الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأول آيات اليوم هو قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
الله سبحانه وتعالى وجه الخطاب للذين آمنوا ببيان وجوب الصوم, والصوم هنا قيل: إن المراد به شهر رمضان, وهذا هو الأشهر.
وقيل: إن المراد بذلك هو غيره, وأشاروا إلى هذا المعنى بأن هذه الآية كانت في ابتداء مشروعية الصيام, والله عز وجل لم يشرع صيام رمضان ابتداءً وإنما شرع الصيام قبله ليوم عاشوراء, وشرع الله عز وجل صيام ثلاثة أيام من كل شهر, ولهذا قال بعض العلماء: إن المراد بالصيام هنا هو عموم الصوم, ويأتي الكلام على هذه المسألة في مسألة مراتب الصيام.
توجه الخطاب من الله عز وجل للذين آمنوا بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183], لأن الخطاب في الفروع يتوجه إلى أهل الإسلام, وبهذه الآية يستدل لمن قال: بأن الكفار لا يخاطبون بفروع الشريعة, ولهذا توجه الخطاب بفرضية الصيام على ذلك.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة لم يكن لديه قبل ذلك شيء مشروع للأمة على العموم من أمر الصيام, وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يمسك ويصوم تطوعاً, فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم في مكة, ولما قدم المدينة وجد النبي صلى الله عليه وسلم اليهود يصومون يوم عاشوراء كما جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس، وجاء أيضاً في حديث عبد الله بن عمر عليهما رضوان الله, ( فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك, فقالوا: هذا يوم نجى الله فيها موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه, فنحن نصومه شكراً, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بموسى منكم, فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بصيامه ).
مراتب الصيام التي جاءت في الشريعة من جهة التشريع, أول هذه الشرائع هو صيام يوم عاشوراء, ثم جاء معه صيام ثلاثة أيام من كل شهر قبل أن يفرض الله عز وجل رمضان, ثم لما فرض الله صيام رمضان جعل الله صيام عاشوراء تطوعاً, وفي هذا الترتيب جاء جملة من الأحاديث؛ منها: ما جاء في الصحيح من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة.
وجاء التفصيل أيضاً في المسند وغيره من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل في بيان مراحل الصيام, والغالب في الشرائع المتأكدة أن الله لا يفرضها ابتداءً, وإنما يجعل ذلك على سبيل التدرج, ومن نظر إلى الفرائض من أركان الإسلام يجد أن الله عز وجل جعلها ابتداءً سنة وشريعة قبل وجوبها, بخلاف ما فرض ابتداءً.
فما فرض ابتداء لا يخلو من حالين: إما أن يكون معظماً لا يقبل التدرج؛ وذلك كالتوحيد, ولهذا أمر الله عز وجل به ونهى عن ضده على الإطلاق, وإما أن يكون المفروض ليس بذات المرتبة التي تقارن بأركان الإسلام, ولهذا جاء فرضه ابتداءً, فيكون ذلك ليس على التشديد؛ وذلك لكثير من الواجبات التي أمر الله عز وجل بالإتيان بها ابتداء من غير تدرج.
وأما ما كان على سبيل التدرج فهذا يأتي في المهمات كبقية أركان الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام, وكذلك الحج.
والترتيب في ذلك إما أن يدل الدليل على أصل المشروعية؛ وذلك كالصدقة والإنفاق, فإنها من جنس الزكاة, كذلك الحج فإنه كان قبل ذلك سنة, وقد حج النبي صلى الله عليه وسلم قبل حجة الإسلام؛ كما جاء في الصحيح من حديث جبير بن مطعم، وكان ذلك مشروعاً, ثم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل فرضية الحج, والعمرة من جنس الحج, ثم فرض الله عز وجل على نبيه الحج وجعله ركناً من أركان الإسلام, وذلك توطيناً للنفس, وكلما كانت الشريعة أعظم كان التدرج فيها أظهر, ويستثنى من ذلك كما تقدم ما كان من شرائع الإسلام مما لا يقبل التدرج؛ كتوحيد الله جل وعلا.
وقول الله جل وعلا: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183], تقدم الكلام على معنى كتب في قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178]، الخطاب هنا يتوجه لأهل الإيمان, وهذا دليل على فرضية الصوم.
والصوم في اللغة هو: أن يمسك الإنسان عن أي شيء اعتاد قوله أو فعله, ولهذا قال الله جل وعلا: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا [مريم:26], يعني: إمساكاً عن الكلام, ولهذا يقول الشاعر:
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
والمراد بهذا خيل صيام يعني: ممسكة عن الصهيل عند لقاء العدو, وخيل غير صائمة يعني: تصهل عند لقاء العدو, وأخرى ثالثة منشغلة بعلك لجامها, والمراد بذلك هنا المعنى الاصطلاحيوهو: الإمساك عن الأكل والشرب وما في حكمها مما جعله الله عز وجل مناقضاً لهذه الشريعة.
وقوله هنا: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183], يعني: الإمساك, والإحالة هنا في قوله: الصِّيَامُ [البقرة:183], يعني: إمساك عن المفطرات المعهودة مما حرمها عليكم وفصلها الله جل وعلا في كتابه والنبي صلى الله عليه وسلم في سنته.
قول تعالى: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183], ذكر الله أن هذه الشريعة مفروضة على السابقين, ولذلك لمعانٍ جليلة منها تسلية للمؤمنين, كون هذه الشرائع ليست خاصة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم, فأراد الله عز وجل عليهم شدة ليست على غيرهم, بل هذه شريعة من الله جعلها للسالفين, وقد جاء تأويل ذلك عن بعض السلف في قوله: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183], أن المراد بذلك أهل الكتاب, جاء هذا عن مجاهد بن جبر كما رواه ابن جرير الطبري من حديث ابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر أنه قال في قول الله: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183], قال: أهل الكتاب.
وهل فرض على من قبل أهل الكتاب؟ الذي يظهر والله أعلم أن الله عز وجل شرع ذلك قبله, وهذا هو الأصل فيما يتعلق بأركان الإسلام, ويستثنى من ذلك الحج, وذلك أن الله عز وجل جعل ابتداء رفع قواعده بيد إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام, ثم كانت شرعة لمن جاء بعدهم.
وفي قوله أيضاً: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183], إشارة إلى أهمية هذه الشعيرة, والقاعدة لدينا: أن الأمر إذا عم دل على أهميته, وذلك أن الخطاب إذا توجه إلى الجميع فإن الأمر هام, وإذا توجه إلى فرد بعينه دل على أنه لا يعني البقية, ولهذا الألفاظ العامة التي تأتي بصيغة الأمر آكد في الشريعة من الألفاظ الخاصة, وعند العلماء أن اللفظ العام الذي لم يدخله تخصيص أقوى من اللفظ الذي دخله تخصيص, وهذه الشريعة؛ شريعة الصيام, كتبت على هذه الأمة وعلى الأمم السابقة بلا استثناء على من كان من أهل التكليف.
إذاً: أراد الله عز وجل بذكر أن هذه الشريعة فرضت على السابقين أن يبين أهميتها, وجبراً وتسلية لهذه الأمة أن الله عز وجل لم يشدد عليها شرعة ليست مفروضة على من سبق من الأمم, وإنما هذه موجودة عن الأمم السالفين.
وهل هذه الفريضة التي فرضها الله عز وجل على هذه الأمة هي بنوعها وصفتها مفروضة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم على حد سواء؟ يعني: الأمم السابقة هل فرض عليها رمضان أم لا؟ الله أعلم بهذا, ولكن الذي يظهر والله أعلم أن الله عز وجل إنما جعل الصيام مفروضاً على الأمم السابقة كحال هذه الأمة, أما رمضان فيحتمل أن يكون خاصاً بهذه الأمة, وذلك أن الله عز وجل ذكر التفصيل بذلك في قوله: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185], يعني: أن إنزال القرآن هو خاص بهذه الأمة, وهذا من القرائن التي تدل على أن الصيام عام, وأما تخصيص رمضان بأيامه وكذلك صفته وما جاء فيه من تفاصيل من مستحبات ونحوها فإن هذا خاص بأمة محمد صلى الله عليه وسلم, والإمساك الذي كان في الأمم السابقة كان في النهار قطعاً, ولكنهم كانوا يزيدون على النهار شيئاً، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتعجيل الفطر, وحض على أكلة السحر؛ لأنها هي الفيصل بين صيام أهل الإسلام وصيام أهل الكتاب, إذاً: فهم يتفقون في مرحلة النهار ويختلفون في الإمساك من الليل.
وفي قوله جل وعلا: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183], إشارة إلى فضل الصيام, وذلك أن أثره على الإنسان أن يولد فيه التقوى, وكذلك أن يقيه عقاب الله جل وعلا, والله سبحانه وتعالى إذا رتب ثواباً معيناً على عمل من الأعمال وجاء هذا الثواب مفصلاً فينظر إلى ذات التفصيل, فإذا كان هذا التفصيل من ألفاظ العموم التي يتحقق فيها مطلق النجاة, فهذا دليل على فضله, في قوله هنا: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183], و(لعل) إذا وردت في كلام الله عز وجل وكذلك (عسى) فهي على التحقيق، إذا حقق الإنسان ما أمر الله عز وجل به باطناً وظاهراً, وجاء في فضل الصيام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرها تدل على منزلته وفضله, وتفصيل التقوى المذكورة في هذه الآي، يعني: أن الإنسان إذا جاء بالصيام بجميع تفاصيله المشروعة كان متقياً لله, أي: متسبباً بجميع أنواع وأسباب الغفران لذنوبه, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ), وقال: ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ), وقال: ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ), وهذا دليل على أنواع التقوى والوقاية التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في هذه الآية.
ثم هذا الفضل هل هو للمفروض أم للنافلة كذلك؟ الآية نصت على المفروض, في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183], نقول: النافلة تلحق الفريضة من جهة مجمل الأجر لا من جهة خصيصته, وذلك أن الفريضة أعظم عند الله من النافلة, والنافلة إذا كان أصلها ركناً فهي أفضل من النافلة من غيرها, وهذا أمر معلوم.
ولهذا كل ما كان له أصل مفروض فهو أفضل من غيره ممن ليس له أصل مفروض, فننظر إلى الصلاة؛ السنن, وقيام الليل, والنوافل المطلقة, أصلها مفروض, وفرض أصلها وهي الركن الثاني من أركان الإسلام فهي أعظم من نافلة الصيام؛ لأن نافلة الصيام لها أصل مفروض, وفرض أصلها دون فرض أصل الصلاة, وكذلك يليها بعد ذلك ما يتعلق بالزكاة والصيام والحج, والنافلة التي ليس لها أصل مفروض فإنها تأتي بعد ذلك بمرتبة, ولهذا في أمور المفاضلة في أمور العبادات إذا أراد الإنسان أن يفضل بين عملين فلينظر هل من جنسه عمل مفروض أم لا, فإذا من جنسه عمل مفروض فهو أفضل من غيره, ولهذا الصلاة أفضل من نافلة الصيام, وأفضل من نافلة الصدقة, وأفضل من نافلة العمرة والحج والصيام, وهذا دليل على ما تقدمت الإشارة إليه, ومن نظر إلى النصوص وجد هذا مطرداً بحسب الأصل المفروض.
وأما بالنسبة للنافلة فهي تلحق الفريضة بمجموع الفضل, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث القدسي: ( قال الله جل وعلا: كل عمل ابن آدم له, الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم, فإنه لي وأنا أجزي به ), وهذا بيان لمنزلة الصيام على غيره.
الآية الثانية قول الله جل وعلا: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].
المعدودات تطلق في لغة العرب على الأيام التي يعتني المشرع بضبطها, وأنه ليس للإنسان أن يزيد فيها أو ينقص, فما يعتنى بضبطه يقال له: أياماً معدودات, يعني: ليس فيها زيادة وليس فيها نقصان, وهو المراد بذلك شهر رمضان, ولهذا يلحظ هنا إشارة إلى شيء من التدرج في هذه الآيات, الآية الأولى قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183], من غير بيان صفة, ثم ذكر الله عز جل أن الصيام هو بأيام معدودات.
وفيه إشارة إلى تحريم صيام الدهر, وأما الأيام المعدودات فليست محصورة, وهذا يؤيد ما جاء في حديث شعبة بن الحجاج عن عمرو بن مرة في حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى أن معاذ بن جبل قال: أول ما شرع الله عز وجل لنبيه الصيام صيام يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر, ثم شرع الله لنبيه صيام رمضان, فكان المسلم مخير إما أن يصوم وإما أن يطعم, ثم نسخ الله ذلك فجعل صيامه فريضة, وجعل صيام عاشوراء نافلة وتطوع, وهذا الذي عليه عمل عامة السلف, ثم بين الله عز وجل أن المراد بذلك شهر رمضان هو الفريضة في قوله: شَهْرُ رَمَضَانَ [البقرة:185], وهذا يؤيد الأحاديث الواردة في مسألة التدرج في أبواب الصيام؛ كما جاء في النصوص السابقة.
وقول الله جل وعلا: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184], هذا فيه إشارة إلى أنه لا يجوز للإنسان أن يزيد على ما فرضه الله عليه في الصيام, ولهذا جعل الله رمضان بين منهيين, فنهى في ابتدائه عن صيام يوم الشك وهذه مسألة يأتي الكلام عليها, ونهي في انتهائه عن صوم يوم العيد وهذه هي الأيام المعدودات التي لا يجوز للإنسان أن يزيد عليها, ولهذا نجد أبواب الفرائض أن الله سبحانه وتعالى ضبطها بابتداء وانتهاء بعدد معدود ولم يجعل ذلك متسعاً للإنسان, فتجد الصلاة تحريمها التكبير وتحليلها التسليم, فيحرم عليك ما كان حلالاً لك قبل ذلك بالتكبير, ثم يحل الله لك بعد ذلك ما كان قد حرم عليك, وتحليلها التسليم يعني: ليس للإنسان أن يزيد في ذلك, ويعضد هذا ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة عليها رضوان الله في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ), وأيضاً في مسلم وهو في البخاري معلقاً, قال: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ), ولهذا الزيادة على المفروض محرمة, وأما النافلة فهي بالقدر الذي أذن الله عز وجل فيه.
وقول الله سبحانه وتعالى: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184], فيه إشارة لطيفة إلى أن الله يسر على هذه الأمة الفريضة, وأنه جعلها أياماً معدودات وما جعلها أشهراً ولا فصولاً ولا أعواماً, بل إن شريعة الله إنما هي أيام معدودات, يعني: يستطيع الإنسان أن يتناولها عداً وضبطاً, ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وفي الثالثة خنس بالإبهام يعني: تسعاً وعشرين ), وشهر رمضان جعل الله صيامه محدوداً بطلوع الهلال وينتهي بطلوع هلال شوال, أو بإتمام العدة ثلاثين, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ), يعني: ليس بما يريد الإنسان ورغبته, وإنما هو بما شرعه الله عز وجل, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تقدم رمضان بصيام يوم أو يومين, فقال: ( لا تقدموا رمضان بصيام يوم أو يومين، إلا صوماً كان يصومه أحدكم فليصمه ), وهذا فيه إشارة إلى ما تقدم الكلام عليه وهو أن الشارع يجعل الفريضة محدودة بأمر معين حتى يقطع في ذلك الاجتهاد, ولهذا تجد الفرائض يتأكد فيها لزوم العدد بخلاف النافلة فإن العلماء يتوسعون فيها، حتى وإن اختلفوا في مسألة الأفضل في النافلة, في مسألة الصلاة أن الإنسان إذا أراد أن يصلي فيصلي ركعتين بتسليمة واحدة, وإذا أراد أن يصلي أربعاً أو ستاً أو نحو ذلك مع خلافهم في مسألة الأفضل في هذا, وكذلك تجدها في مسألة الفريضة في الصيام يؤكدون على مسألة الفطر وعدم الوصال في الفرض وأنه لا حرج على الإنسان في قول بعض العلماء أن يصل الصيام في النافلة.
وقول الله جل وعلا هنا: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184], هذا يؤكد ما تقدم أن الله عز وجل أراد بقوله: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184], جملة من المعاني, منها: التيسير لهذه الأمة, ومنها أيضاً: أن هذه الأيام لا يجوز للإنسان أن ينقلها, وإنما هي أيام معدودات أحصاها الله وبينها للأمة, فليس لأحد أن ينقلها, وهذا فيه إشارة وتحذير مما كان فيه أهل الجاهلية من النسيء في الأشهر, فإنهم يقدمون الأشهر ويؤخرونها بحسب أهوائهم, وهذا في دلالة التضمين في قوله: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184], يعني: مع وجود الأذى الذي يطرأ على الإنسان والمشقة أنه لا يجوز له أن يغير الأيام ويجوز له أن يفطر, وهذا فيه إشارة إلى ثبات هذه الأيام وأن الله عز وجل قد جعلها مقيدة بزمن معلوم، وأنه ليس للإنسان أن يزيد فيها أو يقدمها أو يؤخرها بحجة أن فيه كلفة أو مشقة عليه أو ضرراً, بل إن الإنسان إذا أصيب بضرر فإن كفارة ذلك عدة من أيام أخر توازي هذه الأيام, وهذه الأيام إنما هي قضاء لتلك الأيام المعدودات وليست هي الأيام, ولهذا قال: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].
والمراد بقوله: فَعِدَّةٌ [البقرة:184], يعني: بعدد الأيام التي أفطر فيها الإنسان, وفي هذا دليل على مسألة، وهي: أن التتابع لا يجب, ولهذا قال: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184], يعني: بعدد ما مضى من الأيام مما أفطره الإنسان يأتي به, وهذا على قول جماهير العلماء, أن القضاء لا يجب فيه التتابع, بل إن الإنسان يقضي بعدد الأيام, وأن الواجب عليه العدد وليس الواجب عليه التتابع.
وفي قوله: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184], المريض رخص الله عز وجل له الفطر.
ولكن المرض على حالين: مرض يرجى برؤه, ومرض لا يرجى برؤه, والمراد في هذه الآية هو المرض الذي يرجى برؤه, وذلك أن الله قال: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184], والذي لا يرجى برؤه كحال الشيخ الهرم لا يرجى برؤه عادة, فإذا عجز عن الإمساك, أو عجز عن القيام في الغالب أن حاله تبقى على مثل هذه الحال، وربما أشد ضعفاً.
ولهذا نقول: إن المرض على نوعين: مرض يرضى برؤه وهو المراد في هذه الآية لقوله: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184], ومرض لا يرجى برؤه, والواجب على الإنسان في ذلك الإطعام, فإذا كان لا يرجى برؤه فلا حرج عليه أن يقدم الكفارة, بمعنى أن الإنسان إذا علم أو علم ذووه أنه لا يستطيع الصوم ومرضه لا يرجى برؤه, فلا حرج عليه أن يقدم كفارة الثلاثين يوماً في أول الشهر, وقد جاء عن أنس بن مالك عليه رضوان الله أنه جمع كفارته الثلاثين يوماً فأخرجها مرة واحدة, وهذه الثلاثين يخرجها الإنسان للأصناف الثمانية الذين هم من مصارف الزكاة, ولا حرج عليه أن يخرجها, لبيت واحد.
وأما بالنسبة لمقدار الكفارة فهو إطعام عن كل يوم نصف صاع.
وكل إطعام جاء في كلام الله فالمراد به نصف صاع, وهذه قاعدة مطردة, فيما يتعلق بكفارة الصيام, وكفارة اليمين, وكفارة القتل, وغيرها, والظهار, فالمراد بذلك هو نصف صاع, إما أن يقيد ذلك بعدد الأيام، وإما أن يقيد ذلك بعدد المساكين, ثبت هذا عن مجاهد بن جبر كما رواه ابن جرير الطبري وغيره قال: كل إطعام في كتاب الله فهو نصف صاع, وهذا الذي عليه عمل أكثر السلف, ولكن بعض العلماء إنما خالف في بعض الصور, وهي: إذا كان بعض الطعام أفضل وأزكى من بعض, فبعض الأطعمة يكون جيداً ونفيساً، وقيمته غالية فهل يستوي مع ما يطعمه أوساط الناس؟ منهم من قال: إن المدين تساوي نصف صاع, ومنهم من قال: إن المد يساويه, ولكن ينبغي للإنسان أن يحتاط في ذلك وأن يجعل إطعامه نصف صاع, وهذا الذي عليه العمل, وقد جاء أيضاً عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله.
قوله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184], هذا إذا قلنا: إن الله عز وجل أول ما فرض الصيام ابتداءً وجعله في أيام معدودات, وهذا قبل أن يفرض رمضان, وقد نص غير واحد من العلماء أن هذه الآية في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183], منسوخة بقوله جل وعلا: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185], فجاء هذا عن عبد الله بن عباس كما رواه العوفي قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183], منسوخة بقوله: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185], وجاء هذا أيضاً عن جماعة من المفسرين, رواه ابن جرير الطبري عن مجاهد بن جبر، وكذلك جاء عن عكرمة و الحسن البصري، كما رواه يزيد النحوي عن عكرمة و الحسن أنهما قالا بنسخ هذه الآية, وهذا تقدمت الإشارة إليه أيضاً وأن نسخ الصيام جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة، وكذلك في حديث معاذ بن جبل عليه رضوان الله.
قوله: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184], هل كان الصيام المفروض قبل رمضان كصيام ثلاثة أيام من كل شهر, وصيام عاشوراء يقضى؟
الجواب: نعم يقضى, وكل فرض فرضه الله عز وجل على الإنسان وهو يستطيع قضاءه وهو معذور فيقضيه الإنسان, ولهذا قيد ذلك بقوله: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].
هنا مسألة، وهي: الله عز وجل ذكر تارك الصيام المعذور وما ذكر تارك الصيام غير المعذور, فالإنسان ربما يترك الصيام وهو غير معذور؛ كبعض الفسقة الذين لا يقيمون لرمضان وزناً, فهل هنا يجب عليه القضاء أم لا؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
جمهور العلماء قالوا بوجوب القضاء, وهو قول الأئمة الأربعة.
وذهب بعض العلماء إلى عدم وجوب القضاء وهو الأرجح, إذا كان الإنسان متعمداً, وممن ذهب إلى هذا ابن تيمية رحمه الله, ورجحه الحافظ ابن رجب، وذلك أن من ترك شيئاً متعمداً فإثمه أعظم من أن يقضى, وهذا كما أنه في الصيام فهو كذلك في الصلاة, ففي الصلاة فيمن تركها متعمداً حتى خرج وقتها فإثمه أعظم من أن يقضى, ويستثنى من ذلك ما قامت فيه الشبهة, وهو ما يجمع من الصلوات عادة؛ كالظهر مع العصر, والمغرب مع العشاء, لحديث عبد الله بن عباس، أما من أخر العصر إلى المغرب, أو أخر الفجر إلى طلوع الشمس, أو العشاء إلى طلوع الفجر, فهذا وقت لا يجمع معه, وهذا فيه إشارة إلى رجحان هذا القول؛ لأن الله عز وجل ذكر القضاء وما ذكر القضاء لغير المعذور, ويحتمل أن الله ما ذكر قضاء غير المعذور حتى لا يترخص الناس في ذلك, وحتى لا يكون هذا باباً لمن أراد أن يدع الصيام لأدنى شبهة تطرأ عليه, فيسول لنفسه الفطر, ويحتمل أن الله عز وجل يخاطب من زكى من أهل الإيمان, والخطاب هنا إنما هو لأهل الأعذار لا لغيرهم, ولهذا من يقول بالقضاء, قال: إذا كان يقضي المعذور فغير المعذور من باب أولى, وربما يستدركون في مسألة الحج على من قال بوجوب القضاء, قالوا: إذا كان من يقول من العلماء: إن الحج واجب على الفور, يجب على الإنسان على الفور, ثم جاء موسمه فإنه لا يجب عليه القضاء بعد ذلك, ولكن نقول: إن هذا الاستدراك فيه نظر, وذلك أن الله عز وجل جعل الفريضة في كل عام, وما جعل القضاء لذلك العام قضاء متسعاً, وإنما إذا أراد الإنسان أن يقضي الحج في أي شهر أراد ليس له ذلك, وإنما هي فريضة محدودة, يجب على الإنسان أن يأتي بما أمر الله عز وجل به في زمنه.
ثم قال تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184], قرأ عبد الله بن عباس: (وعلى الذين يطيقونه), يعني: المراد بهذا أن يكون هذا الصيام عليه شاقاً, كحال الذي يطوق شيئاً فيشق عليه, قالوا: إذا كان الإنسان يستطيع ولكنه كحال المطوق المخنوق في هذا العمل، هل يجب عليه الصيام أم لا؟ من العلماء من قرأ هذه القراءة كـعكرمة وغيره, وكما تقدم عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله, وحملوا هذا المعنى على الشيخ الكبير, قال: الشيخ الكبير يطيق لكنه عليه شاق, ويشترك معه من يشق عليه وليس بهرم؛ كبعض المرضى بالفشل الكلوي, أو به مرض كبعض الأوبئة مثل بعض أمراض الكبد أو القلب أو غير ذلك, فلو سئل المريض عن الصيام يقول: أستطيع لكن أجد في ذلك مشقة, وغالب هذه الأمراض مستديمة, فمن به مرض كلوي في الغالب أن هذا المرض يبقى فيه, خاصة الفشل, ويستثنى من ذلك أحوال نادرة يكون فيها الزراعة, فيكون حال الإنسان في ذلك كحال الإنسان الذي لا يرجى برؤه, وهو يطيق مع وجود المشقة.
هنا قال: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ [البقرة:184], وما ذكر الإطعام, فهو فرق بين المرض العارض الذي يطرأ على الإنسان وبين الذين يطيقونه ولكن المشقة موجودة، وعدم الإطاقة مع وجودها لا تفرض عليه الصيام, فجعل الله عز وجل ذلك رخصة للإنسان, وكفارة ذلك أن يطعم مسكيناً, وتقدم الكلام على الإطعام, ولهذا قال الله جل وعلا: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184].
وفي قوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184], إشارة إلى أنه ينبغي أن تكون الفدية من مال الإنسان الصائم الذي أفطر لعذر, ولهذا قال: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184], فهذه الفدية إنما هي على الإنسان في ذاته, وهذا الأولى أن يكون في ماله, لهذا ينبغي أن ينتبه فيما يتعلق في الشيخ الكبير إذا كان لديه مال أو أبناؤه يريدون أن يطعموا عنه أن يكون ذلك من ماله في ذاته, إذا كان له مال أن يؤخذ من ماله وأن يطعم عنه, وإذا أطعم عنه ابنه فابنه من كسبه, ولكن الأولى أن يكون من كسب الشيخ بذاته.
قال: فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184], وهنا ذكر المسكين, هل هو عليه بذاته أم يدخل في ذلك غيره من الأصناف الثمانية؛ كأن يزود الإنسان من كان في سبيل الله مجاهداً فيعطيه طعاماً؟ نقول: يدخل في ذلك من كان محتاجاً للإطعام في حاله, سواء كان في سبيل الله مجاهداً، أو كان ابن السبيل أو غيرهم.
قال الله جل وعلا: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:184], ذكر الله عز وجل التطوع هنا, والمراد بالتطوع هو تطوع الصيام ونافلته, يعني: أن الله عز وجل جعل أمر المكتوب من الصيام واجب, وتركه عليه في ذلك كفارة, أما التطوع فإن ذلك باب مفتوح للإنسان, والله جل وعلا يجعل خيار ذلك للإنسان.
ولكن هنا مسألة وهي في قول الله عز وجل: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:184], صيام النافلة هل يجوز للإنسان أن ينقضه أم لا؟ النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيح من حديث عائشة ( أنه جاء إليها فقال: أعندكم شيء؟ ), وفي رواية: ( أعندكم طعام؟ فإني أصبحت صائماً, قالت عائشة: فإذا قلنا نعم أكل, وإلا أتم صومه ), وهذا فيه دليل على أن صيام النافلة لا حرج على الإنسان أن يقطعه ولو بيت النية من الليل.
وبعض العلماء يفرق, فيقول: إذا كان بيت النية من الليل وجب عليه أن يتمه, وهذا قول مروي عن علي بن أبي طالب، وقال به بعض الفقهاء من أهل الرأي, ومن العلماء من قال: لا فرق بين تبييت نية النافلة من الليل أو من النهار, وهذا هو الأرجح؛ لحديث عائشة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإني أصبحت صائماً ).
ويجب على الإنسان أن يبيت النية في الفرض من الليل, والنية في الصيام لا شك بوجوبها, وهذا محل اتفاق عند العلماء لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين: ( إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى ).
وكذلك أيضاً في بيان الكفارة في ذلك في قوله: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184], وهو القضاء, إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يضبطها ولا ضابط لها إلا بالنية.
فذهب جمهور العلماء إلى وجوب النية من الليل.
وذهب أبو حنيفة إلى جواز النية من النهار لصيام رمضان, قال: ويستثنى من الصيام الواجب ما كان غير معين, يعني: إذا كان على الإنسان صياماً واجباً قضاء كقضاء رمضان, هذا غير معين, قد يصوم مثلاً في شوال, في ذي القعدة, في ذي الحجة, في محرم, غير معين, فإذا أراد أن يعين يوماً منها وجب عليه أن يبيت ليلاً, والذي عليه جمهور العلماء وهو الأرجح هو أنه لا بد من النية من الليل, وذلك لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه, وعن حفصة أيضاً, قال: ( لا صيام لمن لم يبيت النية من الليل ), والخبر هذا الأرجح أنه موقوف كما صوب ذلك أبو حاتم و البخاري وغيرهم من الحفاظ.
وأما بالنسبة لصيام النافلة فسواء كانت النية من الليل أو من النهار فلا حرج على الإنسان في ذلك, وما هو الوقت الذي يحدد في مسألة النية؟ هل إذا نوى ضحى كحاله إذا نوى ظهراً أو حاله إذا نوى عصراً أو مغرباً أو نوى قبل المغرب بساعة, فهل هذا الأمر فيه سواء؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: فذهب جمهور العلماء ممن قال بأن النية تكون من النهار للنافلة, إلى إنه لا بد أن تنعقد النية للنافلة قبل الزوال, يعني: قبل أذان صلاة الظهر, قالوا: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نوى صياماً ينويه صباحاً كما في حديث عائشة ( إني أصبحت اليوم صائماً ), وإذا كان بعد ذلك فلا.
ذهب إلى هذا جماعة من العلماء, وهو مروي عن علي بن أبي طالب؛ كما روى ابن أبي شيبة وغيره من حديث أبي إسحاق عن الحارث عن علي بن أبي طالب قال: أنت بالخيار ما بينك وبين زوال الشمس, يعني: الظهر, وكذلك أيضاً جاء عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعن أنس بن مالك .
القول الثاني: قالوا: في أي ساعة من النهار, وهذا جاء عن حذيفة بن اليمان عليه رضوان الله تعالى, وهذا هو الأرجح لعموم الدليل.
ومن العلماء من قال: إن الإنسان يؤجر من ابتداء النية, إذا نوى ضحى لا يكتب له ما قبل ذلك, فنقول: إن الشرط في ذلك ألا يكون طعم قبل ذلك, فإذا نوى بعد طعامه فإن هذا ليس بمقبول باتفاق أهل الإسلام, إلا إذا كان الإنسان بيت النية ليلاً ثم أكل فهذه مسألة أخرى, وأما بمثل هذه الصورة فلا, فإذا نوى نهاراً بعد الظهر, أو العصر, ولم يطعم قبل ذلك, قال: لم يبق شيء فلعلي أنوي, نقول: صيامه صحيح وأجره تام بإذن الله؛ لأن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عاماً, وفي قوله عليه الصلاة والسلام: ( إني أصبحت صائماً ), هذا حكاية حال, تحكيها عائشة، أي: أصبحت صائماً على مثل هذه الحال.
وهنا مسألة في مسألة النية أيضاً فيما يتعلق برمضان, هل تجب النية لكل يوم من رمضان؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء, فذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أنه يجب أن يبيت الإنسان النية لكل ليلة.
وذهب جماعة من العلماء وهو قول الجمهور إلى أن رمضان فيه نية واحدة.
وينبغي للإنسان أن يحتاط, ويكفيه أن يعلم غداً أنه من رمضان, فإن ذلك نية تسقط عنه الفرض.
وفي قوله جل وعلا: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:184], إشارة إلى أهمية الاستكثار في مسألة الصيام, أما في هذه الآية في قوله: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:184], هل هذا فيه دلالة على قول بعض الفقهاء أن الصيام في السفر أفضل؛ لأن الله عز وجل قال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184], ثم ذكر الله عز وجل بعد ذلك: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:184], هل نقول للمريض: الأفضل أن تصوم, وللمسافر: الأفضل أن تصوم إذا كنت مستطيعاً؟ نقول: هذه المسألة في مسألة المسافر هل صيامه أم فطره أفضل, اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: ذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أن الفطر أفضل, وهذا مروي عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله, إلى أن الصيام من الإنسان لو صام جاز, ولكن الفطر أفضل.
القول الثاني: ذهب إلى هذا جمهور العلماء, وهو قول أبي حنيفة و مالك و الشافعي وغيرهم من العلماء إلى أن الصيام في السفر أفضل.
القول الثالث: وهو قول بعض الفقهاء من السلف, وقول عمر بن عبد العزيز، ورواية عن الإمام أحمد أيضاً, إلى أن ذلك بحسب حال الإنسان ونشاطه, إذا كان سفره سفر يسر وسهولة ولا يجد في ذلك مشقة فالصيام أفضل, وإذا كان ليس بيسر وعليه مشقة إن صام مع قدرته عليه فنقول: إن فطره في ذلك أولى, ويكون حينئذ قال: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].
الآية الثالثة قول الله جل وعلا: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].
ذكر الله عز وجل رمضان, واختلف العلماء في تسميته بهذا الاسم.
فقيل: إنه سمي بذلك لرمض القلوب حال الصيام وتطهيرها بحرارة الصيام.
وقيل: إن المراد بذلك عطش الإنسان في الصيام صيفاً أو شتاء فيجد الإنسان من ذلك حاجة إلى شراب وإلى طعام كحال الإنسان في الرمضاء.
وقال بعض العلماء: إن العرب أول ما سمت الشهور بذلك سمته ووافق شهر رمضان صيفاً.
وقيل: إن أول من سمى هذه الشهور من قريش هو كلاب بن مرة.
وقيل: إنه قبل ذلك, وقد أشار ابن دريد رحمه الله إلى أن العرب سمت رمضان بهذا الاسم من رمضاء الأرض, وذلك أنهم سموه زمن الصيف.
وقوله: شَهْرُ رَمَضَانَ [البقرة:185], فيه دليل على جواز إطلاق رمضان بإضافة الشهر, وبعض العلماء كره أن يطلق رمضان من غير شهر, قالوا: لأن رمضان جاء في بعض الأخبار أنها اسم من أسماء الله, والنهي في ذلك لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم, قد روى ابن أبي حاتم في كتابه التفسير من حديث محمد بن بكار عن أبي معشر عن محمد بن كعب و سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقولوا رمضان, فإن الله هو رمضان, أو فإن رمضان اسم من أسماء الله, ولكن قولوا شهر رمضان ), وهذا الخبر لا يصح, وقد جاء النهي في ذلك عن محمد بن كعب و مجاهد بن جبر عليهما رضوان الله, ولكن لا يثبت من ذلك شيء، لا من المرفوع ولا من الموقوف عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأنكر هذا الخبر، وكذلك القول به بعض العلماء والحفاظ, من ذلك البخاري رحمه الله, فإنه ترجم في كتابه الصحيح, قال: باب ما يقال رمضان, يريد بهذا أن يرد على هذا, فأورد فيه ما جاء في الصحيحين في قول النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ), فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان ولم يذكر في ذلك لفظ الشهر, ومن قال: بأن رمضان اسم من أسماء الله؛ نقول: إن الأسماء لا تثبت إلا بنص من الكتاب ونص من سنة النبي صلى الله عليه وسلم, أو على الأقل بنص ثابت عن أحد من علية الصحابة عليهم رضوان الله تعالى فيستأنس بذلك, وأما أن يؤخذ بذلك وينهى فإن النهي لا يأتي إلا بدليل ثابت صحيح صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله هنا: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185], في هذا إشارة إلى فضل رمضان, وإشارة أخرى إلى أن أفضل الأعمال بعد الصيام في رمضان هو قراءة القرآن؛ وذلك لأن الله أنزله فيه, و ( كان جبريل يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في كل رمضان ), كما جاء في الصحيح, ( فلما كان العام الذي توفي فيه دارسه فيه مرتين ), وفي هذا الخبر إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان كلما تقدم في عمره أن يتعلق بالقرآن أكثر, فالنبي صلى الله عليه وسلم في آخر أجله عليه الصلاة والسلام دارسه جبريل مرتين؛ وذلك حتى يلقى الله عز وجل على تمام في هذا الباب, وأعظم ما ينبغي أن يسعى إليه الإنسان أن يتم حاله في آخر عمره.
وقوله: هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185], ومن هذا الهدى ما بينه الله عز وجل للناس من تفاصيل الخير وأعمال البر, وكذلك أيضاً من بيان شريعة الصيام.
وفي قوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185], إشارة إلى أن هذا القرآن من البيان الذي قد جاء فيه لقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185], يعني: أن الله عز وجل فصل في هذا القرآن بيان أحكام الإسلام, ومنها صيام شهر رمضان, وهذا في قوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185], وشهود الشهر هو برؤية هلاله.
وقوله: فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185], هل يترخص الإنسان بالرخص إذا كان محتاجاً إليها وقد شهد الشهر؟ نقول: يترخص بذلك, وذهب بعض العلماء إلى أن من شهد رمضان لا يجوز له أن يفطر في السفر, يعني: من دخل عليه هلال رمضان وهو في حال إقامة ثم سافر بعد ذلك فإن فطره لا يجوز, وهذا مروي عن علي بن أبي طالب كما رواه عبد الرزاق في كتابه المصنف من حديث معمر عن قتادة عن علي بن أبي طالب، وجاء أيضاً عن عائشة عليها رضوان الله تعالى, ولا يصح لا عن علي ولا عن عائشة، وجاء أيضاً عن عبيدة السلماني كما جاء في حديث ابن سيرين عن عبيدة السلماني، و عائشة ثبت عنها أنها كانت تكره السفر في رمضان, ولعله أخذ من هذا قولها كراهية الفطر لمن شهد رمضان ثم سافر بعد ذلك.
ومذهب الأئمة الأربعة, وهو قول الجماهير؛ أن الإنسان إذا شهد الشهر ثم طرأ عليه عذر من سفر وغيره فإنه يفطر ولا حرج عليه, والأمر في ذلك سواء؛ لأن الله عز وجل قد قال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184], ولم يقيد بشهود الشهر.
والقول: بأن من شهد رمضان يحرم عليه الفطر ولو كان مسافراً, هذا القول لا أعلم من يقول به من المتأخرين, وقال به بعض السلف, ولكنه عند المتأخرين هو قول مهجور.
وفي قول الله جل وعلا: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185], التيسير له معان في الدين, منها: رفع الحرج والمشقة التي تطرأ على الإنسان المكلف في حال ورود الواجبات. ومنها: التدرج في أمور الشريعة, فالله عز وجل شرع الصيام ابتداءً ثلاثة أيام وصيام يوم عاشوراء, ثم تدرج في ذلك, فشرع صيام رمضان وجعله فرضاً على الخيار بين الصيام وبين الكفارة, ثم جعله حتماً على الإنسان بلا خيار, ونسخ ما كان قبل ذلك, فهذا نوع من التيسير في ذلك, وهذا هو التدرج الذي خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل و أبا موسى حينما قال عليه الصلاة والسلام: ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب, فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله, فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة, فإن هم أجابوك لذلك ), يعني: أعطهم التشريع جملاً ولا تخبرهم ذلك مرة واحدة, وهذا يظهر أيضاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم لهما: ( بشرا ولا تنفرا, ويسرا ولا تعسرا ), والمراد بذلك هو سلوك باب التيسير لهذه الأمة.
وليس المراد بذلك التيسير أن الإنسان يأخذ الأخف من الأقوال, فهذا قول حادث, ويستدلون بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة قالت: ( ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ), ولا يكملون الحديث ( ما لم يكن إثماً ), مما يدل على أن التيسير المراد في هذا الحديث ليس هو تيسير اختيار الأقوال والرخص, وإنما المراد بذلك هو في شأن الإنسان وأمر الناس, في أمر المراكب, والمساكن, إذا كان في سفر وأراد الناس أن ينزلوا الآن أو ينزلوا بعد ساعة, نظر إلى الأيسر لهما فقال: انزلوا الآن, في عدم المشقة للناس, وإذا رغبوا أكلاً معيناً أو نحو ذلك فإن الأيسر للناس يفعله عليه الصلاة والسلام, في أسفاره, إذا أراد أن يرتحل ليلاً أو نهار نظر إلى الأيسر للناس فأخذه عليه الصلاة والسلام, هذا هو التيسير الذي ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن أثماً, يعني: أن أبواب الآثام أمر آخر محددة معالمها ليس لأحد أن يتجاوزها.
وفي قوله جل وعلا: وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ [البقرة:185], تقدم معنا أن الله عز وجل ذكر المريض وذكر المسافر.
وذكر: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184], ثم ذكر الله عز وجل هنا المريض والمسافر وما ذكر المطيق, فمن العلماء من قال: إن الإطاقة المذكورة في تلك الآية هو ذلك التخيير الذي جعله الله ابتداء للناس, ومنهم من قال: إن الإطاقة المرادة في هذه الآية محكمة, ويدخل فيها الشيخ الكبير والمرأة الحامل والمرضع.
والحامل والمرضع في صيام رمضان لا تخلو من حالين:
الحالة الأولى: أن تخاف المرأة إن صامت على نفسها, يعني: تخشى أنها إن صامت أنها يصيبها عاهة, أو يصيبها مرض من دوران أو ضعف الدم ونحو ذلك, فإن جنينها يأخذ منها غذاءً, فيضعف بنيانها ونحو ذلك؛ كبعض النساء ضعيفة البنية أو ضعيفة الدم أو غير ذلك, فتخشى أنها إن صامت فحاجتها للطعام أكثر من غير الحمل, فتخشى على نفسها, فنقول: هذا حالها كحال المريض؛ لأنها لا خيار لها إلا الفطر, فلا تستطيع أن ترفع المرض إلا إما بالفطر أو بإسقاط الجنين وهذا لا يجوز, فيكون حينئذ حالها كحال المريض باتفاق العلماء, والمرضع أيضاً التي ترضع جنينها ولا يستطيع أن يستغني عنها, فلو أرضعته استنزف غذاءها وضعفت, وربما أغمي عليها, أو مرضت, أو هزلت ونحو ذلك, فيقال حينئذ: إذا كان الخوف على نفسها كحال المرضى بالاتفاق.
الحالة الثانية: إذا كانتا تخافان على ولديهما, بمعنى أنها في ذاتها لا ترى أن عليها ضرراً وترى الضرر على الطفل, يعني: أنها بحاجة إلى غذاء ولا تدر حليباً مثلاً إلا إذا أكلت في نهار رمضان, أو شربت في نهار رمضان, وابنها يحتاج. كذلك أيضاً في مسألة الحامل, ترى مثلاً بجنينها ضعفاً أو نحو ذلك وتحتاج إلى طعام لتطعمه، وترى أنها في نفسها لو صامت لا تتضرر وإنما يتضرر الجنين ونصح الأطباء بذلك, فيكون خوفها متعد, فتكون حينئذ من جملة الذين يطيقون, فهي في ذاتها تطيق, وهذه المسألة مما اختلف فيها العلماء وهي من المسائل المشكلة, حتى إن ابن العربي رحمه الله يسميها بيضة الديك بسبب وعورتها, باعتبار أنه ليس فيها دليل مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم, وأقوال السلف من الصحابة فيها متضادة؛ كما جاء عن عبد الله بن عباس و عبد الله بن عمر عليهما رضوان الله تعالى.
والعلماء اختلفوا في هذه المسألة على عدة أقوال:
القول الأول: إن المرأة إذا كانت حاملاً ومرضعاً وخافت على ولدها كحالها لو خافت على نفسها على السواء, وهذا اختصار للمسألة, وذهب إلى هذا بعض العلماء, وهو قول عبد الله بن عباس و عبد الله بن عمر في أحد قوليهما وهو عنهما صحيح, أنه يجب عليها في ذلك القضاء, وهذا مروي عن جماعة من الفقهاء؛ كـعطاء، وروي أيضاً عن بعض الفقهاء من أهل الرأي.
القول الثاني: قالوا: يجب عليها في ذلك الإطعام فقط؛ لأن الله يقول: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ [البقرة:184], وما ذكرها مع المرضى, فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184], بل ذكرها من جملة وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة:184], فيجب عليها أن تطعم فقط ولا تقضي, وذهب إلى هذا جماعة من الفقهاء, وهو رواية عن الإمام أحمد عليه رحمة الله.
القول الثالث في هذا: قالوا: إنه يجب عليها أن تقضي وتطعم.
والصواب في ذلك أن حالها كحال المريض, وليس كحال الشيخ الكبير باعتبار أن المرض الذي فيها والحاجة التي فيها هي حاجة عارضة, ليست بحاجة دائمة.
وفي قول الله جل وعلا: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ [البقرة:185], إشارة إلى ما تقدم من أن الأيام المعدودة ينبغي للإنسان أن يضبطها وألا يزيد عليها, وأن هذه العبادة إما أن تكون كاملة, وإما أن تكون ناقصة, وإما أن تكون زائدة, والزيادة في ذلك محرمة, والنقصان محرم, والواجب في ذلك هو الكمال.
لقوله: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ [البقرة:185], فيه مشروعية التكبير في نهاية رمضان, وهذا ظاهر في هذه الآية, إلا أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم, ويكفي في ذلك عمل الصحابة, ثبت هذا عن عبد الله بن عمر و أبي هريرة و سلمان الفارسي و عبد الله بن مسعود و عبد الله بن عباس وغيرهم من السلف.
قال: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185], فيه وجوب شكر النعمة وما مكن الله عز وجل للإنسان من خير وتيسير, وأنه أولى ما ينبغي للإنسان أن يشكر المنعم عليه هو تيسيره وتوفيقه له على العبادة, وكذلك يسره لهذا الدين.
وفي قول الله جل وعلا -وهي الآية الرابعة- أو نرجئها فيما بعد, وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186], واستنباط بعض العلماء منها الدعاء عند الفطر.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد والإعانة, وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه, إنه ولي ذلك والقادر عليه, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر