الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
تكلمنا في المحاضرة السابقة على شيء من التأصيلات والقواعد المهمة فيما يتعلق بفضائل الآي والسور، وكذلك ما يتعلق بشيء من المسائل المهمة في فضائل الأعمال، وطريقة العلماء في التعامل مع هذه المرويات في أبواب الفضائل.
ثم ذكرنا جملةً أيضاً من الأحاديث الواردة في فضل بعض آي القرآن وسوره، وتكلمنا على شيء من ذلك، وبينا الصحيح والضعيف، ونكمل بإذن الله عز وجل في هذا المجلس ما تبقى من الفضائل مما يتعلق بهذا الباب.
مما يتعلق بفضائل الآي والسور بتكملة ما سبق: الفضائل الواردة في فضل سورة الكهف، وقد جاء في ذلك فضائل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهي على نوعين:
النوع الأول: في فضل السورة على وجه العموم: قد جاء في ذلك خبر أبي سعيد , وقد رواه الإمام أحمد و الحاكم و ابن ماجه وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من قرأ سورة الكهف جعل الله له نوراً من لدنه إلى البيت العتيق ) .
وهذا الخبر قد اختلف في لفظه، وكذلك قد اختلف في رفعه ووقفه.
فرواه أبو سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويرويه عن أبي سعيد قيس ويرويه عن قيس أبو مجلز ، ويرويه عن أبي مجلز أبو هاشم ، ويرويه عن أبي هاشم هشيم بن بشير السلمي ، ويرويه سفيان الثوري ، و شعبة بن الحجاج , كلهم عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد اختلف في رفع هذا الخبر ووقفه، فرواه شعبة بن الحجاج عن أبي هاشم به موقوفاً ومرفوعاً، واختلف فيه على شعبة بن الحجاج ، رواه يحيى بن كثير ، وكذلك روح و عبد الصمد ، كلهم رووه مرفوعاً عن شعبة بن الحجاج عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجاء موقوفاً من وجه آخر، يرويه غندر محمد بن جعفر و معاذ بن معاذ ، وكذلك عمر بن مرزوق عن شعبة بن الحجاج موقوفاً عليه، وهو الصواب، وقد صوب الوقف غير واحد من الحفاظ كالإمام النسائي عليه رحمة الله كما في كتابه السنن.
واختلف في لفظ هذا الخبر: تارةً يجعل النور من بين قدميه أو من لدنه إلى المسجد الحرام أو البيت العتيق، وتارةً إلى السماء، وتارة إلى الجمعة التي تليها، أو ما بين الجمعتين. والصواب في ذلك: ( أنه من لدنه إلى البيت العتيق ) .
وقد روى هذا الخبر سفيان الثوري ، ويرويه عنه عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن أبي هاشم به موقوفاً.
ويرويه أيضاً هشيم بن بشير عن أبي هاشم واختلف عليه فيه، يرويه نعيم بن حماد كما رواه الحاكم في كتابه المستدرك عن هشيم عن أبي هاشم به مرفوعاً، وخالفه في ذلك سعيد بن منصور فيرويه عن هشيم بن بشير عن أبي هاشم عن أبي مجلز به موقوفاً, وهو الصواب، وقد وافق فيه خبر شعبة بن الحجاج .
والصواب في ذلك الوقف كما تقدم، إلا أن هذا الخبر مما لا يقال من قبيل الرأي، فله حكم الرفع، وبه يعلم أن القول بوقفه هو قول من جهة الرواية وكذلك الإسناد، أما من جهة المعنى فإنه محمول على الرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ليس مما يقال من قبيل الرأي.
وأما ما جاء في فضائل سورة الكهف وهو المعنى الثاني ببيان فضل بعضها: ما جاء ببيان فضل فواتح سورة الكهف، وكذلك أيضاً أواخرها، فقد روى الإمام مسلم في كتابه الصحيح قال: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ بن هشام قال: حدثنا أبي عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال ) .
وهذا الخبر قد اختلف فيه على قتادة ، بعضهم جعل الفضل للعشر آيات من أول سورة الكهف، وبعضهم جعل الفضل للعشر من آخرها، والصواب في ذلك أنه لأولها.
واختلف فيه على قتادة ، يرويه هشام و همام عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء ببيان فضل العشر آيات من أولها.
ورواه شعبة بن الحجاج عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل ذلك في فضل العشر آيات من آخر سورة الكهف.
والصواب في ذلك: أنه في أولها، ويرجح ذلك ما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث النواس بن سمعان ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا خرج الدجال فاقرءوا عليه فواتح سورة الكهف ) ، وهذا يعضد ما جاء في رواية هشام ، ورواية همام عن قتادة به في فضل العشر آيات من أول سورة الكهف.
ومن قرائن ذلك: أن الإمام مسلماً عليه رحمة الله في كتابه الصحيح قد جعل رواية شعبة بن الحجاج عن قتادة بذكر العشر آيات من أواخر سورة الكهف بعد الرواية الأولى التي صدرها في الباب, وهي فضل العشر الآيات الأول من سورة الكهف, مما يدل على أنه يرجح العشر الأول، وذلك لتقديمه لها.
وما جاء في خبر النواس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخبر أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيضاً ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري , واختلف في هذا المعنى الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري ، هل الفضل الوارد في ذلك مقيد بيوم الجمعة أم هو عام؟
فاختلف في ذكر يوم الجمعة في حديث أبي سعيد الخدري فقد جاء تقييده في بعض الروايات كما في رواية هشيم بن بشير عن أبي هاشم بذكر الجمعة, ولم يذكرها شعبة بن الحجاج و سفيان الثوري عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والصواب في ذلك ثبوتها، وذلك لأن هشيماً هو من أهل الاختصاص بروايته عن أبي هاشم ، و شعبة بن الحجاج و سفيان الثوري وإن لم تصح الرواية عنهما بذكر يوم الجمعة إلا أن تفرد هشيم بن بشير عن أبي هاشم مما يحتمل في مثل هذا.
والعلماء عليهم رحمة الله تعالى يغتفرون في الأحاديث المنفردة في فضائل الأعمال، فكيف في بعض المفردات التي تأتي من بعض الثقات، وما جاء في حديث شعبة بن الحجاج و سفيان الثوري في رواية الخبر من غير ذكر الجمعة يحمل على أن أكثر الرواية على الإطلاق، والرواية تحتمل أنها رويت على الوجهين، مرةً تروى بذكر الجمعة، ومرةً تروى بغيرها، والجمعة ثابت.
والأئمة عليهم رحمة الله في بعض إطلاقاتهم يقبلون زيادة الثقات كما جاء ذلك عن غير واحد من أئمة العلل، كالإمام الدارقطني عليه رحمة الله, فإنه قال: الزيادة من الثقة مقبولة، كذلك أيضاً أبو زرعة عليه رحمة الله قال: زيادة الراوي الحافظ على الراوي الحافظ مما يقبل. و هشيم من أهل الاختصاص بروايته عن أبي هاشم ، وإن كان قد تفرد بمن هو أوثق منه كـشعبة بن الحجاج ، و سفيان الثوري .
ولكن يقال: إن المترجح في ذلك الوقف، سواءً في رواية هشيم عن أبي هاشم أو رواية شعبة بن الحجاج عن أبي هاشم به، والصواب في رواية هؤلاء الوقف، فإن المشهور في رواية عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري في ذلك أيضاً هو الوقف وليس الرفع.
وما جاء في هذا المعنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( جعل الله له نوراً )، الأصل في ذلك أن يكون هذا النور نور الهداية والتوفيق والدلالة والإرشاد, وما يجعله الله جل وعلا لعبده من سداد رأي وصواب قول.
وما جاء في قراءة هذه السورة يوم الجمعة من حديث شعبة بن الحجاج و سفيان الثوري فيقال: إنه شامل أيضاً لمن قرأها في سائر أيام الأسبوع، وما جاء في حديث هشيم هو تخصيص لها في يوم الجمعة، فيقال: سواء كان الفضل في يوم الجمعة أو في غيرها فلا حرج على الإنسان أن يقرأها في أي وقت شاء، والثواب في ذلك متحقق له بإذن الله جل وعلا، ولهذا أغفلها الحفاظ؛ لترجح ورود الأجر على الإطلاق وعدم قصد الجمعة بالتخصيص مع ورودها بالنص، وهذا هو الذي يظهر.
وما جاء من خبر أبي الدرداء و النواس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءة فواتح سورة الكهف، هل يقال: هذا في كل فتنة عامة تطرأ على الناس؟
معلوم أن سياق الخبر قد جاء في الفتنة العامة, فإن فتنة الدجال هي فتنة عامة تعم سائر الخلق في ذلك الزمان، فهل يقال: إنه يشرع للإنسان أن يقرأ هذه الفواتح في الفتن العامة واضطراب الزمان واشتداد الفتن واستحكام الأمر, فإن هذا من دوافع الفتن؟
الجواب: إنه لا حرج في ذلك أيضاً لعموم النص، فإن فتنة الدجال من أعظم الفتن، فإذا كان ذلك مما يجلي للإنسان الفتنة ويعصمه منها فإنه فيما دونها من الفتن من باب أولى، إلا أن الدليل على سبيل التخصيص هو حرز عظيم لمثل هذه الفتنة، فلا حرج على الإنسان مثلاً أن يقرأ هذه الآيات دفعاً لفتنة تلحق بالأمة يريد كفايتها كفتنة الدماء، وفتنة الأعراض، وفتنة الأموال، وفتنة الدين، الشبهات والشهوات وغير ذلك, فإن هذا من عموم النصوص التي لا حرج على الإنسان أن يأخذ بها.
ومن فضائل السور: ما جاء في فضل سورة الفتح في صحيح الإمام مسلم ، من حديث عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أنزلت علي سورة هي خير من الدنيا وما فيها )، وفي رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خير ما طلعت عليه الشمس: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1] ).
ومن ذلك ما جاء في فضائل سورة الدخان, ولا يثبت شيء منه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن هذه الأحاديث ما جاء عن أبي رافع ، و أبي أمامة ، و أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أن من قرأ سورة الدخان في ليلة ) ، وجاء في رواية: ( في ليلة جمعة غفر له )، وجاء في لفظ: ( استغفر له سبعون ألف ملك ) ، وهذا الخبر لا يصح, يرويه عمر بن خثعم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة , وقد رواه الترمذي بهذا اللفظ ولا يصح، فـعمر قد ضعفه غير واحد من الأئمة، كالإمام النسائي عليه رحمة الله تعالى وغيره.
وقد جاء من وجه آخر من حديث هشام بن مقدام , ولا يصح أيضاً عن الحسن عن أبي هريرة ، وقد أعل بـهشام هذا, فإنه ليس بشيء كما قال ذلك الإمام النسائي ، وكذلك فإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة هذا الخبر.
وما جاء في فضل سورة الدخان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يثبت منه شيء.
ومن الفضائل أيضاً: ما جاء في فضل سورة السجدة الم * تَنزِيلُ [السجدة:1-2], ومنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها في صلاة الفجر من يوم الجمعة )، ولكن هذا ليس على سبيل الاستدامة، فذكر الاستدامة فيه لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر بـ(ألم تنزيل السجدة)، و(هل أتى على الإنسان) ).
وأما استدامة ذلك فقد جاء عند الطبراني من حديث عمرو بن قيس عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يديم ذلك ) ، وهذا الخبر قد تفرد به عمرو بن قيس عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود ولا يصح، ولذلك فذكر الاستدامة لا يثبت.
إذاً: فهذا الخبر ليس على شرطنا، وما كان على شرطنا عند الطبراني فإنها زيادة ضعيفة قد تفرد بها عمرو بن قيس عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أنه كان يديم ذلك ) , وهي غير محفوظة، وبه نعلم أن قراءة السجدة إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلها في الأحيان ولا يديم ذلك.
في هذا القدر كفاية, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر