كثير من العامة ينساقون تحت هذه العواطف ولا يدركون أن القضية أعظم من هذا, فينظر إلى ما هو أولى من ذلك، ولهذا تجد كثيراً من الناس من العامة يلتفتون إلى الوجهاء، أرباب المال, أو ربما السلاطين, أو أهل العلم ونحو ذلك, يلتفتون إلى بعض الأعمال التي يقومون فيها، التي هي من شعائر الدين ويعطلون ما هو أعظم من ذلك من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله وغير ذلك، ويقومون بالتعلق بشيء من الشعائر.
فاليهود والنصارى قد جعلوا البر كله هو التوجه إلى القبلة, وربطوه بهذا، وهذا في ذاته هو بر حق، ولكن حجمه خطأ، حتى إن الله عز وجل ألغاه في جانب ما تركوه من دين الإسلام، أي: أن باب البر لديكم مُلغىً في هذا الباب؛ وهو في مسألة الاتجاهات إلى القبلة سواء كان إلى المسجد الأقصى أو إلى غيره شرقاً وغرباً حتى تؤمنوا بالله واليوم الآخر، ثم بعد ذلك يأتي مقياس ما دون ذلك.
وفي قول الله جل وعلا: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ [البقرة:177]، الله سبحانه وتعالى ذكر أن البر في هذه الآية هو الإيمان بالله، وذلك أن الله عز وجل لا يتقبل من الإنسان عملاً حتى يؤمن بالله، فإذا كان كافراً توجه إلى بيت المقدس، أو توجه إلى مكة ولم يكن من أهل الإيمان بالله لم يكن ذلك في عداد البر، كحال الرجل الذي يقوم ببر أبيه بعد بره لعمه وخاله وجاره ونحو ذلك، نقول: هذا عقوق وليس براً, حتى تقيم وتعيد الأمور إلى نصابها فيعتبر في أمور البر, ولو كان في ذاته إذا جرد عن قرائنه يعد هذا من البر، فذكر الله سبحانه وتعالى مسألة الإيمان: الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، ذكر الله عز وجل ما يتعلق بأمور الغيب، وهذه ليس لنا كلام فيها في هذا الموضع وهذا المجلس؛ وذلك لأن كلامنا إنما هو على مسائل الأحكام. فذكر الله عز وجل شيئاً من أمور الغيب، الملائكة, والكتاب, والنبيين، الإيمان بسائر الأنبياء, ومنهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, فلا يتحقق للإنسان الإيمان إلا بالإيمان بهم جميعاً، فمن آمن بجميعهم وكفر بواحد منهم كان كافراً بالجميع, ولا خلاف عند العلماء في ذلك.
وفي قول الله سبحانه وتعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى [البقرة:177]، إيتاء المال على حبه ذوي القربى, ذكر الله سبحانه وتعالى أن إيتاء المال هنا يقدم على مسألة استقبال القبلة في ظاهر السياق, هل هو منفرداً أنه يقدم على استقبال القبلة أم أن ذلك مرتبط بما قبله بمثل هذا المجموع؟
نقول: إن الله سبحانه وتعالى ذكر هنا إيتاء المال, وقبل ذلك ذكر الإيمان، يعني: أن الإنسان إذا آمن بالله وملائكته ورسله والكتاب والنبيين، فإنه بعد ذلك يؤتي المال، ما قال: أن يؤمن بوجوب الزكاة، هل إتيان الزكاة أولى من استقبال القبلة أم لا؟
نقول: ظاهر النص هنا حينما توجه الخطاب إلى أهل الكتاب فالمراد بذلك الإيمان، ويتأكد الإيمان بالعمل, وقول الله سبحانه وتعالى: عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177], يعني: يؤتي الإنسان المال وهو محب له, وهذا إشارة إلى ما تقدم الكلام عليه أن المقصود بذلك هو عمل القلب الذي يدل على الإيمان بعيداً عن مسألة النفاق، أي: أن الإنسان ينفق المال وهو محب له، ولا ينفقه وهو يريد حظاً من حظوظ الدنيا، يريد جاهاً أو سمعة أو نحو ذلك, أو قد زهد بالمال، فإذا كان الإنسان زاهداً في المال لم يتحصل لديه الأجر كما يتحصل لحال الإنسان الذي ينفق المال وهو محب له.
الله سبحانه وتعالى يقول: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177]، أراد بذلك أن الإنسان ينفق وهو أحوج ما يكون للمال، فالصدقة تعظم بحسب عظمتها في القلب، فإذا أنفق الإنسان مالاً لغيره فينظر إلى المال إذا كان هذا المال جاء عن غنى ومن غير خشية فقر فإن هذا أثره دون المال الذي ينفقه الإنسان وهو يحبه، ولا يحب الإنسان المال إلا في حال شح, وهو: خشية الفقر, أو كان الإنسان ممن وجد فيه الشح على صفة المبالغة, فيكره نفسه على الإخراج، فهذا أجره من ذلك أعظم من الذي يخرج المال وهو لا يحبه.
ولهذا نقول: إن عظمة الصدقة تكون من جهتين:
الجهة الأولى: أثر المال عند المنفق.
الجهة الثانية: أثر المال على المنفق عليه.
الجهة الأولى وهي أثر المال عند المنفق، وهذا ظاهر في قول الله عز وجل: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177]، أي: أن الإنسان يحب ذلك المال، وقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أي الصدقة أفضل, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أن تنفق وأنت شحيح صحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر )، فقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( أن تنفق وأنت صحيح شحيح )، يعني: صحة الإنسان لا يوجد لديه انقطاع من الدنيا أو خشية من الذهاب منها؛ لأن الإنسان إذا أصيب بمرض يخشى من الذهاب فيزهد في ماله، فيعطي ماله ويبادر بالإنفاق, أو ربما أنفق يريد من ذلك تطهيراً، فإذا كان الإنسان مكتمل الصحة والسلامة فإنه يؤمل استهلاك المال الذي لديه، وربما يحتاج ما هو أكثر من ذلك فيقوم بإمساك المال: ( أن تنفق وأنت صحيح شحيح )، ومعنى الشح: هو حب المال، فإذا كان المال نفيساً عند صاحبه فإخراجه أعظم، وهذا محل اتفاق عند العلماء.
الحالة الثانية: أثر ذلك المال على المنفق عليه، ولهذا ( النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرقاب أيها أفضل, قال: أنفسها عند أهلها )، فقد تكون رقبة قيمتها خمسون، ورقبة أخرى قيمتها مائة ولكنَّ الخمسين نفيسة عند أهلها، وأما التي قيمتها مائة فصاحبها زاهد بها، ومعنى النفاسة أي: نفيسة عند أهلها، فيمسكون بها ولا يريدون إخراجها، فاحتمال إعتاقها وإخراجهم بها ضعيف، ولهذا يقولون: لا نساوم بها من جهة القيمة ولكن نريد إبقاءها ولا نقبل، ولكنَّ قيمتها خمسين، فإذا استخرجها منهم بقيمتها برضاهم كان ذلك أعظم من المائة التي يخرجها صاحبها بمائة، ولهذا النفيسة عند صاحبها والذي هو ضنين بها هي أعظم عند الله عز وجل أجراً.
ولهذا لا بد من النظر إلى الجهتين حتى يعظم البر في أمر الصدقة، وقد جاء تفسير هذا في هذه الآية في قول الله عز وجل: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى [البقرة:177]، حمل هذا المعنى في التفسير في قوله: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177]، عن عبد الله بن مسعود كما رواه الحاكم في كتابه المستدرك من حديث مرة عن عبد الله بن مسعود أنه قال في قول الله عز وجل: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى [البقرة:177]، قال: أن تنفق وأنت شحيح صحيح.
وجاء هذا الحديث في تفسير هذه الآية مرفوعاً عن عبد الله بن مسعود والصواب في ذلك الوقف، ثم ذكر الله عز وجل في هذه الآية الذين ينفق عليهم الإنسان, وذكرهم الله عز وجل بحسب فضل الإنفاق عليهم, فذكر ذوي القربى أولاً, ثم ذكر بعد ذلك اليتامى، وذلك أن ذوي القربى الإنفاق عليهم صدقة وصلة، ومعلوم أن المحتاج من ذوي القربى أولى من غيره؛ لأن الإنفاق عليه سد لحاجته وكذلك صلة للرحم، فقد جمع الإنسان بين أمرين جليلين، وعدم الإنفاق عليه مجلبة لقطيعة الرحم ولعدم سد الحاجة والفاقة الموجودة فيه، فجمع الإنسان في ذلك خطيئتين، وأما ما يتعلق باليتامى، ويأتي الكلام على مسألة اليتم و حَدِّه بإذن الله عز وجل في سورة النساء في قول الله عز وجل: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ [النساء:6]، الآية, نتكلم فيها في مسألة ابتلاء اليتيم وحدِّه والحلم المذكور في الآية، وأما بالنسبة للمساكين وابن السبيل فيأتي الكلام عليها بإذن الله عز وجل في قول الله عز وجل: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60].
وأما قول الله سبحانه وتعالى: وَالسَّائِلِينَ [البقرة:177]، وهذا موضع إيراد هذه الآية، وهي مسألة كلمة السائلين، السائل إما أن يكون يتيماً، وإما أن يكون فقيراً، وإما أن يكون ابن السبيل؛ في هذا دليل على أن الذي يعطي السائل من زكاته إذا سأل أنه أدى ما عليه وبرأت ذمته ولو كان غير ذلك، يعني: إذا تبين له بعد ذلك أنه ليس بفقير سقط عنه ذلك وبرئت ذمته؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر في هذه الآية أن الإنفاق على ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل, هؤلاء هم في الغالب لا يخرج عنهم السائل، إما أن يكون مسكيناً في ذاته فلا يجد ملبساً أو مطعماً أو مركباً أو مسكناً أو منكحاً فيسأل الناس الحاجة، وهو متحقق فيه حينئذ المسكنة، وذكر الله عز وجل بعده ما خرج من هذه الأصناف فمن كان من أهل الرقاب, وذلك من الموالي ممن يرجو عتاقاً، كذلك من كان عليه دية فيدخله العلماء في هذا الأمر باعتباره أنه أسير لمن كان له دم عليه يريد الوفاء، وكذلك أيضاً في قول الله عز وجل: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ [البقرة:177]، هؤلاء أيضاً يدل على أن دائرة السؤال لا تخرج عن هؤلاء ولكن الله عز وجل خص السائل بنفسه أن الإنسان إذا أراد أن ينفق ابتداء يسأل، وإذا سئل الزكاة أو الصدقة فينفق ولا يسأل، ولهذا نقول: إن الإنسان إذا أراد أن يخرج الزكاة والصدقة إلى الأصناف الثمانية وغيرها وأراد ذلك ليس له أن يرمي بها رمياً أو يخبط خبط عشواء, وإنما يسأل ويتحرى، ولهذا الله عز وجل أخرج السائل بحكم منفرد مع أنه في غالب الحال يدخل في ذلك.
وعلى هذا نقول: إن الإنسان إذا سئل مالاً أو جاءه فقير وقال: أنا من الفقراء, فيعطيه المال ولو لم يكن فقيراً, لكن إذا علم منه الكذب بعينه نقول: إذاً يعلم أنه ليس بصادق بقوله هذا، ونقول حينئذ: لا يجزئ عنه ذلك، والدليل على هذا جملة منها ما يتعلق بالنص ومنها بالتعليل، ما يتعلق بالنص ما جاء في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قال رجل: لئن أصبحت لأتصدقن بدينار, قال: فلما أصبح وجدها بيد زانية, فقال: الحمد لله على زانية، ثم قال: والله لأتصدقن فتصدق, فلما أصبح وجدها بيد غني, فقال: الحمد لله على غني، ثم الثالثة تصدق, فلما أصبح وجدها بيد سارق, فقال: الحمد لله على سارق، فقيل له: إن السارق لعله أن يستعف عن سرقته بالمال، وأما الزانية فلعلها أن تكف عن زناها بهذا المال، وأما الغني فلعله أن يتذكر حاجة الفقير فيعطيه )، وهذا فيه إشارة إلى أن النفقة مضت، وحد الإنسان في الإنفاق أن يخرج المال من يده, فإذا خرج من كفه إلى غيره انتهى أمره.
وأما التعليل فإن الإنسان إذا قلنا: إنه لو جاءه سائل وأنفق وأعطاه من الزكاة ثم بان له بعد ذلك أنه ليس من أهل الزكاة وقلنا: إنه يجب عليه بعد ذلك أن ينفق أو يخرج زكاة أخرى، أنه يلزم من هذا أن الفقير إذا أنفقت عليه لفقره ثم وضعها في غير فقره, لأن الحكمة من إنفاق الزكاة هي سد الحاجة، فاشترك الغني الكاذب مع الفقير الصحيح في عدم الانتفاع، وعلى هذا أنه يجب على الإنسان أن يتحرى تصرف الفقير فيها بعد ذلك, وهذا لا يأتي به الإسلام, بل إن الإنسان إذا غلب على ظنه أن الفقير يضعها في غير حاجته فإنه يسقط عنه ذلك؛ كحال يعلم أن الفقير لا يجد قوت يومه، ثم أعطاه مالاً فجعلها في شيء ليس من قوت يومه كأن يشتري نخلاً ويغرسه، أو يشتري مركباً وهو بحاجة إلى طعام ونحو ذلك، فليس للإنسان شأن في ذلك إذا تحقق في هذا الوصف.
ولهذا الله سبحانه وتعالى إنما خص السائلين في هذه الآية إشارة إلى أن المسكين لا بد من تحقق وصفه، وتحقق الوصف بالسؤال عنه، وكذلك ابن السبيل، وكذلك اليتيم، وأما بالنسبة للسائل فيتحقق وصفه بظهور السؤال، فقد جاء ما يعضد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء في مسند الإمام أحمد أنه قال: ( للسائل حق وإن جاء على فرس )، رواه الإمام أحمد في كتابه المسند من حديث يعلى عن فاطمة بنت حسين عن أبيها حسين بن علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا الحديث ضعيف، وقد جاء من وجه آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه المسند، وكذلك رواه أبو داود في كتابه السنن أن النبي عليه صلى الله عليه وسلم قال: ( ردوا السائل ولو بظلف محرق )، يعني: مما لا يستفيد منه الإنسان أكلاً إلا بمشقة مما أحرق من ظلف البهيمة؛ وهو ظفرها وظاهر عظمها أو خفها أو نحو ذلك، وهذا فيه إشارة إلى أن السائل إذا ظهرت منه المسألة ليس للإنسان أن يستقصي عنه؟
وفي قول الله سبحانه وتعالى: وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ [البقرة:177]، إشارة إلى ما تقدم: أن مسألة الإيمان بالله سبحانه وتعالى مقدم على الفروع, ومقدم على أعمال الجوارح، وفي قول الله سبحانه وتعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى [البقرة:177]، أن المراد بذلك العمل، وأن المعنى الغائي من هذه العبارة هو تمام الإيمان وخلوصه لله عز وجل, وهو أن إدراك القبلة والحكمة منها لا يدركها إلا من تم معه هذا الأمر، وظهرت منه هذه الأفعال، فالعلل الشرعية من تغير القبلة ونحو ذلك هذا لا تظهر الحكمة غالباً للإنسان إلا لصاحب الإيمان التام، وفي هذا إشارة إلى أن العالم ينبغي له أن يحتاط في قوله, إذا قال قولاً أو أفتى في مسألة أن يحتاط لهذا القول، ووجه الاحتياط أن رجوعه عن هذا القول ربما يكون فتنة للناس, ولهذا الله سبحانه وتعالى مع حكمته ظهر من فتنة يهود فأراد الله سبحانه وتعالى في ذلك ابتلاءً لأهل الإيمان؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام في مرحلة بداية، فيحتاج إلى تمحيص من كان معه وابتلائهم بشيء من الإيمان، فجاءت آيات النسخ وتغيير الأحكام لصالح هذه الأمة، فأراد الله عز وجل من ذلك ابتلاء, ولكن بعد انتهاء التشريع فإن الابتلاء في ذلك للناس ربما يكون صداً لهم عن دينهم، خاصة عند عامة الناس، ولهذا لما كانت تغيير القبلة كان ذلك ممسكاً ليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم بزعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما تغير عن ذلك أنه ترك البر الذي كان عليه، حتى ذكر بعض المفسرين إنهم اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم بالاضطراب في دينه, وأنه لم يكن يدرك الأمر من أوله, وإنما كان يغير بحسب ما يريد، لعنهم الله، ولكن الله عز وجل أراد من ذلك أن يبين الحكمة من ذلك، وهي: أن هذه المعاني لا يدركها إلا من جمع هذه الأوصاف، وأن الله عز وجل في ذكره لإيتاء المال على حبه ذوي القربى أراد بذلك إثبات اليقين بالقلب لا ذات العمل، وأن الإنسان في إيتائه للصدقة على ذوي القربى مع محبته لها مقدمة على استقبال القبلة ولكن المراد بذلك هو إثبات تمام اليقين في القلب، وهذا هو المقصود في ذلك، ويظهر هذا في آخر الآية في قول الله عز وجل: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا [البقرة:177]، فأراد الله عز وجل أن يثبت تمام الصدق حتى يدركوا العلل من تغيير الأحكام الشرعية, ولهذا قد يفتي عالم في مسألة من المسائل من الأحكام الشرعية ثم تأتي حال أخرى، هو لم يتغير من جهة ذاته ولكن تغير في تنزيل الحكم، فيقولون: اضطرب فلان بقوله ولم يعرف له وجه في مسألة من المسائل, وهذا إنما يتشبث به من ضعف إيمانه ممن لم يكن من الذين صدقوا، خاصة إذا ظهرت الأدلة, فإنهم يتشبثون بالظواهر كما يتشبث اليهود والنصارى بظاهر حال النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان إلى بيت المقدس ثم اتجه إلى المسجد الحرام، فما عرفوا من الدين إلا هذا، وأما إذا كانوا من أهل الصدق واليقين فإنهم يعرفون أن هذه الأشياء إنما هي توجيهات ربانية يريد الله سبحانه وتعالى بها أن يظهر امتثال العباد له جل وعلا.
ثم قال تعالى: وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا [البقرة:177]، وذكر إيفاء العهد مع الله عز وجل ومع عباده, وتقدم معنا في مسألة العهد مع الله عز وجل والعهد مع عباده.
وفي قول الله عز وجل: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ [البقرة:177]، قال بعض العلماء: إن المراد بالصابرين في البأساء والضراء هي شدة الفقر والعَوز والحاجة، الذين ينفق عليهم مع شدة بأسهم وفقرهم، وذلك أن الله سبحانه وتعالى فرق بين البأساء والضراء وبين حين البأس.
وحين البأس: هو الجهاد في سبيل الله وذلك أن المسألة فيه وقتية، قال: حِينَ الْبَأْسِ [البقرة:177], يعني: لا في ذات الإنسان وإنما في حينه, يعني: في حاله التي هو عليها، وأما بالنسبة للصابرين ما وجد هذا الشخص فينفق عليه, هو الغالب أن حال الإنسان في الفقر تطول زمناً بخلاف الجهاد، فإن الجهاد يذهب ويغزو ويرجع، والإنفاق عليه إذا ذهب، ولهذا قال الله عز وجل هنا: وَحِينَ الْبَأْسِ [البقرة:177]، يعني: ينفق عليه في حال الجهاد في سبيل الله, وإنما سمي بأساً لشدة أثره على الإنسان, فهو يغادر عن المال والولد والزوجة والبلد, ويدع كل ما يملك وراء ظهره ويقبل على الله سبحانه وتعالى, ولهذا قال: حِينَ الْبَأْسِ [البقرة:177]؛ لأن الأمر لا يتعلق به وإنما يتعلق بحينه التي هو فيها, وهو مسألة المقاتلة في سبيل الله سبحانه وتعالى.
وفسر غير واحد من العلماء البأس والضراء في هذه الآية أن المراد بذلك هو شدة الفقر والعوز، جاء هذا عن قتادة وكذلك مجاهد بن جبر وغيرهم من المفسرين.
قال الله جل وعلا: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، يعني: هؤلاء الذين يدركون هذه الحقيقة، حقيقة البر ومراتب الدين, هم الذين صدقوا مع الله وتوفرت فيهم هذه الأشياء هم المتقون، ولهذا نجد أن الذين يتعلقون بعلل الأحكام كثيراً ويتهمون الشريعة بالاضطراب قد اختلت فيهم هذه الأمور, فليسوا من أهل الإنفاق على حب المال, وليسوا من أهل الإيفاء بالعهود والوعود, وليسوا من أهل الإنفاق في الجهاد في سبيل الله, ولا في البأساء, ولا في الضراء, وهذا ظاهر مشاهد، ويظهر في كثير من المنافقين.
مسألة أخرى مما يتعلق في إيراد هذه الآية وهي هل في المال حق سوى الزكاة؟ الله عز وجل يقول: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى [البقرة:177]، ثم قال بعد ذلك: وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ [البقرة:177]، يعني: أن الإيتاء في هذا الموضع هو غير إيتاء الزكاة، هل هذا الأمر واجب أم لا؟ نقول: ينظر بحسب العلة التي إذا انتفى هذا الفعل وجدت، الله سبحانه وتعالى بين أن البر الحقيقي من جهة الأصل الذي يريد الإنسان أن يدركه هو أن يفعل هذه الأفعال، وهي الإيمان على ما تقدم بأنواعه، كذلك أيضاً: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى [البقرة:177]، إيتاء المال إذا انتفى من الإنسان لا يدرك حقائق البر مما يدل على أن الإيتاء هنا سيق مساق الوجوب؛ لأنه إذا انتفى وقع الإنسان في الشهوة وعدم إدراك علل الشريعة، ولهذا هذه المسألة اختلف فيها العلماء؛ ولكن نقول: إن المال فيما سوى الزكاة على حالين:
الحالة الأولى: أن يكون في الأمة سنة ومجاعة وفقر وإعواز, فيجب على المنفق أن ينفق من أصل ماله إذا كان نصاب زكاته لا يكفي وجوباً, ولو استهلك ذلك ماله لدفع ضرر أعظم مما يحل به, وذلك أن الإنسان إذا كان لديه مال يغنيه, وأخرج شيئاً من زكاته لكن ما سد حاجة الأمة، والأمة تخشى الهلكة والمجاعة, فنقول: إذا كان إنفاقه لأكثر ماله ينقذ به حياة المسلمين من هلاك وجب عليه أن ينفق أكثر ماله ولو رجع فقيراً، وهذه المسألة لا خلاف فيها عند العلماء, حكى الاتفاق على هذا غير واحد من العلماء كـأبي بكر بن العربي وغيره, وقد نص على هذا الإمام مالك رحمه الله في مسألة فداء الأسرى، قالوا: إذا كان للأمة أسرى وجب على المؤمنين أن ينفقوا ولو استنفذوا مالهم كله؛ لأن حرمة الإنسان في دمه وعرضه أولى من حرمة المال، ولهذا يدفع المال لفداء الأسرى وفكاك الرقاب، وكذلك أيضاً للعفو عن القصاص ولا يقتل الإنسان، بل يفدى بذلك المال؛ لأن الإنسان أغلى وأنفس من المال كله.
الحالة الثانية: إذا لم يكن في الأمة شدة حاجة يحتاج إلى مال الإنسان, وإنما أمر الأمة على السواء, يوجد فيها فقراء ونحو ذلك ولكن الأمور ليست بإعواز شديد، هل يجب على الإنسان وجوباً أن يخرج قدراً أكثر من زكاة ماله؟ هذه المسألة وقع فيها الخلاف.
والعجب أن هذه المسألة حكي فيها إجماعان متناقضان، فهناك من العلماء من حكى الإجماع على أنه لا يجب في المال حق سوى الزكاة، نص على هذا بعض الفقهاء؛ ولكن نقول: إن الخلاف في هذا موجود, والذي عليه جمهور السلف أنه يجب في المال حق سوى الزكاة، والمال الحق الذي يجب على الإنسان سوى الزكاة متعدد, منه ما يتعلق بإكرام الضيف في حال نزوله, ومنه النفقة على الوالدين، والنفقة على المحتاج إذا وجد الإنسان فقيراً أو وجد الإنسان مسكيناً محتاجاً فينفق عليه وجوباً، ثبت هذا عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله, وروي عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وقال به مجاهد بن جبر و الحسن و قتادة و سعيد وغيرهم من العلماء وهو قول جمهور السلف؛ أن في المال حقاً سوى الزكاة، وهذا يأتي تمام الكلام عليه بإذن الله عز وجل في قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25]. ما هو الحق المراد به هنا؟ نتكلم عليه بالتفصيل هناك, وذكرناه هنا لهذا المعنى في هذه الآية؛ لأن الله عز وجل قال: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى [البقرة:177]، ثم بعد ذلك قال: وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ [البقرة:177]، مما يدل على أن مسألة الإيتاء في ذلك خارجة عن مسألة الزكاة الواجبة على الإنسان في ماله.
وفي هذا أيضاً إشارة إلى معنى دقيق؛ وهو أنه ينبغي للإنسان إذا أراد أن يلتمس صدق الإنسان في قوله فلينظر إلى عمله في هذه الصفات، ولهذا قال الله عز وجل: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]، فالذين صدقوا في قولهم ولا يكذبون مع الله ولا مع عباده ينظر إليهم في تلك الأحوال التي ذكرها الله عز وجل في مسألة الإيمان, وكذلك أيضاً في مسالة الإنفاق؛ أن ينفق المال وهو يحب المال, على المراتب السابقة, وأن يكون من أهل الإيفاء بالعهود إذا عاهد, ومن أهل إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وينفق أيضاً لمن كان في حال بأس وضراء وحين البأس, فإن هذا من علامات الصدق مع الله سبحانه وتعالى.
الآية الثانية: قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:178]، هذه الآية في آية القصاص, وتحتاج إلى كلام, وفيها مسائل كثيرة جداً, وربما تحتاج إلى مجلس تام, وذلك للكلام على القصاص وزمن نزوله, والدولة الإسلامية, ومتى بدأ القصاص في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، متى أُمر به؟ وهل يمكن أن يرجئ القصاص؟ ولماذا نزل في أول قدومه عليه الصلاة والسلام إلى المدينة؟ وإقامة القصاص في حال الحرب, وهل يمكن أن يؤجل القصاص أو حكم من أحكام الحدود في زمن من الأزمنة؟ وكذلك أيضاً في مسألة أحكام القصاص في ذاته يحتاج منا إلى مجلس كامل, ونرجئ هذا إلى المجلس القادم بإذن الله عز وجل حتى نستوفيها لأهميتها، أسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكم التوفيق والسداد والإعانة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر