الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
من الفضائل أيضاً: ما جاء في فضل سورة ق, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر من قراءتها على منبر الجمعة؛ كما جاء في الصحيح من حديث يحيى بن سعيد عن عمرة عن أختها أنها قالت: ( أخذت سورة ق من لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان يقرؤها على المنبر يوم الجمعة ) .
وتخصيصها في مثل هذا الموضع دليل على فضلها, وقد قدمنا في أول هذا الدرس أن ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قراءة سورة في صلاة أو في موضع إذا لم يدل ذلك على الاستدامة, فإن هذا ليس دليلاً على اختصاصها بمزية على غيرها.
وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ سورة ق هذا دليل على الاستدامة, كما جاء في حديث عمرة عن أختها وهو في صحيح الإمام مسلم ، فإنها حفظتها من كثرة ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها على منبر الجمعة، فهذا دليل على الاختصاص.
ومن الفضائل: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل سورة الملك، وفضل سورة الملك جاء فيها أحاديث مرفوعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قد جاء في هذا من حديث عبد الله بن مسعود ومن حديث أنس بن مالك ، ومن حديث عبد الله بن عباس عليهم رضوان الله تعالى، وما جاء فيه مرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصح، والصواب في ذلك الوقف على عبد الله بن مسعود .
الخبر قد رواه أحمد بن منيع في كتابه فضائل القرآن، ورواه كذلك أبو الشيخ من حديث أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( سورة الملك المانعة تمنع من عذاب القبر ) ، هكذا رفعه أبو أحمد عن سفيان الثوري به.
والصواب في ذلك أنه موقوف, خالف أبا أحمد في ذلك جماعة من الحفاظ كـعبد الرزاق بن همام الصنعاني كما رواه عبد الرزاق ، وكذلك خالفه في ذلك عبد الله بن المبارك كما رواه النسائي في كتابه عمل اليوم والليلة عن سفيان الثوري عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود موقوفاً عليه، وهذا هو الصواب, وله حكم الرفع.
وجاء عند عبد الرزاق أيضاً موقوفاً من حديث معمر عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى موقوفاً عليه وهو الصواب، وجاء مرفوعاً ولا يثبت في ذلك شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجاء أيضاً من حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى عند الترمذي في كتابه السنن من حديث يحيى عن أبيه عن أبي الجوزاء عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك أيضاً جاء من حديث أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى يرويه الفرات بن السائب عن عطاء عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يثبت في ذلك شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي فضل سورة تبارك جاء عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى موقوفاً, أنها تنجي من عذاب القبر، تنجي على أي ورد وعلى أي نحو، هل تقرأ عند الاحتضار, أم تقرأ في حال المرض, أم تقرأ عند النوم, ما هي الحالة التي جاء فيها؟
قد جاء عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى عند عبد الرزاق من حديث معمر عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى، أنه قال: ( إذا قرأها في كل ليلة أطيب وأكثر )، يعني: أنه يقرؤها في كل ليلة.
وأما قراءتها عند النوم, فقد جاء في ذلك خبر رواه الترمذي من حديث ليث بن أبي سليم عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينام إلا وقد قرأ سورة تبارك ) ، وهذا الخبر جاء من حديث ليث بن أبي سليم , و ليث بن أبي سليم ضعيف الحديث، وقد تابعه على روايته مغيرة بن مسلم عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله ، ولكن هنا في رواية أبي الزبير لم يثبت السماع عن جابر بن عبد الله , فإنه قد جاء من وجه آخر قال زهير : سألت أبا الزبير : هل سمعت هذا الخبر عن جابر بن عبد الله ؟ قال: لا، لم أسمعه من جابر بن عبد الله ، وإنما سمعته من صفوان بن عبد الله بن صفوان عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا الخبر قد اختلف فيه من جهة صحته وضعفه، قد صححه غير واحد من الأئمة المتأخرين.
ولعل ما يعضده في هذا الباب ما جاء عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى في قراءته عند النوم في كل ليلة، يعضد ما جاء في حديث جابر بن عبد الله .
ولو اقتصرنا على ما جاء عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى موقوفاً, وقلنا: إنه ثابت موقوفاً في قراءته كل ليلة، فله حكم الرفع، وذلك أن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى قد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيح: ( خذوا القرآن عن أربعة ) ، وذكر منهم عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى، وكذلك ما جاء عند الترمذي وغيره أن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى قال: والله لو أعلم أن أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لذهبت إليه، وذلك يعني: انفراد عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى بمعرفة كثير من المعاني التي يجهلها غيره.
ولما كان بمثل هذه المنزلة وما جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان فضائل القرآن، الأصل في ذلك أنه لا يكون من قبيل الرأي, وهو في حكم المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الفضائل الواردة في ذلك: سورة الأعلى، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها في وتره عليه الصلاة والسلام في الركعة الأولى, قد جاء ذلك من حديث عبد الرحمن بن أبزى عن أبي بن كعب : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في وتره في الركعة الأولى بـ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، وفي الثانية: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، وفي الثالثة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] ).
وقد جاء من وجه آخر عن عائشة عليها رضوان الله تعالى من حديث يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عليها رضوان الله تعالى: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في وتره في الركعة الأولى بـ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، وفي الثانية: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، وفي الثالثة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] ) .
يعني: يقرأ في آخر ركعة ثلاث سور، وهذا جاء في حديث عائشة , والذي جاء في حديث أبي بن كعب عليه رضوان الله تعالى، ويرويه عنه ابن أبزى أنه كان يجعل في الركعة الأخيرة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، ولو نوع الإنسان بين الاثنين فهو حسن.
وكذلك أيضاً من الفضائل الواردة في ذلك وهو داخل في سورة السجدة ما تقدم الكلام عليه: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ [الإنسان:1] ، تقدم الكلام في تفصيله في هذا.
ومن الفضائل الواردة في ذلك: ما جاء في فضل سورة الزلزلة, وقد جاء في فضل سورة الزلزلة بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن ذلك ما رواه الترمذي من حديث يمان العنبري , وتفرد به وهو ضعيف, وقد ضعفه غير واحد كالإمام الترمذي عليه رحمة الله تعالى, فإنه قد استغربه من طريقه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( سورة الزلزلة تعدل نصف القرآن ) .
وقد جاء عند ابن أبي شيبة في كتابه المرسل من حديث سلمة بن وردان عن أنس بن مالك : ( أن سورة الزلزلة تعدل ربع القرآن )، وهذا الخبر لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يصح في فضل سورة الزلزلة خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الفضائل الواردة في ذلك: ما يتعلق بسورة قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] ، وقد جاء في ذلك جملة من الأخبار, منها ما تفرد به يمان الذين تقدم الكلام عليه من أن قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، تعدل ربع القرآن، وجاء في بعض الروايات أنها تعدل ثلث القرآن ولا يصح، وجاء لفظ أنها ربع القرآن, وفيه ضعف أيضاً. والثابت في فضلها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يديم قراءتها في بعض المواضع.
المواضع التي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ فيها قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1].
الموضع الأول: في الوتر، كان النبي عليه الصلاة والسلام يقرؤها في الركعة الثانية, كما جاء في حديث أبي بن كعب .
الموضع الثاني: جاء أيضاً في حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى في ركعتي المغرب في السنة الراتبة, كان النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1].
الموضع الثالث: ( كان النبي عليه الصلاة والسلام يقرؤها في ركعتي الفجر ).
الموضع الرابع وفيه كلام وهو حديث جابر بن عبد الله وقد رواه الإمام مسلم في كتابه الصحيح من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله , وجاء بلفظ الشك تارة، وبالجزم تارة، ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقرأ سورة قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] في ركعتي الطواف )، فهذه أربع مواضع.
فالموضع الرابع غير محفوظ، والصواب: أنه مدرج من حديث جعفر بن محمد عن أبيه لا من قول جابر بن عبد الله , وإنما هو من فعل محمد ، وهذا الخبر لا يثبت مرفوعاً كما صوب ذلك غير واحد من العلماء كـأبي حاتم كما ذكر ذلك ابن أبي حاتم في كتاب العلل، وكذلك الخطيب البغدادي كما في كتابه الفصل المدرج والوصل، وبين أن هذا من المدرجات وليس هو من المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما المواضع الثلاث فهي صحيحة:
الموضع الأول: موضع الوتر.
الموضع الثاني: موضع ركعتي الفجر.
الموضع الثالث: موضع ركعتي المغرب.
ما جاء في ركعتي الفجر هو ثابت في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي حازم عن أبي هريرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في ركعتي الفجر قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] ) ، وهذا إشارة إلى استدامتها، وأما ما كان في ركعتي المغرب يعني: بعد المغرب، وكذلك أيضاً في وتره عليه الصلاة والسلام فهذا قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة , وجاء من حديث أبي بن كعب ، وجاء من حديث عبد الله بن عمر , وجاء من حديث عبد الله بن مسعود عليهما رضوان الله تعالى: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يديم قراءتها في ركعتي الفجر وفي الركعتين بعد المغرب )، وجاء من حديث عاصم بن بهدلة عن عبد الله بن مسعود : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها في ركعتي الفجر وفي الركعتين بعد المغرب ).
وجاء أيضاً من حديث مجاهد بن جبر عن عبد الله بن عمر قال: ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، بضعاً وعشرين مرة يقرؤها بعد المغرب وفي ركعتي الفجر )، قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1].
وما جاء في حديث أبي بن كعب وفي حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى مما يتعلق في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهاتين السورتين في صلاة الوتر: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في إيتاره بثلاث ركعات, يعني: هل يفصل بينها أو لا يفصل بينها؟ ليس هذا محل بسطه وقد جاء في حديث عائشة ، ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة ) .
ومن الفضائل الواردة في هذا ما يتعلق بفضل سورة الإخلاص، وقد جاء في ذلك جملة من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها: ما جاء في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفسي بيده إنها تعدل ثلث القرآن ).
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً في الصحيح من حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سريةً وجعل عليه الصلاة والسلام لهم إماماً, فكان يصلي بهم, فإذا قرأ سورةً ختمها بـ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، فذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: سلوه لم فعل ذلك؟ فقال عليه رضوان الله: إني أحبها، إنها وصف الرحمن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حبك إياها أدخلك الجنة ) .
وفي هذا إشارة إلى أن حب هذه السورة وتكرارها مما يحبه الله جل وعلا، وأيضاً من أسباب دخول الجنة، ومن المواضع المخصصة في فضل سورة الإخلاص في قراءتها في الوتر والمواضع السابقة التي تقدم الكلام عليها.
وينبغي أن يعلم أن ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( إنها تعدل ثلث القرآن ) , أنها تعدل ثلث القرآن من جهة الجزاء لا من جهة الإجزاء، وهذا ينبغي أن يعلم أن ثمة جزاء وثمة إجزاء، الجزاء هو الثواب أي: كأن الإنسان قد قرأ القرآن كاملاً إذا قرأ سورة الإخلاص ثلاث مرات، وأما من جهة الإجزاء فهي لا تجزيه عن القرآن، ومعنى ذلك الإجزاء أي: أن القرآن على ثلاثة معاني:
المعنى الأول: معاني التوحيد.
المعنى الثاني: معاني الحلال والحرام، وهي الأحكام.
المعنى الثالث: هي القصص، فإن سورة الإخلاص قد انفردت بأنواع التوحيد الثلاثة، وهذا ليس لشيء إلا لسورة الإخلاص.
وينبغي أن يعلم أن ثمة مرويات قد جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءتها في بعض المواضع, ومن ذلك في قراءتها أدبار الصلوات, فهذا مما لا يثبت فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك أيضاً في قراءتها في أذكار الصباح والمساء، لا يثبت أيضاً في هذا الخبر شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل تدخل في أبواب الرقية؟
اختلف العلماء في هذا: هل تدخل في أبواب المعوذات؟
قد جاء في ذلك جملة من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, جاء حديث عقبة بن عامر ، وجاء أيضاً في حديث عبد الله الخبيب ، وجاء أيضاً في حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى في إطلاق لفظ المعوذات، فهل تدخل في المعوذات أو لا؟
من العلماء من أدخلها في إطلاق المعوذات باعتبار قربها منها واشتراكها أيضاً ببعض صفاتها في قول الله جل وعلا: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]، واشتركت في بعض الابتداء، فمنهم من يدخلها في هذا, ومنهم من لا يدخلها في هذا.
ومما ورد في فضائل السور ما جاء في فضل المعوذتين: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] ، سورتان صنوان جاء فضلهما على السواء، لا فضل لسورة على أخرى، فمزيتهما واحدة، وجاء الدليل على أنهما رقية، في الصحيح من حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان في مرضه كانت ترقيه وتنفث في يديه؛ وتمسح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ).
وجاء في فضلها أيضاً: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من العين ومن الجان, فلما نزلت المعوذات قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] اكتفى بهما ).
فمعلوم أن التعوذ هو الالتجاء، وهو أيضاً نوع من أنواع الرقية والدعاء، فيكتفي الإنسان بذلك، فتكون حينئذ رقية وتكون كذلك أيضاً تعوذاً من الجان، وكذلك أيضاً تعوذاً من العين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الجان ويتعوذ من العين, فلما نزلت اكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما، كذلك فإنها رقية من سائر الأوجاع، ومن السحر، فإن النبي عليه الصلاة والسلام إنما أنزلت عليه هاتان السورتان بعد سحره عليه الصلاة والسلام، ففك الله جل وعلا بهاتين السورتين سحره عليه الصلاة والسلام، فهي رقية على سبيل العموم من العين, وكذلك من الجان، وكذلك من السحر.
أيضاً هي تعويذ من سائر ما يطرأ على الإنسان من مخاوف، سواءً من الظلمة أو من اشتداد الرياح؛ والدليل على ذلك ما جاء في المسند والسنن من حديث عقبة بن عامر أنه قال: ( كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان بين الجحفة والأبواء، فجاءت ريح ومطر وظلمة شديدة، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ، يقول: أعوذ برب الفلق، أعوذ برب الناس، تعوذ بهما يا عقبة فإنه لم يتعوذ بمثلهما ) ، وفيه إشارة إلى التعوذ بهما في حال الخوف والفزع عند اشتداد الرياح، وعند كوارث الطبيعة من الزلازل والأمور المخوفة واشتداد الظلمة والأشباح وغير ذلك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل.
وفي حديث عقبة بن عامر هنا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( أعوذ برب الفلق، أعوذ برب الناس )، فهل الإنسان يتعوذ بالسورة بقراءتها تامةً، أم يقول: (أعوذ) ويتم السورة إلى آخرها؟
فيما يظهر: إن التعوذ هنا لا يخلو من حالين:
الحالة الأولى: إذا كان الإنسان يريد أن يتعوذ بهذه الصيغة (أعوذ برب الفلق)، (أعوذ برب الناس) ولا يريد أن يتم السورة فإنه لا يقول: (قل) وإذا أراد أن يتعوذ بالسورة تامة فإنه يبتدئ بها من أولها فيقول: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:1-2] إلى آخر السورة، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] إلى آخر السورة.
فيكون تعوذ الإنسان بصدرها حين يقول: أعوذ برب الفلق، أعوذ برب الناس، شبيهاً بقول الإنسان: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أعوذ بالله السميع العليم، وهكذا.
ثمة مسائل متعلقة بهاتين السورتين, من هذه المسائل ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من التعوذ بهما في بعض المواضع، تقدم الكلام معنا أن التعوذ بهاتين السورتين: (( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ )) و(( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ )) يكون في الرقية، ويكون أيضاً في المرض، ويكون عند الشيء المخوف، وأيضاً التعوذ من الجان والعين.
كذلك جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام قراءتها في أدبار الصلوات من غير تكرار، ويذكر بعض المصنفين في أذكار اليوم والليلة أن المعوذتين تقرأ بعد صلاة المغرب وصلاة العشاء ثلاثاً, وهذا ليس له إسناد يعول عليه، وإنما يذكره بعض العلماء ممن يعتمد عليه من جهة العلم، لكن لا يثبت في ذلك شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: قراءتها تثليثاً بعد المغرب وبعد الفجر.
أما في الصباح والمساء فهل يقال: إن الإنسان يقرأ المعوذات في أذكار الصباح والمساء؟
الجواب: نعم، جاء في حديث عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في قراءتها في الصباح والمساء, لكن من قرأها بعد الفجر مرة وبعد المغرب مرة ونوى ذلك كفاه بإذن الله تعالى.
من الأمور المهمة المتعلقة بهذا الباب أن يشار إلى أن الفضائل التي ترد في بعض سور القرآن التي تشترك معها بقية السور مما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام سواء مما فيه كلام أو مما هو يحسن, هذا لا يدخل في بابنا, وإنما ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام له ميزة اختصاص.
من المسائل المهمة المتعلقة بهذا الباب، تقدم الكلام معنا فضائل السور وفضائل الآي، هناك باب من الأبواب مما يتعلق ببعض فضائل القرآن هو فضائل الأحزاب وأجزاء القرآن.
أفضل أجزاء القرآن وأحزابه المفصل، والمفصل يبتدئ من (ق) إلى سورة الناس، كما جاء في السنن من حديث حذيفة عليه رضوان الله تعالى، وهذا المفصل إنما كانت ميزته من وجوه:
الوجه الأول: أن المفصل محكم، والنسخ فيه نادر أو يكاد يكون معدوماً.
الأمر الثاني: أن المفصل قد جاء في بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله جل وعلا خص نبيه بالمفصل، وكما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في المسند والسنن قال عليه الصلاة والسلام: ( فضلت بالمفصل )، يعني: أعطاني الله جل وعلا المفصل زيادة على ما أوتي الأنبياء.
والدليل على كون المفصل من المحكم ما جاء في البخاري من حديث سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس قال: جمعت المحكم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين، قالوا: وما المحكم؟ قال: المفصل، يعني: أن المفصل الذي هو على الصحيح من ق إلى سورة الناس هو المحكم الذي ليس فيه نسخ.
وفي هذا فائدة أن المحكم الذي جاءت العناية به وهو المفصل أن العناية فيه من وجوه:
الوجه الأول: أن الأحكام الشرعية الواردة فيه وطروء النسخ عليها نادر، فينبغي للإنسان أن يبادر بتعلمها.
الأمر الثاني: أنه ينبغي أن يتعلمها الصبية أكثر من غيرها، كما كان عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى, فإنه قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين وقد جمعت المفصل، وهذا فيه إشارة إلى أن الصبية ينبغي أن يبتدئ معهم من السور القصار حتى يتجاوزوها إلى الأواسط وإلى الطوال.
كذلك أيضاً: فإن الإنسان ينبغي أن يعرف أقسام القرآن، من المهم جداً أن يعرف الإنسان أحزاب القرآن حتى يقرأ بها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ، فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان ينوع في قراءته للقرآن، فكان يقرأ بالطوال في صلاة الفجر، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ بالقصار في صلاة المغرب، وبالأواسط في صلاة العشاء، فإذا ميز الإنسان الطوال والأواسط والقصار اتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان على هدى ونور.
ومن الأمور المهمة: أنه ينبغي لطالب العلم في أبواب الأحكام في حال التفقه في معرفته للمسائل الفقهية أن يعرف المحكم ابتداء, كما كان هنا في حال عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى وهو الذي دعا له النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: ( اللهم علمه التأويل ) ، يعني: تأويل القرآن، ومعنى هذا أنه حينما دعا النبي عليه الصلاة والسلام لـعبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى بـ(اللهم علمه التأويل) فبدأ بحفظ وضبط المفصل, وذلك لكونه من المحكم؛ لأن هذا هو الذي يقع فيه التدين ابتداءً، فينبغي للإنسان ألا ينشغل بالمنسوخ عن الناسخ، بل أول ما يبتدئ به هو معرفة المحكم من كلام الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الهدى وهو طريق الحق.
ويظهر في حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى الذي رواه البخاري في بيان ضبطه للمحكم أن هذا كان امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك أنه قال: إني جمعت المحكم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين، يعني: أخذت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأصل الجمع في هذا أنه لا يمكن أن يأخذه بواسطة من جهة الأصل, وإن أخذ شيئاً بواسطة فإن الأصل أن يأخذه من النبي عليه الصلاة والسلام لا من غيره.
وبهذا نعلم أنه ينبغي للإنسان أن يكون من أهل العناية بمعرفة المفصل قبل غيره على خلاف الطريقة التي يعتني بها بعض الحفاظ لكلام الله جل وعلا الذين يبتدءون بالسور الطوال, وذلك لمخالفة طرائق الصحابة عليهم رضوان الله تعالى.
كذلك أيضاً المخالفة لمعرفة المعاني المقصودة من كلام الله جل وعلا حتى لا يلتبس على الإنسان بعض المعاني أو بعض السور أو الآي التي فيها نسخ، فيظن أنها من أمور المحكم فيستدل بها في غير موضعها.
إن من المسائل المهمة التي ينبغي لطالب العلم أن يكون على عناية بها في هذا الباب ما يتعلق بتقسيم القرآن أن يكون على معرفة بأبواب الناسخ والمنسوخ.
وقد صنف غير واحد من العلماء في أبواب ناسخ القرآن ومنسوخة، من ذلك الأثرم عليه رحمة الله فله كتاب ناسخ القرآن ومنسوخة، كذلك أيضاً أبو بكر الجصاص له في ذلك نواسخ القرآن، و أبو الفرج ابن الجوزي له نواسخ القرآن، فينبغي لطالب العلم أن يكون من أهل العناية بهذا.
وأما ما يتعلق ببابنا وهو أبواب فضائل الآي والسور فإنه لا علاقة للنسخ فيها، وذلك أن النسخ إنما يطرأ على أحاديث الأحكام، ولا يدخل على النوعين الثانيين.
وتقدم معنا أن القرآن ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أبواب العقائد.
القسم الثاني: الحلال والحرام.
القسم الثالث: السير والقصص وهي أبواب الأخبار.
فالعقائد والأخبار لا يدخلها النسخ باعتبار أن العقائد هي أصل الأخبار, ودخول النسخ عليها يتضمن التكذيب وهذا باطل.
وكذلك أيضاً ما يتعلق بمسائل القصص والحكايات الواردة في كلام الله جل وعلا فنسخها تكذيب لها، وينزه خبر الثقة عن ذلك فضلاً عن خبره سبحانه وتعالى فضلاً عن المخبر جل وعلا في كتابه العظيم، وهذا من الأمور المهمة التي ينبغي للإنسان أن يكون على معرفة وبينة فيها.
بهذا القدر نكتفي ونكون انتهينا من ذكر ما يتعلق بهذا الباب.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من أهل التوفيق والسداد والإعانة.
السؤال: هل ورد فضل في قراءة سورة السجدة وسورة تبارك، والزمر، والإسراء قبل النوم؟
الجواب: تقدم الكلام على سورة تبارك، وأما السجدة فجاء فيها خبر لا يصح أيضاً، وأما قراءة الزمر والإسراء قبل النوم فالخبر في ذلك ضعيف، قد جاء من حديث علي بن أبي طالب كما رواه الثعلبي ولا يصح.
وما جاء في الزلزلة أنها تعدل ربع القرآن فهو من حديث محمد بن علي عن أبيه علي زين العابدين عن جده علي بن أبي طالب ولا يصح، وجاء أيضاً من حديث سلمة بن وردان عن أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى ولا يصح أيضاً.
وسورة الكهف تقدم الكلام عليها، وكذلك أيضاً تقدم الكلام على سورة الإخلاص.
السؤال: [ هل المداومة على قراءة سورة في الصلاة يعد تفضيلاً لها؟ ]
الجواب: قراءة النبي عليه الصلاة والسلام في ركعتي الفجر, وهي في صحيح الإمام مسلم , لكن الاستدامة تحتاج إلى دليل، ذكرنا أن قراءة سورة في صلاة مجرد من غير علامة استدامة هذا يفتقر إلى دليل، ويفتقر إلى الديمومة، والقراءة العارضة ليست دليلاً على التفضيل على الصحيح كما تقدم الإشارة إليه.
السؤال: [ ماهي درجة حديث: (من قرأ سورة الإخلاص بنى الله له قصراً في الجنة؟ ) ]
الجواب: ثواب سورة الإخلاص بنى الله له قصراً في الجنة، ( من قرأ سورة الإخلاص ) جاء فيه عشر مرات ( بنى الله له قصراً في الجنة )، وجاء في رواية: ( بيتاً في الجنة )، الحديث رواه الإمام أحمد و الترمذي ولا يصح من حديث أبي هريرة.
السؤال: [ هل تعتبر مطالعة المصحف بالنظر قراءة له؟ ]
الجواب: القراءة تكون بالتلفظ لا تكون بالنظر، هذا فيما ورد فيه فضل؛ لأن الله جل وعلا يقول كما في الخبر القدسي: ( أنا مع عبدي إن ذكرني أو تحركت بي شفتاه )، فتحرك الشفتين مطلب.
الذكر بالنفس له أجره ولكن لا يكون حرزاً، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ( أنا مع عبدي )، المعية هنا تقتضي العصمة والحرز والصيانة.
وأما فضل ذكر النفس فهو ما جاء في قوله جل وعلا: ( فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ) .
في هذا القدر كفاية, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر